مجلة المحاماة - العدد الثالث
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
أمر الحفظ الملزم من النيابة العامة
لحضرة الأستاذ صلاح الدين عبد الوهاب وكيل نيابة الدرب الأحمر
كانت النيابة في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى تتولى سلطتي الاتهام والتحقيق في وقت واحد إذ كانت المادة الثانية منه تنص على أنه لا تقام الدعوى العمومية بطلب العقوبة إلا من النيابة العمومية عن الحضرة الخديوية وكانت المادة (29) منه تنص على أنه (إذا رأت النيابة العمومية من بلاغ مقدم لها أو محضر محرر بمعرفة أحد رجال الضبط أو من أي إخبار وصل إليها وقوع جريمة فعليها أن تشرع في إجراءات التحقيق التي ترى لزومها لظهور الحقيقة سواء بنفسها أم بواسطة مأموري الضبطية القضائية بناءً على أوامر تصدرها إليهم بذلك).
ثم بينت المواد التالية للمادة التاسعة والعشرين حقوق النيابة العامة التي يقتضيها تخويلها سلطة التحقيق من حق إصدار أوامر الحبس وحق ضبط الخطابات والرسائل والمطبوعات بمصلحة البريد والرسائل البرقية بمصلحة التلغرافات بعد أخذ إذن كتابي من القاضي الجزئي وحق تفتيش منازل المتهمين وحق ضبط وإحضار المتهم الذي توجد دلائل قوية على اتهامه وحق استجواب المتهم إلخ.
ثم صدر قانون الإجراءات الجنائية مؤسسًا على مبدأ الفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق - وخول النيابة سلطة الاتهام فقط (المادة الأولى من قانون الإجراءات) وناط سلطة التحقيق بقضاة يعينون خصيصًا لذلك وجاء في مذكرة القانون الإيضاحية أن (أهم ما استحدث في الكتاب الأول العمل بنظام قاضي التحقيق ولم يكن ذلك فقط لضرورة فنية وهي عدم الجمع بين سلطتي الاتهام والتحقيق بيد النيابة العمومية بل لضرورة عملية وهي وضع أعمال التحقيق جميعها بيد قاضٍ واحد بينما هي الآن مقسمة بين النيابة والقاضي الجزئي… … ولذلك رُئي أن تناط جميع أعمال التحقيق في الجنايات والجنح بقاضي التحقيق بصفة أصلية وأن تلزم النيابة بإحالة كل جناية أو جنحة ترى السير فيها إلى قاضي التحقيق ليتولى تحقيقها - غير أنه رُئي مع ذلك أن تخول النيابة تحقيق بعض الجنح).
ثم صدر بعد ذلك المرسوم بقانون رقم (353) سنة 1952 معدلاً بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية بما يترتب عليه إعادة سلطة التحقيق للنيابة العامة في الجنايات والجنح على السواء ما عدا بعض القضايا المعينة (مادة 64 فقرة 3) وما يستدعي ذلك من حقها في حفظ القضايا التي تتولى تحقيقها إذا رأت أنه لا وجه لإقامة الدعوى العمومية (المادة 199 معدلة، المادة 209 معدلة) فالنيابة إذن باعتبارها ذات صفتين إحداهما صفة قضائية بحته وهي سلطة التحقيق والثانية صفة إدارية بحتة بوصفها سلطة الاتهام لها حق مباشرة الدعوى الجنائية قد تنتهي في مهمتها الأخيرة إلى حفظ بعض القضايا لسبب من الأسباب المختلفة كالحفظ لعدم الجناية أو لعدم الأهمية أو لعدم الصحة إلخ… …
التفريق بين أمر الحفظ الصادر بعد التحقيق وبين أمر الحفظ الصادر قبل التحقيق:
قد ترى النيابة في مواد المخالفات والجنح أن الدعوى صالحة لرفعها بناءً على الاستدلالات التي جمعت فتكلف المتهم بالحضور مباشرةً أمام المحكمة المختصة (مادة 63 معدلة بالمرسوم 353 سنة 1952) وقد ترى بعد جمع الاستدلالات أن لا محل للسير في الدعوى فتأمر بحفظ الأوراق (مادة 61 إجراءات)، فما هي حجية هذا الأمر ؟
عبر قانون الإجراءات الجنائية بعبارة (تأمر بحفظ الأوراق) عن أمر الحفظ الذي يصدر من النيابة بناءً على محضر جمع الاستدلالات الذي يحرره مأمور الضبط القضائية (المادة 21 إجراءات) وذلك للتفرقة بين هذا الأمر وبين الأمر الذي تصدره النيابة باعتبارها سلطة تحقيق بعد إجراء التحقيق وهو الذي عبر عنه القانون بالأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى (مادة 209).
الوضع قبل قانون الإجراءات الجنائية:
كانت المادة (42) من قانون تحقيق الجنايات تنص على:
( أ ) إذا رُئي للنيابة العمومية بعد التحقيق أنه لا وجه لإقامة الدعوى تأمر بحفظ الأوراق ويكون صدور هذا الأمر في مواد الجنايات من رئيس النيابة العمومية أو ممن يقوم مقامه.
(ب) الأمر الذي يصدر بحفظ الأوراق يمنع من العودة إلى إقامة الدعوى العمومية إلا إذا ألغى النائب العمومي هذا الأمر في مدة الثلاثة شهور التالية لصدوره أو إذا ظهرت قبل انقضاء المواعيد المقررة لسقوط الحق في إقامة الدعوى أدلة جديدة على حسب ما هو مقرر في الفقرة الثانية في المادة (127)، هذه المادة إنما تنظم حدود أمر الحفظ الذي يصدر من النيابة العامة بوصفها سلطة تحقيق إذ أنه يعلق الأحكام التي أتى بها على حصول التحقيق - فإذا رأت النيابة بعد تمام التحقيق أن لا محل للسير في الدعوى تحفظ الأوراق - وهذا الأمر يمنعها من العودة إلى إقامة الدعوى إلا إذا أُلغي من النائب العام في خلال مدة معينة أو إذا ظهرت أدلة جديدة قبل انقضاء المواعيد المقررة لسقوط الدعوى.
وقد درجت المحاكم في ظل قانون تحقيق الجنايات على التفرقة بين نوعي الحفظ - الحفظ الإداري على محاضر جمع الاستدلالات والحفظ القضائي بعد التحقيق.
وقد قضت محكمة النقض (أن قرار الحفظ الذي يمنع بمقتضى المادة (42) تحقيق جنايات من العود إلى إقامة الدعوى العمومية إلا إذا ألغى النائب العام هذا القرار في مدة الثلاثة شهور التالية لصدوره أو إذا ظهرت أدلة جديدة قبل انقضاء المواعيد المقررة لسقوط الحق في إقامة الدعوى هذا القرار هو الذي يصدر من النيابة على أثر تحقيق تكون قد أجرته بنفسها أو بواسطة أحد مأموري الضبطية القضائية بناءً على انتداب تصدره خصيصًا لهذا الغرض - أما ما عدا ذلك من التحقيقات الإدارية التي يجريها البوليس في بلاغ ما - سواء من تلقاء نفسه أم على أثر إحالة الأوراق إليه من النيابة، فلا يعتبر تحقيقًا بالمعنى القانوني مما يمنع النيابة من العود لرفع الدعوى بعد حفظها إذ تلك المحاضر ليست إلا محاضر جمع استدلالات لا تقوم مقام التحقيق المقصود المادة (42) تحقيق جنايات سالفة الذكر) (نقض جنائي 15 يونيه سنة 1936 مجموعة رسمية سنة 27/ 9/ 199).
وقضى أيضًا بأن مقتضى نص المادة (42) تحقيق جنايات هو (أن أمر الحفظ المانع من العود إلى الدعوى العمومية إنما هو الذي يسبقه تحقيق تجريه النيابة بنفسها أو يقوم به أحد رجال الضبطية القضائية بناءً على انتداب منها - وإذن فمتى كان الواقع في الدعوى هو أن وكيل النيابة أمر بقيد الأوراق بدفتر الشكاوى الإدارية وكلف أومباشيًا من القسم لم يعينه لسؤال شاهد عن معلوماته فقام أومباشي بتنفيذ هذه الإشارة وبعد الاطلاع عليها أمر وكيل النيابة بحفظ الشكوى إداريًا فإن هذا الأمر لا يكون ملزمًا لها بل لها حق الرجوع فيه بلا قيد أو شرط - إذ أن النيابة لم تقم بأي تحقيق في الشكوى قبل حفظها كما أن انتدابها الأومباشي لاستيفاء بعض نقط التحقيق لا يعتبر انتدابًا لأحد رجال الضبطية القضائية لأن الأومباشي ليس منهم طبقًا لنص المادة (4) من قانون تحقيق الجنايات) (نقض جنائي 6 فبراير سنة 1951 القضية 404 سنة 20 ق).
