الجرائم الانتخابية
كتبهااحمد الجمل ، في 23 مايو 2009 الساعة: 23:42 م
مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الرابعة - عدد يوليه سنة 1924
الجرائم الانتخابية
المادتان (284) فقرة أولى عقوبات والمادتان (76) و(77) فقرة أولى من قانون الانتخاب - المادتان (32) و(47) مكررة عقوبات
تثير دائمًا الانتخابات العامة منازعات ومباحث تختلف وتتباين باختلاف وتباين وجهة نظر الجماعات لا سيما إذا كانت الأمة حديثة العهد بالقانون الذي تجرى الانتخابات بمقتضاه، من ذلك النزاع الذي طرح أمام القضاء خاصًا بجريمة التهديد الكتابية.
هدد شخص آخر كتابةً بارتكاب جريمة ضد النفس معاقب عليها بالقتل أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، وكان التهديد لمنع ناخب من استعمال حق التصويت أو لإكراهه على التصويت على وجه خاص، والجريمة تنطبق على نصين: النص الأول المادة (284) فقرة أولى عقوبات التي جاءت معدلة للمادة القديمة بمقتضى القانون رقم (28) سنة 1910 والنص الثاني الفقرة الأولى من المادة (77) من قانون الانتخاب الصادر في 30 إبريل سنة 1923. فالبحث قائم حول أي القانونين واجب تطبيقه، أقانون العقوبات الذي يجعل الحادثة جناية أم قانون الانتخاب الذي جاء أكثر هوادة وجعل الحادثة جنحة قد يُقضى فيها بالغرامة فقط ؟
وقد اشتد الجدل في أي الرأيين هو الصواب عقب حادثة معينة وقعت إبان المعركة الانتخابية الماضية وتردد ذكرها في مواقف عدة وكان اقتناعنا برأينا القانوني في الحادثة يجعلنا نرى أن الخلاف إنما اشتد بسبب النزعة الحزبية، إلا أننا رأينا كثيرين ممن لم يتأثروا بهذه النزعة يرون الصواب في الرأي المخالف، وهذا ما دعانا إلى إثبات هذا البحث.
إذا رجعنا إلى أي قاعدة من القواعد الأساسية في القانون الجنائي نراها جميعها تشير إلى أن قانون الانتخاب هو القانون الواجب تطبيقه على الحادثة.
فأول هذه القواعد المبدأ الذي يقضي بأن القانون اللاحق يلغي القانون السابق، وقد نص على هذه القاعدة في باب القواعد العمومية من قانون العقوبات في الفقرة الأولى من المادة الخامسة منه، إذ قضت بأنه يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها وهذا هو المبدأ المنطبق على العقل وعلى البداهة، إذ في إصدار الشارع لقانون جديد معنى عدوله عن القانون السابق وإلا فيكون عابثًا متخبطًا، لم يناقش الشراح هذا المبدأ لبداهته إنما ناقشوا القاعدة التي تتفرع منه، الخاصة بمعرفة ما إذا كان يمكن تطبيق القانون الجديد على جريمة وقعت قبل صدوره باعتبار أنه هو القانون الأصوب وقسموا بحثهم إلى قسمين: الأول القوانين الخاصة بالموضوع، والثاني الخاص منها بالشكل وأوجبوا تطبيق القانون الجديد في أحدها دون الآخر، ولا وجه للتمشي في هذا البحث إذ لا علاقة له ببحثنا الذي ينطبق على أصل القاعدة التي بموجبها يطبق القانون المعاصر للحادثة أي الذي حصلت الحادثة بعد إصداره، وقد أورد الدستور في المادتين (26) و(27) منه مقتضى هذه القاعدة والقاعدة المتفرعة منها وهما تقابلان المادة (3) من القانون الأساسي الصادر في 14 يونيو سنة 1883.
والقاعدة الثانية هي التي تقضي بأن يطبق القانون الأخف إذا وجد قانونان مختلفان، وهذه القاعدة واردة كذلك بنص صريح في الفقرة الثانية من المادة (5) عقوبات التي جاءت استثناءً لقاعدة عدم رجعية القوانين، إذ نصت على أنه إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائيًا قانون أصلح للمتهم فهو الذي يتبع دون غيره، أي لو أن المتهم ارتكب جريمته قبل صدور قانون الانتخاب الحالي لحوكم عملاً بهذه المادة بمقتضى قانون الانتخاب لا بقانون العقوبات لأنه قانون أصلح للمتهم، فبالأولى لو أن الجريمة وقعت بعد صدور قانون الانتخاب لا قبله، وقد عرضت مثله هذه الحالة إبان فترة الانتقال في فرنسا بين القوانين التي كان معمولاً بها وقت الثورة وبين قانون العقوبات الفرنسي الذي صدر سنة 1810 وكانت الحالة ذات أهمية كبرى لأن البحث كان يشمل جميع الجرائم كما أن العقوبات القديمة التي ارتكبت الجرائم وقت قيام القوانين التي نصت عليها كانت أشد من الجزاء المنصوص عنه في قانون العقوبات الجديد، فعرض الأمر على مجلس الدولة فقضى بأنه (من المبادئ المرعية في المسائل الجنائية أن يؤخذ دائمًا بالرأي الذي في مصلحة الإنسانية والذي يؤدي إلى التبرئة أو التخفيف) (راجع شوفو وهيلي شرح قانون العقوبات جزء أول فقرة 27)، وقضت اللجنة العليا في فرنسا كذلك بتاريخ 19 يوليو سنة 1809 (بأنه يتحتم تطبيق أخف القانونين على المتهم سواء أكان أقدمهما أو أحدثهما) كما أنه جاء في الدكريتو الذي نشر مع قانون العقوبات الفرنسي في 23 يوليو سنة 1810 فقرة هذا تعريبها: إذا كانت العقوبة المنصوص عنها في قانوننا الحديث أخف من العقوبة التي كان ينص عليها القانون الحالي فتطبق المحاكم العقوبة المنصوص عنها في القانون الجديد.
يضاف إلى ما تقدم أن القانون الأخف والقانون القائم وقت ارتكاب الجريمة هو أيضًا قانون خاص، والقاعدة أنه إذا وجد قانون خاص فيعمل به دون العام إذ نظر الشارع حين وضعه إلى ظروف معينة ما كان اعتبرها وقت أن سنَّ القانون العام، فإذا نص الشارع في القانون الخاص على مبدأ أو على عقوبة مخالفة لما جاء في القانون العام، فمعنى هذا أنه قدَّر ظروفًا جديدة طرأت ودعت إلى وضع القانون الجديد ما كان اعتبرها، من قبل فبادر وغيَّر النص القديم بنص جديد على اعتبار أنه هو الرأي الصحيح فيتقرر إلغاء النص القديم على هذا الاعتبار.
يقول أنصار الرأي الآخر بإغفال كل هذه الاعتبارات القانونية الأساسية وسدل الستار عليها واعتبار أن الشارع قصد أن يعاقب بالعقوبات الواردة في المادة (77) على أنواع التهديد التي لم ينص عنها في قانون العقوبات وتطبيق قانون العقوبات على التهديد المنصوص عنه فيه، ولكن خطأ هذا الرأي ظاهر، إذ كيف يستطاع الأخذ به حال أنه لم ينص في القانون على شيء مما يشير إلى هذه التفرقة، وقد جاء نص المادة (77) انتخابات نصًا صريحًا جليًا شاملاً خاليًا من أي قيد يمكن الرجوع بواسطته إلى تأييد هذا الرأي، إلا أن هذا الرأي لحمته الاستنتاج الذي لا يعتمد على أساس صحيح وحجته التفسير الغير القويم وإلا لو كان حقيقة قصد الشارع شيئًا من هذا لنص عليه صراحةً كما فعل في قانون الانتخاب القديم الصادر في سنة 1913 إذ ورد فيه في المادة (48)، وهي المقابلة للمادة (77) من القانون الحالي هذا القيد (إلا إذا كان الفعل معاقبًا عليه بأشد من ذلك بمقتضى نص من نصوص قانون العقوبات)، أفليس في حذف هذا القيد من النص الجديد إعلان صريح بأن الشارع رأى من الظروف ما جعله يعدل عن رأيه الأول فجعل ينظر إلى جرائم التهديد الانتخابية نظرة تختلف عن نظره إليها من قبل، أن مجرد تلاوة نص المادة (48) من القانون القديم مع المادة (77) من القانون الحالي والمقارنة بينهما لكافٍ للاقتناع اقتناعًا وثيقًا بأن الشارع إنما أراد العدول عن رأيه الأول وأنه عهد إلى جعل جميع جرائم التهديد الانتخابية جنحًا لا جنايات.
أما الحكمة التي حدت بالشارع إلى هذا التغيير فهي حكمة يانعة، أساسها مجاراة قواعد روح الاجتماع، فإن الفرد يتأثر في تصرفاته بين المجموع بمؤثرات يكون بعيدًا عنها لو انفرد في تصرفه، ثم اعتبار ما ينشأ من الاضطراب الفكري في نفوس الجمهور وقت قيام المعركة الانتخابية العلم بأن الشخص الذي يرتكب جريمة خاصة بمثل هذه الظروف يكون مساقًا إليها بعوامل تختلف كثيرًا عن العوامل التي تحرك عامل الإجرام في الظروف العادية، يعلم الشارع أن النظام السياسي الحديث من شأنه أن ينشئ في البلد التنازع الحزبي وهذا يسبب التنافس بين هذه الأحزاب فيؤدي هذا التنافس والتجاذب إلى مثل هذه الجرائم ويعلم كذلك أن الأصل في كل هذه المشادات إنما هو العمل لخدمة الأمة ولرفع شأن الوطن فقضى بأن يغض الطرف ولو قليلاً عما ينتج عنها من أمثال جريمتنا هذه وهو يعلم أن كلا العملين فيه إجرام، إلا أن الإجرام السياسي يختلف عنصرًا عن الإجرام العادي.
قد يقال عكس ذلك، قد يقال إن الشارع نظر إلى هذه الجرائم نظرة لا هوادة فيها وقدر أنها ستكون كثيرة متعددة فأوجد النص الجديد يعاقب به على أنواع التهديد التي لم ينص عليها في القانون العام ليقف في طبار هذه الكثرة يشجها، ولكن لم يكن قصد الشارع هذا من جهة لأن فيه إضافة على النص كما قدمنا، ومن جهة فهذا الرأي قد يؤول إلى معاقبة أبسط الجرائم كالمخالفات فعلاً بعقوبات جسيمة لا لشيء إلا لأنها كثيرة.
قيل إن المادة (32) عقوبات تنطبق على حالتنا هذه [(1)] لأنه يوجد جريمتان لكل منهما عقوبة فيجب تطبيق الأشد، الرأي بعيد عن الصحة، إنما يتعين علينا مناقشته لأنه كان ضمن الحجج التي ناضل بها أهل الرأي المخالف لإثبات نظريتهم، الفقرة الأولى من المادة (32) عقوبات تنص على الحالة التي يطلق عليها الشراح قولهم Concour idéal de l’ infraction مثل هذا أن يشرع زيد في قتل عمر فيطلق عليه عيارًا ناريًا فيسبب له إصابة في ساقه تستوجب عجزه عن أعماله الشخصية مدة تقل عن عشرين يومًا، فالمتهم في هذه الحالة يكون ارتكب بفعل واحد جريمتين، الأولى شروع في قتل معاقب عليه في المادة (194) و(45) و(46) عقوبات، والثانية ضرب بالمادة (206) عقوبات، فالقانون يقضي بأن العقوبة الأشد تجب العقوبة الأخف فيعاقب المتهم بعقوبة الشروع في قتل دون عقوبة الضرب، ومثال ذلك أيضًا أن يقدم متهم ورقة مزورة ليستعين بها على أخذ مبلغ بطريق النصب فالعمل واحد إنما مكون لجريمتين الأولى استعمال ورقة مزورة والثانية نصب فيعاقب المتهم بالعقوبة الأشد للجريمتين لا بكلتيهما (راجع جرانمولان شرح قانون العقوبات جزء أول فقرة 458) أما الجزء الثاني من المادة (32) عقوبات فخاص بوقوع جرائم متعددة يجمعها قصد جنائي واحد كمن زور في الدفاتر العمومية بقصد إخفاء جريمة اختلاس ارتكبها فيعاقب المتهم بأشد العقوبتين وهذه الحالة هي ما يسمونه Connexité، وترى أنه من العبث إيجاد وجه شبه بين حالتنا وهاتين الحالتين.
يتبقى بعد ذلك أن نناقش ما إذا كانت الحالة تحتمل أن يقال عنها أنها تنطبق على المادة (47) مكررة عقوبات، هذه المادة حديثة في القانون المصري أضيفت إليه بمقتضى القانون الصادر في 16 يونيو سنة 1910 بعد حادثة قتل سياسي مشهورة وهي وإن تكن حديثة في التشريع المصري إلا أنها قديمة في القانون الفرنسي المأخوذة عنه، وهي تقابل منه المادة (89) ومعدلة بالقانون الصادر في 28 إبريل سنة 1832 وأول خصيصة لهذه المادة هي أنها تعاقب على مجرد الاتفاق الجنائي فهي تخرج بذلك على القواعد العامة وتعاقب على الأعمال التحضيرية لارتكاب الجرائم فهي بادئ ذي بدء مادة قصد بها إدخال حالة جديدة في دائرة قانون العقوبات لم يكن قبل ذلك ينال مرتكبيها جزاءً ما، وقد اشترط الشراح شروطًا أربعة لتكوين هذه الجريمة:
أولاً: أن يكون هناك تصميم على العمل لا مجرد فكرة مبهم تفصيلها.
ثانيًا: أن يكون هذا التصميم قد بُت فيه وتقرر العمل بموجبه.
ثالثًا: أن يكون الاتفاق بين شخصين أو أكثر.
رابعًا: أن يكون الاتفاق الجنائي خاصًا بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عنها في المادتين (86) و(87 ع. ف.) أي التعدي على ولي الأمر أو على سلامة الدولة، وقد أراد الشارع المصري أن يجعل نص المادة شاملاً فلم ينص على الركن الرابع فخالف في ذلك النصوص الفرنسية، إلا أنه لا نزاع في أن الأركان الثلاثة الأخرى غير متوفرة هنا، فليس لدينا أي تصميم على ارتكاب جريمة ما بل لدينا جريمة معينة تمت وانتهى بارتكابها كل ما فكر المتهمون في ارتكابه، وهذا يزيل مباشرة أهم صفة تتبين بها جريمة الاتفاق الجنائي التي أجمع الشراح على أنها جريمة مستمرة (راجع شوفو وهيلي شرح العقوبات جزء ثانٍ فقرة 453 وجرسون شرح قانون العقوبات المادة (89) فقرة (5) و(6) وكذا هيلي وجرو).
على أن الأستاذ جرسون قد تصور حالة مثل حالتنا هذه تمامًا فعجل إلى نفي اعتبار التهديد علامة على وجود الجريمة أو أنه مكون لها فذكر ما يأتي: أن التصميم على التنفيذ يجب أن يقول على نية صادقة جازمة جاءت بناءً على تروٍ سابق فلا يكفي مجرد إظهار الرغبة في ارتكاب الجريمة أو التهديد بارتكابها (جرسون المادة (89) فقرة 9).
لقد أوجزت فيما تقدم الأدلة التي يجب من أجلها اعتبار الحادثة منطبقة على قانون الانتخاب دون العقوبات، وأجبت كذلك على ما نشر من الآراء المخالفة إلا أنه بقيت كلمة عامة عن تفسير القانون الجنائي لها اعتبار خاص في هذا المجال، لأن القول باعتبار الحادثة جناية مبني على المغالاة في التفسير والتمادي في الاستنتاج على أنه يجب على القاضي الجنائي أن يراعي في تفسيره القانون أمرين هامين: الأول أن يكون التفسير ملازمًا للنص خاليًا خاصةً من التوسع والاسترسال في التشبيه والاستنتاج، والأمر الثاني أن يكون القانون الواجب تطبيقه قانونًا صريحًا غير موضع نظر لدى المشتغلين بالقانون، إذ أنه غير مفروض أن يكون الجمهور ملمًا بأطراف الموسوعات القضائية عالمًا بمختلف الآراء، ولا أرى أفضل من أن ألفت النظر في هذه المناسبة إلى ما ذكره شوفو وهيلي في شرح العقوبات جزء أول فقرة (24) وظاهر منها أنه يتحتم رفض الحكم بمقتضى مادة من قانون العقوبات أصبح العمل بها موضع نظر بين الشراح والمشتغلين بالقانون كما لو أصبح هذا القانون مشكوكًا في وجوب تطبيقه لصدور قانون آخر بعده وفي موضوعه وأنه غير لائق بحسن سير العدالة أن يعلق مصير المتقاضين على نتيجة التكلف في الاستقراء والتمادي في تحليل مختلف النظريات، بل يجب دائمًا أن يعول في المحاكمات على الظاهر الواضح من النصوص وأن يفسر دائمًا ما خفي أو استتر لمصلحة من يقع عليهم حكم هذه القوانين.
والرأي المتقدم هو بالذات رأي الشارع الذي وضع المادة (77) من قانون الانتخاب وكان يكفي الإشارة إلى ذلك لإقناع أصحاب الرأي المخالف إلا نه يفضل دائمًا أن تظهر النصوص القانونية منطبقة على روح التشريع، فقد جاء في محضر اللجنة التشريعية [(2)] حين فحص هذه المادة العبارة الآتية معربة عن الفرنساوية: (وقد كان ترتيب الجرائم الانتخابية بحسب ماهيتها وخطورتها وخففت العقوبات التي كانت شديدة في المشروع وهذه العقوبات تحول دون تطبيق عقوبات أشد منها يكون منصوصًا عنها في قانون العقوبات للجرائم المبينة في المواد من (86) إلى (78) من قانون الانتخاب).
مقصود قوسة
[(1)] نشر تحبيذ هذا الرأي والرأي التالي له في مقالتين افتتاحيتين بجريدة السياسة في غضون شهر أكتوبر سنة 1923.
[(2)] هذا المحضر لم ينشر على ما نعلم، إنما اطلعنا على صورة رسمية منه مستخرجة من وزارة الحقانية وعليها توقيع نفس سكرتير اللجنة جناب المسيو واتلي.
م. ق.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
الجريمة المستحيلة
مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الجريمة المستحيلة
في الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على الجريمة الخائبةDélit Man qué على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883 بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27 فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94) انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية فهو استبدادي Arbitraire ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل (النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة، وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة 1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة 1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24 مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
خليل عفت ثابت
قاضي محكمة الأقصر الجزئية
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الجريمة المستحيلة
في الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على الجريمة الخائبةDélit Man qué على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883 بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27 فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94) انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية فهو استبدادي Arbitraire ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل (النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة، وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة 1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة 1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24 مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
خليل عفت ثابت
قاضي محكمة الأقصر الجزئية
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
مجلة المحاماة
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
للأستاذ مرقص فهمي بك
رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون - بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا - وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.
لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها - وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها - والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.
أما الجناية التامة - فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات - وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) - يُعد مرتشيًا - كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته - أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).
نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.
قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص:
1 - وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 - موظف مختص بما يطلب منه.
3 - أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.
لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير - فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة - ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه - فجناية الرشوة لم تقع - وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني - وقد عدل هنا بمحض إرادته.
ولقد نقل أصحاب البنديكت - هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 - ما يأتي:
((15) وفي حالتي الرشوة - الرشوة ممن يعرض - ثم الرشوة حين تقبل - تتم أركان الجريمة - بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين - وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً - بل يكفي أن يكون العرض قد قبل - أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).
وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي:
((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود - فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية - (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).
ونرى في هذه النقطة المعينة - وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب - نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية - تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة - فحقت العقوبة.
أما العدول بعد ذلك - ولو اختيارًا - فلا يهم التشريع في شيء - ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا - وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء - عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.
حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.
ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟
تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.
أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟
أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!
وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).
ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.
ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة (8) و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.
قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأنه قد انتفع فعلاً بانتقاد الفقهاء على تلك النصوص، فأخذ بمبادئ التشريع الحقة، وقرر أن الرشوة عمل واحد هي العقد بين متعاقدين نسأل بعد هذا متى يقع الشروع وكيف يكون ؟
نقرأ في البنديكت نمرة (16):
(من جهة الراشي فقد تمت أركان الشروع بمجرد العرض ولو لم يقبل، ومن جهة الموظف، فإنه إذا اقترح الرشوة بدون أي عرض أو وعد فهذا يكفي لتكوين الشروع من جهته.
ثم نقرأ أيضًا في جارو مجلد (4) طبعة ثانية صفحة 58 في أوائلها ما نصه:
(تتم الجناية كاملة إذا أخذ الموظف النقود المعروضة أو قبل الوعد لكنها تكون شروعًا - إذا لم يقبل الموظف - ومن الجهة الثانية فإن الموظف يمكنه أن يرتكب جناية الشروع إذا هو اقترح الرشوة بدون أن يعرضها عليه أحد).
ولعل هذا الرأي هو الذي كان مصدرًا لحكم النقض السابق، غير أننا نلاحظ على هذا الرأي ما يأتي:
أولاً: إن أصحاب البنديكت مع اهتمامهم في جميع تدويناتهم بنقل الأحكام التي تصدر تقريرًا لآرائهم نراهم قد نقلوا هذا الرأي خاليًا من أي حكم أو من أي تقرير آخر.
ثانيًا: إن جارو - بعد أن كتب هذا الرأي في كتابه - قد أحس بأنه رأي غير مسند فأراد إخلاصًا للعلم عند المراجعة أن يدلل على ضعفه في الحاشية، فتراه يكتب في أسفل الصفحة تعليقًا بالنص الآتي:
(7 - هذا الرأي يظهر لنا أنه نتيجة لمبادئ الشروع العامة، ولكن يجب علينا أن نلاحظ أن العلماء لم يرد في مباحثهم إمكان الشروع في الرشوة من جهة الموظف، وكذلك نحن لم نجد في فقه المحاكم مثلاً للاتهام بشروع من هذا القبيل.
ثالثًا: وهذا هو القاطع إن جارو لم يكتفِ بالحاشية التي نقلناها - بل لما تقدم في البحث واستعرض المبادئ مرة ثانية نراه قد نقض ذلك الرأي الأول نقضًا صريحًا، فكتب في صفحة 75 ما نصه:
(المادة (177) إنما تقرر العقوبة على قبول العرض أو الوعد للغرض المعين، فهي بذلك تجعل الجريمة في اتفاق الإرادتين).
وعلى هذا فإن طلب نقود - إذا لم يقبله من طلب منه - لا يعتبر إلا شروعًا في جنحة الاتجار بالوظيفة، وهي جنحة لا عقوبة عليها بنص في القانون.
رابعًا: أن هذا الرأي الباطل الذي رجع عنه أصحابه - ذلك الرجوع الصريح - إنما كان نتيجة لتصور جريمة الرشوة عندهم على اعتبار أنها قد جمعت بين عملين مستقلين - يجب ملاحظة كل منهما على حدة - وقد بينا فيما تقدم بطلان هذا التصور من جهة قانوننا ومن البديهي أن التناقض بين الأساسين يقتضي التناقض بين النتيجتين.
إتيانًا بما تقدم إتمامًا للبحث، وأخذًا بقواعد النظرية الجنائية من أصولها، وكان لنا أن نكتفي بنصوص القانون عندنا فإنها صريحة في استحالة الشروع من جهة الموظف بل في استحالته أيضًا من جهة الراشي إذا اقتصر على العروض قولاً ذلك لأننا قد نقلنا نص المادة (89)، وهي صريحة أن الرشوة التامة إنما هي (قبول) الموظف، ومهما تعب العقل فإنه لا يستطيع أن يجد للشروع في القبول إمكانًا لا خياليًا، ولا ماديًا يتمثل ظاهرًا في الوجود.
نقول - لا خياليًا، ولا فعليًا - إذ لا نستطيع أن نفهم من جهة الخيال شيئًا غير القول إلا ترددًا في نفس الموظف - إذا عرض عليه أمر - فقد تقف نفسه بين القبول وبين الرفض، وهذه مداولة وحيرة وتردد، فلا نستطيع أن نصفها قبولاً ولا شروعًا فيه، ولا تستطيع أن نصفها رفضًا فهي هواجس تطرأ على النفس مثلها مثل كل الخيالات الطارئة فلا هي عزم، ولا هي قصد ثابت، فمن المحال أن تكون شروعًا، وهو بدء في العمل كما هو معروف، قد تقول ولكن الموظف إذا طلب، قد صدرت منه كلمة فعلاً، وقد ظهر قصده !
نعم لكن القصد ليس شروعًا - مهما تحقق - بل لا بد من البدء في التنفيذ.
ثم نعم ثانيًا: لكن الجناية هنا، وبالنص هي القبول فالقبول مستحيل لعدم الإيجاب والشروع فيه كذلك مستحيل لأن استحالة واقعة تجعل الشروع فيها أمرًا مستحيلاً طبعًا.
ثم نعم ثالثًا: لكن الاعتراض راجع إلى نسيان أننا في مجال توقيع عقوبات، وتعرف جنايات كما وضعها الشارع تحديدًا، لا كما يريد الفكر، والفكر كثير المذاهب فإذا قال الشارع أن الرشوة هي القبول وجب أن نقف عند هذا ولا نتعداه، ووجب أن نبحث في هل لهذا العمل من شروع ممكن ؟.
اعترض باحتمال أن يقبل صاحب الحاجة طلب الموظف، فيعرض عليه ما طلبه أفلا تتم الرشوة ؟
الاعتراض غير مسند - بل هو يعزز الرأي الذي نقول به - لأنه إذا قبل صاحب الحاجة العرض فقد تم العقد كاملاً، وقد اتحدت الإرادتان - اتحادًا جنائيًا فاجتمعت أركان الواقعة، واستحقت العقوبة، ولن نجد أبدًا لاتحاد الإرادتين شروعًا !!!
والاعتراض عند تحليله أيضًا لا يصلح دليلاً إلا لرأينا لأن قبول صاحب الحاجة لعرض الموظف يتضمن بالطبع عرض الهدية أو التعهد بها - ثم يعقبه قبول الموظف، وعلى هذا فقد توفر العرض من جهة الراشي، ثم القبول وإن ثبت مرتين، فتحققت الواقعة كما حددها النص وتمت أركان العقد الجنائي كلها، ولا يكون طلب الموظف إلا اقتراحًا للتعاقد الجنائي أو الفاتًا لنظر صاحب الحاجة إلى التفكير في الجناية، وما قال أحد أن مجرد اقتراح فعل جنائي يعتبر شروعًا فيه.
على أن الشارع المصري وهو ينقل القانون الفرنسي رأي في المادة (179) - عند النقل كلمة (الشروع) فحذفها بتاتًا فلا نراها عندنا - وفي هذا تدليل ضمني لكنه واضح الدلالة على أن اعتبار الشروع في الرشوة من طريق القواعد العامة، وهي البدء في العمل على إطلاقه لا يمكن أن تتحقق - في مسائل الوعد والقبول - والتعاقد الكلامي بل لا بد للشروع في هذا المقام من حكم خاص وبيان مستقل.
ثم بعد هذا الحذف أراد أن يضع حكم الشروع فقرره في المادة (96) بالنص الآتي: (96) من شرع في إعطاء رشوة - ولم يقبل منه - أو في الإكراه بالضرب والتهديد ونحو هذا ولم يبلغ مقصده يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة.