وقضى كذلك (أن نص المادة 42 من قانون تحقيق الجنايات عام لا تفريق فيه بين أمر حفظ وآخر ولم يجعل فيه للأسباب التي تتخذ أساسًا للحفظ أي تقدير في تحديد أثره القانوني - وكل ما يقتضيه هو أن أمر الحفظ لكي يكون مانعًا من العود إلى الدعوى العمومية يجب أن يكون قد سبقه تحقيق، وعندئذٍ سواء أكان التحقيق قد أجرته النيابة بنفسها أم كان إجراؤه بناءً على انتداب منها - وسواء أكان متعلقًا بعمل واحد من أعمال التحقيق المختلفة أم أكثر فإن الأمر بمجرد صدوره تكون له قوة الشيء المحكوم به فيقيد النيابة في الحدود المرسومة بالمادة المذكورة ولو كانت علته أنها ارتأت أن التحقيق الذي اعتمدت عليه إنما أسفر عن ثبوت مقارفة المتهم لجريمة لا تستأهل - على حسب الظروف والملابسات التي وقعت فيها - أن تقيم عليه الدعوى العمومية بها - وهذا النظر هو الذي يستفاد من المذكرة الإيضاحية لقانون تحقيق الجنايات أن الشارع قصد إليه من وضع المادة المذكورة في عباراتها العامة التي صيغت بها - وإذن فإذا كان الحكم قد فرق بين أمر الحفظ الذي تصدره النيابة لعدم أهمية الحادثة والأمر الذي يصدر لعدم كفاية أدلة الثبوت وقال إن هذا وحده الذي تعنيه المادة المذكورة ثم لم يعتبر من أعمال التحقيق تنفيذ البوليس القضائي طلب النيابة إليه أن يضبط المتهمين باختلاس المحجوزات ويستجوبهم ويسأل الدائن في الحجز الذي وقع الاعتداء عليه فإنه يكون مخطئًا (نقض 17 أكتوبر سنة 1941 محاماة 22 صـ 440 رقم 142).
هذا هو ما استقر عليه قضاء محكمتنا العليا من تعليق سريان نص المادة (42) تحقيق جنايات على أمر الحفظ الصادر بعد التحقيق بوصفه عملاً قضائيًا acte juridictionnel - أما أمر الحفظ الصادر قبل التحقيق وبناءً على محضر جمع الاستدلالات فقط فهو لا يعد أمرًا قضائيًا مقيدًا للنيابة بل لها مطلق الحرية في العدول عنه إلى ما قبل سقوط الحق في إقامة الدعوى دون توقف على الحالات التي اقتضتها المادة (42) سالفة الذكر وهي حالة إلغاء الأمر من النائب العام في خلال المدة المحددة لذلك وحالة ظهور أدلة جديدة.
الوضع بعد صدور قانون الإجراءات:
( أ ) أمر الحفظ بعد جمع الاستدلالات:
تنص المادة (61) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه (إذا رأت النيابة العامة أن لا محل للسير في الدعوى تأمر بحفظ الأوراق).
وتنص المادة (62) على أنه (إذا أصدرت النيابة العامة أمرًا بالحفظ، وجب عليها أن تعلنه إلى المجني عليه وإلى المدعي بالحقوق المدنية - فإذا توفي أحدهما كان الإعلان لورثته جملة في محل إقامته).
وكما كان العمل في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى على عدم اعتبار أوامر الحفظ بناءً على محاضر جمع الاستدلالات أعمالاً قضائية تُلزم النيابة العامة بوصفها سلطة تحقيق - بل إن لها مطلق الحرية في العدول عن أمر الحفظ دون حاجة إلى ظهور أدلة جديدة - فكذلك الشأن بالنسبة إلى الأمر بحفظ الأوراق الذي نصت عليه المادة (61) إجراءات - وسنفصل ذلك عند الكلام على الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى العمومية الذي يصدر من النيابة بعد التحقيق.
فما هي الحاجة إذن إلى وجوب إعلان الأمر بحفظ الأوراق إلى المجني عليه والمدعي بالحقوق المدنية (طبقًا لنص للمادة 62).
جاء بالمذكرة الإيضاحية الأولى لمشروع قانون الإجراءات أنه (عولج في باب الدعوى المدنية موضوع تحريك المدعي المدني للدعوى الجنائية على أساس ما استقر عليه التشريع الجنائي الحديث من أن الدعوى الجنائية عمومية فليس للأفراد حق تحريكها وللنيابة العمومية وحدها الحق في رفع الدعوى وفي حفظ أي بلاغ يقدم لها إذا لم ترَ محلاً للتحقيق أو رفع الدعوى - على أن هذا الحفظ لا يقفل الباب في وجه المدعي المدني فقد أجيز له أن يتظلم من أمر الحفظ أمام غرفة المشورة - وفُرض على النيابة إذا ما أصدرت أمرًا بحفظ شكوى بها مدعٍ بالحقوق المدنية أن تعلنه بذلك وله أن يتظلم منه إلى غرفة المشورة في الثلاثة أيام التالية لإعلانه فإذا مضت ثلاثة أشهر على تقديم الشكوى ولم تتخذ النيابة قرارًا فيها كان ذلك بمثابة أمر حفظ منها وللمدعي المدني أن يتظلم منه أيضًا).
وقد رأى مجلس النواب عدم حرمان المدعي المدني من حق رفع الدعوى المباشرة في المخالفات والجنح وأعاد إليه حقه في ذلك - وبناءً على ذلك حذفت المواد الخاصة بحقه في استئناف قرار الحفظ الصادر من النيابة ومع ذلك اُستبقيت المادة (62) التي توجب إعلان هذا القرار إليه - وقد طلب مندوب الحكومة أمام لجنة الشؤون التشريعية لمجلس النواب وأمام المجلس نفسه حذف هذه المادة حيث لم يبقَ هناك مسوغ لهذا الإعلان ولكنه لم يجب إلى طلبه بناءً على أن إعلان أمر الحفظ ضروري ليعلم الشاكي به ويتخذ سبيله إلى التظلم منه إلى النائب العام أو إلى رفع دعواه إلى المحكمة إذا شاء أو إلى الامتناع عن رفعها إذا اقتنع بأسباب الحفظ - ولما أعيد المشروع إلى مجلس الشيوخ صادق على تعديلات مجلس النواب جملة بغير مناقشة (راجع المبادئ الأساسية للأستاذ علي زكي العرابي طبعة 1951 جزء 1 نبذة 544).
ومما سبق يتبين أن وجوب إعلان أمر الحفظ للمدعي المدني طبقًا لنص المادة (62) لا أثر له من الناحية العملية إذ أن أمر الحفظ هذا لا يمكن أن يمنع المدعي المدني من رفع دعواه المباشرة إلى المحكمة المختصة - هذا علاوة على أن الأمر الذي تصدره النيابة بناءً على محضر جمع استدلالات فقط غير مقيد لها وللنيابة العدول عنه بغير قيد أو شرط (نقض جنائي 23 يونيه سنة 1941 محاماة 42 - 10 - 260).
(ب) الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى:
يفرق القانون ويفرق القضاء بين صفة النيابة باعتبارها سلطة اتهام وبين صفتها باعتبارها سلطة تحقيق وهذا ظاهر من مقارنة نص المادتين (61)، (62) بالمواد (154)، (162)، (197)، (199) معدلة، (209) معدلة من قانون الإجراءات الجنائية.
وقد حكم (بأنه وإن كانت النيابة العمومية لا تتجزأ يمثل أعضاؤها النائب العمومي - ويعتبر العمل الذي يصدر من كل منهم كأنه صادر منه إلا أن هذا لا يصدق إلا على النيابة بصفتها سلطة اتهام أما النيابة بصفتها سلطة تحقيق فلكونها خولت هذه السلطة استثناءً وحلت فيها محل قاضي التحقيق لاعتبارات قدرها الشارع يجب أن يعمل كل عضو في حدودها مستمدًا حقه لا من رئيسه بل من القانون نفسه - هذا هو المستفاد من نصوص القانون في مجموعها وهذا هو الذي تمليه طبيعة إجراءات التحقيق باعتبارها من الأعمال القضائية البحتة التي لا يتصور أن يصدر أي قرار أو أمر فيها بناءً على توكيل أو إنابة بل يجب كما هو الحال في الأحكام أن يكون من أصدرها قد أصدرها من عنده هو باسمه ومن تلقاء نفسه) (نقض جنائي 22 يونيه 1942 مجموعة رسمية 43 صـ 161 رقم 88).
وتنص المادة (209) إجراءات على أنه (إذا رأت النيابة العامة بعد التحقيق أنه لا وجه لإقامة الدعوى تصدر أمرًا بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية وتأمر بالإفراج عن المتهم ما لم يكن محبوسًا لسبب آخر ويكون صدور الأمر بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية في مواد الجنايات من رئيس النيابة أو ممن يقوم مقامه).
ومؤدى هذا النص أنه في حالة ما إذا رأت النيابة عدم السير في الدعوى بعد أن تكون قد حققت الواقعة فإنها تصدر أمرًا بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى.
وكانت المادة (209) إجراءات جنائية قبل تعديلها بالمرسوم (353) سنة 1952 تحدد حالات إصدار الأمر بأن لا وجه بحالة ما إذا كانت الواقعة لا يعاقب عليها القانون أو أن تكون الدلائل غير كافية للاتهام فحذفت هاتان الحالتان من المادة عند تعديلها مما يدل على ميل المشرع إلى إطلاق الحالات التي تصدر فيها النيابة الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى وعدم تقييدها بحالة دون أخرى مما يجوز معه القول بأنه يسوع إصدار الأمر بأن لا وجه لأي سبب من الأسباب التي يجوز فيها إصدار أمر الحفظ بناءً على محضر جمع الاستدلالات.
وتنص المادة (213) إجراءات على أن (الأمر الصادر من النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى وفقًا للمادة (209) لا يمنع من العودة إلى التحقيق إذا ظهرت أدلة جديدة طبقًا للمادة 197).
وليس بلازم لكي يصدر الأمر بأن لا وجه أن تكون الواقعة قد حققت تحقيقًا كاملاً فيكفي أن يكون تم فيها عمل واحد من أعمال التحقيق كاستجواب المتهم أو انتداب الطبيب الشرعي لتشريح جثة متوفى وذلك لاعتبار الأمر الصادر فيها أمرًا بأن لا وجه لا أمر حفظ إداري - وقد قضى بأن (المادة 42 من قانون تحقيق الجنايات (التي تقابل المادة 209 إجراءات) صريحة في أن أمر الحفظ أيًا كان نوعه الصادر من النيابة العمومية بعد إجراء التحقيق يمنع من عودها إلى الدعوى العمومية إلا إذا ألغاه النائب العام أو ظهرت أدلة جديدة - فإذا كان الثابت بأوراق الدعوى أن النيابة العمومية بعد التحقيق الذي أجراه البوليس قد استجوبت المتهمين وسألتهم بمعرفتها قبل أن تصدر الأمر بالحفظ - وكان هذا الاستجواب بلا شك عملاً من أعمال التحقيق - فإن الحكم المطعون فيه حين أجاز رفع الدعوى العمومية من النيابة العمومية على المتهم يكون قد أخطأ) (نقض جنائي 18 مارس سنة 1946 مجموعة رسمية 47 رقم 106 صـ 187).
وقضى كذلك أن (أمر النيابة العمومية بحفظ التحقيق من شأنه إذا كان قد صدر بناءً على تحقيق أجرته بنفسها أو بناءً على انتداب منها أن يمنع من العودة إلى الدعوى العمومية ما لم يلغه التائب العمومي أو تظهر أدلة جديدة بحسب ما هو مقرر بالمادة (42) تحقيق جنايات - والانتداب الذي يصدر من وكيل النائب العمومي إلى الطبيب الشرعي بتشريح جثة المتوفى في حادث ثم قيام الطبيب بإجراء التشريح فعلاً وتقديم تقرير عنه إلى من ندبه بما شاهده وبرأيه في الوفاة وأسبابها هو بالبداهة عمل من أعمال التحقيق تم بناءً على طلب النيابة العمومية - ومن المتعين على المحكمة متى انتهت إلى ثبوت حصول هذا الانتداب قبل صدور أمر الحفظ وتبينت في الوقت ذاته توافر سائر ما يجب بمقتضى القانون توافره في أمر الحفظ الملزم - أن تحكم بعدم جواز نظر الدعوى) (نقض جنائي 4 مارس سنة 1947 مجموعة رسمية رقم 135 صـ 310).
مدى قوة الأمر بأن لا وجه:
أولاً: قوة الأمر بأن لا وجه بالنسبة للنيابة العامة:
بينَّا فيما سبق أنه يُفهم من تعديل نص المادة (209) إجراءات بالمرسوم (353) سنة 1952 أن الأمر بأن لا وجه أصبح غير مقيد بأن تكون الواقعة لا يعاقب عليها القانون أو أن تكون الدلائل غير كافية للاتهام إذ أن المادة (209) بعد التعديل المذكور صار نصها مرسلاً غير مقيد وعامًا غير مخصص بحالة دون أخرى ولذا فإنه يسوغ القول - وبحق - إصدار الأمر بأن لا وجه أما لسبب قانوني أو لسبب موضوعي ومن الأسباب القانونية:
( أ ) عدم وجود جناية لأن القانون لا يرتب عقابًا للواقعة الصادر فيها الأمر أو لاقترانها بسبب من أسباب الإباحة أو موانع العقاب إلخ.
(ب) عدم جواز رفع الدعوى لأي سبب من الأسباب سواء لسبق الفصل فيها أم لعدم تقديم الشكوى أو الطلب.
(جـ) سقوط الحق في إقامة الدعوى سواء بمضي المدة أم بصدور عفو شامل أو لوفاة المتهم.
ومن الأسباب الموضوعية:
1 - عدم معرفة الفاعل.
2 - عدم كفاية الأدلة.
3 - عدم الصحة.
4 - عدم الأهمية.
5 - الاكتفاء بالمحاكمة الإدارية (راجع المادة 227 من التعليمات العامة للنيابة).
وحالات الأمر بأن لا وجه تتحد إذن وحالات الأمر بحفظ الأوراق المنصوص عليه بالمادة (61) من قانون الإجراءات وليس ثمة ما يمنع من ذلك - وإن كانت هناك نتائج تترتب على اختلاف الأمر بأن لا وجه عن الأمر بحفظ الأوراق.
شكل الأمر بأن لا وجه:
لم يشترط القانون شكلاً معينًا للأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى فليس ثمة ما يوجب أن يكون هذا الأمر مسببًا فيكفي مجرد ذكر عبارة الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى مقرونة بالسبب الذي دعا إلى إصدار الأمر - ولكن استقر قضاء محكمة النقض على وجوب أن يكون الأمر بالحفظ - بعد التحقيق - طبقًا لنص المادة (42) تحقيق جنايات وهو الذي يقابل الأمر بأن لا وجه في قانون الإجراءات - ثابتًا بالكتابة الصريحة ومؤرخًا وموقعًا عليه ممن أصدره ولا يقبل الاستدلال على وجود هذا الأمر بدليل آخر غير الكتابة إلا إذا كان العمل يلزم عنه هذا الحفظ حتمًا وبالضرورة العقلية كصورة التقرير بعد التحقيق برفع دعوى البلاغ الكاذب - إذ هذا التقرير دال بلفظه وبطريق اللزوم العقلي على أن من اتهمهم المبلغ هم بريئون لا شائبة عليهم وأن النيابة ترى محاكمة من اتهمهم ظلمًا وزورًا - ففي هذه الحالة يكون الحفظ (الأمر بأن لا وجه) ضمنيًا ومنتجًا آثاره. (راجع الموسوعة الجنائية جزء 2 نبذة 202 و203) (نقض 30/ 1/ 1930 مجموعة رسمية 31 - 8 - 109).
المنع من العود إلى إقامة الدعوى:
تنص المادة (213) إجراءات على أن (الأمر الصادر من النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى وفقًا للمادة (209) لا يمنع من العودة إلى التحقيق إذا ظهرت أدلة جديدة طبقًا للمادة 197).
وتنص المادة (197) إجراءات على أن (الأمر الصادر من قاضي التحقيق أو من غرفة الاتهام بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى يمنع من العودة إلى التحقيق إلا إذا ظهرت دلائل جديدة قبل انتهاء المدة المقررة لسقوط الدعوى الجنائية - ويعد من الدلائل الجديدة شهادة الشهود والمحاضر والأوراق التي لم تعرض على قاضي التحقيق أو غرفة الاتهام ويكون من شأنها تقوية الدلائل التي وجدت غير كافية أو زيادة الإيضاح المؤدي إلى ظهور الحقيقة…).
وظاهر من النصين المتقدمين أن قوة الأمر بأن لا وجه الصادر من النيابة تظهر في منعها من العودة إلى التحقيق (ومن باب أولى إلى إقامة الدعوى) إلا بظهور أدلة جديدة أو بإلغاء هذا الأمر من النائب العام في مدة الثلاثة الأشهر التالية لصدوره (المادة 211 إجراءات) - وليس هذا إلا تطبيقًا لقاعدة حجية الشيء المحكوم فيه - وهي الحجية التي تثبت للأحكام القضائية وما في حكمها من أعمال قضائية كالقرار الصادر من سلطة التحقيق.
وقد قضت محكمة النقض (أن قانون تحقيق الجنايات - بعد أن أسبغ على النيابة العامة السلطة التي كانت من قبل من اختصاص قاضي التحقيق وحده وهي تولي أعمال التحقيق instruction في القضايا الجنائية ولم يبقَ لذلك القاضي سوى ما ترى النيابة أن تطلب إليه تحقيقه من الجرائم التي عينتها المادة (57) من هذا القانون - نص على طريقة تصرف النيابة في القضايا بعد تحقيقها وبيَّن في المادة (42) حكم الأحوال التي يسفر التحقيق فيها عن أن الأمر لا يستدعي محاكمة جنائية، وقد جاء نص المادة عامًا لم يفرق بين قرار حفظ وآخر ولم يجعل فيه للأسباب التي يبنى عليها القرار أثرًا في تحديد قيمته القانونية وكل ما اقتضاه في قرار الحفظ كيما يكون له ذلك الأثر الذي نصت عليه الفقرة (ب) من المادة المذكورة هو أن يكون القرار مسبوقًا بتحقيق instruction استبانت منه النيابة أن لا وجه لإقامة الدعوى - فإذا صدر قرار الحفظ على هذا الأساس بغض النظر عن الأسباب الخاصة التي بني عليها فإنه يحوز قوة الشيء المحكوم به بحيث لا يجوز بعده العود إلى إقامة الدعوى العمومية إلا في الحالتين المذكورتين في الفقرة (ب) من المادة (42) المذكورة (نقض جنائي 18/ 2/ 1934 مجموعة رسمية 36/ 7/ 155).