بناءً على هذا فالنص صريح بأن الشروع إنما هو البدء في عمل مادي هو إعطاء الرشوة وتقديمها فعلاً ماديًا ظاهرًا، أما العرض القولي - فقد ذكره القانون في مواد الفعل التام - وتركه في مادة الشروع فإذا عرض الراشي الرشوة قولاً - ولفظًا مجردًا فلا شروع أصلاً بنص المادة، وإذا كان الشروع لا يتكون بالقول - من جهة الراشي - فهو كذلك لا يتكون بالقول من جهة الموظف لأن مبادئ الشروع واحدة لا تتغير.
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
للأستاذ مرقص فهمي بك
رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون - بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا - وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.
لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها - وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها - والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.
أما الجناية التامة - فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات - وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) - يُعد مرتشيًا - كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته - أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).
نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.
قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص:
1 - وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 - موظف مختص بما يطلب منه.
3 - أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.
لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير - فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة - ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه - فجناية الرشوة لم تقع - وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني - وقد عدل هنا بمحض إرادته.
ولقد نقل أصحاب البنديكت - هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 - ما يأتي:
((15) وفي حالتي الرشوة - الرشوة ممن يعرض - ثم الرشوة حين تقبل - تتم أركان الجريمة - بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين - وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً - بل يكفي أن يكون العرض قد قبل - أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).
وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي:
((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود - فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية - (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).
ونرى في هذه النقطة المعينة - وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب - نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية - تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة - فحقت العقوبة.
أما العدول بعد ذلك - ولو اختيارًا - فلا يهم التشريع في شيء - ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا - وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء - عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.
حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.
ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟
تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.
أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟
أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!
وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).
ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.
ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة (8) و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.
قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأنه قد انتفع فعلاً بانتقاد الفقهاء على تلك النصوص، فأخذ بمبادئ التشريع الحقة، وقرر أن الرشوة عمل واحد هي العقد بين متعاقدين نسأل بعد هذا متى يقع الشروع وكيف يكون ؟
نقرأ في البنديكت نمرة (16):
(من جهة الراشي فقد تمت أركان الشروع بمجرد العرض ولو لم يقبل، ومن جهة الموظف، فإنه إذا اقترح الرشوة بدون أي عرض أو وعد فهذا يكفي لتكوين الشروع من جهته.
ثم نقرأ أيضًا في جارو مجلد (4) طبعة ثانية صفحة 58 في أوائلها ما نصه:
(تتم الجناية كاملة إذا أخذ الموظف النقود المعروضة أو قبل الوعد لكنها تكون شروعًا - إذا لم يقبل الموظف - ومن الجهة الثانية فإن الموظف يمكنه أن يرتكب جناية الشروع إذا هو اقترح الرشوة بدون أن يعرضها عليه أحد).
ولعل هذا الرأي هو الذي كان مصدرًا لحكم النقض السابق، غير أننا نلاحظ على هذا الرأي ما يأتي:
أولاً: إن أصحاب البنديكت مع اهتمامهم في جميع تدويناتهم بنقل الأحكام التي تصدر تقريرًا لآرائهم نراهم قد نقلوا هذا الرأي خاليًا من أي حكم أو من أي تقرير آخر.
ثانيًا: إن جارو - بعد أن كتب هذا الرأي في كتابه - قد أحس بأنه رأي غير مسند فأراد إخلاصًا للعلم عند المراجعة أن يدلل على ضعفه في الحاشية، فتراه يكتب في أسفل الصفحة تعليقًا بالنص الآتي:
(7 - هذا الرأي يظهر لنا أنه نتيجة لمبادئ الشروع العامة، ولكن يجب علينا أن نلاحظ أن العلماء لم يرد في مباحثهم إمكان الشروع في الرشوة من جهة الموظف، وكذلك نحن لم نجد في فقه المحاكم مثلاً للاتهام بشروع من هذا القبيل.
ثالثًا: وهذا هو القاطع إن جارو لم يكتفِ بالحاشية التي نقلناها - بل لما تقدم في البحث واستعرض المبادئ مرة ثانية نراه قد نقض ذلك الرأي الأول نقضًا صريحًا، فكتب في صفحة 75 ما نصه:
(المادة (177) إنما تقرر العقوبة على قبول العرض أو الوعد للغرض المعين، فهي بذلك تجعل الجريمة في اتفاق الإرادتين).
وعلى هذا فإن طلب نقود - إذا لم يقبله من طلب منه - لا يعتبر إلا شروعًا في جنحة الاتجار بالوظيفة، وهي جنحة لا عقوبة عليها بنص في القانون.
رابعًا: أن هذا الرأي الباطل الذي رجع عنه أصحابه - ذلك الرجوع الصريح - إنما كان نتيجة لتصور جريمة الرشوة عندهم على اعتبار أنها قد جمعت بين عملين مستقلين - يجب ملاحظة كل منهما على حدة - وقد بينا فيما تقدم بطلان هذا التصور من جهة قانوننا ومن البديهي أن التناقض بين الأساسين يقتضي التناقض بين النتيجتين.
إتيانًا بما تقدم إتمامًا للبحث، وأخذًا بقواعد النظرية الجنائية من أصولها، وكان لنا أن نكتفي بنصوص القانون عندنا فإنها صريحة في استحالة الشروع من جهة الموظف بل في استحالته أيضًا من جهة الراشي إذا اقتصر على العروض قولاً ذلك لأننا قد نقلنا نص المادة (89)، وهي صريحة أن الرشوة التامة إنما هي (قبول) الموظف، ومهما تعب العقل فإنه لا يستطيع أن يجد للشروع في القبول إمكانًا لا خياليًا، ولا ماديًا يتمثل ظاهرًا في الوجود.
نقول - لا خياليًا، ولا فعليًا - إذ لا نستطيع أن نفهم من جهة الخيال شيئًا غير القول إلا ترددًا في نفس الموظف - إذا عرض عليه أمر - فقد تقف نفسه بين القبول وبين الرفض، وهذه مداولة وحيرة وتردد، فلا نستطيع أن نصفها قبولاً ولا شروعًا فيه، ولا تستطيع أن نصفها رفضًا فهي هواجس تطرأ على النفس مثلها مثل كل الخيالات الطارئة فلا هي عزم، ولا هي قصد ثابت، فمن المحال أن تكون شروعًا، وهو بدء في العمل كما هو معروف، قد تقول ولكن الموظف إذا طلب، قد صدرت منه كلمة فعلاً، وقد ظهر قصده !
نعم لكن القصد ليس شروعًا - مهما تحقق - بل لا بد من البدء في التنفيذ.
ثم نعم ثانيًا: لكن الجناية هنا، وبالنص هي القبول فالقبول مستحيل لعدم الإيجاب والشروع فيه كذلك مستحيل لأن استحالة واقعة تجعل الشروع فيها أمرًا مستحيلاً طبعًا.
ثم نعم ثالثًا: لكن الاعتراض راجع إلى نسيان أننا في مجال توقيع عقوبات، وتعرف جنايات كما وضعها الشارع تحديدًا، لا كما يريد الفكر، والفكر كثير المذاهب فإذا قال الشارع أن الرشوة هي القبول وجب أن نقف عند هذا ولا نتعداه، ووجب أن نبحث في هل لهذا العمل من شروع ممكن ؟.
اعترض باحتمال أن يقبل صاحب الحاجة طلب الموظف، فيعرض عليه ما طلبه أفلا تتم الرشوة ؟
الاعتراض غير مسند - بل هو يعزز الرأي الذي نقول به - لأنه إذا قبل صاحب الحاجة العرض فقد تم العقد كاملاً، وقد اتحدت الإرادتان - اتحادًا جنائيًا فاجتمعت أركان الواقعة، واستحقت العقوبة، ولن نجد أبدًا لاتحاد الإرادتين شروعًا !!!
والاعتراض عند تحليله أيضًا لا يصلح دليلاً إلا لرأينا لأن قبول صاحب الحاجة لعرض الموظف يتضمن بالطبع عرض الهدية أو التعهد بها - ثم يعقبه قبول الموظف، وعلى هذا فقد توفر العرض من جهة الراشي، ثم القبول وإن ثبت مرتين، فتحققت الواقعة كما حددها النص وتمت أركان العقد الجنائي كلها، ولا يكون طلب الموظف إلا اقتراحًا للتعاقد الجنائي أو الفاتًا لنظر صاحب الحاجة إلى التفكير في الجناية، وما قال أحد أن مجرد اقتراح فعل جنائي يعتبر شروعًا فيه.
على أن الشارع المصري وهو ينقل القانون الفرنسي رأي في المادة (179) - عند النقل كلمة (الشروع) فحذفها بتاتًا فلا نراها عندنا - وفي هذا تدليل ضمني لكنه واضح الدلالة على أن اعتبار الشروع في الرشوة من طريق القواعد العامة، وهي البدء في العمل على إطلاقه لا يمكن أن تتحقق - في مسائل الوعد والقبول - والتعاقد الكلامي بل لا بد للشروع في هذا المقام من حكم خاص وبيان مستقل.
ثم بعد هذا الحذف أراد أن يضع حكم الشروع فقرره في المادة (96) بالنص الآتي: (96) من شرع في إعطاء رشوة - ولم يقبل منه - أو في الإكراه بالضرب والتهديد ونحو هذا ولم يبلغ مقصده يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة.
بناءً على هذا فالنص صريح بأن الشروع إنما هو البدء في عمل مادي هو إعطاء الرشوة وتقديمها فعلاً ماديًا ظاهرًا، أما العرض القولي - فقد ذكره القانون في مواد الفعل التام - وتركه في مادة الشروع فإذا عرض الراشي الرشوة قولاً - ولفظًا مجردًا فلا شروع أصلاً بنص المادة، وإذا كان الشروع لا يتكون بالقول - من جهة الراشي - فهو كذلك لا يتكون بالقول من جهة الموظف لأن مبادئ الشروع واحدة لا تتغير.
النصب بطريق الخصومة
مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة الحادية عشرة - شهر مارس سنة 1931
النصب بطريق الخصومة
جنحة النصب من أدق الجنح في القانون، فإن النصب دقة ومهارة، وتعقيد، وتفنن، فكان طبيعيًا أن يتشكل بأشكال عديدة، وكان معقولاً أن يحتاط النصاب لنفسه فلا تخنقه حبائله التي ينشرها لاصطياد الغير..، فجمع النص الذي يحيط بأعمال النصابين من الأركان والدقائق ما قد يختلف فيه الآراء وتتناقض بسببه الأحكام.
والذي جعل هذه الصعوبة دائمة، وجعل الخلاف مستمرًا أن الأركان التي نصت عليها مادة النصب كثيرة من جهة، ثم أن بعضها قد يحل محل البعض الآخر من جهة أخرى، فإذا عرضت واقعة فاتجهت وجهة النظر إلى توافر الأركان الأصلية وغاب عن الباحث ما يصح أن يكون لأحدها بديلاً، ذهبت الواقعة كأنها ناقصة الأركان فتخرج من دائرة العقوبة.
لسنا نريد أن نبحث في كل أو أكثر ما يعرض من هذا النوع فإن هذا لا يحيط به بحث محدود، ولكننا نريد فقط أن نبحث في واقعة واحدة، لم تعرض على محاكمنا قبل الآن على ما نعلم، ورأينا أن نعرضها لأول مرة على أن الإفهام متفقة على أنها ليست نصبًا، وهي الآتية:
أودع منقول عند آخر، وثبتت الوديعة بسند مكتوب، ثم طلب المودع استرداد الوديعة فردت فعلاً، وطلب المودع لديه سندها، فاعتذر مالك المنقول بأن السند ليس في متناول يده ساعة الرد، ووعد بتسلمه غدًا، فصدقه المودع لديه، ولما رجع في الموعد المضروب طلب إليه المالك الذي استلم وديعته أن يقوم بعمل معين، وهدده إذا لم ينفذ طلبه، بإنكار استلام الوديعة، وبالتبليغ ضده على اعتبار أنه مبدد، وهذه الواقعة هي محل البحث.
نحن نقول إنها نصب تام الأركان، لا ينقصه شيء لا من الناحية الأدبية ولا من الناحية القانونية، وأن النفس لتنزعج بمجرد استعراض الواقعة بظروفها، على ما فيها من دلائل الاستقامة، وحسن النية من جهة المودع لديه، وما يقابل ذلك من فظاعة الإجرام من جهة المالك، فإنك لا تستطيع أن تتصور ضلالاً أكثر، ولا سوادًا يملأ النفس أظلم، ولا جرأة على الشر أشد، فإن هذا الفاتك يقبض على فريسته بيد من حديد، إذ في يده سند مكتوب أمَّنه عليه المودع لبضعة ساعات لعذر انتحله فأنكر الأمانة حول السند إلى مصلحته، يريد أن يملك به رقبة المدين، ويملك به ضمير القاضي، فيسد عليه طريق الحق، فأصبح المودع لديه البريء ألعوبة أثيم يهدده في شرفه، وفي ماله !!
فأين تجد واقعة من وقائع النصب يمكن أن تكون أشد هولاً - أو أثبت ظهورًا في واقعتها - وفي توافر أركانها، وفي مبلغ أثرها، وسعة الجرم فيها. ؟!!!
يخيل لنا وقد وضعنا الواقعة بحدودها، أنها لا تحتمل خلافًا، ولا تحتاج إلى بحث، بل نراها نصبًا واضحًا لا يقبل الجدل، فإن الركن الأول وهو الكذب ظاهر، وواقعته هنا دعوى المالك أنه لم يستلم الوديعة وقد استلمها، والركن الثاني وهو الاحتيال لتأكيد هذا الكذب متوفر، وهو الاستدلال بسند، ترك في يده أمانة وليس عند المودع لديه دليل يثبت براءة ذمته ويدفع به عن نفسه شر هذا الاتهام الكاذب، والركن الثالث متوفر وهو قائم في أن هذا التهديد من شأنه أن يحدث في النفس جزعًا يدفعها إلى الخضوع لمطالب المهدد، أما الركن الرابع وهو الاستيلاء على المال بغير حق فإذا لم يتم فالواقعة شروع لا جنحة كاملة.
يجب أن نحدد عند أي ظرف، من ظروف هذه الواقعة تبدأ أركان جنحة النصب في دور التكوين.
هل تبدأ عندما يطالب مالك الوديعة برد وديعته، للمرة الأولى أي قبل أن يكون استلمها ؟ بالطبع لا، لأنه إنما يستعمل حقًا، حتى ولو كان مصممًا على أن يلعب الدور إلى آخره، لأن التصميم النفسي لا يعتبر ركنًا لجنحة ما، اللهم إلا بعد وقوعها وعلى اعتبار أنه بحث رجعي لتكوين نية الإجرام.
هل تبدأ تلك الأركان، عند استلامه الوديعة، والتحايل لعدم رد السند، معتذرًا بأي عذر يبديه ؟!
لا شك أننا ندخل هنا في دور العمل المادي، وفي طريق الاستعداد التنفيذي للنصب، فكان يصح أن يكون هذا العمل بداية للجنحة وركنًا من أركانها.
قد يعرض للذهن أن المودع لديه هنا، أيضًا، إنما يسترد ماله الذي يملكه ومن حقه أن يسترده، فهو في دائرة حقوقه، فلا ينقلب عمله ركنًا لجنحة النصب.
والنظرة هنا خاطئة على ما نرى - لأنه أولاً لم يسترد وديعته فقط بل هو بدأ يتحايل لعدم رد السند لغرض الاستيلاء على مال الغير بدون حق - ولأنه ثانيًا إذا كان من حقه أن يسترد وديعته، فإنما هذا الحق مرتبط بأن يسلم السند الذي في يده، إذ الأمران متلازمان، بل هما في الواقع عمل واحد، لا يتجزأ، ولا سبيل إلى قسمته لأمرين منفصلين فاستلام الوديعة منفصلاً، ثم رد السند منفصلاً.
بل إن المودع لديه إذا ما حضر يحمل الأمانة إلى صاحبها، فإنما يقابل هذا في الحال، واقعيًا، وقانونًا، وفي عقيدة حاملها، وكذلك في عقيدة المالك الذي يريد أن يستلم، أن هذه الوديعة يقابلها سند يمثلها تمامًا، وأن الإلزام الذي يرتب على المودع لديه واجب رد الوديعة هو بذاته الذي يرتب على صاحبها واجب رد السند في لحظة استلامه للوديعة، فإذا ما احتال على أن لا يرد، واقتصر على استلام وديعته، فغير صحيح لا واقعيًا، ولا قانونًا، ولا ذمة أنه يستعمل حقًا إنما الواقع أنه يبدأ في الكيد، ويخطو الخطوة الأولى للوصول إلى الاستيلاء على مال الغير، ويتسلح لاغتصاب هذا المال اغتصابًا.
ومن ناحية أخرى، فإن المالك إذا استلم وديعته فقد برئت ذمة المودع لديه قانونًا، ويصبح سند الوديعة تحت يد المالك هو بذاته وديعة في ذمته عليه أن يرده لصاحبه، فإذا ما رفض الرد وأراد استعمال السند لمصلحته فقد ارتكب جنحة التبديد وخيانة الأمانة، فلا سبيل بحال من الأحوال أن يوصف هذا العمل من جهة النظر القانوني بأنه استعمال لحق.
ومهما يكن من وجهة النظر في هذه الخطوة الأولى، فإن الظروف التالية تجمع وحدها جميع أركان جنحة النصب كاملة: ذلك - لأن مالك المنقول بعد أن استلمه - ووعد برد السند لصاحبه، نراه قد أنكر الاستلام، ثم هدد باستعمال السند الذي بيده، وهو سند قد أصبح باطلاً معدوم الأثر، وقد أصبح مملوكًا للمودع لديه بحكم رد الوديعة، وفي هذا جمع لأركان جنحة النصب كما قدمنا.
على هذا يمكنا أن نقول خذ الواقعة من حيث شئت، فإنها جنحة مضاعفة لأن مالك المنقول احتال على المودع لديه حتى استلم منه الوديعة، وهو يضمر له شرًا، ثم بعد ذلك تقدم للاحتيال عليه من جديد، للاستيلاء على مال من طريق التهديد - بتهمة التبديد - وهو أشد طرق الاحتيال، وأفعلها في نفس المهدد، فالشروع في النصب قائم مقرر.
على أن تدليلنا قد يبدو للمشتغلين بالقضاء ضعيفًا، إذ جرت العادة - مهما كان التدليل العقلي واضحًا - بالرجوع إلى آراء العلماء وفقه المحاكم فلنتمم بحثنا للواقعة من هذه الوجهة.
جاء في جارسون، شرحًا على المادة (405) التي تقابل مادة (293) عندنا، صفحة 1336:
(425): (أن سداد الديون قد يصحبها طرق احتيال متنوعة، وأشهرها أن يستلم المدين مخالصة بدينه ثم لا يدفع الدين ويدعي أنه دفعه).
وقد أثارت هذه الواقعة من جهة وصفها القانوني صعوبات عسيرة الحل، ولكن فقه المحاكم قرر مبادئ يصح أن تعتبر ثابتة، فإنه إذا أخذ المدين إيصالاً أو مخالصة لمراجعته، ثم لا يدفع، فقد ارتكب سرقة، لأن السند لم يسلم له بصفة نهائية، ومن طريق التمليك بدون قيد، بل سلم له تسليمًا مؤقتًا، لا ينفي السرقة من طريق الاختلاس.
ويقول أيضًا:
(426): (ولكن هذه الأسباب بذاتها تزول وتسقط نتيجتها إذا لم يستلم المخالصة على شرط ردها - بل على أن تكون له بصفة نهائية، وذلك حتى إذا استلم المخالصة من طريق الحيلة لأن أركان السرقة تنعدم، وليس من الضروري دائمًا أن فقدان أركان السرقة يجعل الواقعة نصبًا إلا إذا ثبت أن المخالصة سلمت بسبب استعمال طرق احتيالية).
ونرى أن التفرقة بين حالتي تسليم المخالصة إما مؤقتًا وإما نهائيًا، إنما هو تفريق اصطناعي أكثر منه واقعي أو قانوني.
فإن المخالصة لا تسلم عادةً على شرط درها بذاتها، بل على شرط دفع الدين، فالتسليم دائمًا وقتي ومقرون بشرط: لكن هذا في رأينا لا يجعل الواقعة سرقة إذا لم يدفع المدين، لأن ركن الاختلاس مهما أجهد الباحث نفسه غير حاصل واقعيًا بل هو متوفر حكمًا على ما يقول جارسون، ولسنا ممن يقبلون القول بأن الجنايات تقع اعتبارًا.
أما أركان النصب فظاهرة بدون حاجة إلى إثبات احتيال آخر، فإن الإجماع قائم على أن طرق الاحتيال قد تكون مستفادة من ظروف الواقعة بنفسها، أو من صفة نفس المتهم إذا كانت تلك الصفة تدعو إلى تصديقه، أو من طبيعة العمل، وواضح أن علاقة الدائن والمدين تستدعي بذاتها أن يدفع المدين دينه، فحضوره متظاهرًا بنية الدفع عمل يدعو بذاته إلى تصديقه، وطلب المخالصة يؤكد قوله أو مظهره، فلا حرج على الدائن إذا قدم له المخالصة، فإذا ما استلمها بعد ذلك وادعى أنه دفع الدين كذبًا، فقد تمت أركان النصب كلها واقعيًا وقانونًا.
وتوافر ركن النصب هنا، أقرب منه إلى توافر ركن السرقة، وهو الاختلاس، لأن الاختلاس في هذه الحالة إنما هو انتزاع فكري، محض، بل هو اجتهاد نظري، يراد به تغليب الاعتبار الفكري، على الواقع المحسوس، فيجب عليك أن تمحو من الوجود واقعة تسليم المخالصة اختيارًا، ثم تضع مكانها من طريق الاعتبار النظري أن المخالصة قد اختلست، وهذا تخريج خطر في مقام البحث في توافر أركان الجنح، فإن الجنحة واقعة مادية على الدوام، أما هنا فيراد تأليفها من فكر مجرد، واعتبار نظري، وهذا لا يجوز على ما نرى.
وعلى كل حال فإن (جارسون) ومعه الأحكام التي يشير إليها مجمعة على تأييد الرأي الذي نقول به وهو اعتبار الواقعة نصبًا إذا كان تسليم المخالصة قد سبقه عمل احتيالي، والنظر في هل وقع احتيال أو لم يقع، إنما هو أمر موضوعي، وأما النصب من جهة وصفه القانوني فلا خلاف فيه.
على أن ما نذهب إليه هو رأي محكمة النقض في باريس، وقد نقله جارسون بعد أن وضع رأيه الذي علقنا عليه بما تقدم، حيث يقول:
(432): (ولكن محكمة النقض، رأت من الطرق الاحتيالية أن يحضر المدين مظهرًا أنه مستعد لدفع الدين، فيضع كيس النقود على ترابيزة، ثم يطلب المخالصة، فإذا أخذها ولم يدفع، فقد تمت جنحة النصب… (كاساسيون 4 سبتمبر سنة 1824)).
ويعلق جارسون على هذا الحكم بما يأتي:
(هذا القرار قديم، وواقعته في غاية الدقة، أما الفقه الأحدث فإنه يعتبر المدين الذي يضع النقود تحت تصرف الدائن بعد عدها، ثم بعد ذلك يختلسها بالحيلة أو بالمهارة يعتبر أنه قد ارتكب جنحة السرقة لأنه كان ملكها فعلاً للدائن ثم اختلسها).
ثم يقول بعد ذلك:
(أما في حادثة قرار محكمة النقض فإن المدين لم يكن قد وضع النقود تحت تصرف الدائن، إنما أظهر الكيس فقط..، وبهذا فإنه لم يكن في الإمكان اعتباره مختلسًا لنقود هي في الأصل تحت يده ولا زالت كذلك).
(ومع هذا فإننا نميل إلى اعتبار أنه سرق المخالصة). !!
وجاء فيه أيضًا، فقرة (433).
كذلك رأت محكمة النقض أن جنحة النصب متوافرة الأركان في الواقعة الآتية:
(مضارب في البورصة، طلب أن يستلم السندات التي اشتراها في نظير دفع ثمنها.. ثم استلمها من العامل المختص بذلك، ومعها فاتورة عليها مخالصة، ووضع كل هذا في مكتبه، ثم دفع جزءً من الثمن، وطلب من المستخدم أن يصحبه إلى مكتب أخيه ليدفع الباقي ثم تركه ولم يدفع).
ليس في هذه الواقعة إلا ما نذهب إليه، فقد رأت محكمة النقض كما رأينا أن في حضور المشتري إلى مكتب البائع، مظهرًا أنه مستعد لاستلام الأوراق التي اشتراها مظهرًا يدعو بذاته إلى تصديقه، لأن العملية تستلزم ذلك، وكان هذا التظاهر الكاذب حيلة ترتب عليها تسليم المخالصة فوقع النصب كاملاً.
لكن جارسون يستمر على رأيه فلا يرى أن في هذا المظهر ما يكفي لاعتبار أن الاحتيال قد تمثل، وهذا هو سبب اعتراضه الوحيد، فالمسألة ليست اختلافًا على جوهر المبدأ كما ترى، بل على تقدير الطرق الاحتيالية وكيف تكون، وهذه مسألة واقعية، فالإجماع حينئذٍ قائم على أنه نصب إذا كان من الظروف ما يدعو إلى اعتبار أن الدائن إنما سلم المخالصة معتقدًا أنه سيقبض دينه.
هذا فيما يتعلق بالمدين إذا أخذ مخالصة ولم يدفع الدين، فهل تختلف الحالة العكسية ؟ وهي إذا ما استلم الداين دينه، ثم احتفظ بسنده، ورجع إلى المطالبة مرة أخرى. !!
يقول جارسون، صفحة 1338 ما يأتي:
(433): (وقد تقع نفس الطرق الاحتيالية من الدائن ضد المدين فبعد أن يستلم دينه، يدعي أن المدين لم يدفع ثم يطالب بالدين من جديد، والمبادئ التي قررناها في شأن المدين تنطبق على هذه الحوادث الدقيقة).
نرى أن الواقعة تعتبر سرقة، إذا استولى الدائن على النقود قبل أن توضع تحت تصرفه، أو إذا استرد سند الدين أو المخالصة بعد أن أعطى أحدهما للمدين، ويعتبر نصبًا إذا كان الدائن قد استعمل الحيلة فجعل المدين يسلمه الدين - بدون تسليم سنده - ولكن النصب لا يتكون إذا لم يثبت أنه استعمل لأخذ الدين طريقًا احتياليًا، ولا يكفي لتكوين أركان النصب أن الدائن كذب على المدين فجعله يدفع الدين بدون أخذ إيصال أو بدون استرداد السند.
لهذا فقد حكمت محكمة النقض، أنه إذا كتب سند جديد بدل السند القديم الذي استحق وادعى الدائن أن السند القديم قد فُقد فإن ركن النصب غير متوفر، لأن الدائن لم تصدر منه حيلة لاستلام السند الجديد، أما دعوى فقدان السند القديم فقد صدرت بعد استلام الجديد فهي لم تكن سببًا لاستلامه. (نقض 9 يناير سنة 1885).
وهنا أيضًا يجب أن نلاحظ أن جارسون يحصر بحثه، سواء في الرأي يبديه هو، أو في نقل حكم محكمة النقض، في واقعة استلام السند الجديد، أو قبض الدين، ويريد أن يعطي لهذه الواقعة بالذات حكمها، ثم يريد أن يبسط حكمها وحدها على الوقائع التي تليها، وهو خطأ لأنها تقف عند استلام الدين، أو السند الجديد، الذي حل محل القديم، وهذا هو موضوع حكم محكمة النقض بالتحديد.
أما الواقعة التالية، وموضوعها، أن ذلك الدائن - الذي لا دين له - يدعي بعد أن قبض دينه أنه دائن، ثم يهدد برفع الدعوى ثم يرفعها فعلاً فإنها واقعة مستقلة ذات أركان خاصة بدأت بدعوى كاذبة ثم أسندت إلى وقائع احتيالية، ودليلها قائم موجود لكنه دليل باطل مسموم، وهذه الواقعة التامة الأركان، لا يتعرض لها جارسون ولا يبحث في حكمها، لا هو ولا حكم النقض. !!
بل إننا إذا أخذنا مبدأه أساسًا، ثم أردنا تطبيقه على هذه الحادثة التالية من باب الاستطراد، فإنها تكون نصبًا أيضًا، إذ هو قد أخرج واقعة استلام الدين من دائرة النصب، بناءً على أن دعوى فقدان السند القديم، جاءت بعد استلام الدين، والواقع أنه لا يستطيع أحد أن يفهم أن تأخير الحيلة يجعل تسليم الدين حاصلاً على أنه تبرع نهائي، غير مشترط فيه بحكم الحال والظروف، بل بحكم الواجبات المفروضة، أنه دفع مرتبط في واقعته، وحكمه، بتسليم سند الدين، أو تسليم مخالصة عنه، وما دام أن هذا هو شرط الدفع الذي لا نزاع فيه كان الاحتجاج بأن التحايل بفقدان السند حصل بعد استلام المبلغ لا يغير شيئًا من معاني الواقعة، ولا من ركنها الإجرامي، بل هو يزيد في بيان نية الإجرام، وفي بيان مقدار الحيلة، لأن الدائن سكت احتيالاً حيث يجب السكوت، حتى يهيء له طريق الاختلاس الذي يريده، فإنه إذا أعلن المدين قبل استلامه الدين أنه لا يريد أولاً يستطيع أن يسلم سنده، أو مخالصة عنه، فقد يثير ذلك حذر المدين، وقد يعتذر عن الدفع فمن الغريب في الصورة التي يرويها جارسون أن يكون احتياط الجاني لإتمام جنايته وإحكامه في ارتكابها سببًا لعدم تكوين أركانها وإفلاته من العقوبة. !!
ونظن أنه من أجل هذا قد تجاوزت محكمة النقض عن الأخذ بشرط جارسون، ورأت أن الواقعة نصب تام الأركان، ونجد هذا في جارسون نفسه فقرة (446) حيث يقول:
(ولكن محكمة النقض حكمت بأن النصب واقع إذا قبض محصل الأموال الذي رُفض من وظيفته ما هو مطلوب من أحد الممولين وأعطاه مخالصة).
(747): (وكذلك الدائن الذي يقبض دينه من مدين أمي وانتهز فرصة جهله فسلمه صورة من سند الدين وحفظ الأصل ثم حوله وطلب بقيمته بعد ذلك).
هنا فقط وفي هذا الحكم الأخير تجد الواقعة التي نفترضها، لأن جنحة النصب ليست مشخصة في واقعة قبض الدين في ذاتها بل تشخصها الواقعة التالية وهي المطالبة بالدين الذي أصبح غير مستحق، ثم استعمال سند الدين المحفوظ دليلاً عليه.
لكن جارسون يستمر على فكره الأول، وهو التوحيد دائمًا بين الواقعتين، قبض الدين، ثم المطالبة به مرة أخرى، فنراه يوافق على هذا الحكم، ولكنه يرجع في تعليله القضائي إلى ما أبداه فيما مضى، فيقول إن المدين هنا قد دفع بناءً على حيلة صدرت من الدائن وهي إيهامه بإعطاء مخالصة والواقع أنها ليست كذلك.
ولو تأملنا إلى هذا التعليل لجاز لنا الشك في قبوله إذ أن هذا المدين، كان له من الطرق مهما كان جهله ما يضمن به كشف حقيقة الورقة التي عرضت عليه، وحكايته لا تخرج عن أنه قد صدق الدائن لمجرد قوله أنه يعطي مخالصة، ولا فرق بينه وبين من يعرف القراءة إذا صدق الدائن في اعتذاره مثلاً بأن سند الدين ليس في متناول يده، مؤقتًا.
وليس من الواجبات المفروضة أن يعتقد الناس في بعضهم البعض أنهم لصوص خاطفة، وإذا شئت أن تجعل هذا الاعتقاد واجبًا لوجب على ذلك المدين الجاهل الأمي أن يحضر من يقرأ له الورقة، ولكن الواجبات العامة وأحكام الاجتماع تقضي باعتبار الإنسان بريئًا، فإذا ما ثبت هذا الواجب في نفس أحد المتعاملين فعمل به فلا يحرمه هذا من حماية القانون.
على أنه طبيعي أن يكون من آثار المعاملة بين اثنين أن تزيد في هذا الواجب تأكيدًا فليس للذي صدقه مدينه - في اعتذاره لعدم إمكانه رد السند - أن يتمسك عليه لماذا لم يعتقد أنه لص، وعلى هذا ينجو من العقوبة، لا لسبب آخر غير حُسن الظن به. !!
هذا نقوله - من باب المساجلة مع جارسون في رأيه - فيما يختص بالواقعة الأولى وهي تسليم الدين بدون أخذ مخالصة لكن حكم النقض واقع على الواقعة الثانية المستقلة، وهي دعوى الدائن أنه لم يقبض الدين، واستعمال سنده القديم الذي أصبح باطلاً، وطلب قبضه مرة ثانية، وفي هذه الدعوى كل أركان النصب كاملة، ولم يبدِ جارسون في شأنها شيئًا يعترض حكم النقض.
نخرج من هذا - حينئذٍ - على أن القول الشائع بأن الدائن إذا طلب دينًا قد سبق أن أخذه لا يدخل عمله في دائرة قانون العقوبات، إنما هو قول يخالف القانون، ويخالف الآداب العامة، ويخالف الأحكام، وإجماع المذاهب.
إلى هنا بحثنا الموضوع من ناحيته العامة، على اعتبار أن صاحب الوديعة دائن، وأن المودع لديه مدين، ونريد الآن أن نبحث في الوديعة بذاتها، وإذا جئنا إلى هذا البحث وجدنا الموضوع لا خلاف فيه ولا نزاع.
لم نجد في المطولات بابًا معقودًا للوديعة على وجه العموم، لكنا وجدنا بابًا عنوانه النصب في أمانات مصلحة السكة الحديد، وما تقرر في شأنها ينطبق على الودائع عامة - لأنه لا يوجد تشريع خاص لمصالح أو شركات السكة الحديد، بل الأحكام فيها راجعة إلى قواعد القانون العامة.
وردت في جارسون صفحة 1357:
(615 - أن طرق الاحتيال التي تحصل ضد شركات السكك الحديدية - كثيرة - وأن أهمها يكون جنحة النصب، لأن جميع أركانها متوفرة فيها).
ثم قال بعد ذلك في صفحة 1358، وهذا هو موضوع الوديعة.
(633 - كذلك نقل البضائع - قد يكون ظرفًا لاستعمال حيل تتكون منها جنحة النصب).
وقد تقرر أن المادة (405) تنطبق على من استلم كل أو بعض البضائع، ثم حفظ السند، وطالب بالبضائع من جديد.
اقرأ هنا ماذا يقول جارسون بعد الذي نقلناه فيما مضى، تراه قد رجع صراحةً عن رأيه وانضم إلى رأي أحكام النقض فيما تقدم، وصدق على وجهة النظر التي نبديها !! وكأنه هنا قد فطن إلى العملية الثانية، التي تقول إنها منفصلة تمام الانفصال، وهي واقعة المطالبة الجديدة، بصرف النظر عن واقعة استلام الوديعة.
يقول جارسون هنا ما يأتي:
هذه الواقعة لا يمكن اعتبارها سرقة - لأن المسافر الذي استلم بضاعته قد استلم شيئًا هو ملكه، لكن جميع أركان النصب متوافرة لأن هذا المسافر يكذب، في تأكيده أنه لم يستلم البضاعة، وهو يؤيد هذا الكذب بطرق احتيالية، هي طلبه رد البضاعة، وتمسكه بقسيمة، يستدل بها على حق وهمي لا أثر له.
- كاساسيون - 3 ديسمبر سنة 1885 - سرى سنة 1887 - 1 - 238.
- كاساسيون - 9 يونيو سنة 1888 - سرى سنة 1888 - 1 - 448.
- كاساسيون - 16 يناير سنة 1892 - سرى سنة 1892 - 1 - 216.
- ليموج - 12 نوفمبر سنة 1898.
- كورنيل - 18 مايو سنة 1900.
كذلك نجد هذا الإجماع، في كل مطول من المطولات، وفي المجموعات، والمؤلفات بدون شذوذ، وفي داللوز وفي سيرى، وفي جارو، وهكذا، فوضح أن قولنا الذي صدرنا به هذا البحث أن هذه قضية يخيل لنا أنها بديهية لا تحتاج بحثًا، إنما هو الصواب بذاته وقد أدى بنا الاستقراء إلى أن إجماع العلم وفقه المحاكم قائم على أن النصب لا خلاف في توافر أركانه. وإذا تأملت إلى هذا الإجماع في حالة ودائع مصلحة السكة الحديد، وليس بين المصلحة وبين مالك البضاعة، علاقة شخصية !!، فلا ثقة تصلح عذرًا للتساهل في استرداد سنة الوديعة !!، ولا معاملة مستديمة تخجل الموظف من طلب السند !! ولا صداقة مانعة من رفض تسليم البضاعة بدون استرداد القسيمة.
فما بالك بالواقعة إذا حصلت بين صديقين، أو زميلين في صنعة أو في تجارة، قد تعاملا كثيرًا في أموال جسيمة سنوات متواليات، سواء بإيصالات أو بغير إيصالات، مما يبعث على الثقة ؟!.
بل ما قولك إذا كانت المعاملة في نوعها، إنما كان جوهرها وموضوعها الثقة بين الفريقين كأن تكون نفس الوديعة حاصلة لمصلحتهما معًا كبيع البضاعة واقتسام الربح، إلى غير هذا من الظروف التي توحد بين الناس، وتجمع بين المتعاملين بجامعة المصلحة والتعاون، فتجعل تصديق كل اعتذار لعدم رد السند واجبًا أدبيًا للخروج عن حكمه ؟!! اللهم إلا في أخلاق اللئام والأشرار !
وإنك لتعجب وهذا هو الإجماع إذا علمت أننا لما عرضنا الواقعة على أنها نصب، كان الاعتراض علينا من كل ناحية، ومن كل مشتغل بالقضاء كأننا نبدي كفرًا بالقانون، بل شذوذًا عن مرامي العقل الإنساني، فمن قائل، ولماذا سلم المودع لديه الأمانة بغير إيصال ؟ ومن قائل، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته من الوديعة بشهادة الشهود رغمًا عن وجود السند المكتوب ؟!!!
أما لماذا سلم الأمانة فهذا لا يدخل في المناقشة بوجه من الوجوه، لأن واقعة النصب ليست هي تسليم الأمانة بغير إيصال، وقد قلنا كثيرًا ونعيد أن مالك الوديعة إنما قد استلم منقولاً هو يملكه فليس في هذا الاستلام نصب، ولكن النصب يبتدئ من المطالبة بالوديعة مرة ثانية، وبدعوى أنه لم يستلم كذبًا، ثم الاستلال على هذا الكذب بالإيصال الذي بقي بيده ولكنه أصبح باطلاً، وأصبح وديعة على ذمة المودع لديه الذي برئت ذمته، ثم في تهديده للمودع لديه باتهامه بالتبديد ظلمًا، إنما لم يعطه شيئًا من المال !!!
هذا هو النصب بالإجماع وهذا هو الذي لا يستطيع أحد أن يعارضه من طريق نقل البحث فيه إلى الواقعة السابقة عليه، وهي لماذا وكيف سلم المودع لديه الأمانة بلا إيصال ؟!!
على أني لا أفهم معنى لهذا الاعتراض غير أنه جمود أمام الواقع، وعصيان لتقدير هذا الواقع وتعرف حكمه، فإنه لولا هذا التسليم بدون إيصال لما وجدت الواقعة أصلاً !!! ولما كان هناك سبيل لارتكاب الجنحة !!! ولعرض البحث مطلقًا، فكأنما الذي يضع هذا الاعتراض، يعلل الشيء بذاته، أو يقول إن الواقعة لا يعقل حصولها، أو هي لم تحصل، فهي لا تعتبر أيضًا من جهة القانون، والمفهوم بداهةً أن البحث في تكييف الواقعة من جهة القانون إنما لا يأتي إلا مع التسليم بأن الواقعة قد حصلت في ذاتها والمقصود إفراغها في قالبها القانوني، وتحديد المادة التي تنطبق عليها.
بل ويتقدم الاعتراض خطوة فيأخذ شكلاً يفهم صاحبه أنه القانون بذاته، فيقول، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته بشهادة الشهود والأمانة ثابتة بسند مكتوب !!!
الاعتراض هو بذاته نفس الاعتراض الذي تقدم لكنه يأخذ شكلاً جديدًا، تتوهم فيه النفس العاصية عن البحث، أنها تتمسك بمبدأ قانوني، والواقع أن القانون ليس فيه شيء من هذا إذ هو يقضي بأن وقائع النصب تثبت بشهادة الشهود، مهما كان موضوع النزاع، وهذا هو الإجماع.
فالذي يعترض بقواعد الإثبات، إنما يخطئ الخطأ كله، إذ لا توجد قاعدة تقضي بأن للنصاب أن يتمسك بقواعد الإثبات المدنية، ليحمي به جريمته، وإذا شئت ما دمنا في عصيان مستمر أن تقدم رأي العلم لا رأينا، فخذ أي كتاب نجد هذه القاعدة مقررة، ونراها مثلاً في جارو جزء (5) - صفحة 277 فقرة (276)، وفي أي كتاب آخر غيره، ونراها في البندكت جزء 30 صفحة 307 إذ ورد فيها، ويثبت النصب دائمًا بشهادة الشهود مهما كانت أهمية الحق المتنازع عليه وكذلك البينة ضد العقود المكتوبة وضد العقود الرسمية.
على أني لست أدري كيف خفي على النفس المعترضة نتيجة هذا الاعتراض الخطر، فإنه لا يوجد من يستطيع أن ينكر أن مثل هذه الواقعة قد تحصل، والاعتراض موضوعه أنها إذا حصلت فقد أصبح الذي أدى الأمانة لصاحبها، في حكم من لم يردها، مقيدًا بالأغلال ملزمًا بالرد، وهذا محال عليه لأنه قد ردها فعلاً، وملزمًا بالتعويض، ولا تعويض عليه لأنه غير مدين في الواقع، ومعرضًا للعقوبة باعتباره مبددًا وهو بريء، ثم هو في هذا الموقف المظلم ممنوع حتى عن الدفاع عن نفسه، بإثبات براءة ذمته ليتقي توقيع عقاب لا يستحقه !!!، والواقع أن كل جنايته إنما انحصرت واقعيًا في أنه قصر في حق نفسه، أو صدق عميلاً وصديقًا لم يكن خصمًا في وقت أن صدقه، لا في أنه بدد أمانة أعطيت له فعلاً، لأنك إنما تضع هذا الفعل من باب الاستنتاج النظري بناءً على قواعد الإثبات التي تتوهمها.
أن القانون لا يحمي في أي حكم من أحكامه ولا في أية قاعدة من قواعده بما في ذلك قواعد الإثبات غير المعاملات البريئة.
أما من أجرم فإنه خارج على القانون عابث به، فلا يحميه، ولهذا تقرر أن جميع أعمال العدوان وجميع التهم، تثبت بشهادة الشهود، بل جميع أعمال الغش والاحتيال حتى في دائرة النزاع المدني تثبت بالشهود أيضًا !! وبقرائن الأحوال، فتبطل العقود بالشهود، وتثبت براءة الذمة بالشهود، ولولا هذه القاعدة الأصلية لما كان ذلك الإجماع الذي نقلناه على اعتبار الواقعة نصبًا.
والقول الصريح إن هذا الجدل بذاته، بما فيه من الإعراض عن الواقع، والعصيان عن تحري الحقيقة وترتيب المسؤوليات الحقة عليها، إنما هو مساعدة للنصاب في أن يتم عمله، وفي أن ينجو من المسؤولية، بناءً على وهم يراد إسناده إلى القانون وهو في موضوعه تأثيم بريء، بتهمة أنه بدد الأمانة نظريًا، لا واقعيًا.
وأنها لمسؤولية كبرى أن يريد المسيطرون على العدالة أن يصموا الآذان عن معرفة الواقع !!! وأن، فإنك إذا قضيت على من صدق فسلم الوديعة على وعد أن يستلم السند غدًا، فإنما تقضي عليه لأنك ترى محالاً أن يحصل مثل هذا التصديق، فأنت حينئذٍ تقول إن القانون وضع لحماية الكذابين والمكذبين، لا لحماية الرجل الطيب المصدق، وإذا كان ذلك ما تريده القوانين بين الناس فاللهم رفقًا بهذه النجمة السوداء ومن عليها، وأنه لعبث أن يقال إن القوانين وضعت لحماية الصالحين !!
السنة الحادية عشرة - شهر مارس سنة 1931
النصب بطريق الخصومة
جنحة النصب من أدق الجنح في القانون، فإن النصب دقة ومهارة، وتعقيد، وتفنن، فكان طبيعيًا أن يتشكل بأشكال عديدة، وكان معقولاً أن يحتاط النصاب لنفسه فلا تخنقه حبائله التي ينشرها لاصطياد الغير..، فجمع النص الذي يحيط بأعمال النصابين من الأركان والدقائق ما قد يختلف فيه الآراء وتتناقض بسببه الأحكام.
والذي جعل هذه الصعوبة دائمة، وجعل الخلاف مستمرًا أن الأركان التي نصت عليها مادة النصب كثيرة من جهة، ثم أن بعضها قد يحل محل البعض الآخر من جهة أخرى، فإذا عرضت واقعة فاتجهت وجهة النظر إلى توافر الأركان الأصلية وغاب عن الباحث ما يصح أن يكون لأحدها بديلاً، ذهبت الواقعة كأنها ناقصة الأركان فتخرج من دائرة العقوبة.
لسنا نريد أن نبحث في كل أو أكثر ما يعرض من هذا النوع فإن هذا لا يحيط به بحث محدود، ولكننا نريد فقط أن نبحث في واقعة واحدة، لم تعرض على محاكمنا قبل الآن على ما نعلم، ورأينا أن نعرضها لأول مرة على أن الإفهام متفقة على أنها ليست نصبًا، وهي الآتية:
أودع منقول عند آخر، وثبتت الوديعة بسند مكتوب، ثم طلب المودع استرداد الوديعة فردت فعلاً، وطلب المودع لديه سندها، فاعتذر مالك المنقول بأن السند ليس في متناول يده ساعة الرد، ووعد بتسلمه غدًا، فصدقه المودع لديه، ولما رجع في الموعد المضروب طلب إليه المالك الذي استلم وديعته أن يقوم بعمل معين، وهدده إذا لم ينفذ طلبه، بإنكار استلام الوديعة، وبالتبليغ ضده على اعتبار أنه مبدد، وهذه الواقعة هي محل البحث.
نحن نقول إنها نصب تام الأركان، لا ينقصه شيء لا من الناحية الأدبية ولا من الناحية القانونية، وأن النفس لتنزعج بمجرد استعراض الواقعة بظروفها، على ما فيها من دلائل الاستقامة، وحسن النية من جهة المودع لديه، وما يقابل ذلك من فظاعة الإجرام من جهة المالك، فإنك لا تستطيع أن تتصور ضلالاً أكثر، ولا سوادًا يملأ النفس أظلم، ولا جرأة على الشر أشد، فإن هذا الفاتك يقبض على فريسته بيد من حديد، إذ في يده سند مكتوب أمَّنه عليه المودع لبضعة ساعات لعذر انتحله فأنكر الأمانة حول السند إلى مصلحته، يريد أن يملك به رقبة المدين، ويملك به ضمير القاضي، فيسد عليه طريق الحق، فأصبح المودع لديه البريء ألعوبة أثيم يهدده في شرفه، وفي ماله !!
فأين تجد واقعة من وقائع النصب يمكن أن تكون أشد هولاً - أو أثبت ظهورًا في واقعتها - وفي توافر أركانها، وفي مبلغ أثرها، وسعة الجرم فيها. ؟!!!
يخيل لنا وقد وضعنا الواقعة بحدودها، أنها لا تحتمل خلافًا، ولا تحتاج إلى بحث، بل نراها نصبًا واضحًا لا يقبل الجدل، فإن الركن الأول وهو الكذب ظاهر، وواقعته هنا دعوى المالك أنه لم يستلم الوديعة وقد استلمها، والركن الثاني وهو الاحتيال لتأكيد هذا الكذب متوفر، وهو الاستدلال بسند، ترك في يده أمانة وليس عند المودع لديه دليل يثبت براءة ذمته ويدفع به عن نفسه شر هذا الاتهام الكاذب، والركن الثالث متوفر وهو قائم في أن هذا التهديد من شأنه أن يحدث في النفس جزعًا يدفعها إلى الخضوع لمطالب المهدد، أما الركن الرابع وهو الاستيلاء على المال بغير حق فإذا لم يتم فالواقعة شروع لا جنحة كاملة.
يجب أن نحدد عند أي ظرف، من ظروف هذه الواقعة تبدأ أركان جنحة النصب في دور التكوين.
هل تبدأ عندما يطالب مالك الوديعة برد وديعته، للمرة الأولى أي قبل أن يكون استلمها ؟ بالطبع لا، لأنه إنما يستعمل حقًا، حتى ولو كان مصممًا على أن يلعب الدور إلى آخره، لأن التصميم النفسي لا يعتبر ركنًا لجنحة ما، اللهم إلا بعد وقوعها وعلى اعتبار أنه بحث رجعي لتكوين نية الإجرام.
هل تبدأ تلك الأركان، عند استلامه الوديعة، والتحايل لعدم رد السند، معتذرًا بأي عذر يبديه ؟!
لا شك أننا ندخل هنا في دور العمل المادي، وفي طريق الاستعداد التنفيذي للنصب، فكان يصح أن يكون هذا العمل بداية للجنحة وركنًا من أركانها.
قد يعرض للذهن أن المودع لديه هنا، أيضًا، إنما يسترد ماله الذي يملكه ومن حقه أن يسترده، فهو في دائرة حقوقه، فلا ينقلب عمله ركنًا لجنحة النصب.
والنظرة هنا خاطئة على ما نرى - لأنه أولاً لم يسترد وديعته فقط بل هو بدأ يتحايل لعدم رد السند لغرض الاستيلاء على مال الغير بدون حق - ولأنه ثانيًا إذا كان من حقه أن يسترد وديعته، فإنما هذا الحق مرتبط بأن يسلم السند الذي في يده، إذ الأمران متلازمان، بل هما في الواقع عمل واحد، لا يتجزأ، ولا سبيل إلى قسمته لأمرين منفصلين فاستلام الوديعة منفصلاً، ثم رد السند منفصلاً.
بل إن المودع لديه إذا ما حضر يحمل الأمانة إلى صاحبها، فإنما يقابل هذا في الحال، واقعيًا، وقانونًا، وفي عقيدة حاملها، وكذلك في عقيدة المالك الذي يريد أن يستلم، أن هذه الوديعة يقابلها سند يمثلها تمامًا، وأن الإلزام الذي يرتب على المودع لديه واجب رد الوديعة هو بذاته الذي يرتب على صاحبها واجب رد السند في لحظة استلامه للوديعة، فإذا ما احتال على أن لا يرد، واقتصر على استلام وديعته، فغير صحيح لا واقعيًا، ولا قانونًا، ولا ذمة أنه يستعمل حقًا إنما الواقع أنه يبدأ في الكيد، ويخطو الخطوة الأولى للوصول إلى الاستيلاء على مال الغير، ويتسلح لاغتصاب هذا المال اغتصابًا.
ومن ناحية أخرى، فإن المالك إذا استلم وديعته فقد برئت ذمة المودع لديه قانونًا، ويصبح سند الوديعة تحت يد المالك هو بذاته وديعة في ذمته عليه أن يرده لصاحبه، فإذا ما رفض الرد وأراد استعمال السند لمصلحته فقد ارتكب جنحة التبديد وخيانة الأمانة، فلا سبيل بحال من الأحوال أن يوصف هذا العمل من جهة النظر القانوني بأنه استعمال لحق.
ومهما يكن من وجهة النظر في هذه الخطوة الأولى، فإن الظروف التالية تجمع وحدها جميع أركان جنحة النصب كاملة: ذلك - لأن مالك المنقول بعد أن استلمه - ووعد برد السند لصاحبه، نراه قد أنكر الاستلام، ثم هدد باستعمال السند الذي بيده، وهو سند قد أصبح باطلاً معدوم الأثر، وقد أصبح مملوكًا للمودع لديه بحكم رد الوديعة، وفي هذا جمع لأركان جنحة النصب كما قدمنا.
على هذا يمكنا أن نقول خذ الواقعة من حيث شئت، فإنها جنحة مضاعفة لأن مالك المنقول احتال على المودع لديه حتى استلم منه الوديعة، وهو يضمر له شرًا، ثم بعد ذلك تقدم للاحتيال عليه من جديد، للاستيلاء على مال من طريق التهديد - بتهمة التبديد - وهو أشد طرق الاحتيال، وأفعلها في نفس المهدد، فالشروع في النصب قائم مقرر.
على أن تدليلنا قد يبدو للمشتغلين بالقضاء ضعيفًا، إذ جرت العادة - مهما كان التدليل العقلي واضحًا - بالرجوع إلى آراء العلماء وفقه المحاكم فلنتمم بحثنا للواقعة من هذه الوجهة.
جاء في جارسون، شرحًا على المادة (405) التي تقابل مادة (293) عندنا، صفحة 1336:
(425): (أن سداد الديون قد يصحبها طرق احتيال متنوعة، وأشهرها أن يستلم المدين مخالصة بدينه ثم لا يدفع الدين ويدعي أنه دفعه).
وقد أثارت هذه الواقعة من جهة وصفها القانوني صعوبات عسيرة الحل، ولكن فقه المحاكم قرر مبادئ يصح أن تعتبر ثابتة، فإنه إذا أخذ المدين إيصالاً أو مخالصة لمراجعته، ثم لا يدفع، فقد ارتكب سرقة، لأن السند لم يسلم له بصفة نهائية، ومن طريق التمليك بدون قيد، بل سلم له تسليمًا مؤقتًا، لا ينفي السرقة من طريق الاختلاس.
ويقول أيضًا:
(426): (ولكن هذه الأسباب بذاتها تزول وتسقط نتيجتها إذا لم يستلم المخالصة على شرط ردها - بل على أن تكون له بصفة نهائية، وذلك حتى إذا استلم المخالصة من طريق الحيلة لأن أركان السرقة تنعدم، وليس من الضروري دائمًا أن فقدان أركان السرقة يجعل الواقعة نصبًا إلا إذا ثبت أن المخالصة سلمت بسبب استعمال طرق احتيالية).