ويترتب على صدور الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية مع عدم إلغائه من النائب العام في خلال المدة المحددة لذلك قانونًا وما لم تظهر أدلة جديدة - أن يكتسب المتهم حقًا بمقتضى هذا الأمر قبل النيابة العامة بحيث إن عادت إلى التحقيق أو إلى رفع الدعوى العمومية دفع بعدم قبولها لسبق حفظها من النيابة حفظًا قضائيًا - وعلى المحكمة إذا ما تبينت توافر الشروط القانونية بين الواقعة موضوع الأمر بأن لا وجه وبين الواقعة موضوع الدعوى المرفوعة أن تحكم بعدم قبولها - ولا شك أن الدفع بسبق الفصل متعلق بالنظام العام في المسائل الجنائية - وقد جاء بمذكرة المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري تعليقًا على المادة (405) مدني التي تنظم حجية الشيء المحكوم فيه ما يلي (… … وقد تقدم أن هذه الحجية شرعت كفالة لحُسن سير العدالة وضمان الاستقرار من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية وهذان الغرضان مجتمعان يتعلقان دون شك بالنظام العام - على أن التسليم بتعلق تلك الحجية بالنظام العام بالنسبة للأحكام الجنائية بسبب ما للعقوبات وقواعد الإجراءات من صلة به يدعو إلى إعادة النظر في كيفية أعمال الحكم نفسه في المسائل المدنية… …) فالأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى له حجية الشيء المحكوم فيه بالنسبة للمتهم الصادر بشأنه وعن نفس الواقعة التي كانت موضوع التحقيق لا عن واقعة أخرى لها ذاتية وظروف مختلفة - ويتفرع على تعلق هذه الحجية بالنظام العام في المسائل الجنائية أنه يجب على المحكمة إذا رفعت إليها الدعوى عن الواقعة الصادر فيها الأمر بأن لا وجه (دون إلغائه من النائب العام ودون ظهور أدلة جديدة) أن تحكم بعدم قبولها وإلا كان حكمها باطلاً مستوجبًا نقضه ويصح إبداء هذا الدفع لأول مرة أمام محكمة النقض لتعلقه بالنظام العام ويترتب على ذلك أيضًا جواز إبداء الدفع بعدم القبول ولو كان أمر الحفظ غير معلوم لمن أحال الدعوى بناءً على التحقيقات التي أجريت بمعرفة زميل له في نيابة أخرى قد حقق نفس الفعل وأصدر فيه أمره بأن لا وجه لإقامة الدعوى (مجموعة النقض جزء 5 صـ 109).
وتبديل الوصف القانوني للفعل لا يسوغ للنيابة العامة العود إلى الدعوى الجنائية بعد صدور الأمر بأن لا وجه وهذا ما ذكره جرامولان نبذة (362) جزء (1) إذ قال…
(Aprés un ordre de classement sans suite, le Parquet, ne peut donc poursuivre l’inculpé pour le même fait, même sous une qualification differente.(
وقد جاء بالموسوعة الجنائية للأستاذ جندي عبد الملك جزء 2 صـ 311 أن (حجية أمر الحفظ ليست قاصرة على ما أعطى من وصف للأفعال التي شملها التحقيق بل تشمل كل وصف قانوني يمكن أن توصف هي به - فلا يجوز للنيابة أن تقيم الدعوى بشأن الأفعال المادية التي دعت لصدور أمر الحفظ سواء بالوصف نفسه أم بوصف آخر وإلا كان في ذلك إخلال بقوة الشيء المحكوم فيه التي جعلها القانون لأوامر الحفظ) (انظر المراجع التي أشير إليها في الموسوعة في هذا الصدد).
متى يجوز العود إلى الدعوى الجنائية أو إلى التحقيق:
على أن حجية الشيء المحكوم فيه التي تثبت للأمر بأن لا وجه على الوجه المتقدم هي حجية مؤقتة مقرونة بشرط فاسخ soumis a une condition resolutoire هو صدور أمر من النائب العام بإلغاء الأمر بأن لا وجه وحينئذٍ يزول الأمر الأخير وتسقط معه حجيته أو ظهور أدلة جديدة nouvels preuves من شأنها تقوية الاتهام.
إلغاء الأمر بمعرفة النائب العام:
خول القانون للنائب العام حق إلغاء الأمر بأن لا وجه الصادر من أي من أعضاء النيابة حتى يمكن بذلك تلافي ما قد تنطوي عليه هذه الأوامر من خطأ أو سوء تقدير وحتى تتحقق بذلك الرقابة التي يملكها النائب العام على باقي الأعضاء - وحدد القانون لاستعمال هذا الحق ثلاثة شهور من تاريخ صدور الأمر.
وظاهر أنه إذا كان الأمر بأن لا وجه صادر من النائب العام شخصيًا فإنه لا يملك إلغاءه وإنما له حق العدول عنه بشرط ظهور أدلة جديدة (الموسوعة الجنائية جزء 2 نبذة 211).
حالة ظهور أدلة جديدة:
إذا ظهرت أدلة جديدة قبل سقوط الحق في إقامة الدعوى العمومية فإنه يجوز العود إلى التحقيق أو إلى رفع الدعوى بناءً على هذه الدلائل - بشرط أن يكون من شأنها تقوية الاتهام في الواقعة التي صدر فيها الأمر بأن لا وجه.
وعددت المادة (197) إجراءات الدلائل الجديدة التي يصح بناءً عليها العود إلى إقامة الدعوى الجنائية وصيغة المادة تشعر بأن ما عددته إنما أتى على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر إذ أن عبارة (يعد من الدلائل الجديدة) يستنتج منها بطريق اللزوم العقلي أنه قد تكون هناك أنواع أخرى من الأدلة (راجع المبادئ الأساسية للإجراءات الجنائية للأستاذ علي زكي العرابي جزء 1 نبذة 661).
ويشترط في الدليل لكي يعتبر جديدًا أن يكون وقت إجراء التحقيق مجهولاً ولم يكتشف أي لم يعرض على المحقق - فالأدلة التي كانت موجودة أمام المحقق ولكنه لم يحققها ولو سهوًا منه لا يصح الرجوع إليها واعتبارها أدلة جديدة (المبادئ الأساسية نبذة 662) ويجوز الرجوع إلى التحقيق أو إلى إقامة الدعوى العمومية استنادًا إلى الأدلة الجديدة أيًا كان السبب الذي أسس عليه الأمر بأن لا وجه ما دام من شأن هذه الأدلة الجديدة تكميل عناصر الاتهام وجعل الواقعة صالحة لرفع الدعوى العمومية عنها. (راجع موسوعة التعليقات - المادة 197 صـ 818) - كل ذلك ما دام أن الحق في إقامة الدعوى العمومية لم يسقط بعد استنادًا إلى مضي المدة أو وفاة المتهم أو صدور عفو شامل إذ في أحوال سقوط الحق في إقامة الدعوى العمومية لن تفيد الأدلة الجديدة شيئًا.
والعدول عن أمر الحفظ بناءً على ظهور أدلة جديدة يكون من أي عضو من أعضاء النيابة دون حاجة إلى إلغاء الأمر بأن لا وجه من النائب العام (الموسوعة الجنائية نبذة 215 جزء 2) وأخيرًا يشترط لكي يحوز الأمر بأن لا وجه حجية الشيء المحكوم فيه التي تمنع من العود إلى إقامة الدعوى الجنائية أو إلى التحقيق عند عدم إلغاء الأمر من النائب العام أو عند عدم ظهور أدلة جديدة - يشترط لذلك أن يكون الأمر صادرًا في شأن متهم معين - فإن كان الأمر صادرًا لعدم معرفة الفاعل ثم أعيد تحقيق الواقعة مرة ثانية وقدمت الدعوى ضد متهم معين فليس لهذا الأخير أن يدفع بعدم قبول الدعوى لسابقة حفظها وأن يتمسك بحجية أمر الحفظ طالما أنه لم يصدر في شأنه حتى ولو لم تكن أدلة جديدة قد ظهرت، (نقض جنائي محاماة 31 صـ 71) وكذلك لو تعدد المتهمون في الجريمة فاعلين كانوا أو شركاء فالأمر الصادر لمصلحة أحدهم أو بعضهم لا يستفيد منه غير من ورد ذكره فيه لأن من شروط الحجية أن يكون هناك اتحاد في الأشخاص الذين صدر لصالحهم ثم يراد بعد ذلك العودة إلى التحقيق معهم (موسوعة التعليقات للأستاذ أحمد عثمان حمزاوي - تعليقًا على المادة 197) وذلك ما لم يكن تجريم أحد المتهمين متوقف على تجريم الآخر كما في حالة دعوى الزنا إذ يتوقف تجريم الشريك على تجريم الزوجة (الفاعلة الأصلية).
وقد اختلف فيما يتعلق بورود صحيفة سوابق المتهم بعد الأمر بأن لا وجه وهل تعتبر من الأدلة الجديدة التي تجيز العودة إلى التحقيق أم لا - فرأي ذهب إلى أنها لا تعتبر دليلاً جديدًا بل من الظروف المشددة فقط للعقوبة بعد ثبوت التهمة بالأدلة - ورأي آخر يرى أن صحيفة السوابق يصح اعتبارها من القرائن على التهمة وخاصةً إذا كانت من نوع الجريمة التي صدر فيها الأمر بأن لا وجه - ومن أنصار هذا الرأي الأستاذ علي زكي العرابي الذي يستدل على ذلك بنص المادة (142) إجراءات التي تنص على أنه (في مواد الجنح يجب الإفراج حتمًا عن المتهم المقبوض عليه بعد مرور ثمانية أيام من تاريخ استجوابه إذا كان له محل إقامة معروف في مصر وكان الحد الأقصى للعقوبة المقررة قانونًا لا يتجاوز سنة واحدة - ولم يكن عائدًا وسبق الحكم عليه بالحبس أكثر من سنة)، ونرى أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب نظرًا لأن الرأي الثاني انتهى إلى اعتبار صحيفة سوابق المتهم من القرائن - ولا شك أن القرائن خلاف الأدلة - علاوة على أنه حتى إذا كانت القضية التي صدر فيها الأمر بأن لا وجه جنحة وظهرت سوابق المتهم بما يترتب عليها قلب الواقعة جناية للعود مثلاً فلا يصح العود إلى التحقيق لمجرد ورود سوابق المتهم لأن في ذلك ما يفيد أن تغيير وصف الجريمة يبيح العود إلى التحقيق في واقعة سبق صدور أمر بأن لا وجه فيها وهو ما لا يجوز باتفاق.