ونرى أن التفرقة بين حالتي تسليم المخالصة إما مؤقتًا وإما نهائيًا، إنما هو تفريق اصطناعي أكثر منه واقعي أو قانوني.
فإن المخالصة لا تسلم عادةً على شرط درها بذاتها، بل على شرط دفع الدين، فالتسليم دائمًا وقتي ومقرون بشرط: لكن هذا في رأينا لا يجعل الواقعة سرقة إذا لم يدفع المدين، لأن ركن الاختلاس مهما أجهد الباحث نفسه غير حاصل واقعيًا بل هو متوفر حكمًا على ما يقول جارسون، ولسنا ممن يقبلون القول بأن الجنايات تقع اعتبارًا.
أما أركان النصب فظاهرة بدون حاجة إلى إثبات احتيال آخر، فإن الإجماع قائم على أن طرق الاحتيال قد تكون مستفادة من ظروف الواقعة بنفسها، أو من صفة نفس المتهم إذا كانت تلك الصفة تدعو إلى تصديقه، أو من طبيعة العمل، وواضح أن علاقة الدائن والمدين تستدعي بذاتها أن يدفع المدين دينه، فحضوره متظاهرًا بنية الدفع عمل يدعو بذاته إلى تصديقه، وطلب المخالصة يؤكد قوله أو مظهره، فلا حرج على الدائن إذا قدم له المخالصة، فإذا ما استلمها بعد ذلك وادعى أنه دفع الدين كذبًا، فقد تمت أركان النصب كلها واقعيًا وقانونًا.
وتوافر ركن النصب هنا، أقرب منه إلى توافر ركن السرقة، وهو الاختلاس، لأن الاختلاس في هذه الحالة إنما هو انتزاع فكري، محض، بل هو اجتهاد نظري، يراد به تغليب الاعتبار الفكري، على الواقع المحسوس، فيجب عليك أن تمحو من الوجود واقعة تسليم المخالصة اختيارًا، ثم تضع مكانها من طريق الاعتبار النظري أن المخالصة قد اختلست، وهذا تخريج خطر في مقام البحث في توافر أركان الجنح، فإن الجنحة واقعة مادية على الدوام، أما هنا فيراد تأليفها من فكر مجرد، واعتبار نظري، وهذا لا يجوز على ما نرى.
وعلى كل حال فإن (جارسون) ومعه الأحكام التي يشير إليها مجمعة على تأييد الرأي الذي نقول به وهو اعتبار الواقعة نصبًا إذا كان تسليم المخالصة قد سبقه عمل احتيالي، والنظر في هل وقع احتيال أو لم يقع، إنما هو أمر موضوعي، وأما النصب من جهة وصفه القانوني فلا خلاف فيه.
على أن ما نذهب إليه هو رأي محكمة النقض في باريس، وقد نقله جارسون بعد أن وضع رأيه الذي علقنا عليه بما تقدم، حيث يقول:
(432): (ولكن محكمة النقض، رأت من الطرق الاحتيالية أن يحضر المدين مظهرًا أنه مستعد لدفع الدين، فيضع كيس النقود على ترابيزة، ثم يطلب المخالصة، فإذا أخذها ولم يدفع، فقد تمت جنحة النصب… (كاساسيون 4 سبتمبر سنة 1824)).
ويعلق جارسون على هذا الحكم بما يأتي:
(هذا القرار قديم، وواقعته في غاية الدقة، أما الفقه الأحدث فإنه يعتبر المدين الذي يضع النقود تحت تصرف الدائن بعد عدها، ثم بعد ذلك يختلسها بالحيلة أو بالمهارة يعتبر أنه قد ارتكب جنحة السرقة لأنه كان ملكها فعلاً للدائن ثم اختلسها).
ثم يقول بعد ذلك:
(أما في حادثة قرار محكمة النقض فإن المدين لم يكن قد وضع النقود تحت تصرف الدائن، إنما أظهر الكيس فقط..، وبهذا فإنه لم يكن في الإمكان اعتباره مختلسًا لنقود هي في الأصل تحت يده ولا زالت كذلك).
(ومع هذا فإننا نميل إلى اعتبار أنه سرق المخالصة). !!
وجاء فيه أيضًا، فقرة (433).
كذلك رأت محكمة النقض أن جنحة النصب متوافرة الأركان في الواقعة الآتية:
(مضارب في البورصة، طلب أن يستلم السندات التي اشتراها في نظير دفع ثمنها.. ثم استلمها من العامل المختص بذلك، ومعها فاتورة عليها مخالصة، ووضع كل هذا في مكتبه، ثم دفع جزءً من الثمن، وطلب من المستخدم أن يصحبه إلى مكتب أخيه ليدفع الباقي ثم تركه ولم يدفع).
ليس في هذه الواقعة إلا ما نذهب إليه، فقد رأت محكمة النقض كما رأينا أن في حضور المشتري إلى مكتب البائع، مظهرًا أنه مستعد لاستلام الأوراق التي اشتراها مظهرًا يدعو بذاته إلى تصديقه، لأن العملية تستلزم ذلك، وكان هذا التظاهر الكاذب حيلة ترتب عليها تسليم المخالصة فوقع النصب كاملاً.
لكن جارسون يستمر على رأيه فلا يرى أن في هذا المظهر ما يكفي لاعتبار أن الاحتيال قد تمثل، وهذا هو سبب اعتراضه الوحيد، فالمسألة ليست اختلافًا على جوهر المبدأ كما ترى، بل على تقدير الطرق الاحتيالية وكيف تكون، وهذه مسألة واقعية، فالإجماع حينئذٍ قائم على أنه نصب إذا كان من الظروف ما يدعو إلى اعتبار أن الدائن إنما سلم المخالصة معتقدًا أنه سيقبض دينه.
هذا فيما يتعلق بالمدين إذا أخذ مخالصة ولم يدفع الدين، فهل تختلف الحالة العكسية ؟ وهي إذا ما استلم الداين دينه، ثم احتفظ بسنده، ورجع إلى المطالبة مرة أخرى. !!
يقول جارسون، صفحة 1338 ما يأتي:
(433): (وقد تقع نفس الطرق الاحتيالية من الدائن ضد المدين فبعد أن يستلم دينه، يدعي أن المدين لم يدفع ثم يطالب بالدين من جديد، والمبادئ التي قررناها في شأن المدين تنطبق على هذه الحوادث الدقيقة).
نرى أن الواقعة تعتبر سرقة، إذا استولى الدائن على النقود قبل أن توضع تحت تصرفه، أو إذا استرد سند الدين أو المخالصة بعد أن أعطى أحدهما للمدين، ويعتبر نصبًا إذا كان الدائن قد استعمل الحيلة فجعل المدين يسلمه الدين - بدون تسليم سنده - ولكن النصب لا يتكون إذا لم يثبت أنه استعمل لأخذ الدين طريقًا احتياليًا، ولا يكفي لتكوين أركان النصب أن الدائن كذب على المدين فجعله يدفع الدين بدون أخذ إيصال أو بدون استرداد السند.
لهذا فقد حكمت محكمة النقض، أنه إذا كتب سند جديد بدل السند القديم الذي استحق وادعى الدائن أن السند القديم قد فُقد فإن ركن النصب غير متوفر، لأن الدائن لم تصدر منه حيلة لاستلام السند الجديد، أما دعوى فقدان السند القديم فقد صدرت بعد استلام الجديد فهي لم تكن سببًا لاستلامه. (نقض 9 يناير سنة 1885).
وهنا أيضًا يجب أن نلاحظ أن جارسون يحصر بحثه، سواء في الرأي يبديه هو، أو في نقل حكم محكمة النقض، في واقعة استلام السند الجديد، أو قبض الدين، ويريد أن يعطي لهذه الواقعة بالذات حكمها، ثم يريد أن يبسط حكمها وحدها على الوقائع التي تليها، وهو خطأ لأنها تقف عند استلام الدين، أو السند الجديد، الذي حل محل القديم، وهذا هو موضوع حكم محكمة النقض بالتحديد.
أما الواقعة التالية، وموضوعها، أن ذلك الدائن - الذي لا دين له - يدعي بعد أن قبض دينه أنه دائن، ثم يهدد برفع الدعوى ثم يرفعها فعلاً فإنها واقعة مستقلة ذات أركان خاصة بدأت بدعوى كاذبة ثم أسندت إلى وقائع احتيالية، ودليلها قائم موجود لكنه دليل باطل مسموم، وهذه الواقعة التامة الأركان، لا يتعرض لها جارسون ولا يبحث في حكمها، لا هو ولا حكم النقض. !!
بل إننا إذا أخذنا مبدأه أساسًا، ثم أردنا تطبيقه على هذه الحادثة التالية من باب الاستطراد، فإنها تكون نصبًا أيضًا، إذ هو قد أخرج واقعة استلام الدين من دائرة النصب، بناءً على أن دعوى فقدان السند القديم، جاءت بعد استلام الدين، والواقع أنه لا يستطيع أحد أن يفهم أن تأخير الحيلة يجعل تسليم الدين حاصلاً على أنه تبرع نهائي، غير مشترط فيه بحكم الحال والظروف، بل بحكم الواجبات المفروضة، أنه دفع مرتبط في واقعته، وحكمه، بتسليم سند الدين، أو تسليم مخالصة عنه، وما دام أن هذا هو شرط الدفع الذي لا نزاع فيه كان الاحتجاج بأن التحايل بفقدان السند حصل بعد استلام المبلغ لا يغير شيئًا من معاني الواقعة، ولا من ركنها الإجرامي، بل هو يزيد في بيان نية الإجرام، وفي بيان مقدار الحيلة، لأن الدائن سكت احتيالاً حيث يجب السكوت، حتى يهيء له طريق الاختلاس الذي يريده، فإنه إذا أعلن المدين قبل استلامه الدين أنه لا يريد أولاً يستطيع أن يسلم سنده، أو مخالصة عنه، فقد يثير ذلك حذر المدين، وقد يعتذر عن الدفع فمن الغريب في الصورة التي يرويها جارسون أن يكون احتياط الجاني لإتمام جنايته وإحكامه في ارتكابها سببًا لعدم تكوين أركانها وإفلاته من العقوبة. !!
ونظن أنه من أجل هذا قد تجاوزت محكمة النقض عن الأخذ بشرط جارسون، ورأت أن الواقعة نصب تام الأركان، ونجد هذا في جارسون نفسه فقرة (446) حيث يقول:
(ولكن محكمة النقض حكمت بأن النصب واقع إذا قبض محصل الأموال الذي رُفض من وظيفته ما هو مطلوب من أحد الممولين وأعطاه مخالصة).
(747): (وكذلك الدائن الذي يقبض دينه من مدين أمي وانتهز فرصة جهله فسلمه صورة من سند الدين وحفظ الأصل ثم حوله وطلب بقيمته بعد ذلك).
هنا فقط وفي هذا الحكم الأخير تجد الواقعة التي نفترضها، لأن جنحة النصب ليست مشخصة في واقعة قبض الدين في ذاتها بل تشخصها الواقعة التالية وهي المطالبة بالدين الذي أصبح غير مستحق، ثم استعمال سند الدين المحفوظ دليلاً عليه.
لكن جارسون يستمر على فكره الأول، وهو التوحيد دائمًا بين الواقعتين، قبض الدين، ثم المطالبة به مرة أخرى، فنراه يوافق على هذا الحكم، ولكنه يرجع في تعليله القضائي إلى ما أبداه فيما مضى، فيقول إن المدين هنا قد دفع بناءً على حيلة صدرت من الدائن وهي إيهامه بإعطاء مخالصة والواقع أنها ليست كذلك.
ولو تأملنا إلى هذا التعليل لجاز لنا الشك في قبوله إذ أن هذا المدين، كان له من الطرق مهما كان جهله ما يضمن به كشف حقيقة الورقة التي عرضت عليه، وحكايته لا تخرج عن أنه قد صدق الدائن لمجرد قوله أنه يعطي مخالصة، ولا فرق بينه وبين من يعرف القراءة إذا صدق الدائن في اعتذاره مثلاً بأن سند الدين ليس في متناول يده، مؤقتًا.
وليس من الواجبات المفروضة أن يعتقد الناس في بعضهم البعض أنهم لصوص خاطفة، وإذا شئت أن تجعل هذا الاعتقاد واجبًا لوجب على ذلك المدين الجاهل الأمي أن يحضر من يقرأ له الورقة، ولكن الواجبات العامة وأحكام الاجتماع تقضي باعتبار الإنسان بريئًا، فإذا ما ثبت هذا الواجب في نفس أحد المتعاملين فعمل به فلا يحرمه هذا من حماية القانون.
على أنه طبيعي أن يكون من آثار المعاملة بين اثنين أن تزيد في هذا الواجب تأكيدًا فليس للذي صدقه مدينه - في اعتذاره لعدم إمكانه رد السند - أن يتمسك عليه لماذا لم يعتقد أنه لص، وعلى هذا ينجو من العقوبة، لا لسبب آخر غير حُسن الظن به. !!
هذا نقوله - من باب المساجلة مع جارسون في رأيه - فيما يختص بالواقعة الأولى وهي تسليم الدين بدون أخذ مخالصة لكن حكم النقض واقع على الواقعة الثانية المستقلة، وهي دعوى الدائن أنه لم يقبض الدين، واستعمال سنده القديم الذي أصبح باطلاً، وطلب قبضه مرة ثانية، وفي هذه الدعوى كل أركان النصب كاملة، ولم يبدِ جارسون في شأنها شيئًا يعترض حكم النقض.
نخرج من هذا - حينئذٍ - على أن القول الشائع بأن الدائن إذا طلب دينًا قد سبق أن أخذه لا يدخل عمله في دائرة قانون العقوبات، إنما هو قول يخالف القانون، ويخالف الآداب العامة، ويخالف الأحكام، وإجماع المذاهب.
إلى هنا بحثنا الموضوع من ناحيته العامة، على اعتبار أن صاحب الوديعة دائن، وأن المودع لديه مدين، ونريد الآن أن نبحث في الوديعة بذاتها، وإذا جئنا إلى هذا البحث وجدنا الموضوع لا خلاف فيه ولا نزاع.
لم نجد في المطولات بابًا معقودًا للوديعة على وجه العموم، لكنا وجدنا بابًا عنوانه النصب في أمانات مصلحة السكة الحديد، وما تقرر في شأنها ينطبق على الودائع عامة - لأنه لا يوجد تشريع خاص لمصالح أو شركات السكة الحديد، بل الأحكام فيها راجعة إلى قواعد القانون العامة.
وردت في جارسون صفحة 1357:
(615 - أن طرق الاحتيال التي تحصل ضد شركات السكك الحديدية - كثيرة - وأن أهمها يكون جنحة النصب، لأن جميع أركانها متوفرة فيها).
ثم قال بعد ذلك في صفحة 1358، وهذا هو موضوع الوديعة.
(633 - كذلك نقل البضائع - قد يكون ظرفًا لاستعمال حيل تتكون منها جنحة النصب).
وقد تقرر أن المادة (405) تنطبق على من استلم كل أو بعض البضائع، ثم حفظ السند، وطالب بالبضائع من جديد.
اقرأ هنا ماذا يقول جارسون بعد الذي نقلناه فيما مضى، تراه قد رجع صراحةً عن رأيه وانضم إلى رأي أحكام النقض فيما تقدم، وصدق على وجهة النظر التي نبديها !! وكأنه هنا قد فطن إلى العملية الثانية، التي تقول إنها منفصلة تمام الانفصال، وهي واقعة المطالبة الجديدة، بصرف النظر عن واقعة استلام الوديعة.
يقول جارسون هنا ما يأتي:
هذه الواقعة لا يمكن اعتبارها سرقة - لأن المسافر الذي استلم بضاعته قد استلم شيئًا هو ملكه، لكن جميع أركان النصب متوافرة لأن هذا المسافر يكذب، في تأكيده أنه لم يستلم البضاعة، وهو يؤيد هذا الكذب بطرق احتيالية، هي طلبه رد البضاعة، وتمسكه بقسيمة، يستدل بها على حق وهمي لا أثر له.
- كاساسيون - 3 ديسمبر سنة 1885 - سرى سنة 1887 - 1 - 238.
- كاساسيون - 9 يونيو سنة 1888 - سرى سنة 1888 - 1 - 448.
- كاساسيون - 16 يناير سنة 1892 - سرى سنة 1892 - 1 - 216.
- ليموج - 12 نوفمبر سنة 1898.
- كورنيل - 18 مايو سنة 1900.
كذلك نجد هذا الإجماع، في كل مطول من المطولات، وفي المجموعات، والمؤلفات بدون شذوذ، وفي داللوز وفي سيرى، وفي جارو، وهكذا، فوضح أن قولنا الذي صدرنا به هذا البحث أن هذه قضية يخيل لنا أنها بديهية لا تحتاج بحثًا، إنما هو الصواب بذاته وقد أدى بنا الاستقراء إلى أن إجماع العلم وفقه المحاكم قائم على أن النصب لا خلاف في توافر أركانه. وإذا تأملت إلى هذا الإجماع في حالة ودائع مصلحة السكة الحديد، وليس بين المصلحة وبين مالك البضاعة، علاقة شخصية !!، فلا ثقة تصلح عذرًا للتساهل في استرداد سنة الوديعة !!، ولا معاملة مستديمة تخجل الموظف من طلب السند !! ولا صداقة مانعة من رفض تسليم البضاعة بدون استرداد القسيمة.
فما بالك بالواقعة إذا حصلت بين صديقين، أو زميلين في صنعة أو في تجارة، قد تعاملا كثيرًا في أموال جسيمة سنوات متواليات، سواء بإيصالات أو بغير إيصالات، مما يبعث على الثقة ؟!.
بل ما قولك إذا كانت المعاملة في نوعها، إنما كان جوهرها وموضوعها الثقة بين الفريقين كأن تكون نفس الوديعة حاصلة لمصلحتهما معًا كبيع البضاعة واقتسام الربح، إلى غير هذا من الظروف التي توحد بين الناس، وتجمع بين المتعاملين بجامعة المصلحة والتعاون، فتجعل تصديق كل اعتذار لعدم رد السند واجبًا أدبيًا للخروج عن حكمه ؟!! اللهم إلا في أخلاق اللئام والأشرار !
وإنك لتعجب وهذا هو الإجماع إذا علمت أننا لما عرضنا الواقعة على أنها نصب، كان الاعتراض علينا من كل ناحية، ومن كل مشتغل بالقضاء كأننا نبدي كفرًا بالقانون، بل شذوذًا عن مرامي العقل الإنساني، فمن قائل، ولماذا سلم المودع لديه الأمانة بغير إيصال ؟ ومن قائل، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته من الوديعة بشهادة الشهود رغمًا عن وجود السند المكتوب ؟!!!
أما لماذا سلم الأمانة فهذا لا يدخل في المناقشة بوجه من الوجوه، لأن واقعة النصب ليست هي تسليم الأمانة بغير إيصال، وقد قلنا كثيرًا ونعيد أن مالك الوديعة إنما قد استلم منقولاً هو يملكه فليس في هذا الاستلام نصب، ولكن النصب يبتدئ من المطالبة بالوديعة مرة ثانية، وبدعوى أنه لم يستلم كذبًا، ثم الاستلال على هذا الكذب بالإيصال الذي بقي بيده ولكنه أصبح باطلاً، وأصبح وديعة على ذمة المودع لديه الذي برئت ذمته، ثم في تهديده للمودع لديه باتهامه بالتبديد ظلمًا، إنما لم يعطه شيئًا من المال !!!
هذا هو النصب بالإجماع وهذا هو الذي لا يستطيع أحد أن يعارضه من طريق نقل البحث فيه إلى الواقعة السابقة عليه، وهي لماذا وكيف سلم المودع لديه الأمانة بلا إيصال ؟!!
على أني لا أفهم معنى لهذا الاعتراض غير أنه جمود أمام الواقع، وعصيان لتقدير هذا الواقع وتعرف حكمه، فإنه لولا هذا التسليم بدون إيصال لما وجدت الواقعة أصلاً !!! ولما كان هناك سبيل لارتكاب الجنحة !!! ولعرض البحث مطلقًا، فكأنما الذي يضع هذا الاعتراض، يعلل الشيء بذاته، أو يقول إن الواقعة لا يعقل حصولها، أو هي لم تحصل، فهي لا تعتبر أيضًا من جهة القانون، والمفهوم بداهةً أن البحث في تكييف الواقعة من جهة القانون إنما لا يأتي إلا مع التسليم بأن الواقعة قد حصلت في ذاتها والمقصود إفراغها في قالبها القانوني، وتحديد المادة التي تنطبق عليها.
بل ويتقدم الاعتراض خطوة فيأخذ شكلاً يفهم صاحبه أنه القانون بذاته، فيقول، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته بشهادة الشهود والأمانة ثابتة بسند مكتوب !!!
الاعتراض هو بذاته نفس الاعتراض الذي تقدم لكنه يأخذ شكلاً جديدًا، تتوهم فيه النفس العاصية عن البحث، أنها تتمسك بمبدأ قانوني، والواقع أن القانون ليس فيه شيء من هذا إذ هو يقضي بأن وقائع النصب تثبت بشهادة الشهود، مهما كان موضوع النزاع، وهذا هو الإجماع.
فالذي يعترض بقواعد الإثبات، إنما يخطئ الخطأ كله، إذ لا توجد قاعدة تقضي بأن للنصاب أن يتمسك بقواعد الإثبات المدنية، ليحمي به جريمته، وإذا شئت ما دمنا في عصيان مستمر أن تقدم رأي العلم لا رأينا، فخذ أي كتاب نجد هذه القاعدة مقررة، ونراها مثلاً في جارو جزء (5) - صفحة 277 فقرة (276)، وفي أي كتاب آخر غيره، ونراها في البندكت جزء 30 صفحة 307 إذ ورد فيها، ويثبت النصب دائمًا بشهادة الشهود مهما كانت أهمية الحق المتنازع عليه وكذلك البينة ضد العقود المكتوبة وضد العقود الرسمية.
على أني لست أدري كيف خفي على النفس المعترضة نتيجة هذا الاعتراض الخطر، فإنه لا يوجد من يستطيع أن ينكر أن مثل هذه الواقعة قد تحصل، والاعتراض موضوعه أنها إذا حصلت فقد أصبح الذي أدى الأمانة لصاحبها، في حكم من لم يردها، مقيدًا بالأغلال ملزمًا بالرد، وهذا محال عليه لأنه قد ردها فعلاً، وملزمًا بالتعويض، ولا تعويض عليه لأنه غير مدين في الواقع، ومعرضًا للعقوبة باعتباره مبددًا وهو بريء، ثم هو في هذا الموقف المظلم ممنوع حتى عن الدفاع عن نفسه، بإثبات براءة ذمته ليتقي توقيع عقاب لا يستحقه !!!، والواقع أن كل جنايته إنما انحصرت واقعيًا في أنه قصر في حق نفسه، أو صدق عميلاً وصديقًا لم يكن خصمًا في وقت أن صدقه، لا في أنه بدد أمانة أعطيت له فعلاً، لأنك إنما تضع هذا الفعل من باب الاستنتاج النظري بناءً على قواعد الإثبات التي تتوهمها.
أن القانون لا يحمي في أي حكم من أحكامه ولا في أية قاعدة من قواعده بما في ذلك قواعد الإثبات غير المعاملات البريئة.
أما من أجرم فإنه خارج على القانون عابث به، فلا يحميه، ولهذا تقرر أن جميع أعمال العدوان وجميع التهم، تثبت بشهادة الشهود، بل جميع أعمال الغش والاحتيال حتى في دائرة النزاع المدني تثبت بالشهود أيضًا !! وبقرائن الأحوال، فتبطل العقود بالشهود، وتثبت براءة الذمة بالشهود، ولولا هذه القاعدة الأصلية لما كان ذلك الإجماع الذي نقلناه على اعتبار الواقعة نصبًا.
والقول الصريح إن هذا الجدل بذاته، بما فيه من الإعراض عن الواقع، والعصيان عن تحري الحقيقة وترتيب المسؤوليات الحقة عليها، إنما هو مساعدة للنصاب في أن يتم عمله، وفي أن ينجو من المسؤولية، بناءً على وهم يراد إسناده إلى القانون وهو في موضوعه تأثيم بريء، بتهمة أنه بدد الأمانة نظريًا، لا واقعيًا.
وأنها لمسؤولية كبرى أن يريد المسيطرون على العدالة أن يصموا الآذان عن معرفة الواقع !!! وأن، فإنك إذا قضيت على من صدق فسلم الوديعة على وعد أن يستلم السند غدًا، فإنما تقضي عليه لأنك ترى محالاً أن يحصل مثل هذا التصديق، فأنت حينئذٍ تقول إن القانون وضع لحماية الكذابين والمكذبين، لا لحماية الرجل الطيب المصدق، وإذا كان ذلك ما تريده القوانين بين الناس فاللهم رفقًا بهذه النجمة السوداء ومن عليها، وأنه لعبث أن يقال إن القوانين وضعت لحماية الصالحين !!
انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة
مجلة المحاماة
انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
نشرنا بالعددين الأول والثاني من السنة الثالثة والثلاثين من المجلة بحثًا في انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة، انتقدنا فيه النص العجيب الذي استحدثته الفقرة الأخيرة من المادة (17) من قانون الإجراءات الجنائية قاضيًا بأنه لا يجوز في جميع الأحوال أن تطول المدة بسبب الانقطاع لأكر من نصفها وما يترتب على تطبيق هذا النص من سقوط الدعوى العمومية في جميع الجرائم بمجرد انقضاء تلك المدة بالرغم من قيام إجراءات التحقيق والاتهام والمحاكمة، بل بالرغم من صدور حكم ابتدائي واستئنافي بالإدانة، إذا كانت المدة قد انقضت قبل نظر الطعن المرفوع عن الحكم بطريق النقض !!!
وقد طالبنا في إلحاح بحذف هذه الفقرة التي لم يكن لها مبرر مطلقًا، والتي يؤدي تطبيقها إلى نتائج غير مقبولة ولا معقولة، والتي لا مصلحة لأحد فيها إلا المتهمين الذين يجدون فيها ثغرة للإفلات من العقاب…
ويسرنا أن نسجل مع الشكر لوزارة العدل استجابتها لهذا النداء عاجلاً إذ استصدرت بتاريخ 20 ديسمبر سنة 1952 مرسومًا بقانون بحذف تلك الفقرة البغيضة، بحيث أصبحت مدة سقوط الدعوى العمومية تقطع بإجراءات الاتهام والتحقيق والمحاكمة - دون حد أقصى لمدة الانقطاع - وبهذا تستقيم الأوضاع فيرتدع المجرمون ويزدجر غيرهم وتصان المصلحة العامة.
انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
نشرنا بالعددين الأول والثاني من السنة الثالثة والثلاثين من المجلة بحثًا في انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة، انتقدنا فيه النص العجيب الذي استحدثته الفقرة الأخيرة من المادة (17) من قانون الإجراءات الجنائية قاضيًا بأنه لا يجوز في جميع الأحوال أن تطول المدة بسبب الانقطاع لأكر من نصفها وما يترتب على تطبيق هذا النص من سقوط الدعوى العمومية في جميع الجرائم بمجرد انقضاء تلك المدة بالرغم من قيام إجراءات التحقيق والاتهام والمحاكمة، بل بالرغم من صدور حكم ابتدائي واستئنافي بالإدانة، إذا كانت المدة قد انقضت قبل نظر الطعن المرفوع عن الحكم بطريق النقض !!!
وقد طالبنا في إلحاح بحذف هذه الفقرة التي لم يكن لها مبرر مطلقًا، والتي يؤدي تطبيقها إلى نتائج غير مقبولة ولا معقولة، والتي لا مصلحة لأحد فيها إلا المتهمين الذين يجدون فيها ثغرة للإفلات من العقاب…
ويسرنا أن نسجل مع الشكر لوزارة العدل استجابتها لهذا النداء عاجلاً إذ استصدرت بتاريخ 20 ديسمبر سنة 1952 مرسومًا بقانون بحذف تلك الفقرة البغيضة، بحيث أصبحت مدة سقوط الدعوى العمومية تقطع بإجراءات الاتهام والتحقيق والمحاكمة - دون حد أقصى لمدة الانقطاع - وبهذا تستقيم الأوضاع فيرتدع المجرمون ويزدجر غيرهم وتصان المصلحة العامة.
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
مجلة المحاماة
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
للأستاذ مرقص فهمي بك
رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون - بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا - وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.
لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها - وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها - والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.
أما الجناية التامة - فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات - وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) - يُعد مرتشيًا - كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته - أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).
نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.
قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص:
1 - وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 - موظف مختص بما يطلب منه.
3 - أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.
لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير - فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة - ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه - فجناية الرشوة لم تقع - وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني - وقد عدل هنا بمحض إرادته.
ولقد نقل أصحاب البنديكت - هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 - ما يأتي:
((15) وفي حالتي الرشوة - الرشوة ممن يعرض - ثم الرشوة حين تقبل - تتم أركان الجريمة - بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين - وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً - بل يكفي أن يكون العرض قد قبل - أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).
وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي:
((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود - فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية - (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).
ونرى في هذه النقطة المعينة - وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب - نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية - تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة - فحقت العقوبة.
أما العدول بعد ذلك - ولو اختيارًا - فلا يهم التشريع في شيء - ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا - وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء - عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.
حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.
ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟
تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.
أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟
أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!
وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).
ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.
ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة (8) و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.
قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأنه قد انتفع فعلاً بانتقاد الفقهاء على تلك النصوص، فأخذ بمبادئ التشريع الحقة، وقرر أن الرشوة عمل واحد هي العقد بين متعاقدين نسأل بعد هذا متى يقع الشروع وكيف يكون ؟
نقرأ في البنديكت نمرة (16):
(من جهة الراشي فقد تمت أركان الشروع بمجرد العرض ولو لم يقبل، ومن جهة الموظف، فإنه إذا اقترح الرشوة بدون أي عرض أو وعد فهذا يكفي لتكوين الشروع من جهته.
ثم نقرأ أيضًا في جارو مجلد (4) طبعة ثانية صفحة 58 في أوائلها ما نصه:
(تتم الجناية كاملة إذا أخذ الموظف النقود المعروضة أو قبل الوعد لكنها تكون شروعًا - إذا لم يقبل الموظف - ومن الجهة الثانية فإن الموظف يمكنه أن يرتكب جناية الشروع إذا هو اقترح الرشوة بدون أن يعرضها عليه أحد).
ولعل هذا الرأي هو الذي كان مصدرًا لحكم النقض السابق، غير أننا نلاحظ على هذا الرأي ما يأتي:
أولاً: إن أصحاب البنديكت مع اهتمامهم في جميع تدويناتهم بنقل الأحكام التي تصدر تقريرًا لآرائهم نراهم قد نقلوا هذا الرأي خاليًا من أي حكم أو من أي تقرير آخر.
ثانيًا: إن جارو - بعد أن كتب هذا الرأي في كتابه - قد أحس بأنه رأي غير مسند فأراد إخلاصًا للعلم عند المراجعة أن يدلل على ضعفه في الحاشية، فتراه يكتب في أسفل الصفحة تعليقًا بالنص الآتي:
(7 - هذا الرأي يظهر لنا أنه نتيجة لمبادئ الشروع العامة، ولكن يجب علينا أن نلاحظ أن العلماء لم يرد في مباحثهم إمكان الشروع في الرشوة من جهة الموظف، وكذلك نحن لم نجد في فقه المحاكم مثلاً للاتهام بشروع من هذا القبيل.
ثالثًا: وهذا هو القاطع إن جارو لم يكتفِ بالحاشية التي نقلناها - بل لما تقدم في البحث واستعرض المبادئ مرة ثانية نراه قد نقض ذلك الرأي الأول نقضًا صريحًا، فكتب في صفحة 75 ما نصه:
(المادة (177) إنما تقرر العقوبة على قبول العرض أو الوعد للغرض المعين، فهي بذلك تجعل الجريمة في اتفاق الإرادتين).
وعلى هذا فإن طلب نقود - إذا لم يقبله من طلب منه - لا يعتبر إلا شروعًا في جنحة الاتجار بالوظيفة، وهي جنحة لا عقوبة عليها بنص في القانون.
رابعًا: أن هذا الرأي الباطل الذي رجع عنه أصحابه - ذلك الرجوع الصريح - إنما كان نتيجة لتصور جريمة الرشوة عندهم على اعتبار أنها قد جمعت بين عملين مستقلين - يجب ملاحظة كل منهما على حدة - وقد بينا فيما تقدم بطلان هذا التصور من جهة قانوننا ومن البديهي أن التناقض بين الأساسين يقتضي التناقض بين النتيجتين.
إتيانًا بما تقدم إتمامًا للبحث، وأخذًا بقواعد النظرية الجنائية من أصولها، وكان لنا أن نكتفي بنصوص القانون عندنا فإنها صريحة في استحالة الشروع من جهة الموظف بل في استحالته أيضًا من جهة الراشي إذا اقتصر على العروض قولاً ذلك لأننا قد نقلنا نص المادة (89)، وهي صريحة أن الرشوة التامة إنما هي (قبول) الموظف، ومهما تعب العقل فإنه لا يستطيع أن يجد للشروع في القبول إمكانًا لا خياليًا، ولا ماديًا يتمثل ظاهرًا في الوجود.
نقول - لا خياليًا، ولا فعليًا - إذ لا نستطيع أن نفهم من جهة الخيال شيئًا غير القول إلا ترددًا في نفس الموظف - إذا عرض عليه أمر - فقد تقف نفسه بين القبول وبين الرفض، وهذه مداولة وحيرة وتردد، فلا نستطيع أن نصفها قبولاً ولا شروعًا فيه، ولا تستطيع أن نصفها رفضًا فهي هواجس تطرأ على النفس مثلها مثل كل الخيالات الطارئة فلا هي عزم، ولا هي قصد ثابت، فمن المحال أن تكون شروعًا، وهو بدء في العمل كما هو معروف، قد تقول ولكن الموظف إذا طلب، قد صدرت منه كلمة فعلاً، وقد ظهر قصده !
نعم لكن القصد ليس شروعًا - مهما تحقق - بل لا بد من البدء في التنفيذ.
ثم نعم ثانيًا: لكن الجناية هنا، وبالنص هي القبول فالقبول مستحيل لعدم الإيجاب والشروع فيه كذلك مستحيل لأن استحالة واقعة تجعل الشروع فيها أمرًا مستحيلاً طبعًا.
ثم نعم ثالثًا: لكن الاعتراض راجع إلى نسيان أننا في مجال توقيع عقوبات، وتعرف جنايات كما وضعها الشارع تحديدًا، لا كما يريد الفكر، والفكر كثير المذاهب فإذا قال الشارع أن الرشوة هي القبول وجب أن نقف عند هذا ولا نتعداه، ووجب أن نبحث في هل لهذا العمل من شروع ممكن ؟.
اعترض باحتمال أن يقبل صاحب الحاجة طلب الموظف، فيعرض عليه ما طلبه أفلا تتم الرشوة ؟
الاعتراض غير مسند - بل هو يعزز الرأي الذي نقول به - لأنه إذا قبل صاحب الحاجة العرض فقد تم العقد كاملاً، وقد اتحدت الإرادتان - اتحادًا جنائيًا فاجتمعت أركان الواقعة، واستحقت العقوبة، ولن نجد أبدًا لاتحاد الإرادتين شروعًا !!!
والاعتراض عند تحليله أيضًا لا يصلح دليلاً إلا لرأينا لأن قبول صاحب الحاجة لعرض الموظف يتضمن بالطبع عرض الهدية أو التعهد بها - ثم يعقبه قبول الموظف، وعلى هذا فقد توفر العرض من جهة الراشي، ثم القبول وإن ثبت مرتين، فتحققت الواقعة كما حددها النص وتمت أركان العقد الجنائي كلها، ولا يكون طلب الموظف إلا اقتراحًا للتعاقد الجنائي أو الفاتًا لنظر صاحب الحاجة إلى التفكير في الجناية، وما قال أحد أن مجرد اقتراح فعل جنائي يعتبر شروعًا فيه.
على أن الشارع المصري وهو ينقل القانون الفرنسي رأي في المادة (179) - عند النقل كلمة (الشروع) فحذفها بتاتًا فلا نراها عندنا - وفي هذا تدليل ضمني لكنه واضح الدلالة على أن اعتبار الشروع في الرشوة من طريق القواعد العامة، وهي البدء في العمل على إطلاقه لا يمكن أن تتحقق - في مسائل الوعد والقبول - والتعاقد الكلامي بل لا بد للشروع في هذا المقام من حكم خاص وبيان مستقل.
ثم بعد هذا الحذف أراد أن يضع حكم الشروع فقرره في المادة (96) بالنص الآتي: (96) من شرع في إعطاء رشوة - ولم يقبل منه - أو في الإكراه بالضرب والتهديد ونحو هذا ولم يبلغ مقصده يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة.
بناءً على هذا فالنص صريح بأن الشروع إنما هو البدء في عمل مادي هو إعطاء الرشوة وتقديمها فعلاً ماديًا ظاهرًا، أما العرض القولي - فقد ذكره القانون في مواد الفعل التام - وتركه في مادة الشروع فإذا عرض الراشي الرشوة قولاً - ولفظًا مجردًا فلا شروع أصلاً بنص المادة، وإذا كان الشروع لا يتكون بالقول - من جهة الراشي - فهو كذلك لا يتكون بالقول من جهة الموظف لأن مبادئ الشروع واحدة لا تتغير.
الشروع في الرشوة من جهة الموظف
للأستاذ مرقص فهمي بك
رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون - بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا - وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.
لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها - وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها - والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.
أما الجناية التامة - فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات - وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) - يُعد مرتشيًا - كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته - أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).
نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.
قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص:
1 - وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 - موظف مختص بما يطلب منه.
3 - أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.
لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير - فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة - ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه - فجناية الرشوة لم تقع - وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني - وقد عدل هنا بمحض إرادته.
ولقد نقل أصحاب البنديكت - هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 - ما يأتي:
((15) وفي حالتي الرشوة - الرشوة ممن يعرض - ثم الرشوة حين تقبل - تتم أركان الجريمة - بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين - وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً - بل يكفي أن يكون العرض قد قبل - أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).
وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي:
((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود - فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية - (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).
ونرى في هذه النقطة المعينة - وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب - نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية - تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة - فحقت العقوبة.
أما العدول بعد ذلك - ولو اختيارًا - فلا يهم التشريع في شيء - ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا - وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء - عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.
حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.
ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟
تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.
أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟
أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!
وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).
ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.
ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة (8) و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.
قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأنه قد انتفع فعلاً بانتقاد الفقهاء على تلك النصوص، فأخذ بمبادئ التشريع الحقة، وقرر أن الرشوة عمل واحد هي العقد بين متعاقدين نسأل بعد هذا متى يقع الشروع وكيف يكون ؟
نقرأ في البنديكت نمرة (16):
(من جهة الراشي فقد تمت أركان الشروع بمجرد العرض ولو لم يقبل، ومن جهة الموظف، فإنه إذا اقترح الرشوة بدون أي عرض أو وعد فهذا يكفي لتكوين الشروع من جهته.
ثم نقرأ أيضًا في جارو مجلد (4) طبعة ثانية صفحة 58 في أوائلها ما نصه:
(تتم الجناية كاملة إذا أخذ الموظف النقود المعروضة أو قبل الوعد لكنها تكون شروعًا - إذا لم يقبل الموظف - ومن الجهة الثانية فإن الموظف يمكنه أن يرتكب جناية الشروع إذا هو اقترح الرشوة بدون أن يعرضها عليه أحد).
ولعل هذا الرأي هو الذي كان مصدرًا لحكم النقض السابق، غير أننا نلاحظ على هذا الرأي ما يأتي:
أولاً: إن أصحاب البنديكت مع اهتمامهم في جميع تدويناتهم بنقل الأحكام التي تصدر تقريرًا لآرائهم نراهم قد نقلوا هذا الرأي خاليًا من أي حكم أو من أي تقرير آخر.
ثانيًا: إن جارو - بعد أن كتب هذا الرأي في كتابه - قد أحس بأنه رأي غير مسند فأراد إخلاصًا للعلم عند المراجعة أن يدلل على ضعفه في الحاشية، فتراه يكتب في أسفل الصفحة تعليقًا بالنص الآتي:
(7 - هذا الرأي يظهر لنا أنه نتيجة لمبادئ الشروع العامة، ولكن يجب علينا أن نلاحظ أن العلماء لم يرد في مباحثهم إمكان الشروع في الرشوة من جهة الموظف، وكذلك نحن لم نجد في فقه المحاكم مثلاً للاتهام بشروع من هذا القبيل.
ثالثًا: وهذا هو القاطع إن جارو لم يكتفِ بالحاشية التي نقلناها - بل لما تقدم في البحث واستعرض المبادئ مرة ثانية نراه قد نقض ذلك الرأي الأول نقضًا صريحًا، فكتب في صفحة 75 ما نصه:
(المادة (177) إنما تقرر العقوبة على قبول العرض أو الوعد للغرض المعين، فهي بذلك تجعل الجريمة في اتفاق الإرادتين).
وعلى هذا فإن طلب نقود - إذا لم يقبله من طلب منه - لا يعتبر إلا شروعًا في جنحة الاتجار بالوظيفة، وهي جنحة لا عقوبة عليها بنص في القانون.
رابعًا: أن هذا الرأي الباطل الذي رجع عنه أصحابه - ذلك الرجوع الصريح - إنما كان نتيجة لتصور جريمة الرشوة عندهم على اعتبار أنها قد جمعت بين عملين مستقلين - يجب ملاحظة كل منهما على حدة - وقد بينا فيما تقدم بطلان هذا التصور من جهة قانوننا ومن البديهي أن التناقض بين الأساسين يقتضي التناقض بين النتيجتين.
إتيانًا بما تقدم إتمامًا للبحث، وأخذًا بقواعد النظرية الجنائية من أصولها، وكان لنا أن نكتفي بنصوص القانون عندنا فإنها صريحة في استحالة الشروع من جهة الموظف بل في استحالته أيضًا من جهة الراشي إذا اقتصر على العروض قولاً ذلك لأننا قد نقلنا نص المادة (89)، وهي صريحة أن الرشوة التامة إنما هي (قبول) الموظف، ومهما تعب العقل فإنه لا يستطيع أن يجد للشروع في القبول إمكانًا لا خياليًا، ولا ماديًا يتمثل ظاهرًا في الوجود.
نقول - لا خياليًا، ولا فعليًا - إذ لا نستطيع أن نفهم من جهة الخيال شيئًا غير القول إلا ترددًا في نفس الموظف - إذا عرض عليه أمر - فقد تقف نفسه بين القبول وبين الرفض، وهذه مداولة وحيرة وتردد، فلا نستطيع أن نصفها قبولاً ولا شروعًا فيه، ولا تستطيع أن نصفها رفضًا فهي هواجس تطرأ على النفس مثلها مثل كل الخيالات الطارئة فلا هي عزم، ولا هي قصد ثابت، فمن المحال أن تكون شروعًا، وهو بدء في العمل كما هو معروف، قد تقول ولكن الموظف إذا طلب، قد صدرت منه كلمة فعلاً، وقد ظهر قصده !
نعم لكن القصد ليس شروعًا - مهما تحقق - بل لا بد من البدء في التنفيذ.
ثم نعم ثانيًا: لكن الجناية هنا، وبالنص هي القبول فالقبول مستحيل لعدم الإيجاب والشروع فيه كذلك مستحيل لأن استحالة واقعة تجعل الشروع فيها أمرًا مستحيلاً طبعًا.
ثم نعم ثالثًا: لكن الاعتراض راجع إلى نسيان أننا في مجال توقيع عقوبات، وتعرف جنايات كما وضعها الشارع تحديدًا، لا كما يريد الفكر، والفكر كثير المذاهب فإذا قال الشارع أن الرشوة هي القبول وجب أن نقف عند هذا ولا نتعداه، ووجب أن نبحث في هل لهذا العمل من شروع ممكن ؟.
اعترض باحتمال أن يقبل صاحب الحاجة طلب الموظف، فيعرض عليه ما طلبه أفلا تتم الرشوة ؟
الاعتراض غير مسند - بل هو يعزز الرأي الذي نقول به - لأنه إذا قبل صاحب الحاجة العرض فقد تم العقد كاملاً، وقد اتحدت الإرادتان - اتحادًا جنائيًا فاجتمعت أركان الواقعة، واستحقت العقوبة، ولن نجد أبدًا لاتحاد الإرادتين شروعًا !!!
والاعتراض عند تحليله أيضًا لا يصلح دليلاً إلا لرأينا لأن قبول صاحب الحاجة لعرض الموظف يتضمن بالطبع عرض الهدية أو التعهد بها - ثم يعقبه قبول الموظف، وعلى هذا فقد توفر العرض من جهة الراشي، ثم القبول وإن ثبت مرتين، فتحققت الواقعة كما حددها النص وتمت أركان العقد الجنائي كلها، ولا يكون طلب الموظف إلا اقتراحًا للتعاقد الجنائي أو الفاتًا لنظر صاحب الحاجة إلى التفكير في الجناية، وما قال أحد أن مجرد اقتراح فعل جنائي يعتبر شروعًا فيه.
على أن الشارع المصري وهو ينقل القانون الفرنسي رأي في المادة (179) - عند النقل كلمة (الشروع) فحذفها بتاتًا فلا نراها عندنا - وفي هذا تدليل ضمني لكنه واضح الدلالة على أن اعتبار الشروع في الرشوة من طريق القواعد العامة، وهي البدء في العمل على إطلاقه لا يمكن أن تتحقق - في مسائل الوعد والقبول - والتعاقد الكلامي بل لا بد للشروع في هذا المقام من حكم خاص وبيان مستقل.
ثم بعد هذا الحذف أراد أن يضع حكم الشروع فقرره في المادة (96) بالنص الآتي: (96) من شرع في إعطاء رشوة - ولم يقبل منه - أو في الإكراه بالضرب والتهديد ونحو هذا ولم يبلغ مقصده يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة.
بناءً على هذا فالنص صريح بأن الشروع إنما هو البدء في عمل مادي هو إعطاء الرشوة وتقديمها فعلاً ماديًا ظاهرًا، أما العرض القولي - فقد ذكره القانون في مواد الفعل التام - وتركه في مادة الشروع فإذا عرض الراشي الرشوة قولاً - ولفظًا مجردًا فلا شروع أصلاً بنص المادة، وإذا كان الشروع لا يتكون بالقول - من جهة الراشي - فهو كذلك لا يتكون بالقول من جهة الموظف لأن مبادئ الشروع واحدة لا تتغير.
النصب بطريق الخصومة
مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة الحادية عشرة - شهر مارس سنة 1931
النصب بطريق الخصومة
جنحة النصب من أدق الجنح في القانون، فإن النصب دقة ومهارة، وتعقيد، وتفنن، فكان طبيعيًا أن يتشكل بأشكال عديدة، وكان معقولاً أن يحتاط النصاب لنفسه فلا تخنقه حبائله التي ينشرها لاصطياد الغير..، فجمع النص الذي يحيط بأعمال النصابين من الأركان والدقائق ما قد يختلف فيه الآراء وتتناقض بسببه الأحكام.
والذي جعل هذه الصعوبة دائمة، وجعل الخلاف مستمرًا أن الأركان التي نصت عليها مادة النصب كثيرة من جهة، ثم أن بعضها قد يحل محل البعض الآخر من جهة أخرى، فإذا عرضت واقعة فاتجهت وجهة النظر إلى توافر الأركان الأصلية وغاب عن الباحث ما يصح أن يكون لأحدها بديلاً، ذهبت الواقعة كأنها ناقصة الأركان فتخرج من دائرة العقوبة.
لسنا نريد أن نبحث في كل أو أكثر ما يعرض من هذا النوع فإن هذا لا يحيط به بحث محدود، ولكننا نريد فقط أن نبحث في واقعة واحدة، لم تعرض على محاكمنا قبل الآن على ما نعلم، ورأينا أن نعرضها لأول مرة على أن الإفهام متفقة على أنها ليست نصبًا، وهي الآتية:
أودع منقول عند آخر، وثبتت الوديعة بسند مكتوب، ثم طلب المودع استرداد الوديعة فردت فعلاً، وطلب المودع لديه سندها، فاعتذر مالك المنقول بأن السند ليس في متناول يده ساعة الرد، ووعد بتسلمه غدًا، فصدقه المودع لديه، ولما رجع في الموعد المضروب طلب إليه المالك الذي استلم وديعته أن يقوم بعمل معين، وهدده إذا لم ينفذ طلبه، بإنكار استلام الوديعة، وبالتبليغ ضده على اعتبار أنه مبدد، وهذه الواقعة هي محل البحث.
نحن نقول إنها نصب تام الأركان، لا ينقصه شيء لا من الناحية الأدبية ولا من الناحية القانونية، وأن النفس لتنزعج بمجرد استعراض الواقعة بظروفها، على ما فيها من دلائل الاستقامة، وحسن النية من جهة المودع لديه، وما يقابل ذلك من فظاعة الإجرام من جهة المالك، فإنك لا تستطيع أن تتصور ضلالاً أكثر، ولا سوادًا يملأ النفس أظلم، ولا جرأة على الشر أشد، فإن هذا الفاتك يقبض على فريسته بيد من حديد، إذ في يده سند مكتوب أمَّنه عليه المودع لبضعة ساعات لعذر انتحله فأنكر الأمانة حول السند إلى مصلحته، يريد أن يملك به رقبة المدين، ويملك به ضمير القاضي، فيسد عليه طريق الحق، فأصبح المودع لديه البريء ألعوبة أثيم يهدده في شرفه، وفي ماله !!
فأين تجد واقعة من وقائع النصب يمكن أن تكون أشد هولاً - أو أثبت ظهورًا في واقعتها - وفي توافر أركانها، وفي مبلغ أثرها، وسعة الجرم فيها. ؟!!!
يخيل لنا وقد وضعنا الواقعة بحدودها، أنها لا تحتمل خلافًا، ولا تحتاج إلى بحث، بل نراها نصبًا واضحًا لا يقبل الجدل، فإن الركن الأول وهو الكذب ظاهر، وواقعته هنا دعوى المالك أنه لم يستلم الوديعة وقد استلمها، والركن الثاني وهو الاحتيال لتأكيد هذا الكذب متوفر، وهو الاستدلال بسند، ترك في يده أمانة وليس عند المودع لديه دليل يثبت براءة ذمته ويدفع به عن نفسه شر هذا الاتهام الكاذب، والركن الثالث متوفر وهو قائم في أن هذا التهديد من شأنه أن يحدث في النفس جزعًا يدفعها إلى الخضوع لمطالب المهدد، أما الركن الرابع وهو الاستيلاء على المال بغير حق فإذا لم يتم فالواقعة شروع لا جنحة كاملة.
يجب أن نحدد عند أي ظرف، من ظروف هذه الواقعة تبدأ أركان جنحة النصب في دور التكوين.
هل تبدأ عندما يطالب مالك الوديعة برد وديعته، للمرة الأولى أي قبل أن يكون استلمها ؟ بالطبع لا، لأنه إنما يستعمل حقًا، حتى ولو كان مصممًا على أن يلعب الدور إلى آخره، لأن التصميم النفسي لا يعتبر ركنًا لجنحة ما، اللهم إلا بعد وقوعها وعلى اعتبار أنه بحث رجعي لتكوين نية الإجرام.
هل تبدأ تلك الأركان، عند استلامه الوديعة، والتحايل لعدم رد السند، معتذرًا بأي عذر يبديه ؟!
لا شك أننا ندخل هنا في دور العمل المادي، وفي طريق الاستعداد التنفيذي للنصب، فكان يصح أن يكون هذا العمل بداية للجنحة وركنًا من أركانها.
قد يعرض للذهن أن المودع لديه هنا، أيضًا، إنما يسترد ماله الذي يملكه ومن حقه أن يسترده، فهو في دائرة حقوقه، فلا ينقلب عمله ركنًا لجنحة النصب.
والنظرة هنا خاطئة على ما نرى - لأنه أولاً لم يسترد وديعته فقط بل هو بدأ يتحايل لعدم رد السند لغرض الاستيلاء على مال الغير بدون حق - ولأنه ثانيًا إذا كان من حقه أن يسترد وديعته، فإنما هذا الحق مرتبط بأن يسلم السند الذي في يده، إذ الأمران متلازمان، بل هما في الواقع عمل واحد، لا يتجزأ، ولا سبيل إلى قسمته لأمرين منفصلين فاستلام الوديعة منفصلاً، ثم رد السند منفصلاً.
بل إن المودع لديه إذا ما حضر يحمل الأمانة إلى صاحبها، فإنما يقابل هذا في الحال، واقعيًا، وقانونًا، وفي عقيدة حاملها، وكذلك في عقيدة المالك الذي يريد أن يستلم، أن هذه الوديعة يقابلها سند يمثلها تمامًا، وأن الإلزام الذي يرتب على المودع لديه واجب رد الوديعة هو بذاته الذي يرتب على صاحبها واجب رد السند في لحظة استلامه للوديعة، فإذا ما احتال على أن لا يرد، واقتصر على استلام وديعته، فغير صحيح لا واقعيًا، ولا قانونًا، ولا ذمة أنه يستعمل حقًا إنما الواقع أنه يبدأ في الكيد، ويخطو الخطوة الأولى للوصول إلى الاستيلاء على مال الغير، ويتسلح لاغتصاب هذا المال اغتصابًا.
ومن ناحية أخرى، فإن المالك إذا استلم وديعته فقد برئت ذمة المودع لديه قانونًا، ويصبح سند الوديعة تحت يد المالك هو بذاته وديعة في ذمته عليه أن يرده لصاحبه، فإذا ما رفض الرد وأراد استعمال السند لمصلحته فقد ارتكب جنحة التبديد وخيانة الأمانة، فلا سبيل بحال من الأحوال أن يوصف هذا العمل من جهة النظر القانوني بأنه استعمال لحق.
ومهما يكن من وجهة النظر في هذه الخطوة الأولى، فإن الظروف التالية تجمع وحدها جميع أركان جنحة النصب كاملة: ذلك - لأن مالك المنقول بعد أن استلمه - ووعد برد السند لصاحبه، نراه قد أنكر الاستلام، ثم هدد باستعمال السند الذي بيده، وهو سند قد أصبح باطلاً معدوم الأثر، وقد أصبح مملوكًا للمودع لديه بحكم رد الوديعة، وفي هذا جمع لأركان جنحة النصب كما قدمنا.