ثانيًا: قوة الأمر بأن لا وجه بالنسبة للمدعي بالحق المدني:
بعد نص المادة (209) إجراءات والخاص بحق النيابة في إصدار أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية بعد التحقيق - أوردت المادة (210) إجراءات أن (للمجني عليه وللمدعي بالحقوق المدنية الطعن في الأمر المذكور في المادة السابقة أمام غرفة الاتهام ويتبع في ذلك أحكام المواد (162) وما بعدها).
وبالرجوع إلى ما تنص عليه المواد التالية للمادة (162) نجد أن المادة (165) إجراءات تنص على أنه (يحصل الاستئناف بتقرير في قلم الكتاب في ميعاد ثلاثة أيام من تاريخ صدور الأمر أو التبليغ أو الإعلان حسب الأحوال).
ومفهوم هذه النصوص أن الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الصادر من النيابة العامة كالأمر الصادر من قاضي التحقيق للخصوم حق الطعن فيه بطريق الاستئناف، ولا شك أن الأمر بأن لا وجه في هذا الصدد يعتبر أمرًا قضائيًا ordre judiciaire فاصلاً في نزاع بين طرفين هما المجني عليه أو المدعي المدني والمتهم ومن ثم فهو كالأحكام يحوز حجية الشيء المحكوم فيه بالنسبة للمجني عليه والمدعي المدني - فالمحقق عند إصداره الأمر بأن لا وجه إنما يصدره باعتباره قاضيًا فالأمر على حد تعبير دونديه دي فابر صـ 769 (rend de veritable jugement) وما دام أن القانون رسم طريقًا للطعن بالاستئناف في الأمر بأن لا وجه فيكون من اللازم على من ينعى على هذا الأمر عدم توفيقه ومجانبته الصواب أن يطعن فيه في خلال المدة القانونية بحيث إنه إن نفدت المدة الواجب الطعن خلالها في هذا الأمر وهي الثلاثة أيام التالية لإعلان الأمر - أصبح الأمر نهائيًا وأصبحت حجيته مطلقة لا يجوز بعد ذلك محاولة إثبات خلاف ما جاء بهذا الأمر، وعلة جواز استئناف الأمر بأن لا وجه أن المحقق في هذه الحالة يعتبر درجة أولى للتحقيق Une juridiction d’instruetion du premier déqré فإذا لم يستأنف المدعي المدني الأمر بأن لا وجه على الوجه المتقدم امتنع عليه بعد ذلك رفع دعواه بالطريق المباشر وإلا اعتبر ذلك طريقًا لإثبات ما يخالف قرينة حجية الشيء المحكوم فيه بطريق دعوى سبق أن فصل في موضوعها من جهة قضائية مختصة بنظر النزاع - ويكون الدفع بعدم قبول هذه الدعوى جائزًا بل ويجب على المحكمة إذا ما استبانت لها الظروف المتقدمة أن تحكم من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعوى لسابقة صدور أمر بأن لا وجه فيها وصيرورته نهائيًا.
والحكمة في الوصول إلى الحكم السابق سرده هو أنه يمتنع على صاحب الشأن وقد رسم له القانون طريقًا للطعن في الأمر الصادر ضد مصلحته - أن يترك هذا الطريق القانوني ولا يسير فيه ثم يلجأ إلى رفع دعواه بالطريق المباشر مع سابقة صدور أمر بأن لا وجه في نفس الفعل موضوع الدعوى تعلق به حق المتهم ووجب به أن يطمئن إلى سلامة مركزه وأن لا يكون مهددًا من آنٍ لآخر بأن يرفع المدعي المدني دعواه أمام المحكمة الجنائية (راجع الأستاذ العرابي المبادئ الأساسية جزء (1) نبذة (654) و(655) والمراجع المشار إليها في الهامش).
وقد حكم بأن أمر الحفظ يمنع المدعي المدني من حق التقاضي جنائيًا ما لم تظهر أدلة جديدة تبيح له إقامة الدعوى بعد الحفظ وأنه في حالة ظهور أدلة جديدة بعد الحفظ لا يسوغ للمدعي المدني أن يرتكن عليها ويحرك الدعوى بنفسه مباشرةً أمام المحكمة الجنائية - بل يجب عليه أن يعرضها على سلطة التحقيق التي أصدرت أمر الحفظ وهي التي تقرر إن كانت كافية لرفع الدعوى أم لا (الموسوعة الجنائية جزء 2 صـ 324).
وفي قانون تحقيق الجنايات الملغى لم يكن أمر الحفظ الصادر من النيابة وفقًا للمادة (42) منه ليمنع المدعي المدني من أن يحرك الدعوى الجنائية بنفسه أمام المحكمة نظرًا لأنه ليس له طريق قانوني للطعن فيه كما كان له ذلك الحق بالنسبة للأمر بأن لا وجه الصادر من قاضي التحقيق - (الموسوعة صـ 325).
وأخيرًا نرى أن التفرقة التي أوجدها القانون بين أمر الحفظ الصادر بعد جمع الاستدلالات وبين الأمر بأن لا وجه الصادر بعد تحقيق - تفرقة متعلقة بالإجراءات يجب اتباعها بمعنى أنه لا يجوز للنيابة العامة بعد إجرائها تحقيقًا قضائيًا أن تأمر بحفظ الدعوى حفظًا إداريًا حتى تتوصل من ذلك إلى جواز العدول عن هذا الأمر دون قيد أو شرط - بل إن هذا الوصف يأخذ حكم الأمر بأن لا وجه من ناحية منعها من العودة إلى التحقيق أو إلى رفع الدعوى إلا بظهور أدلة جديدة أو بإلغاء الأمر من النائب العام إذ أن العلة وهي حصول تحقيق متوافرة في هذه الحالة فيجب أن يأخذ أمر الحفظ الإداري الذي سمي كذلك خطأ حكم الأمر بأن لا وجه - إذ ليست العبرة بوصف النيابة للأمر وإنما العبرة بالواقع أي بصدوره بعد تحقيق أو بناءً على محضر جمع الاستدلالات.
ويترتب على ذلك أيضًا أنه في هذه الحالة أي في حالة وصف النيابة الأمر الصادر بعد تحقيق بأنه أمر حفظ وليس أمرًا بأن لا وجه - يمتنع أيضًا على المدعي المدني أن يحرك دعواه مباشرةً للمحكمة الجنائية ما لم يكن قد طعن بالاستئناف في الأمر المذكور أمام غرفة الاتهام.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
بحث في جريمة إحراز المفرقعات
مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
في جريمة إحراز المفرقعات
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
1 - تمهيد:
الأصل أن القانون لا يعاقب على مجرد إحراز المواد التي قد تستعمل في ارتكاب الجرائم، إلا أن الشارع رأى وقاية للنظام الاجتماعي وكوسيلة من وسائل الأمن mésure de sureté تجريم فعل الإحراز في ذاته كي تتقي الهيئة الاجتماعية شر إحرازها الذي يهدد سلامتها حماية لكيانها ومن تلك المواد المفرقعات.
2 - تطور تشريعي:
وعندما صدرت مجموعة قانون العقوبات المصري سنة 1883 واستعيض عنها بمجموعة أخرى سنة 1904 لم يرد في هاتين المجموعتين نص يحرم إحراز المفرقعات وذاك إلى أن جاء القانون رقم (37) سنة 1923 فضمن قانون العقوبات مادة جديدة هي المادة (317) مكررة والتي تقرر ما يأتي:
المادة (317) مكررة:
(يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تزيد على 100 جنيه كل من صنع أو استورد من الخارج أو أحرز قنابل أو ديناميتًا أو مفرقعات أخرى بدون رخصة أو بدون مسوغ قانوني).
وقد عدلت هذه المادة بالقانون رقم (35) سنة 1932 وصدرت مجموعة قانون العقوبات الجديدة سنة 1937 متضمنة هذا التعديل، فاحتوى الباب الثالث عشر الخاص بالتخريب والتعييب والإتلاف على المادة (363) والتي تنص على الآتي:
المادة (263):
(يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنين وبغرامة لا تقل عن 30 جنيهًا ولا تزيد على 300 جنيه كل من صنع أو استورد من الخارج أو أحرز قنابل أو ديناميتًا أو مفرقعات أخرى بدون رخصة أو بدون مسوغ قانوني، ويسري حكم الفقرة الثالثة من المادة (88) على هذه الجريمة).
المادة (88/ 3):
(ويعتبر في حكم المفرقعات كل مادة معدة لأن تدخل في تركيب المفرقعات وكذلك الأجهزة والآلات والأشياء التي تستخدم لصنعها أو انفجارها).
ثم جاء القانون رقم (50) لسنة 1949 بشأن المفرقعات فنص في مادته الرابعة على إلغاء المواد:
(88) من قانون العقوبات الخاصة باستعمال المفرقعات بغية ارتكاب جريمة قلب دستور الدولة أو شكل الحكومة أو نظام توارث العرش أو بغرض ارتكاب قتل سياسي.
(258) الخاصة باستعمال المفرقعات في جناية الحريق أو في تعريض حياة وأموال الناس عمدًا للخطر.
(363) الخاصة بإحراز المفرقعات.