على هذا يمكنا أن نقول خذ الواقعة من حيث شئت، فإنها جنحة مضاعفة لأن مالك المنقول احتال على المودع لديه حتى استلم منه الوديعة، وهو يضمر له شرًا، ثم بعد ذلك تقدم للاحتيال عليه من جديد، للاستيلاء على مال من طريق التهديد - بتهمة التبديد - وهو أشد طرق الاحتيال، وأفعلها في نفس المهدد، فالشروع في النصب قائم مقرر.
على أن تدليلنا قد يبدو للمشتغلين بالقضاء ضعيفًا، إذ جرت العادة - مهما كان التدليل العقلي واضحًا - بالرجوع إلى آراء العلماء وفقه المحاكم فلنتمم بحثنا للواقعة من هذه الوجهة.
جاء في جارسون، شرحًا على المادة (405) التي تقابل مادة (293) عندنا، صفحة 1336:
(425): (أن سداد الديون قد يصحبها طرق احتيال متنوعة، وأشهرها أن يستلم المدين مخالصة بدينه ثم لا يدفع الدين ويدعي أنه دفعه).
وقد أثارت هذه الواقعة من جهة وصفها القانوني صعوبات عسيرة الحل، ولكن فقه المحاكم قرر مبادئ يصح أن تعتبر ثابتة، فإنه إذا أخذ المدين إيصالاً أو مخالصة لمراجعته، ثم لا يدفع، فقد ارتكب سرقة، لأن السند لم يسلم له بصفة نهائية، ومن طريق التمليك بدون قيد، بل سلم له تسليمًا مؤقتًا، لا ينفي السرقة من طريق الاختلاس.
ويقول أيضًا:
(426): (ولكن هذه الأسباب بذاتها تزول وتسقط نتيجتها إذا لم يستلم المخالصة على شرط ردها - بل على أن تكون له بصفة نهائية، وذلك حتى إذا استلم المخالصة من طريق الحيلة لأن أركان السرقة تنعدم، وليس من الضروري دائمًا أن فقدان أركان السرقة يجعل الواقعة نصبًا إلا إذا ثبت أن المخالصة سلمت بسبب استعمال طرق احتيالية).
ونرى أن التفرقة بين حالتي تسليم المخالصة إما مؤقتًا وإما نهائيًا، إنما هو تفريق اصطناعي أكثر منه واقعي أو قانوني.
فإن المخالصة لا تسلم عادةً على شرط درها بذاتها، بل على شرط دفع الدين، فالتسليم دائمًا وقتي ومقرون بشرط: لكن هذا في رأينا لا يجعل الواقعة سرقة إذا لم يدفع المدين، لأن ركن الاختلاس مهما أجهد الباحث نفسه غير حاصل واقعيًا بل هو متوفر حكمًا على ما يقول جارسون، ولسنا ممن يقبلون القول بأن الجنايات تقع اعتبارًا.
أما أركان النصب فظاهرة بدون حاجة إلى إثبات احتيال آخر، فإن الإجماع قائم على أن طرق الاحتيال قد تكون مستفادة من ظروف الواقعة بنفسها، أو من صفة نفس المتهم إذا كانت تلك الصفة تدعو إلى تصديقه، أو من طبيعة العمل، وواضح أن علاقة الدائن والمدين تستدعي بذاتها أن يدفع المدين دينه، فحضوره متظاهرًا بنية الدفع عمل يدعو بذاته إلى تصديقه، وطلب المخالصة يؤكد قوله أو مظهره، فلا حرج على الدائن إذا قدم له المخالصة، فإذا ما استلمها بعد ذلك وادعى أنه دفع الدين كذبًا، فقد تمت أركان النصب كلها واقعيًا وقانونًا.
وتوافر ركن النصب هنا، أقرب منه إلى توافر ركن السرقة، وهو الاختلاس، لأن الاختلاس في هذه الحالة إنما هو انتزاع فكري، محض، بل هو اجتهاد نظري، يراد به تغليب الاعتبار الفكري، على الواقع المحسوس، فيجب عليك أن تمحو من الوجود واقعة تسليم المخالصة اختيارًا، ثم تضع مكانها من طريق الاعتبار النظري أن المخالصة قد اختلست، وهذا تخريج خطر في مقام البحث في توافر أركان الجنح، فإن الجنحة واقعة مادية على الدوام، أما هنا فيراد تأليفها من فكر مجرد، واعتبار نظري، وهذا لا يجوز على ما نرى.
وعلى كل حال فإن (جارسون) ومعه الأحكام التي يشير إليها مجمعة على تأييد الرأي الذي نقول به وهو اعتبار الواقعة نصبًا إذا كان تسليم المخالصة قد سبقه عمل احتيالي، والنظر في هل وقع احتيال أو لم يقع، إنما هو أمر موضوعي، وأما النصب من جهة وصفه القانوني فلا خلاف فيه.
على أن ما نذهب إليه هو رأي محكمة النقض في باريس، وقد نقله جارسون بعد أن وضع رأيه الذي علقنا عليه بما تقدم، حيث يقول:
(432): (ولكن محكمة النقض، رأت من الطرق الاحتيالية أن يحضر المدين مظهرًا أنه مستعد لدفع الدين، فيضع كيس النقود على ترابيزة، ثم يطلب المخالصة، فإذا أخذها ولم يدفع، فقد تمت جنحة النصب… (كاساسيون 4 سبتمبر سنة 1824)).
ويعلق جارسون على هذا الحكم بما يأتي:
(هذا القرار قديم، وواقعته في غاية الدقة، أما الفقه الأحدث فإنه يعتبر المدين الذي يضع النقود تحت تصرف الدائن بعد عدها، ثم بعد ذلك يختلسها بالحيلة أو بالمهارة يعتبر أنه قد ارتكب جنحة السرقة لأنه كان ملكها فعلاً للدائن ثم اختلسها).
ثم يقول بعد ذلك:
(أما في حادثة قرار محكمة النقض فإن المدين لم يكن قد وضع النقود تحت تصرف الدائن، إنما أظهر الكيس فقط..، وبهذا فإنه لم يكن في الإمكان اعتباره مختلسًا لنقود هي في الأصل تحت يده ولا زالت كذلك).
(ومع هذا فإننا نميل إلى اعتبار أنه سرق المخالصة). !!
وجاء فيه أيضًا، فقرة (433).
كذلك رأت محكمة النقض أن جنحة النصب متوافرة الأركان في الواقعة الآتية:
(مضارب في البورصة، طلب أن يستلم السندات التي اشتراها في نظير دفع ثمنها.. ثم استلمها من العامل المختص بذلك، ومعها فاتورة عليها مخالصة، ووضع كل هذا في مكتبه، ثم دفع جزءً من الثمن، وطلب من المستخدم أن يصحبه إلى مكتب أخيه ليدفع الباقي ثم تركه ولم يدفع).
ليس في هذه الواقعة إلا ما نذهب إليه، فقد رأت محكمة النقض كما رأينا أن في حضور المشتري إلى مكتب البائع، مظهرًا أنه مستعد لاستلام الأوراق التي اشتراها مظهرًا يدعو بذاته إلى تصديقه، لأن العملية تستلزم ذلك، وكان هذا التظاهر الكاذب حيلة ترتب عليها تسليم المخالصة فوقع النصب كاملاً.
لكن جارسون يستمر على رأيه فلا يرى أن في هذا المظهر ما يكفي لاعتبار أن الاحتيال قد تمثل، وهذا هو سبب اعتراضه الوحيد، فالمسألة ليست اختلافًا على جوهر المبدأ كما ترى، بل على تقدير الطرق الاحتيالية وكيف تكون، وهذه مسألة واقعية، فالإجماع حينئذٍ قائم على أنه نصب إذا كان من الظروف ما يدعو إلى اعتبار أن الدائن إنما سلم المخالصة معتقدًا أنه سيقبض دينه.
هذا فيما يتعلق بالمدين إذا أخذ مخالصة ولم يدفع الدين، فهل تختلف الحالة العكسية ؟ وهي إذا ما استلم الداين دينه، ثم احتفظ بسنده، ورجع إلى المطالبة مرة أخرى. !!
يقول جارسون، صفحة 1338 ما يأتي:
(433): (وقد تقع نفس الطرق الاحتيالية من الدائن ضد المدين فبعد أن يستلم دينه، يدعي أن المدين لم يدفع ثم يطالب بالدين من جديد، والمبادئ التي قررناها في شأن المدين تنطبق على هذه الحوادث الدقيقة).
نرى أن الواقعة تعتبر سرقة، إذا استولى الدائن على النقود قبل أن توضع تحت تصرفه، أو إذا استرد سند الدين أو المخالصة بعد أن أعطى أحدهما للمدين، ويعتبر نصبًا إذا كان الدائن قد استعمل الحيلة فجعل المدين يسلمه الدين - بدون تسليم سنده - ولكن النصب لا يتكون إذا لم يثبت أنه استعمل لأخذ الدين طريقًا احتياليًا، ولا يكفي لتكوين أركان النصب أن الدائن كذب على المدين فجعله يدفع الدين بدون أخذ إيصال أو بدون استرداد السند.
لهذا فقد حكمت محكمة النقض، أنه إذا كتب سند جديد بدل السند القديم الذي استحق وادعى الدائن أن السند القديم قد فُقد فإن ركن النصب غير متوفر، لأن الدائن لم تصدر منه حيلة لاستلام السند الجديد، أما دعوى فقدان السند القديم فقد صدرت بعد استلام الجديد فهي لم تكن سببًا لاستلامه. (نقض 9 يناير سنة 1885).
وهنا أيضًا يجب أن نلاحظ أن جارسون يحصر بحثه، سواء في الرأي يبديه هو، أو في نقل حكم محكمة النقض، في واقعة استلام السند الجديد، أو قبض الدين، ويريد أن يعطي لهذه الواقعة بالذات حكمها، ثم يريد أن يبسط حكمها وحدها على الوقائع التي تليها، وهو خطأ لأنها تقف عند استلام الدين، أو السند الجديد، الذي حل محل القديم، وهذا هو موضوع حكم محكمة النقض بالتحديد.
أما الواقعة التالية، وموضوعها، أن ذلك الدائن - الذي لا دين له - يدعي بعد أن قبض دينه أنه دائن، ثم يهدد برفع الدعوى ثم يرفعها فعلاً فإنها واقعة مستقلة ذات أركان خاصة بدأت بدعوى كاذبة ثم أسندت إلى وقائع احتيالية، ودليلها قائم موجود لكنه دليل باطل مسموم، وهذه الواقعة التامة الأركان، لا يتعرض لها جارسون ولا يبحث في حكمها، لا هو ولا حكم النقض. !!
بل إننا إذا أخذنا مبدأه أساسًا، ثم أردنا تطبيقه على هذه الحادثة التالية من باب الاستطراد، فإنها تكون نصبًا أيضًا، إذ هو قد أخرج واقعة استلام الدين من دائرة النصب، بناءً على أن دعوى فقدان السند القديم، جاءت بعد استلام الدين، والواقع أنه لا يستطيع أحد أن يفهم أن تأخير الحيلة يجعل تسليم الدين حاصلاً على أنه تبرع نهائي، غير مشترط فيه بحكم الحال والظروف، بل بحكم الواجبات المفروضة، أنه دفع مرتبط في واقعته، وحكمه، بتسليم سند الدين، أو تسليم مخالصة عنه، وما دام أن هذا هو شرط الدفع الذي لا نزاع فيه كان الاحتجاج بأن التحايل بفقدان السند حصل بعد استلام المبلغ لا يغير شيئًا من معاني الواقعة، ولا من ركنها الإجرامي، بل هو يزيد في بيان نية الإجرام، وفي بيان مقدار الحيلة، لأن الدائن سكت احتيالاً حيث يجب السكوت، حتى يهيء له طريق الاختلاس الذي يريده، فإنه إذا أعلن المدين قبل استلامه الدين أنه لا يريد أولاً يستطيع أن يسلم سنده، أو مخالصة عنه، فقد يثير ذلك حذر المدين، وقد يعتذر عن الدفع فمن الغريب في الصورة التي يرويها جارسون أن يكون احتياط الجاني لإتمام جنايته وإحكامه في ارتكابها سببًا لعدم تكوين أركانها وإفلاته من العقوبة. !!
ونظن أنه من أجل هذا قد تجاوزت محكمة النقض عن الأخذ بشرط جارسون، ورأت أن الواقعة نصب تام الأركان، ونجد هذا في جارسون نفسه فقرة (446) حيث يقول:
(ولكن محكمة النقض حكمت بأن النصب واقع إذا قبض محصل الأموال الذي رُفض من وظيفته ما هو مطلوب من أحد الممولين وأعطاه مخالصة).
(747): (وكذلك الدائن الذي يقبض دينه من مدين أمي وانتهز فرصة جهله فسلمه صورة من سند الدين وحفظ الأصل ثم حوله وطلب بقيمته بعد ذلك).
هنا فقط وفي هذا الحكم الأخير تجد الواقعة التي نفترضها، لأن جنحة النصب ليست مشخصة في واقعة قبض الدين في ذاتها بل تشخصها الواقعة التالية وهي المطالبة بالدين الذي أصبح غير مستحق، ثم استعمال سند الدين المحفوظ دليلاً عليه.
لكن جارسون يستمر على فكره الأول، وهو التوحيد دائمًا بين الواقعتين، قبض الدين، ثم المطالبة به مرة أخرى، فنراه يوافق على هذا الحكم، ولكنه يرجع في تعليله القضائي إلى ما أبداه فيما مضى، فيقول إن المدين هنا قد دفع بناءً على حيلة صدرت من الدائن وهي إيهامه بإعطاء مخالصة والواقع أنها ليست كذلك.
ولو تأملنا إلى هذا التعليل لجاز لنا الشك في قبوله إذ أن هذا المدين، كان له من الطرق مهما كان جهله ما يضمن به كشف حقيقة الورقة التي عرضت عليه، وحكايته لا تخرج عن أنه قد صدق الدائن لمجرد قوله أنه يعطي مخالصة، ولا فرق بينه وبين من يعرف القراءة إذا صدق الدائن في اعتذاره مثلاً بأن سند الدين ليس في متناول يده، مؤقتًا.
وليس من الواجبات المفروضة أن يعتقد الناس في بعضهم البعض أنهم لصوص خاطفة، وإذا شئت أن تجعل هذا الاعتقاد واجبًا لوجب على ذلك المدين الجاهل الأمي أن يحضر من يقرأ له الورقة، ولكن الواجبات العامة وأحكام الاجتماع تقضي باعتبار الإنسان بريئًا، فإذا ما ثبت هذا الواجب في نفس أحد المتعاملين فعمل به فلا يحرمه هذا من حماية القانون.
على أنه طبيعي أن يكون من آثار المعاملة بين اثنين أن تزيد في هذا الواجب تأكيدًا فليس للذي صدقه مدينه - في اعتذاره لعدم إمكانه رد السند - أن يتمسك عليه لماذا لم يعتقد أنه لص، وعلى هذا ينجو من العقوبة، لا لسبب آخر غير حُسن الظن به. !!
هذا نقوله - من باب المساجلة مع جارسون في رأيه - فيما يختص بالواقعة الأولى وهي تسليم الدين بدون أخذ مخالصة لكن حكم النقض واقع على الواقعة الثانية المستقلة، وهي دعوى الدائن أنه لم يقبض الدين، واستعمال سنده القديم الذي أصبح باطلاً، وطلب قبضه مرة ثانية، وفي هذه الدعوى كل أركان النصب كاملة، ولم يبدِ جارسون في شأنها شيئًا يعترض حكم النقض.
نخرج من هذا - حينئذٍ - على أن القول الشائع بأن الدائن إذا طلب دينًا قد سبق أن أخذه لا يدخل عمله في دائرة قانون العقوبات، إنما هو قول يخالف القانون، ويخالف الآداب العامة، ويخالف الأحكام، وإجماع المذاهب.
إلى هنا بحثنا الموضوع من ناحيته العامة، على اعتبار أن صاحب الوديعة دائن، وأن المودع لديه مدين، ونريد الآن أن نبحث في الوديعة بذاتها، وإذا جئنا إلى هذا البحث وجدنا الموضوع لا خلاف فيه ولا نزاع.
لم نجد في المطولات بابًا معقودًا للوديعة على وجه العموم، لكنا وجدنا بابًا عنوانه النصب في أمانات مصلحة السكة الحديد، وما تقرر في شأنها ينطبق على الودائع عامة - لأنه لا يوجد تشريع خاص لمصالح أو شركات السكة الحديد، بل الأحكام فيها راجعة إلى قواعد القانون العامة.
وردت في جارسون صفحة 1357:
(615 - أن طرق الاحتيال التي تحصل ضد شركات السكك الحديدية - كثيرة - وأن أهمها يكون جنحة النصب، لأن جميع أركانها متوفرة فيها).
ثم قال بعد ذلك في صفحة 1358، وهذا هو موضوع الوديعة.
(633 - كذلك نقل البضائع - قد يكون ظرفًا لاستعمال حيل تتكون منها جنحة النصب).
وقد تقرر أن المادة (405) تنطبق على من استلم كل أو بعض البضائع، ثم حفظ السند، وطالب بالبضائع من جديد.
اقرأ هنا ماذا يقول جارسون بعد الذي نقلناه فيما مضى، تراه قد رجع صراحةً عن رأيه وانضم إلى رأي أحكام النقض فيما تقدم، وصدق على وجهة النظر التي نبديها !! وكأنه هنا قد فطن إلى العملية الثانية، التي تقول إنها منفصلة تمام الانفصال، وهي واقعة المطالبة الجديدة، بصرف النظر عن واقعة استلام الوديعة.
يقول جارسون هنا ما يأتي:
هذه الواقعة لا يمكن اعتبارها سرقة - لأن المسافر الذي استلم بضاعته قد استلم شيئًا هو ملكه، لكن جميع أركان النصب متوافرة لأن هذا المسافر يكذب، في تأكيده أنه لم يستلم البضاعة، وهو يؤيد هذا الكذب بطرق احتيالية، هي طلبه رد البضاعة، وتمسكه بقسيمة، يستدل بها على حق وهمي لا أثر له.
- كاساسيون - 3 ديسمبر سنة 1885 - سرى سنة 1887 - 1 - 238.
- كاساسيون - 9 يونيو سنة 1888 - سرى سنة 1888 - 1 - 448.
- كاساسيون - 16 يناير سنة 1892 - سرى سنة 1892 - 1 - 216.
- ليموج - 12 نوفمبر سنة 1898.
- كورنيل - 18 مايو سنة 1900.
كذلك نجد هذا الإجماع، في كل مطول من المطولات، وفي المجموعات، والمؤلفات بدون شذوذ، وفي داللوز وفي سيرى، وفي جارو، وهكذا، فوضح أن قولنا الذي صدرنا به هذا البحث أن هذه قضية يخيل لنا أنها بديهية لا تحتاج بحثًا، إنما هو الصواب بذاته وقد أدى بنا الاستقراء إلى أن إجماع العلم وفقه المحاكم قائم على أن النصب لا خلاف في توافر أركانه. وإذا تأملت إلى هذا الإجماع في حالة ودائع مصلحة السكة الحديد، وليس بين المصلحة وبين مالك البضاعة، علاقة شخصية !!، فلا ثقة تصلح عذرًا للتساهل في استرداد سنة الوديعة !!، ولا معاملة مستديمة تخجل الموظف من طلب السند !! ولا صداقة مانعة من رفض تسليم البضاعة بدون استرداد القسيمة.
فما بالك بالواقعة إذا حصلت بين صديقين، أو زميلين في صنعة أو في تجارة، قد تعاملا كثيرًا في أموال جسيمة سنوات متواليات، سواء بإيصالات أو بغير إيصالات، مما يبعث على الثقة ؟!.
بل ما قولك إذا كانت المعاملة في نوعها، إنما كان جوهرها وموضوعها الثقة بين الفريقين كأن تكون نفس الوديعة حاصلة لمصلحتهما معًا كبيع البضاعة واقتسام الربح، إلى غير هذا من الظروف التي توحد بين الناس، وتجمع بين المتعاملين بجامعة المصلحة والتعاون، فتجعل تصديق كل اعتذار لعدم رد السند واجبًا أدبيًا للخروج عن حكمه ؟!! اللهم إلا في أخلاق اللئام والأشرار !
وإنك لتعجب وهذا هو الإجماع إذا علمت أننا لما عرضنا الواقعة على أنها نصب، كان الاعتراض علينا من كل ناحية، ومن كل مشتغل بالقضاء كأننا نبدي كفرًا بالقانون، بل شذوذًا عن مرامي العقل الإنساني، فمن قائل، ولماذا سلم المودع لديه الأمانة بغير إيصال ؟ ومن قائل، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته من الوديعة بشهادة الشهود رغمًا عن وجود السند المكتوب ؟!!!
أما لماذا سلم الأمانة فهذا لا يدخل في المناقشة بوجه من الوجوه، لأن واقعة النصب ليست هي تسليم الأمانة بغير إيصال، وقد قلنا كثيرًا ونعيد أن مالك الوديعة إنما قد استلم منقولاً هو يملكه فليس في هذا الاستلام نصب، ولكن النصب يبتدئ من المطالبة بالوديعة مرة ثانية، وبدعوى أنه لم يستلم كذبًا، ثم الاستلال على هذا الكذب بالإيصال الذي بقي بيده ولكنه أصبح باطلاً، وأصبح وديعة على ذمة المودع لديه الذي برئت ذمته، ثم في تهديده للمودع لديه باتهامه بالتبديد ظلمًا، إنما لم يعطه شيئًا من المال !!!
هذا هو النصب بالإجماع وهذا هو الذي لا يستطيع أحد أن يعارضه من طريق نقل البحث فيه إلى الواقعة السابقة عليه، وهي لماذا وكيف سلم المودع لديه الأمانة بلا إيصال ؟!!
على أني لا أفهم معنى لهذا الاعتراض غير أنه جمود أمام الواقع، وعصيان لتقدير هذا الواقع وتعرف حكمه، فإنه لولا هذا التسليم بدون إيصال لما وجدت الواقعة أصلاً !!! ولما كان هناك سبيل لارتكاب الجنحة !!! ولعرض البحث مطلقًا، فكأنما الذي يضع هذا الاعتراض، يعلل الشيء بذاته، أو يقول إن الواقعة لا يعقل حصولها، أو هي لم تحصل، فهي لا تعتبر أيضًا من جهة القانون، والمفهوم بداهةً أن البحث في تكييف الواقعة من جهة القانون إنما لا يأتي إلا مع التسليم بأن الواقعة قد حصلت في ذاتها والمقصود إفراغها في قالبها القانوني، وتحديد المادة التي تنطبق عليها.
بل ويتقدم الاعتراض خطوة فيأخذ شكلاً يفهم صاحبه أنه القانون بذاته، فيقول، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته بشهادة الشهود والأمانة ثابتة بسند مكتوب !!!
الاعتراض هو بذاته نفس الاعتراض الذي تقدم لكنه يأخذ شكلاً جديدًا، تتوهم فيه النفس العاصية عن البحث، أنها تتمسك بمبدأ قانوني، والواقع أن القانون ليس فيه شيء من هذا إذ هو يقضي بأن وقائع النصب تثبت بشهادة الشهود، مهما كان موضوع النزاع، وهذا هو الإجماع.
فالذي يعترض بقواعد الإثبات، إنما يخطئ الخطأ كله، إذ لا توجد قاعدة تقضي بأن للنصاب أن يتمسك بقواعد الإثبات المدنية، ليحمي به جريمته، وإذا شئت ما دمنا في عصيان مستمر أن تقدم رأي العلم لا رأينا، فخذ أي كتاب نجد هذه القاعدة مقررة، ونراها مثلاً في جارو جزء (5) - صفحة 277 فقرة (276)، وفي أي كتاب آخر غيره، ونراها في البندكت جزء 30 صفحة 307 إذ ورد فيها، ويثبت النصب دائمًا بشهادة الشهود مهما كانت أهمية الحق المتنازع عليه وكذلك البينة ضد العقود المكتوبة وضد العقود الرسمية.
على أني لست أدري كيف خفي على النفس المعترضة نتيجة هذا الاعتراض الخطر، فإنه لا يوجد من يستطيع أن ينكر أن مثل هذه الواقعة قد تحصل، والاعتراض موضوعه أنها إذا حصلت فقد أصبح الذي أدى الأمانة لصاحبها، في حكم من لم يردها، مقيدًا بالأغلال ملزمًا بالرد، وهذا محال عليه لأنه قد ردها فعلاً، وملزمًا بالتعويض، ولا تعويض عليه لأنه غير مدين في الواقع، ومعرضًا للعقوبة باعتباره مبددًا وهو بريء، ثم هو في هذا الموقف المظلم ممنوع حتى عن الدفاع عن نفسه، بإثبات براءة ذمته ليتقي توقيع عقاب لا يستحقه !!!، والواقع أن كل جنايته إنما انحصرت واقعيًا في أنه قصر في حق نفسه، أو صدق عميلاً وصديقًا لم يكن خصمًا في وقت أن صدقه، لا في أنه بدد أمانة أعطيت له فعلاً، لأنك إنما تضع هذا الفعل من باب الاستنتاج النظري بناءً على قواعد الإثبات التي تتوهمها.
أن القانون لا يحمي في أي حكم من أحكامه ولا في أية قاعدة من قواعده بما في ذلك قواعد الإثبات غير المعاملات البريئة.
أما من أجرم فإنه خارج على القانون عابث به، فلا يحميه، ولهذا تقرر أن جميع أعمال العدوان وجميع التهم، تثبت بشهادة الشهود، بل جميع أعمال الغش والاحتيال حتى في دائرة النزاع المدني تثبت بالشهود أيضًا !! وبقرائن الأحوال، فتبطل العقود بالشهود، وتثبت براءة الذمة بالشهود، ولولا هذه القاعدة الأصلية لما كان ذلك الإجماع الذي نقلناه على اعتبار الواقعة نصبًا.
والقول الصريح إن هذا الجدل بذاته، بما فيه من الإعراض عن الواقع، والعصيان عن تحري الحقيقة وترتيب المسؤوليات الحقة عليها، إنما هو مساعدة للنصاب في أن يتم عمله، وفي أن ينجو من المسؤولية، بناءً على وهم يراد إسناده إلى القانون وهو في موضوعه تأثيم بريء، بتهمة أنه بدد الأمانة نظريًا، لا واقعيًا.
وأنها لمسؤولية كبرى أن يريد المسيطرون على العدالة أن يصموا الآذان عن معرفة الواقع !!! وأن، فإنك إذا قضيت على من صدق فسلم الوديعة على وعد أن يستلم السند غدًا، فإنما تقضي عليه لأنك ترى محالاً أن يحصل مثل هذا التصديق، فأنت حينئذٍ تقول إن القانون وضع لحماية الكذابين والمكذبين، لا لحماية الرجل الطيب المصدق، وإذا كان ذلك ما تريده القوانين بين الناس فاللهم رفقًا بهذه النجمة السوداء ومن عليها، وأنه لعبث أن يقال إن القوانين وضعت لحماية الصالحين !!
السنة الحادية عشرة - شهر مارس سنة 1931
النصب بطريق الخصومة
جنحة النصب من أدق الجنح في القانون، فإن النصب دقة ومهارة، وتعقيد، وتفنن، فكان طبيعيًا أن يتشكل بأشكال عديدة، وكان معقولاً أن يحتاط النصاب لنفسه فلا تخنقه حبائله التي ينشرها لاصطياد الغير..، فجمع النص الذي يحيط بأعمال النصابين من الأركان والدقائق ما قد يختلف فيه الآراء وتتناقض بسببه الأحكام.
والذي جعل هذه الصعوبة دائمة، وجعل الخلاف مستمرًا أن الأركان التي نصت عليها مادة النصب كثيرة من جهة، ثم أن بعضها قد يحل محل البعض الآخر من جهة أخرى، فإذا عرضت واقعة فاتجهت وجهة النظر إلى توافر الأركان الأصلية وغاب عن الباحث ما يصح أن يكون لأحدها بديلاً، ذهبت الواقعة كأنها ناقصة الأركان فتخرج من دائرة العقوبة.
لسنا نريد أن نبحث في كل أو أكثر ما يعرض من هذا النوع فإن هذا لا يحيط به بحث محدود، ولكننا نريد فقط أن نبحث في واقعة واحدة، لم تعرض على محاكمنا قبل الآن على ما نعلم، ورأينا أن نعرضها لأول مرة على أن الإفهام متفقة على أنها ليست نصبًا، وهي الآتية:
أودع منقول عند آخر، وثبتت الوديعة بسند مكتوب، ثم طلب المودع استرداد الوديعة فردت فعلاً، وطلب المودع لديه سندها، فاعتذر مالك المنقول بأن السند ليس في متناول يده ساعة الرد، ووعد بتسلمه غدًا، فصدقه المودع لديه، ولما رجع في الموعد المضروب طلب إليه المالك الذي استلم وديعته أن يقوم بعمل معين، وهدده إذا لم ينفذ طلبه، بإنكار استلام الوديعة، وبالتبليغ ضده على اعتبار أنه مبدد، وهذه الواقعة هي محل البحث.
نحن نقول إنها نصب تام الأركان، لا ينقصه شيء لا من الناحية الأدبية ولا من الناحية القانونية، وأن النفس لتنزعج بمجرد استعراض الواقعة بظروفها، على ما فيها من دلائل الاستقامة، وحسن النية من جهة المودع لديه، وما يقابل ذلك من فظاعة الإجرام من جهة المالك، فإنك لا تستطيع أن تتصور ضلالاً أكثر، ولا سوادًا يملأ النفس أظلم، ولا جرأة على الشر أشد، فإن هذا الفاتك يقبض على فريسته بيد من حديد، إذ في يده سند مكتوب أمَّنه عليه المودع لبضعة ساعات لعذر انتحله فأنكر الأمانة حول السند إلى مصلحته، يريد أن يملك به رقبة المدين، ويملك به ضمير القاضي، فيسد عليه طريق الحق، فأصبح المودع لديه البريء ألعوبة أثيم يهدده في شرفه، وفي ماله !!
فأين تجد واقعة من وقائع النصب يمكن أن تكون أشد هولاً - أو أثبت ظهورًا في واقعتها - وفي توافر أركانها، وفي مبلغ أثرها، وسعة الجرم فيها. ؟!!!
يخيل لنا وقد وضعنا الواقعة بحدودها، أنها لا تحتمل خلافًا، ولا تحتاج إلى بحث، بل نراها نصبًا واضحًا لا يقبل الجدل، فإن الركن الأول وهو الكذب ظاهر، وواقعته هنا دعوى المالك أنه لم يستلم الوديعة وقد استلمها، والركن الثاني وهو الاحتيال لتأكيد هذا الكذب متوفر، وهو الاستدلال بسند، ترك في يده أمانة وليس عند المودع لديه دليل يثبت براءة ذمته ويدفع به عن نفسه شر هذا الاتهام الكاذب، والركن الثالث متوفر وهو قائم في أن هذا التهديد من شأنه أن يحدث في النفس جزعًا يدفعها إلى الخضوع لمطالب المهدد، أما الركن الرابع وهو الاستيلاء على المال بغير حق فإذا لم يتم فالواقعة شروع لا جنحة كاملة.
يجب أن نحدد عند أي ظرف، من ظروف هذه الواقعة تبدأ أركان جنحة النصب في دور التكوين.
هل تبدأ عندما يطالب مالك الوديعة برد وديعته، للمرة الأولى أي قبل أن يكون استلمها ؟ بالطبع لا، لأنه إنما يستعمل حقًا، حتى ولو كان مصممًا على أن يلعب الدور إلى آخره، لأن التصميم النفسي لا يعتبر ركنًا لجنحة ما، اللهم إلا بعد وقوعها وعلى اعتبار أنه بحث رجعي لتكوين نية الإجرام.
هل تبدأ تلك الأركان، عند استلامه الوديعة، والتحايل لعدم رد السند، معتذرًا بأي عذر يبديه ؟!
لا شك أننا ندخل هنا في دور العمل المادي، وفي طريق الاستعداد التنفيذي للنصب، فكان يصح أن يكون هذا العمل بداية للجنحة وركنًا من أركانها.
قد يعرض للذهن أن المودع لديه هنا، أيضًا، إنما يسترد ماله الذي يملكه ومن حقه أن يسترده، فهو في دائرة حقوقه، فلا ينقلب عمله ركنًا لجنحة النصب.
والنظرة هنا خاطئة على ما نرى - لأنه أولاً لم يسترد وديعته فقط بل هو بدأ يتحايل لعدم رد السند لغرض الاستيلاء على مال الغير بدون حق - ولأنه ثانيًا إذا كان من حقه أن يسترد وديعته، فإنما هذا الحق مرتبط بأن يسلم السند الذي في يده، إذ الأمران متلازمان، بل هما في الواقع عمل واحد، لا يتجزأ، ولا سبيل إلى قسمته لأمرين منفصلين فاستلام الوديعة منفصلاً، ثم رد السند منفصلاً.
بل إن المودع لديه إذا ما حضر يحمل الأمانة إلى صاحبها، فإنما يقابل هذا في الحال، واقعيًا، وقانونًا، وفي عقيدة حاملها، وكذلك في عقيدة المالك الذي يريد أن يستلم، أن هذه الوديعة يقابلها سند يمثلها تمامًا، وأن الإلزام الذي يرتب على المودع لديه واجب رد الوديعة هو بذاته الذي يرتب على صاحبها واجب رد السند في لحظة استلامه للوديعة، فإذا ما احتال على أن لا يرد، واقتصر على استلام وديعته، فغير صحيح لا واقعيًا، ولا قانونًا، ولا ذمة أنه يستعمل حقًا إنما الواقع أنه يبدأ في الكيد، ويخطو الخطوة الأولى للوصول إلى الاستيلاء على مال الغير، ويتسلح لاغتصاب هذا المال اغتصابًا.
ومن ناحية أخرى، فإن المالك إذا استلم وديعته فقد برئت ذمة المودع لديه قانونًا، ويصبح سند الوديعة تحت يد المالك هو بذاته وديعة في ذمته عليه أن يرده لصاحبه، فإذا ما رفض الرد وأراد استعمال السند لمصلحته فقد ارتكب جنحة التبديد وخيانة الأمانة، فلا سبيل بحال من الأحوال أن يوصف هذا العمل من جهة النظر القانوني بأنه استعمال لحق.
ومهما يكن من وجهة النظر في هذه الخطوة الأولى، فإن الظروف التالية تجمع وحدها جميع أركان جنحة النصب كاملة: ذلك - لأن مالك المنقول بعد أن استلمه - ووعد برد السند لصاحبه، نراه قد أنكر الاستلام، ثم هدد باستعمال السند الذي بيده، وهو سند قد أصبح باطلاً معدوم الأثر، وقد أصبح مملوكًا للمودع لديه بحكم رد الوديعة، وفي هذا جمع لأركان جنحة النصب كما قدمنا.
على هذا يمكنا أن نقول خذ الواقعة من حيث شئت، فإنها جنحة مضاعفة لأن مالك المنقول احتال على المودع لديه حتى استلم منه الوديعة، وهو يضمر له شرًا، ثم بعد ذلك تقدم للاحتيال عليه من جديد، للاستيلاء على مال من طريق التهديد - بتهمة التبديد - وهو أشد طرق الاحتيال، وأفعلها في نفس المهدد، فالشروع في النصب قائم مقرر.
على أن تدليلنا قد يبدو للمشتغلين بالقضاء ضعيفًا، إذ جرت العادة - مهما كان التدليل العقلي واضحًا - بالرجوع إلى آراء العلماء وفقه المحاكم فلنتمم بحثنا للواقعة من هذه الوجهة.
جاء في جارسون، شرحًا على المادة (405) التي تقابل مادة (293) عندنا، صفحة 1336:
(425): (أن سداد الديون قد يصحبها طرق احتيال متنوعة، وأشهرها أن يستلم المدين مخالصة بدينه ثم لا يدفع الدين ويدعي أنه دفعه).
وقد أثارت هذه الواقعة من جهة وصفها القانوني صعوبات عسيرة الحل، ولكن فقه المحاكم قرر مبادئ يصح أن تعتبر ثابتة، فإنه إذا أخذ المدين إيصالاً أو مخالصة لمراجعته، ثم لا يدفع، فقد ارتكب سرقة، لأن السند لم يسلم له بصفة نهائية، ومن طريق التمليك بدون قيد، بل سلم له تسليمًا مؤقتًا، لا ينفي السرقة من طريق الاختلاس.
ويقول أيضًا:
(426): (ولكن هذه الأسباب بذاتها تزول وتسقط نتيجتها إذا لم يستلم المخالصة على شرط ردها - بل على أن تكون له بصفة نهائية، وذلك حتى إذا استلم المخالصة من طريق الحيلة لأن أركان السرقة تنعدم، وليس من الضروري دائمًا أن فقدان أركان السرقة يجعل الواقعة نصبًا إلا إذا ثبت أن المخالصة سلمت بسبب استعمال طرق احتيالية).
ونرى أن التفرقة بين حالتي تسليم المخالصة إما مؤقتًا وإما نهائيًا، إنما هو تفريق اصطناعي أكثر منه واقعي أو قانوني.
فإن المخالصة لا تسلم عادةً على شرط درها بذاتها، بل على شرط دفع الدين، فالتسليم دائمًا وقتي ومقرون بشرط: لكن هذا في رأينا لا يجعل الواقعة سرقة إذا لم يدفع المدين، لأن ركن الاختلاس مهما أجهد الباحث نفسه غير حاصل واقعيًا بل هو متوفر حكمًا على ما يقول جارسون، ولسنا ممن يقبلون القول بأن الجنايات تقع اعتبارًا.
أما أركان النصب فظاهرة بدون حاجة إلى إثبات احتيال آخر، فإن الإجماع قائم على أن طرق الاحتيال قد تكون مستفادة من ظروف الواقعة بنفسها، أو من صفة نفس المتهم إذا كانت تلك الصفة تدعو إلى تصديقه، أو من طبيعة العمل، وواضح أن علاقة الدائن والمدين تستدعي بذاتها أن يدفع المدين دينه، فحضوره متظاهرًا بنية الدفع عمل يدعو بذاته إلى تصديقه، وطلب المخالصة يؤكد قوله أو مظهره، فلا حرج على الدائن إذا قدم له المخالصة، فإذا ما استلمها بعد ذلك وادعى أنه دفع الدين كذبًا، فقد تمت أركان النصب كلها واقعيًا وقانونًا.
وتوافر ركن النصب هنا، أقرب منه إلى توافر ركن السرقة، وهو الاختلاس، لأن الاختلاس في هذه الحالة إنما هو انتزاع فكري، محض، بل هو اجتهاد نظري، يراد به تغليب الاعتبار الفكري، على الواقع المحسوس، فيجب عليك أن تمحو من الوجود واقعة تسليم المخالصة اختيارًا، ثم تضع مكانها من طريق الاعتبار النظري أن المخالصة قد اختلست، وهذا تخريج خطر في مقام البحث في توافر أركان الجنح، فإن الجنحة واقعة مادية على الدوام، أما هنا فيراد تأليفها من فكر مجرد، واعتبار نظري، وهذا لا يجوز على ما نرى.
وعلى كل حال فإن (جارسون) ومعه الأحكام التي يشير إليها مجمعة على تأييد الرأي الذي نقول به وهو اعتبار الواقعة نصبًا إذا كان تسليم المخالصة قد سبقه عمل احتيالي، والنظر في هل وقع احتيال أو لم يقع، إنما هو أمر موضوعي، وأما النصب من جهة وصفه القانوني فلا خلاف فيه.
على أن ما نذهب إليه هو رأي محكمة النقض في باريس، وقد نقله جارسون بعد أن وضع رأيه الذي علقنا عليه بما تقدم، حيث يقول:
(432): (ولكن محكمة النقض، رأت من الطرق الاحتيالية أن يحضر المدين مظهرًا أنه مستعد لدفع الدين، فيضع كيس النقود على ترابيزة، ثم يطلب المخالصة، فإذا أخذها ولم يدفع، فقد تمت جنحة النصب… (كاساسيون 4 سبتمبر سنة 1824)).
ويعلق جارسون على هذا الحكم بما يأتي:
(هذا القرار قديم، وواقعته في غاية الدقة، أما الفقه الأحدث فإنه يعتبر المدين الذي يضع النقود تحت تصرف الدائن بعد عدها، ثم بعد ذلك يختلسها بالحيلة أو بالمهارة يعتبر أنه قد ارتكب جنحة السرقة لأنه كان ملكها فعلاً للدائن ثم اختلسها).
ثم يقول بعد ذلك:
(أما في حادثة قرار محكمة النقض فإن المدين لم يكن قد وضع النقود تحت تصرف الدائن، إنما أظهر الكيس فقط..، وبهذا فإنه لم يكن في الإمكان اعتباره مختلسًا لنقود هي في الأصل تحت يده ولا زالت كذلك).
(ومع هذا فإننا نميل إلى اعتبار أنه سرق المخالصة). !!
وجاء فيه أيضًا، فقرة (433).
كذلك رأت محكمة النقض أن جنحة النصب متوافرة الأركان في الواقعة الآتية:
(مضارب في البورصة، طلب أن يستلم السندات التي اشتراها في نظير دفع ثمنها.. ثم استلمها من العامل المختص بذلك، ومعها فاتورة عليها مخالصة، ووضع كل هذا في مكتبه، ثم دفع جزءً من الثمن، وطلب من المستخدم أن يصحبه إلى مكتب أخيه ليدفع الباقي ثم تركه ولم يدفع).
ليس في هذه الواقعة إلا ما نذهب إليه، فقد رأت محكمة النقض كما رأينا أن في حضور المشتري إلى مكتب البائع، مظهرًا أنه مستعد لاستلام الأوراق التي اشتراها مظهرًا يدعو بذاته إلى تصديقه، لأن العملية تستلزم ذلك، وكان هذا التظاهر الكاذب حيلة ترتب عليها تسليم المخالصة فوقع النصب كاملاً.
لكن جارسون يستمر على رأيه فلا يرى أن في هذا المظهر ما يكفي لاعتبار أن الاحتيال قد تمثل، وهذا هو سبب اعتراضه الوحيد، فالمسألة ليست اختلافًا على جوهر المبدأ كما ترى، بل على تقدير الطرق الاحتيالية وكيف تكون، وهذه مسألة واقعية، فالإجماع حينئذٍ قائم على أنه نصب إذا كان من الظروف ما يدعو إلى اعتبار أن الدائن إنما سلم المخالصة معتقدًا أنه سيقبض دينه.
هذا فيما يتعلق بالمدين إذا أخذ مخالصة ولم يدفع الدين، فهل تختلف الحالة العكسية ؟ وهي إذا ما استلم الداين دينه، ثم احتفظ بسنده، ورجع إلى المطالبة مرة أخرى. !!
يقول جارسون، صفحة 1338 ما يأتي:
(433): (وقد تقع نفس الطرق الاحتيالية من الدائن ضد المدين فبعد أن يستلم دينه، يدعي أن المدين لم يدفع ثم يطالب بالدين من جديد، والمبادئ التي قررناها في شأن المدين تنطبق على هذه الحوادث الدقيقة).
نرى أن الواقعة تعتبر سرقة، إذا استولى الدائن على النقود قبل أن توضع تحت تصرفه، أو إذا استرد سند الدين أو المخالصة بعد أن أعطى أحدهما للمدين، ويعتبر نصبًا إذا كان الدائن قد استعمل الحيلة فجعل المدين يسلمه الدين - بدون تسليم سنده - ولكن النصب لا يتكون إذا لم يثبت أنه استعمل لأخذ الدين طريقًا احتياليًا، ولا يكفي لتكوين أركان النصب أن الدائن كذب على المدين فجعله يدفع الدين بدون أخذ إيصال أو بدون استرداد السند.
لهذا فقد حكمت محكمة النقض، أنه إذا كتب سند جديد بدل السند القديم الذي استحق وادعى الدائن أن السند القديم قد فُقد فإن ركن النصب غير متوفر، لأن الدائن لم تصدر منه حيلة لاستلام السند الجديد، أما دعوى فقدان السند القديم فقد صدرت بعد استلام الجديد فهي لم تكن سببًا لاستلامه. (نقض 9 يناير سنة 1885).
وهنا أيضًا يجب أن نلاحظ أن جارسون يحصر بحثه، سواء في الرأي يبديه هو، أو في نقل حكم محكمة النقض، في واقعة استلام السند الجديد، أو قبض الدين، ويريد أن يعطي لهذه الواقعة بالذات حكمها، ثم يريد أن يبسط حكمها وحدها على الوقائع التي تليها، وهو خطأ لأنها تقف عند استلام الدين، أو السند الجديد، الذي حل محل القديم، وهذا هو موضوع حكم محكمة النقض بالتحديد.
أما الواقعة التالية، وموضوعها، أن ذلك الدائن - الذي لا دين له - يدعي بعد أن قبض دينه أنه دائن، ثم يهدد برفع الدعوى ثم يرفعها فعلاً فإنها واقعة مستقلة ذات أركان خاصة بدأت بدعوى كاذبة ثم أسندت إلى وقائع احتيالية، ودليلها قائم موجود لكنه دليل باطل مسموم، وهذه الواقعة التامة الأركان، لا يتعرض لها جارسون ولا يبحث في حكمها، لا هو ولا حكم النقض. !!
بل إننا إذا أخذنا مبدأه أساسًا، ثم أردنا تطبيقه على هذه الحادثة التالية من باب الاستطراد، فإنها تكون نصبًا أيضًا، إذ هو قد أخرج واقعة استلام الدين من دائرة النصب، بناءً على أن دعوى فقدان السند القديم، جاءت بعد استلام الدين، والواقع أنه لا يستطيع أحد أن يفهم أن تأخير الحيلة يجعل تسليم الدين حاصلاً على أنه تبرع نهائي، غير مشترط فيه بحكم الحال والظروف، بل بحكم الواجبات المفروضة، أنه دفع مرتبط في واقعته، وحكمه، بتسليم سند الدين، أو تسليم مخالصة عنه، وما دام أن هذا هو شرط الدفع الذي لا نزاع فيه كان الاحتجاج بأن التحايل بفقدان السند حصل بعد استلام المبلغ لا يغير شيئًا من معاني الواقعة، ولا من ركنها الإجرامي، بل هو يزيد في بيان نية الإجرام، وفي بيان مقدار الحيلة، لأن الدائن سكت احتيالاً حيث يجب السكوت، حتى يهيء له طريق الاختلاس الذي يريده، فإنه إذا أعلن المدين قبل استلامه الدين أنه لا يريد أولاً يستطيع أن يسلم سنده، أو مخالصة عنه، فقد يثير ذلك حذر المدين، وقد يعتذر عن الدفع فمن الغريب في الصورة التي يرويها جارسون أن يكون احتياط الجاني لإتمام جنايته وإحكامه في ارتكابها سببًا لعدم تكوين أركانها وإفلاته من العقوبة. !!
ونظن أنه من أجل هذا قد تجاوزت محكمة النقض عن الأخذ بشرط جارسون، ورأت أن الواقعة نصب تام الأركان، ونجد هذا في جارسون نفسه فقرة (446) حيث يقول:
(ولكن محكمة النقض حكمت بأن النصب واقع إذا قبض محصل الأموال الذي رُفض من وظيفته ما هو مطلوب من أحد الممولين وأعطاه مخالصة).
(747): (وكذلك الدائن الذي يقبض دينه من مدين أمي وانتهز فرصة جهله فسلمه صورة من سند الدين وحفظ الأصل ثم حوله وطلب بقيمته بعد ذلك).
هنا فقط وفي هذا الحكم الأخير تجد الواقعة التي نفترضها، لأن جنحة النصب ليست مشخصة في واقعة قبض الدين في ذاتها بل تشخصها الواقعة التالية وهي المطالبة بالدين الذي أصبح غير مستحق، ثم استعمال سند الدين المحفوظ دليلاً عليه.
لكن جارسون يستمر على فكره الأول، وهو التوحيد دائمًا بين الواقعتين، قبض الدين، ثم المطالبة به مرة أخرى، فنراه يوافق على هذا الحكم، ولكنه يرجع في تعليله القضائي إلى ما أبداه فيما مضى، فيقول إن المدين هنا قد دفع بناءً على حيلة صدرت من الدائن وهي إيهامه بإعطاء مخالصة والواقع أنها ليست كذلك.
ولو تأملنا إلى هذا التعليل لجاز لنا الشك في قبوله إذ أن هذا المدين، كان له من الطرق مهما كان جهله ما يضمن به كشف حقيقة الورقة التي عرضت عليه، وحكايته لا تخرج عن أنه قد صدق الدائن لمجرد قوله أنه يعطي مخالصة، ولا فرق بينه وبين من يعرف القراءة إذا صدق الدائن في اعتذاره مثلاً بأن سند الدين ليس في متناول يده، مؤقتًا.
وليس من الواجبات المفروضة أن يعتقد الناس في بعضهم البعض أنهم لصوص خاطفة، وإذا شئت أن تجعل هذا الاعتقاد واجبًا لوجب على ذلك المدين الجاهل الأمي أن يحضر من يقرأ له الورقة، ولكن الواجبات العامة وأحكام الاجتماع تقضي باعتبار الإنسان بريئًا، فإذا ما ثبت هذا الواجب في نفس أحد المتعاملين فعمل به فلا يحرمه هذا من حماية القانون.
على أنه طبيعي أن يكون من آثار المعاملة بين اثنين أن تزيد في هذا الواجب تأكيدًا فليس للذي صدقه مدينه - في اعتذاره لعدم إمكانه رد السند - أن يتمسك عليه لماذا لم يعتقد أنه لص، وعلى هذا ينجو من العقوبة، لا لسبب آخر غير حُسن الظن به. !!
هذا نقوله - من باب المساجلة مع جارسون في رأيه - فيما يختص بالواقعة الأولى وهي تسليم الدين بدون أخذ مخالصة لكن حكم النقض واقع على الواقعة الثانية المستقلة، وهي دعوى الدائن أنه لم يقبض الدين، واستعمال سنده القديم الذي أصبح باطلاً، وطلب قبضه مرة ثانية، وفي هذه الدعوى كل أركان النصب كاملة، ولم يبدِ جارسون في شأنها شيئًا يعترض حكم النقض.
نخرج من هذا - حينئذٍ - على أن القول الشائع بأن الدائن إذا طلب دينًا قد سبق أن أخذه لا يدخل عمله في دائرة قانون العقوبات، إنما هو قول يخالف القانون، ويخالف الآداب العامة، ويخالف الأحكام، وإجماع المذاهب.
إلى هنا بحثنا الموضوع من ناحيته العامة، على اعتبار أن صاحب الوديعة دائن، وأن المودع لديه مدين، ونريد الآن أن نبحث في الوديعة بذاتها، وإذا جئنا إلى هذا البحث وجدنا الموضوع لا خلاف فيه ولا نزاع.
لم نجد في المطولات بابًا معقودًا للوديعة على وجه العموم، لكنا وجدنا بابًا عنوانه النصب في أمانات مصلحة السكة الحديد، وما تقرر في شأنها ينطبق على الودائع عامة - لأنه لا يوجد تشريع خاص لمصالح أو شركات السكة الحديد، بل الأحكام فيها راجعة إلى قواعد القانون العامة.
وردت في جارسون صفحة 1357:
(615 - أن طرق الاحتيال التي تحصل ضد شركات السكك الحديدية - كثيرة - وأن أهمها يكون جنحة النصب، لأن جميع أركانها متوفرة فيها).
ثم قال بعد ذلك في صفحة 1358، وهذا هو موضوع الوديعة.
(633 - كذلك نقل البضائع - قد يكون ظرفًا لاستعمال حيل تتكون منها جنحة النصب).
وقد تقرر أن المادة (405) تنطبق على من استلم كل أو بعض البضائع، ثم حفظ السند، وطالب بالبضائع من جديد.
اقرأ هنا ماذا يقول جارسون بعد الذي نقلناه فيما مضى، تراه قد رجع صراحةً عن رأيه وانضم إلى رأي أحكام النقض فيما تقدم، وصدق على وجهة النظر التي نبديها !! وكأنه هنا قد فطن إلى العملية الثانية، التي تقول إنها منفصلة تمام الانفصال، وهي واقعة المطالبة الجديدة، بصرف النظر عن واقعة استلام الوديعة.
يقول جارسون هنا ما يأتي:
هذه الواقعة لا يمكن اعتبارها سرقة - لأن المسافر الذي استلم بضاعته قد استلم شيئًا هو ملكه، لكن جميع أركان النصب متوافرة لأن هذا المسافر يكذب، في تأكيده أنه لم يستلم البضاعة، وهو يؤيد هذا الكذب بطرق احتيالية، هي طلبه رد البضاعة، وتمسكه بقسيمة، يستدل بها على حق وهمي لا أثر له.
- كاساسيون - 3 ديسمبر سنة 1885 - سرى سنة 1887 - 1 - 238.
- كاساسيون - 9 يونيو سنة 1888 - سرى سنة 1888 - 1 - 448.
- كاساسيون - 16 يناير سنة 1892 - سرى سنة 1892 - 1 - 216.
- ليموج - 12 نوفمبر سنة 1898.
- كورنيل - 18 مايو سنة 1900.
كذلك نجد هذا الإجماع، في كل مطول من المطولات، وفي المجموعات، والمؤلفات بدون شذوذ، وفي داللوز وفي سيرى، وفي جارو، وهكذا، فوضح أن قولنا الذي صدرنا به هذا البحث أن هذه قضية يخيل لنا أنها بديهية لا تحتاج بحثًا، إنما هو الصواب بذاته وقد أدى بنا الاستقراء إلى أن إجماع العلم وفقه المحاكم قائم على أن النصب لا خلاف في توافر أركانه. وإذا تأملت إلى هذا الإجماع في حالة ودائع مصلحة السكة الحديد، وليس بين المصلحة وبين مالك البضاعة، علاقة شخصية !!، فلا ثقة تصلح عذرًا للتساهل في استرداد سنة الوديعة !!، ولا معاملة مستديمة تخجل الموظف من طلب السند !! ولا صداقة مانعة من رفض تسليم البضاعة بدون استرداد القسيمة.
فما بالك بالواقعة إذا حصلت بين صديقين، أو زميلين في صنعة أو في تجارة، قد تعاملا كثيرًا في أموال جسيمة سنوات متواليات، سواء بإيصالات أو بغير إيصالات، مما يبعث على الثقة ؟!.
بل ما قولك إذا كانت المعاملة في نوعها، إنما كان جوهرها وموضوعها الثقة بين الفريقين كأن تكون نفس الوديعة حاصلة لمصلحتهما معًا كبيع البضاعة واقتسام الربح، إلى غير هذا من الظروف التي توحد بين الناس، وتجمع بين المتعاملين بجامعة المصلحة والتعاون، فتجعل تصديق كل اعتذار لعدم رد السند واجبًا أدبيًا للخروج عن حكمه ؟!! اللهم إلا في أخلاق اللئام والأشرار !