واستعاض عنها بأحكام أخرى أدرجها بين ثنايا مواد قانون العقوبات في الباب الثاني مكررًا.
والذي يعنينا في هذا الصدد المادة (102) ( أ ) من قانون العقوبات والتي تنص على ما يلي:
المادة (102/ أ):
(يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة كل من أحرز مفرقعات أو حازها أو صنعها أو استوردها قبل الحصول على ترخيص بذلك.
ويعتبر في حكم المفرقعات كل مادة يدخل تركيبها ويصدر بتحديدها قرار من وزير الداخلية وكذلك الأجهزة والآلات والأدوات التي تستخدم في صنعها أو لانفجارها).
3 - أركان الجريمة:
ظاهر من تلاوة هذه المادة أن للجريمة ثلاثة أركان:
( أ ) الركن المادي: وهو فعل الإحراز أو الحيازة أو الصنع أو الاستيراد بدون ترخيص فالقانون يعاقب كل من أحرز أو حاز أو صنع أو استورد، والفرق واضح بين الحيازة والإحراز فالحيازة غير الإحراز، فالحائز مالك للشيء سواء كان الشيء في حوزته أو حوزة غيره أما المحرز فهو ما يوجد الشيء في حوزته.
ويعين لنا في هذا المقام أن نبحث ما إذا كان مجرد إحراز مادة يسيرة المقدار من المفرقعات تكون الجريمة أم لا… أجابت محكمة النقض بالسلب في عدة أحكام لها من بينها ما حكمت به بجلسة 22 إبريل سنة 1940 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية قاعدة 99 في الجزء الخامس) فذكرت (أن البارود لا يعتبر من المفرقعات الوارد ذكرها في المادة (363) من قانون العقوبات إلا إذا كان بكمية كبيرة وفي حيز مغلق لا يتسع للغازات التي يتحول إليها عقب الاشتعال - فإذا كانت كميته يسيرة ليس من شأنها أن تحدث عنها هذه النتيجة فإنه لا يعد من تلك المفرقعات، فإذا ضُبط بارود زنته 1060 جرامًا في كيس داخل قفة بقطار السكة الحديد فلا يمكن عده مفرقعًا لأنه بحسب كميته والظرف الموجود فيه لا يمكن إذا ما أُشعل أن يحدث الفرقعة ذات الخطر المعني في المادة المذكورة).
وما حكم به في 8 نوفمبر سنة 1928 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية العدد الأول قاعدة 2 صـ 13).
(إن المقصود من عبارة مفرقعات أخرى الواردة في المادة (317) مكررة العقوبات الخاصة بإحراز القنابل أو الديناميت إنما هي المواد التي من قبيل القنابل والديناميت والتي من شأنها أن تُستعمل لتدمير الأموال الثابتة أو المنقولة لأن غرض الشارع من إيراد هذا النص الذي جاء به القانون رقم (37) سنة 1923 هو العقاب على صنع هذه المواد أو استيرادها أو إحرازها بعد أن كان القانون قبل سنة 1923 لا يعاقب إلا على تدمير الأموال.
وعليه فالخراطيش والرصاص التي تُقذف بواسطة البنادق والطبنجات ونحوها من الأسلحة النارية والتي تحتوي على رش أو رصاص وشيء من البارود كافٍ لانطلاقها وإن كانت في الواقع مفرقعة إلا أنها نظرًا لقلة كمية البارود أو المادة المتفجرة التي تكون بها قد حدد العرف موطن استعمالها وحصره في إصابة الحيوان من إنسان وغير إنسان وطريقة صنعها يلاحظ فيها صلاحيتها لهذا الغرض الخاص بالذات ولذلك فلا يمكن اعتبارها من قبيل المفرقعات التي تُستعمل لتدمير الأموال ومن ثم فلا عقاب على من أحرزها ولا محل لتطبيق المادة (317) مكررة عليه).
وكذا ما حكمت به محكمة النقض بجلسة 29 أكتوبر سنة 1934 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية الجزء الثالث قاعدة 287).
(إذا كان الثابت أن كمية البارود المضبوطة لدى المتهم صغيرة وأنها مما تُستعمل في ملء الخراطيش فلا يمكن اعتبارها مفرقعًا في حكم المادة (317) مكررة من قانون العقوبات).
(ب) مفرقعات أو مواد مفرقعة والمادة المفرقعة هي كل مادة تُحدث انفجارًا بحكم خواصها الكيماوية أيًا كان نوعها.
ولقد حدد قرار وزير الداخلية الصادر في 20 سبتمبر سنة 1950 المواد التي تُعتبر في حكم المفرقعات فنص في مادته الأولى على أنه يعتبر في حكم المفرقعات المواد الآتية:
1 - الجلجنيت.
2 - الديناميت.
3 - 808 آمون ومشتقاته.
4 - مفرقعات نويل ومشتقاتها.
5 - قطن البارود ومشتقاتها.
6 - ثالث نترات تولين ومشتقاتها.
7 – الانوتال.
8 - حامض البكريك ومشتقاته.
9 – الكروديثار.
10 - البارود الأسود ومشتقاته.
11 - الترمايت.
ولا يعد صواريخ الأطفال من بينها فلقد حكمت محكمة النقض بجلسة 28 يناير سنة 1935 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية قاعدة 323 في الجزء الثالث) من أن:
(المفرقعات المحرمة التي تشير إليها المادة (317) مكررة هي التي من شأنها أن تُستعمل لتدمير الأموال الثابتة أو المنقولة، فلعب الأطفال (الصواريخ) لا تدخل في عداد المفرقعات التي يتناولها حكم المادة المذكورة).
(جـ) القصد الجنائي: ولا بد أن يتوافر لدى محرز المفرقعات قصد جنائي هو علمه بأن المادة مفرقعة، ولقد حكمت محكمة النقض بجلسة 19 فبراير سنة 1934 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية الجزء الثالث قاعدة 208).
(إن المادة (317) مكررة المعدلة بالقانون (35) سنة 1932 تعاقب على إحراز المفرقعات في كافة صوره وألوانه مهما كان الباعث على الإحراز إلا ما كان منه برخصة أو بمسوغ قانوني والقصد الجنائي لا شأن له بالباعث على الإحراز وهذا القصد يتحقق بمجرد علم المحرز أن المادة مفرقعة أو مما يدخل في تركيب المفرقعات).
4 - العقاب:
ماثل من الاطلاع على التطور التاريخي أن المشرع تدرج في العقاب على هذه الجريمة فاعتبرها في البداية جنحة، ولما جاء القانون رقم (50) لسنة 1949 اعتبرها جناية معاقبًا عليها بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
في جريمة إحراز المفرقعات
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
1 - تمهيد:
الأصل أن القانون لا يعاقب على مجرد إحراز المواد التي قد تستعمل في ارتكاب الجرائم، إلا أن الشارع رأى وقاية للنظام الاجتماعي وكوسيلة من وسائل الأمن mésure de sureté تجريم فعل الإحراز في ذاته كي تتقي الهيئة الاجتماعية شر إحرازها الذي يهدد سلامتها حماية لكيانها ومن تلك المواد المفرقعات.
2 - تطور تشريعي:
وعندما صدرت مجموعة قانون العقوبات المصري سنة 1883 واستعيض عنها بمجموعة أخرى سنة 1904 لم يرد في هاتين المجموعتين نص يحرم إحراز المفرقعات وذاك إلى أن جاء القانون رقم (37) سنة 1923 فضمن قانون العقوبات مادة جديدة هي المادة (317) مكررة والتي تقرر ما يأتي:
المادة (317) مكررة:
(يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تزيد على 100 جنيه كل من صنع أو استورد من الخارج أو أحرز قنابل أو ديناميتًا أو مفرقعات أخرى بدون رخصة أو بدون مسوغ قانوني).
وقد عدلت هذه المادة بالقانون رقم (35) سنة 1932 وصدرت مجموعة قانون العقوبات الجديدة سنة 1937 متضمنة هذا التعديل، فاحتوى الباب الثالث عشر الخاص بالتخريب والتعييب والإتلاف على المادة (363) والتي تنص على الآتي:
المادة (263):
(يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنين وبغرامة لا تقل عن 30 جنيهًا ولا تزيد على 300 جنيه كل من صنع أو استورد من الخارج أو أحرز قنابل أو ديناميتًا أو مفرقعات أخرى بدون رخصة أو بدون مسوغ قانوني، ويسري حكم الفقرة الثالثة من المادة (88) على هذه الجريمة).
المادة (88/ 3):
(ويعتبر في حكم المفرقعات كل مادة معدة لأن تدخل في تركيب المفرقعات وكذلك الأجهزة والآلات والأشياء التي تستخدم لصنعها أو انفجارها).
ثم جاء القانون رقم (50) لسنة 1949 بشأن المفرقعات فنص في مادته الرابعة على إلغاء المواد:
(88) من قانون العقوبات الخاصة باستعمال المفرقعات بغية ارتكاب جريمة قلب دستور الدولة أو شكل الحكومة أو نظام توارث العرش أو بغرض ارتكاب قتل سياسي.
(258) الخاصة باستعمال المفرقعات في جناية الحريق أو في تعريض حياة وأموال الناس عمدًا للخطر.
(363) الخاصة بإحراز المفرقعات.
واستعاض عنها بأحكام أخرى أدرجها بين ثنايا مواد قانون العقوبات في الباب الثاني مكررًا.
والذي يعنينا في هذا الصدد المادة (102) ( أ ) من قانون العقوبات والتي تنص على ما يلي:
المادة (102/ أ):
(يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة كل من أحرز مفرقعات أو حازها أو صنعها أو استوردها قبل الحصول على ترخيص بذلك.