وإنك لتعجب وهذا هو الإجماع إذا علمت أننا لما عرضنا الواقعة على أنها نصب، كان الاعتراض علينا من كل ناحية، ومن كل مشتغل بالقضاء كأننا نبدي كفرًا بالقانون، بل شذوذًا عن مرامي العقل الإنساني، فمن قائل، ولماذا سلم المودع لديه الأمانة بغير إيصال ؟ ومن قائل، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته من الوديعة بشهادة الشهود رغمًا عن وجود السند المكتوب ؟!!!
أما لماذا سلم الأمانة فهذا لا يدخل في المناقشة بوجه من الوجوه، لأن واقعة النصب ليست هي تسليم الأمانة بغير إيصال، وقد قلنا كثيرًا ونعيد أن مالك الوديعة إنما قد استلم منقولاً هو يملكه فليس في هذا الاستلام نصب، ولكن النصب يبتدئ من المطالبة بالوديعة مرة ثانية، وبدعوى أنه لم يستلم كذبًا، ثم الاستلال على هذا الكذب بالإيصال الذي بقي بيده ولكنه أصبح باطلاً، وأصبح وديعة على ذمة المودع لديه الذي برئت ذمته، ثم في تهديده للمودع لديه باتهامه بالتبديد ظلمًا، إنما لم يعطه شيئًا من المال !!!
هذا هو النصب بالإجماع وهذا هو الذي لا يستطيع أحد أن يعارضه من طريق نقل البحث فيه إلى الواقعة السابقة عليه، وهي لماذا وكيف سلم المودع لديه الأمانة بلا إيصال ؟!!
على أني لا أفهم معنى لهذا الاعتراض غير أنه جمود أمام الواقع، وعصيان لتقدير هذا الواقع وتعرف حكمه، فإنه لولا هذا التسليم بدون إيصال لما وجدت الواقعة أصلاً !!! ولما كان هناك سبيل لارتكاب الجنحة !!! ولعرض البحث مطلقًا، فكأنما الذي يضع هذا الاعتراض، يعلل الشيء بذاته، أو يقول إن الواقعة لا يعقل حصولها، أو هي لم تحصل، فهي لا تعتبر أيضًا من جهة القانون، والمفهوم بداهةً أن البحث في تكييف الواقعة من جهة القانون إنما لا يأتي إلا مع التسليم بأن الواقعة قد حصلت في ذاتها والمقصود إفراغها في قالبها القانوني، وتحديد المادة التي تنطبق عليها.
بل ويتقدم الاعتراض خطوة فيأخذ شكلاً يفهم صاحبه أنه القانون بذاته، فيقول، وكيف يثبت المودع لديه براءة ذمته بشهادة الشهود والأمانة ثابتة بسند مكتوب !!!
الاعتراض هو بذاته نفس الاعتراض الذي تقدم لكنه يأخذ شكلاً جديدًا، تتوهم فيه النفس العاصية عن البحث، أنها تتمسك بمبدأ قانوني، والواقع أن القانون ليس فيه شيء من هذا إذ هو يقضي بأن وقائع النصب تثبت بشهادة الشهود، مهما كان موضوع النزاع، وهذا هو الإجماع.
فالذي يعترض بقواعد الإثبات، إنما يخطئ الخطأ كله، إذ لا توجد قاعدة تقضي بأن للنصاب أن يتمسك بقواعد الإثبات المدنية، ليحمي به جريمته، وإذا شئت ما دمنا في عصيان مستمر أن تقدم رأي العلم لا رأينا، فخذ أي كتاب نجد هذه القاعدة مقررة، ونراها مثلاً في جارو جزء (5) - صفحة 277 فقرة (276)، وفي أي كتاب آخر غيره، ونراها في البندكت جزء 30 صفحة 307 إذ ورد فيها، ويثبت النصب دائمًا بشهادة الشهود مهما كانت أهمية الحق المتنازع عليه وكذلك البينة ضد العقود المكتوبة وضد العقود الرسمية.
على أني لست أدري كيف خفي على النفس المعترضة نتيجة هذا الاعتراض الخطر، فإنه لا يوجد من يستطيع أن ينكر أن مثل هذه الواقعة قد تحصل، والاعتراض موضوعه أنها إذا حصلت فقد أصبح الذي أدى الأمانة لصاحبها، في حكم من لم يردها، مقيدًا بالأغلال ملزمًا بالرد، وهذا محال عليه لأنه قد ردها فعلاً، وملزمًا بالتعويض، ولا تعويض عليه لأنه غير مدين في الواقع، ومعرضًا للعقوبة باعتباره مبددًا وهو بريء، ثم هو في هذا الموقف المظلم ممنوع حتى عن الدفاع عن نفسه، بإثبات براءة ذمته ليتقي توقيع عقاب لا يستحقه !!!، والواقع أن كل جنايته إنما انحصرت واقعيًا في أنه قصر في حق نفسه، أو صدق عميلاً وصديقًا لم يكن خصمًا في وقت أن صدقه، لا في أنه بدد أمانة أعطيت له فعلاً، لأنك إنما تضع هذا الفعل من باب الاستنتاج النظري بناءً على قواعد الإثبات التي تتوهمها.
أن القانون لا يحمي في أي حكم من أحكامه ولا في أية قاعدة من قواعده بما في ذلك قواعد الإثبات غير المعاملات البريئة.
أما من أجرم فإنه خارج على القانون عابث به، فلا يحميه، ولهذا تقرر أن جميع أعمال العدوان وجميع التهم، تثبت بشهادة الشهود، بل جميع أعمال الغش والاحتيال حتى في دائرة النزاع المدني تثبت بالشهود أيضًا !! وبقرائن الأحوال، فتبطل العقود بالشهود، وتثبت براءة الذمة بالشهود، ولولا هذه القاعدة الأصلية لما كان ذلك الإجماع الذي نقلناه على اعتبار الواقعة نصبًا.
والقول الصريح إن هذا الجدل بذاته، بما فيه من الإعراض عن الواقع، والعصيان عن تحري الحقيقة وترتيب المسؤوليات الحقة عليها، إنما هو مساعدة للنصاب في أن يتم عمله، وفي أن ينجو من المسؤولية، بناءً على وهم يراد إسناده إلى القانون وهو في موضوعه تأثيم بريء، بتهمة أنه بدد الأمانة نظريًا، لا واقعيًا.
وأنها لمسؤولية كبرى أن يريد المسيطرون على العدالة أن يصموا الآذان عن معرفة الواقع !!! وأن، فإنك إذا قضيت على من صدق فسلم الوديعة على وعد أن يستلم السند غدًا، فإنما تقضي عليه لأنك ترى محالاً أن يحصل مثل هذا التصديق، فأنت حينئذٍ تقول إن القانون وضع لحماية الكذابين والمكذبين، لا لحماية الرجل الطيب المصدق، وإذا كان ذلك ما تريده القوانين بين الناس فاللهم رفقًا بهذه النجمة السوداء ومن عليها، وأنه لعبث أن يقال إن القوانين وضعت لحماية الصالحين !!
انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة
مجلة المحاماة
انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
نشرنا بالعددين الأول والثاني من السنة الثالثة والثلاثين من المجلة بحثًا في انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة، انتقدنا فيه النص العجيب الذي استحدثته الفقرة الأخيرة من المادة (17) من قانون الإجراءات الجنائية قاضيًا بأنه لا يجوز في جميع الأحوال أن تطول المدة بسبب الانقطاع لأكر من نصفها وما يترتب على تطبيق هذا النص من سقوط الدعوى العمومية في جميع الجرائم بمجرد انقضاء تلك المدة بالرغم من قيام إجراءات التحقيق والاتهام والمحاكمة، بل بالرغم من صدور حكم ابتدائي واستئنافي بالإدانة، إذا كانت المدة قد انقضت قبل نظر الطعن المرفوع عن الحكم بطريق النقض !!!
وقد طالبنا في إلحاح بحذف هذه الفقرة التي لم يكن لها مبرر مطلقًا، والتي يؤدي تطبيقها إلى نتائج غير مقبولة ولا معقولة، والتي لا مصلحة لأحد فيها إلا المتهمين الذين يجدون فيها ثغرة للإفلات من العقاب…
ويسرنا أن نسجل مع الشكر لوزارة العدل استجابتها لهذا النداء عاجلاً إذ استصدرت بتاريخ 20 ديسمبر سنة 1952 مرسومًا بقانون بحذف تلك الفقرة البغيضة، بحيث أصبحت مدة سقوط الدعوى العمومية تقطع بإجراءات الاتهام والتحقيق والمحاكمة - دون حد أقصى لمدة الانقطاع - وبهذا تستقيم الأوضاع فيرتدع المجرمون ويزدجر غيرهم وتصان المصلحة العامة.
انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
نشرنا بالعددين الأول والثاني من السنة الثالثة والثلاثين من المجلة بحثًا في انقضاء الدعوى العمومية بمضي المدة، انتقدنا فيه النص العجيب الذي استحدثته الفقرة الأخيرة من المادة (17) من قانون الإجراءات الجنائية قاضيًا بأنه لا يجوز في جميع الأحوال أن تطول المدة بسبب الانقطاع لأكر من نصفها وما يترتب على تطبيق هذا النص من سقوط الدعوى العمومية في جميع الجرائم بمجرد انقضاء تلك المدة بالرغم من قيام إجراءات التحقيق والاتهام والمحاكمة، بل بالرغم من صدور حكم ابتدائي واستئنافي بالإدانة، إذا كانت المدة قد انقضت قبل نظر الطعن المرفوع عن الحكم بطريق النقض !!!
وقد طالبنا في إلحاح بحذف هذه الفقرة التي لم يكن لها مبرر مطلقًا، والتي يؤدي تطبيقها إلى نتائج غير مقبولة ولا معقولة، والتي لا مصلحة لأحد فيها إلا المتهمين الذين يجدون فيها ثغرة للإفلات من العقاب…
ويسرنا أن نسجل مع الشكر لوزارة العدل استجابتها لهذا النداء عاجلاً إذ استصدرت بتاريخ 20 ديسمبر سنة 1952 مرسومًا بقانون بحذف تلك الفقرة البغيضة، بحيث أصبحت مدة سقوط الدعوى العمومية تقطع بإجراءات الاتهام والتحقيق والمحاكمة - دون حد أقصى لمدة الانقطاع - وبهذا تستقيم الأوضاع فيرتدع المجرمون ويزدجر غيرهم وتصان المصلحة العامة.
اختصاص المحكمة الجنائية بالحكم في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة
مجلة المحماة – العدد السادس
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث اختصاص المحكمة الجنائية
بالحكم في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة
لحضرة الأستاذ إبراهيم محمد صبيحة
الذي لفت نظري إلى هذا البحث هو مقال للدكتور محمود محمود مصطفى في مجلة القانون والاقتصاد السنة 21 تحت عنوان اتجاهات جديدة في قانون الإجراءات الجنائية صحيفة (214) (رابعًا) حيث يقول (كان قانون تحقيق الجنايات يجيز للمحكمة الجنائية أن تقضي في الدعوى المدنية رغم قضائها بالبراءة في الدعوى الجنائية لعدم المعاقبة على الواقعة (المادتان (147) و (172)), ولم يرد في القانون الجديد مقابل لهذين النصين إذ رأى الشارع أنه إذا انهار الأساس الذي من أجله سمح بالخروج عن قواعد توزيع الاختصاص فإنه لا يبقى محل لتكليف المحكمة الجنائية بالفصل في الدعوى المدنية على أساس مدني بحت فيتعين عليها عندئذ أن تقضي بعدم ولايتها بنظرها).
فالموضوع هو هل تحكم المحكمة الجنائية في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة؟ وهذا التساؤل خاص بالمخالفات والجنح والجنايات.
وقبل البحث نذكر باختصار الحالات العملية له:
1 - حالة انعدام أحد الأركان القانونية للمسؤولية الجنائية (كانعدام القصد في الجرائم العمدية أو التمييز والإدراك لجنون أو عاهة أو لأن السن أقل من سبع سنوات).
2 - حالة الإكراه والضرورة.
3 - حالة انعدام الخطأ في المسؤولية الجنائية وقيام المسؤولية المدنية على أساس المادة (178) مدني جديد مسؤولية المتبوع بالنسبة للتابع.
ففي هذه الحالات جميعًا تبرئ المحكمة المتهم ولكن ما مصير الدعوى المدنية الملحقة بالدعوى الجنائية.
إن تكليف المحكمة الجنائية بالحكم في الدعوى المدنية له أهمية عملية هو استكمال بحث الموضوع أمامها بدلاً من طرحه ثانيةً أمام المحكمة المدنية اقتصادًا للوقت والمصاريف وعدم تكرار الإجراءات.
وإذا أخذنا بالرأي العكسي الذي يقول به الدكتور محمود محمود مصطفى تقابلنا صعوبة تحديد الصيغة القانونية للحكم أي ما هو سبب تخلي القاضي عن نظر الدعوى المدنية هل هو عدم قبول الدعوى وقد كانت فعلاً مقبولة أم هو رفض وليس هناك ما يسوغه لأن الرفض خاص بالموضوع أم هو عدم اختصاص وأسبابه معروفة وليس فيما ذكره الأستاذ ما يبرره أم هو سقوط وواضح أنه ليس كذلك، ولسنا نعرف ما الذي يقصده الأستاذ بقضاء المحكمة بعدم ولايتها ولم يوضح الصياغة التي تصوغ فيها المحكمة قضاءها بعدم الولاية.
الصحيح أن لا سبب في القانون يسند رأي الأستاذ وأنها مختصة وملزمة بالفصل في الدعوى المدنية حتى بعد الحكم بالبراءة وذلك لما يأتي:
فأولاً: في القانون القديم:
النصوص صريحة في المخالفات والجنح والجنايات في أن المحاكم الجنائية عليها أن تفصل في الدعوى المدنية رغم الحكم بالبراءة.
فالمادة (147): إذا رئُى أن الواقعة غير ثابتة …. يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له مع ذلك أن يحكم في التعويضات.
والمادة (172): إذا كانت الواقعة غير ثابتة … يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات.
المادة (50): تشكيل محاكم الجنايات: إذا رأت المحكمة أن التهمة ثبتت على المتهم … تقرر إدانته وفي عكس ذلك تحكم ببراءته …
وعلى كل حال يجب أن يفصل في نفس هذا الحكم في التضمينات …
والفقه بداهة مجمع على ذلك.
ثانيًا: في القانون الجديد:
1- روح القانون هي التبسيط والتسهيل في الإجراءات كما قال بحق الأستاذ وكما ضرب لذلك روح الأمثال (الإحالة غرفة الاتهام - التجنيح) وليس في الرأي الذي انتهى إليه ما يتفق مع تلك الروح بل أنه يناقضها، لأنه إذا تخلت المحكمة عن نظر الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة فمعنى ذلك أن المدعي المدني سوف يضطر إلى إعادة رفع دعواه أمام المحكمة المدنية بمصاريف جديدة، ومعناه أنه سيضيع عليه الوقت الذي مر والجهد الذي بذل، كما سيضيع الوقت والجهد اللذان بذلتهما المحكمة الجنائية التي بحثت الموضوع تفصيلاً حتى فصلت فيه، وظاهر أن مثل هذا الحل يتعذر أن يرمي إليه مشرع أعطى حق التجنيح للقاضي الجزئي !!
2 - والمفروض عند تعديل التشريع أن تكون ثم أسباب تبرر العدول عن حكم النص القديم ولم يبين الأستاذ ما الذي يدعو إلى العدول عن الحكم القديم.
3 - وليس في الأعمال التحضيرية كلها ما يدل على أن الشارع أراد المعنى الذي ذهب إليه الأستاذ.
4 - بل إن عكس رأيه هو الصحيح، فالعرابي باشا (هو أحد واضعي القانون) يقول في كتابه الإجراءات الجنائية الجديد الجزء الأول صحيفة (202) فقرة (394) (إن القانون قد نص بالمادة (309) إجراءات على أن كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم، والمحكمة تحكم في موضوع الدعوى الجنائية إما بالإدانة أو بالبراءة وفي الحالتين تحكم في التعويضات بمنحها أو رفضها).
5 - أخيرًا لقد اجتهد الأستاذ في مسألة النص فيها صريح، وواضح ألا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
( أ ) فالمادة (309) صريحة فهي تقول (كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم) والحكم بالبراءة حكم في الموضوع وتطبيق هذا النص لا يحتاج لاجتهاد فهو ينتهي حتمًا إلى وجوب الفصل في الدعوى المدنية وذلك بصريح النص.
قد يتساءل عن سبب عدم إيراد النصوص مشابهة للنصوص القديمة؟
وظاهر أن السبب هو أن الشارع الجديد أراد التبسيط، فبدلاً من أن يورد نفس العبارة في باب المخالفات ثم في الجنح ثم في الجنايات أتى بحكم واحد لها جميعًا في مادة واحدة هي المادة (309) وبذلك كان الشارع الجديد في هذا الصدد أحكم صياغة وأقصد عبارة من الشارع القديم.
وظاهر أن الإيجاز الذي اصطنعه لم يقلل من صراحة الحكم الذي أخذ به.
(ب) وثم نص آخر لا يقل صراحةً عن نص المادة (309) وهو نص (259) فقرة ثانية إجراءات (إذا سقطت الدعوى الجنائية بعد رفعها لسبب من الأسباب الخاصة بها فلا تأثير لذلك في سير الدعوى المدنية المرفوعة معها).
وهذه المادة تتناول حالة سقوط الدعوى العمومية وقد رأى المشرع تناول هذه الحالة بنص صريح لأنها حالة لا يمكن القول معها بأنه قد صدر حكم في الموضوع، وإنما هي حالة خاصة تقوم فيها الدعوى المدنية وحدها بعد استحالة نظر الدعوى العمومية لسقوطها بمضي المدة أو بالوفاة أو بالصلح (الذي كانت تجهله النيابة مثلاً).
وهذا النص وحده كان يمكن الاستناد عليه في القول بأن القضاء في الدعوى المدنية واجب حتى بعد الحكم بالبراءة لأنه ما دام المسلم أن المشرع الجديد يستهدف التبسيط والقصد في الإجراءات وما دام قد نص صراحةً على وجوب الفصل في الدعوى المدنية بعد سقوط الدعوى العمومية, فالأخذ بنفس الحكم واجب من باب أولى في حالة الحكم الموضوعي لأن الحكم بالسقوط لا يحتاج غالبًا إلى بحث ظروف الدعوى تفصيلاً، أما الحكم في الموضوع فلا يتصور إلا بعد استكمال هذا البحث.
يخلص من هذا أن الرأي الصحيح في الموضوع هو أن المحكمة الجنائية ملزمة بالفصل في الدعوى المدنية التي ترفع إليها صحيحة في حالتي الحكم بالبراءة والسقوط وذلك بصريح النصوص: المادة (309) و (259) التي لا يحتاج الأمر معها إلى بحث أو اجتهاد.
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث اختصاص المحكمة الجنائية
بالحكم في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة
لحضرة الأستاذ إبراهيم محمد صبيحة
الذي لفت نظري إلى هذا البحث هو مقال للدكتور محمود محمود مصطفى في مجلة القانون والاقتصاد السنة 21 تحت عنوان اتجاهات جديدة في قانون الإجراءات الجنائية صحيفة (214) (رابعًا) حيث يقول (كان قانون تحقيق الجنايات يجيز للمحكمة الجنائية أن تقضي في الدعوى المدنية رغم قضائها بالبراءة في الدعوى الجنائية لعدم المعاقبة على الواقعة (المادتان (147) و (172)), ولم يرد في القانون الجديد مقابل لهذين النصين إذ رأى الشارع أنه إذا انهار الأساس الذي من أجله سمح بالخروج عن قواعد توزيع الاختصاص فإنه لا يبقى محل لتكليف المحكمة الجنائية بالفصل في الدعوى المدنية على أساس مدني بحت فيتعين عليها عندئذ أن تقضي بعدم ولايتها بنظرها).
فالموضوع هو هل تحكم المحكمة الجنائية في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة؟ وهذا التساؤل خاص بالمخالفات والجنح والجنايات.
وقبل البحث نذكر باختصار الحالات العملية له:
1 - حالة انعدام أحد الأركان القانونية للمسؤولية الجنائية (كانعدام القصد في الجرائم العمدية أو التمييز والإدراك لجنون أو عاهة أو لأن السن أقل من سبع سنوات).
2 - حالة الإكراه والضرورة.
3 - حالة انعدام الخطأ في المسؤولية الجنائية وقيام المسؤولية المدنية على أساس المادة (178) مدني جديد مسؤولية المتبوع بالنسبة للتابع.
ففي هذه الحالات جميعًا تبرئ المحكمة المتهم ولكن ما مصير الدعوى المدنية الملحقة بالدعوى الجنائية.
إن تكليف المحكمة الجنائية بالحكم في الدعوى المدنية له أهمية عملية هو استكمال بحث الموضوع أمامها بدلاً من طرحه ثانيةً أمام المحكمة المدنية اقتصادًا للوقت والمصاريف وعدم تكرار الإجراءات.
وإذا أخذنا بالرأي العكسي الذي يقول به الدكتور محمود محمود مصطفى تقابلنا صعوبة تحديد الصيغة القانونية للحكم أي ما هو سبب تخلي القاضي عن نظر الدعوى المدنية هل هو عدم قبول الدعوى وقد كانت فعلاً مقبولة أم هو رفض وليس هناك ما يسوغه لأن الرفض خاص بالموضوع أم هو عدم اختصاص وأسبابه معروفة وليس فيما ذكره الأستاذ ما يبرره أم هو سقوط وواضح أنه ليس كذلك، ولسنا نعرف ما الذي يقصده الأستاذ بقضاء المحكمة بعدم ولايتها ولم يوضح الصياغة التي تصوغ فيها المحكمة قضاءها بعدم الولاية.
الصحيح أن لا سبب في القانون يسند رأي الأستاذ وأنها مختصة وملزمة بالفصل في الدعوى المدنية حتى بعد الحكم بالبراءة وذلك لما يأتي:
فأولاً: في القانون القديم:
النصوص صريحة في المخالفات والجنح والجنايات في أن المحاكم الجنائية عليها أن تفصل في الدعوى المدنية رغم الحكم بالبراءة.
فالمادة (147): إذا رئُى أن الواقعة غير ثابتة …. يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له مع ذلك أن يحكم في التعويضات.
والمادة (172): إذا كانت الواقعة غير ثابتة … يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات.
المادة (50): تشكيل محاكم الجنايات: إذا رأت المحكمة أن التهمة ثبتت على المتهم … تقرر إدانته وفي عكس ذلك تحكم ببراءته …
وعلى كل حال يجب أن يفصل في نفس هذا الحكم في التضمينات …
والفقه بداهة مجمع على ذلك.
ثانيًا: في القانون الجديد:
1- روح القانون هي التبسيط والتسهيل في الإجراءات كما قال بحق الأستاذ وكما ضرب لذلك روح الأمثال (الإحالة غرفة الاتهام - التجنيح) وليس في الرأي الذي انتهى إليه ما يتفق مع تلك الروح بل أنه يناقضها، لأنه إذا تخلت المحكمة عن نظر الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة فمعنى ذلك أن المدعي المدني سوف يضطر إلى إعادة رفع دعواه أمام المحكمة المدنية بمصاريف جديدة، ومعناه أنه سيضيع عليه الوقت الذي مر والجهد الذي بذل، كما سيضيع الوقت والجهد اللذان بذلتهما المحكمة الجنائية التي بحثت الموضوع تفصيلاً حتى فصلت فيه، وظاهر أن مثل هذا الحل يتعذر أن يرمي إليه مشرع أعطى حق التجنيح للقاضي الجزئي !!
2 - والمفروض عند تعديل التشريع أن تكون ثم أسباب تبرر العدول عن حكم النص القديم ولم يبين الأستاذ ما الذي يدعو إلى العدول عن الحكم القديم.
3 - وليس في الأعمال التحضيرية كلها ما يدل على أن الشارع أراد المعنى الذي ذهب إليه الأستاذ.
4 - بل إن عكس رأيه هو الصحيح، فالعرابي باشا (هو أحد واضعي القانون) يقول في كتابه الإجراءات الجنائية الجديد الجزء الأول صحيفة (202) فقرة (394) (إن القانون قد نص بالمادة (309) إجراءات على أن كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم، والمحكمة تحكم في موضوع الدعوى الجنائية إما بالإدانة أو بالبراءة وفي الحالتين تحكم في التعويضات بمنحها أو رفضها).
5 - أخيرًا لقد اجتهد الأستاذ في مسألة النص فيها صريح، وواضح ألا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
( أ ) فالمادة (309) صريحة فهي تقول (كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم) والحكم بالبراءة حكم في الموضوع وتطبيق هذا النص لا يحتاج لاجتهاد فهو ينتهي حتمًا إلى وجوب الفصل في الدعوى المدنية وذلك بصريح النص.
قد يتساءل عن سبب عدم إيراد النصوص مشابهة للنصوص القديمة؟
وظاهر أن السبب هو أن الشارع الجديد أراد التبسيط، فبدلاً من أن يورد نفس العبارة في باب المخالفات ثم في الجنح ثم في الجنايات أتى بحكم واحد لها جميعًا في مادة واحدة هي المادة (309) وبذلك كان الشارع الجديد في هذا الصدد أحكم صياغة وأقصد عبارة من الشارع القديم.
وظاهر أن الإيجاز الذي اصطنعه لم يقلل من صراحة الحكم الذي أخذ به.
(ب) وثم نص آخر لا يقل صراحةً عن نص المادة (309) وهو نص (259) فقرة ثانية إجراءات (إذا سقطت الدعوى الجنائية بعد رفعها لسبب من الأسباب الخاصة بها فلا تأثير لذلك في سير الدعوى المدنية المرفوعة معها).
وهذه المادة تتناول حالة سقوط الدعوى العمومية وقد رأى المشرع تناول هذه الحالة بنص صريح لأنها حالة لا يمكن القول معها بأنه قد صدر حكم في الموضوع، وإنما هي حالة خاصة تقوم فيها الدعوى المدنية وحدها بعد استحالة نظر الدعوى العمومية لسقوطها بمضي المدة أو بالوفاة أو بالصلح (الذي كانت تجهله النيابة مثلاً).
وهذا النص وحده كان يمكن الاستناد عليه في القول بأن القضاء في الدعوى المدنية واجب حتى بعد الحكم بالبراءة لأنه ما دام المسلم أن المشرع الجديد يستهدف التبسيط والقصد في الإجراءات وما دام قد نص صراحةً على وجوب الفصل في الدعوى المدنية بعد سقوط الدعوى العمومية, فالأخذ بنفس الحكم واجب من باب أولى في حالة الحكم الموضوعي لأن الحكم بالسقوط لا يحتاج غالبًا إلى بحث ظروف الدعوى تفصيلاً، أما الحكم في الموضوع فلا يتصور إلا بعد استكمال هذا البحث.
يخلص من هذا أن الرأي الصحيح في الموضوع هو أن المحكمة الجنائية ملزمة بالفصل في الدعوى المدنية التي ترفع إليها صحيحة في حالتي الحكم بالبراءة والسقوط وذلك بصريح النصوص: المادة (309) و (259) التي لا يحتاج الأمر معها إلى بحث أو اجتهاد.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)