ويعتبر في حكم المفرقعات كل مادة يدخل تركيبها ويصدر بتحديدها قرار من وزير الداخلية وكذلك الأجهزة والآلات والأدوات التي تستخدم في صنعها أو لانفجارها).
3 - أركان الجريمة:
ظاهر من تلاوة هذه المادة أن للجريمة ثلاثة أركان:
( أ ) الركن المادي: وهو فعل الإحراز أو الحيازة أو الصنع أو الاستيراد بدون ترخيص فالقانون يعاقب كل من أحرز أو حاز أو صنع أو استورد، والفرق واضح بين الحيازة والإحراز فالحيازة غير الإحراز، فالحائز مالك للشيء سواء كان الشيء في حوزته أو حوزة غيره أما المحرز فهو ما يوجد الشيء في حوزته.
ويعين لنا في هذا المقام أن نبحث ما إذا كان مجرد إحراز مادة يسيرة المقدار من المفرقعات تكون الجريمة أم لا… أجابت محكمة النقض بالسلب في عدة أحكام لها من بينها ما حكمت به بجلسة 22 إبريل سنة 1940 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية قاعدة 99 في الجزء الخامس) فذكرت (أن البارود لا يعتبر من المفرقعات الوارد ذكرها في المادة (363) من قانون العقوبات إلا إذا كان بكمية كبيرة وفي حيز مغلق لا يتسع للغازات التي يتحول إليها عقب الاشتعال - فإذا كانت كميته يسيرة ليس من شأنها أن تحدث عنها هذه النتيجة فإنه لا يعد من تلك المفرقعات، فإذا ضُبط بارود زنته 1060 جرامًا في كيس داخل قفة بقطار السكة الحديد فلا يمكن عده مفرقعًا لأنه بحسب كميته والظرف الموجود فيه لا يمكن إذا ما أُشعل أن يحدث الفرقعة ذات الخطر المعني في المادة المذكورة).
وما حكم به في 8 نوفمبر سنة 1928 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية العدد الأول قاعدة 2 صـ 13).
(إن المقصود من عبارة مفرقعات أخرى الواردة في المادة (317) مكررة العقوبات الخاصة بإحراز القنابل أو الديناميت إنما هي المواد التي من قبيل القنابل والديناميت والتي من شأنها أن تُستعمل لتدمير الأموال الثابتة أو المنقولة لأن غرض الشارع من إيراد هذا النص الذي جاء به القانون رقم (37) سنة 1923 هو العقاب على صنع هذه المواد أو استيرادها أو إحرازها بعد أن كان القانون قبل سنة 1923 لا يعاقب إلا على تدمير الأموال.
وعليه فالخراطيش والرصاص التي تُقذف بواسطة البنادق والطبنجات ونحوها من الأسلحة النارية والتي تحتوي على رش أو رصاص وشيء من البارود كافٍ لانطلاقها وإن كانت في الواقع مفرقعة إلا أنها نظرًا لقلة كمية البارود أو المادة المتفجرة التي تكون بها قد حدد العرف موطن استعمالها وحصره في إصابة الحيوان من إنسان وغير إنسان وطريقة صنعها يلاحظ فيها صلاحيتها لهذا الغرض الخاص بالذات ولذلك فلا يمكن اعتبارها من قبيل المفرقعات التي تُستعمل لتدمير الأموال ومن ثم فلا عقاب على من أحرزها ولا محل لتطبيق المادة (317) مكررة عليه).
وكذا ما حكمت به محكمة النقض بجلسة 29 أكتوبر سنة 1934 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية الجزء الثالث قاعدة 287).
(إذا كان الثابت أن كمية البارود المضبوطة لدى المتهم صغيرة وأنها مما تُستعمل في ملء الخراطيش فلا يمكن اعتبارها مفرقعًا في حكم المادة (317) مكررة من قانون العقوبات).
(ب) مفرقعات أو مواد مفرقعة والمادة المفرقعة هي كل مادة تُحدث انفجارًا بحكم خواصها الكيماوية أيًا كان نوعها.
ولقد حدد قرار وزير الداخلية الصادر في 20 سبتمبر سنة 1950 المواد التي تُعتبر في حكم المفرقعات فنص في مادته الأولى على أنه يعتبر في حكم المفرقعات المواد الآتية:
1 - الجلجنيت.
2 - الديناميت.
3 - 808 آمون ومشتقاته.
4 - مفرقعات نويل ومشتقاتها.
5 - قطن البارود ومشتقاتها.
6 - ثالث نترات تولين ومشتقاتها.
7 – الانوتال.
8 - حامض البكريك ومشتقاته.
9 – الكروديثار.
10 - البارود الأسود ومشتقاته.
11 - الترمايت.
ولا يعد صواريخ الأطفال من بينها فلقد حكمت محكمة النقض بجلسة 28 يناير سنة 1935 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية قاعدة 323 في الجزء الثالث) من أن:
(المفرقعات المحرمة التي تشير إليها المادة (317) مكررة هي التي من شأنها أن تُستعمل لتدمير الأموال الثابتة أو المنقولة، فلعب الأطفال (الصواريخ) لا تدخل في عداد المفرقعات التي يتناولها حكم المادة المذكورة).
(جـ) القصد الجنائي: ولا بد أن يتوافر لدى محرز المفرقعات قصد جنائي هو علمه بأن المادة مفرقعة، ولقد حكمت محكمة النقض بجلسة 19 فبراير سنة 1934 (مجموعة القواعد القانونية في المواد الجنائية الجزء الثالث قاعدة 208).
(إن المادة (317) مكررة المعدلة بالقانون (35) سنة 1932 تعاقب على إحراز المفرقعات في كافة صوره وألوانه مهما كان الباعث على الإحراز إلا ما كان منه برخصة أو بمسوغ قانوني والقصد الجنائي لا شأن له بالباعث على الإحراز وهذا القصد يتحقق بمجرد علم المحرز أن المادة مفرقعة أو مما يدخل في تركيب المفرقعات).
4 - العقاب:
ماثل من الاطلاع على التطور التاريخي أن المشرع تدرج في العقاب على هذه الجريمة فاعتبرها في البداية جنحة، ولما جاء القانون رقم (50) لسنة 1949 اعتبرها جناية معاقبًا عليها بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.
بحث في رد الاعتبار
مجلة المحاماة - العدد الأول
السنة الثانية والثلاثون سنة 1951
بحث في رد الاعتبار
دراسة قانونية تاريخية لأحكام رد الاعتبار في قانون الإجراءات الجنائية الجديد
لحضرة الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة ميت غمر
1 - تمهيد:
بمناسبة استقلال مصر القضائي بسبب إلغاء المحاكم المختلطة قام المشرع المصري بنهضة تشريعية فصدرت عدة تقنينات جديدة من بينها قانون الإجراءات الجنائية والذي لم يُنشر بعد في الجريدة الرسمية - ولا شك أن هذا القانون جاء معدلاً لأحكام قانون تحقيق الجنايات المعمول به الآن مستحدثًا لبعض النظم القضائية في المواد الجنائية أهمها الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام، ولا عجب إذا قلنا إنه بمناسبة هذه النهضة التشريعية الجديدة يتعين على كل مشتغل بالعلوم القانونية أن يساهم بنصيب في تلك النهضة فيتناول تلك الأحكام الجديدة بحثًا وتعليقًا - ولقد لاحظنا إبان دراستنا لهذا القانون أنه أورد أحكامًا في رد الاعتبار Réhabilitation تخالف أحكام القانون المعمول به وهو المرسوم بقانون رقم (41) لسنة 1931, فعن لنا بحثها من الوجهتين الفقهية والتاريخية.
2 - موضع رد الاعتبار في القانون الجنائي:
من المسلم به أن فقه القانون الجنائي يحتوي على نوعين من القواعد القانونية, الأولى موضوعية، والثانية شكلية، فالموضوعية هي القواعد المتعلقة بالجرائم وشروطها وأركانها وعقوباتها وهي مجموعة في تقنين واحد يسمى بقانون العقوبات, أما الشكلية فهي القواعد المتعلقة بالإجراءات التي تتبع عند وقوع الجرائم وهي مجموعة في تقنين ثانٍ أسماه المشرع المصري خطأ قانون تحقيق الجنايات ولم يرد في هذين التقنينين أحكام في رد الاعتبار وإنما صدر به قانون خاص هو المرسوم بقانون (41) لسنة 1931, ولما تناوله الشراح المصريون بالشرح أورده بعضهم عند بحث العقاب في قانون العقوبات القسم العام وأورده البعض الآخر عند شرح قانون تحقيق الجنايات في الباب الخاص بتنفيذ الأحكام ولقد صدر قانون الإجراءات الجنائية الجديد وأورد أحكام رد الاعتبار في الباب التاسع من الكتاب الرابع الخاص بتنفيذ الأحكام فأيد الاتجاه الأخير ولقد أحسن المشرع المصري صنعًا إذ أورد أحكام رد الاعتبار في قانون الإجراءات فما أحكام رد الاعتبار إلا أحكام تتعلق بالشكل لا بالموضوع.
3 - تطور تاريخي:
ليس نظام رد الاعتبار نظامًا حديثًا وإنما هو معروف إبان عهد الرومان فالقانون الروماني ميز بين العفو Grâce, indulgntia وبين ما أسماه برد الحالة Restitution de l’état Restitutia in intergrum رغم أن كليهما يصدران من ولي الأمر Prince فالعفو يمنع تنفيذ العقوبة أما رد الحالة إذا صدر عامًا مطلقًا فإنه يعيد إلى المحكوم عليه اعتباره بما فيها كافة حقوقه المدنية كأنه لم يحكم عليه بشيء – ولما جاء القانون الفرنسي القديم أيد هذا المبدأ - وكانت حالة المحكوم عليه ترجع إلى ما كانت عليه قبل الحكم بمقتضى خطابات تصدر من السلطان فكان رد الاعتبار في هذا العهد إداريًا لا دخل لأية سلطة أخرى فيه.
ولما جاءت الثورة الفرنسية ألغت الجمعية التأسيسية سنة 1791 كافة الحقوق التي يتمتع بها الملك Le souverain من بينها حق العفو واعتبرت رد الاعتبار عملاً صادرًا من الأمة نفسها لإصلاح الحالة الاجتماعية واعتبرته حقًا مقررًا لكل محكوم عليه فلم يعد يحمل صفة العفو mésure graciense ووضعت إجراءات وقواعد معينة في رد الاعتبار, ولما صدر القانون الفرنسي الحديث على هدى هذا الاتجاه الحديث أكد تلك القواعد والإجراءات وصدر بعد ذلك أمران في 18 إبريل سنة 1848 و 4 يوليو سنة 1852 معدلين لبعض أحكام رد الاعتبار ولقد أصبح رد الاعتبار في هذا العهد إداريًا ذا صفة قضائية فكانت محكمة الاستئناف التي يقيم في دائرتها طالب رد الاعتبار تبدي رأيها في طلب رد الاعتبار فإذا كان في مصلحة الطالب يحول إلى النائب العام ثم وزير العدل وهذا الأخير يستصدر أمرًا برد اعتبار الطالب من رئيس الدولة.
وظل الحال على هذا المنوال إلى أن صدر القانون المؤرخ في 14 أغسطس سنة 1885 فنقل الاختصاص في مسائل رد الاعتبار برمته إلى محكمة الاستئناف وحدها فأصبحت تفصل فيه على هدى ما يستبين لها من ظروف.
وفي 5 أغسطس سنة 1895, أدخل في فرنسا نظام رد الاعتبار القانوني الذي سنبحثه فيما بعد.
أما في مصر فلم يرد في التقنينات الجنائية أحكام لرد الاعتبار أكثر من الطلبات المقدمة إلى وزارة العدل بالتماس العفو عن العقوبات فاضطر المشرع المصري إلى سرعة معالجة التشريع القائم بتنظيم طريقة قانونية لرد الاعتبار فصدر في 5 مارس سنة 1931 المرسوم بقانون رقم (41) لسنة 1931 بشأن إعادة الاعتبار وينطبق على المحاكم الوطنية واشتمل على اثنتي عشرة مادة تناول فيها طريقة رد اعتبار المحكوم عليهم القضائية فجعل الحق في الحكم في رد الاعتبار لمحكمة الاستئناف - ولما صدر قانون تحقيق الجنايات الجديد للمحاكم المختلطة في 31 يوليو سنة 1937 وردت به أحكام لرد الاعتبار أمام المحاكم المختلطة في المواد (343) إلى (353) وجعل رد الاعتبار قضائيًا أيضًا فحسب.
ولم يؤيد المشرع المصري فكرة رد الاعتبار القانوني إلا في حالة واحدة وردت في قانون العقوبات في أحكام إيقاف التنفيذ فنصت المادة (59) من هذا القانون على أنه إذا انقضت مدة الإيقاف ولم يكن صدر في خلالها حكم بإلغائه فلا يمكن تنفيذ العقوبة بها ويعتبر الحكم كأن لم يكن – ولقد جرى قضاء محاكم الاستئناف على أنه لا يرد اعتبار المحكوم عليهم بأحكام مع إيقاف تنفيذها إذ يكتفى فيها بمرور المدة القانونية عليها وهي خمس سنوات حتى يعتبر الحكم كأن لم يكن ولا حاجة لرد اعتبار المحكوم عليه فيها.
وظلت الحالة على هذا النحو السابق إلى أن صدر قانون الإجراءات الجنائية الجديد والذي لم يُنشر بعد متضمنًا أحكامًا خاصة لرد الاعتبار وذلك في المواد من (536) إلى (553) أجاز فيها علاوة على طريقة رد الاعتبار القضائية طريقة أخرى هي رد الاعتبار القانونية أي بحكم القانون وذلك في المادتين (550) و (551) وذلك تمشيًا منه مع ما جرى عليه التشريع الحديث والقانون المقارن.
4 - تعريف رد الاعتبار:
لا شك أن الحكم بعقوبة جناية أو جنحة يؤدي من الانتقاص من شخصية المحكوم عليه ويحول دون استعادة مكانته الاجتماعية اللائقة ودون الوصول إلى مركز شريف إذ أن الحكم بالعقاب يتبعه في غالب الأحوال الحرمان من بعض الحقوق السياسية والمدنية ويسجل في قلم السوابق فيتعذر على المحكوم عليه الاندماج ثانية في الهيئة الاجتماعية, كما أنه ليس من العدل أن يحرم شخص من أن يتبوأ في الهيئة الاجتماعية المركز اللائق بكل وطني صالح إذا بذل مجهودًا ليحسن سيره وسلوكه وأقام الدليل على هذا بمرور فترة معينة دون أن يرتكب حوادث، ما لهذا قررت أغلب الشرائع أحكامًا برد اعتبار المحكوم عليهم وجعلته نظامًا مقررًا لصالح المحكوم عليهم بموجبه يستطيعون أن يحسنوا سيرهم وسلوكهم بغية مكافأتهم برد اعتبارهم إليهم كما أنه نظام مقرر لصالح الهيئة الاجتماعية نفسها فمن مصلحتها أن يندمج فيها كل من تاب وأصلح فيؤدي أعمالاً لصالح نفسه ولصالح المجموع في آن واحد - فما رد الاعتبار في الحقيقة إلا طريقة أدخلها الشارع المصري كي يمكِّن المحكوم عليهم من أن يستعيدوا حقوقهم السياسية والمدنية وبالتالي يندمجون في المجتمع مستردين مكانتهم السابقة للحكم.
5 - أنواع رد الاعتبار:
ورد الاعتبار إما أن يكون قضائيًا أو قانونيًا فرد الاعتبار القضائي هو مجموعة الإجراءات التي تتبع أمام جهة قضائية للحكم لطالبي رد الاعتبار بإعادة اعتبارهم إليهم فهو من صميم سلطان الهيئة القضائية تفصل فيه حسبما يتراءى لها من ظروف الطالب عما إذا كان جديرًا برد اعتباره إليه إذا حسن سيره وقوم نفسه منذ صدور الحكم عليه أم غير جدير, أما رد الاعتبار القانوني فهو يتقرر بحكم القانون de plein droit فمجرد مرور مدة يعينها القانون دون ارتكاب المحكوم عليه جرائم في خلالها يتعين رد اعتباره من تلقاء نفسه d’office دون حاجة إلى اللجوء إلى السلطة القضائية فهو رد اعتبار حتمي ipso facto légale إلا أن هذا النوع من رد الاعتبار قد استهدف لبعض الانتقادات فلقد قيل إنه يسمح لشخص ذي سيرة غير حميدة يعيش عيشة غير شريفة سلوكه شائن أن يستعيد اعتباره إذا مضت مدة معينة لم يرتكب فيها جريمة أو بعبارة أدق استطاع إخفاء ما يرتكبه من جرائم فأفلت من يد العدالة والقانون إلا أنه رغم هذا النقد الذي لا يوجه في الحقيقة إلا إلى نفر قليل من المحكوم عليهم فإن الاتجاه السائد في التشريع الحديث يميل إلى تأييد هذا النظام الأخير.
ولا يصح الخلط بين رد الاعتبار السابق شرحه وبين ما يسمى بالعفو الشامل أو العفو عن الجريمة أو كما يسميه بعض الشراح برد الاعتبار التشريعي, فرد الاعتبار الذي نحن بصدده ما هو إلا مكافأة شخصية على حسن سلوك المحكوم عليهم لا يكون إلا بعد تنفيذ العقوبة ولا يمحو الحكم بل يرفع آثاره بالنسبة للمستقبل أما رد الاعتبار التشريعي فهو يصدر بقانون في ظروف معينة ويكون في غالب الأحيان تدبيرًا سياسيًا يتخذ لغرض عام بقصد تسكين الخواطر وإسدال الستار عما وقع من حوادث ويترتب عليه اعتبار الجريمة كأنها لم تكن من الوجهة الجنائية.
كما يتميز رد الاعتبار عن العفو عن العقوبة grâce ولقد أفتى مجلس الدولة الفرنسي في 21 ديسمبر سنة 1822, أنهما يختلفان في المبدأ والآثار فالعفو عن العقوبة منحة من ولي الأمر يلتمسها solliciter المحكوم عليه فإذا أجيب إليه يصدر له خطاب عفو letter de grâce وبالتالي لا ينفذ الحكم عليه إنما يظل أثر الحكم قائمًا من حيث العود récidive ويحرر في صحيفة سوابقه وأحيانًا لا يشمل العقوبات التبعية - أما رد الاعتبار فهو حق للمحكوم عليه يكتسبه من حسن سيرته وسلوكه ويمحو الحكم بالإدانة وكافة نتائجه في الحال والاستقبال وعلى حد تعبير مجلس الدولة الفرنسي
La grâce et la réhabilitation différent essentiellement soit dans leur principe soit dans leur effets, que la grâce dérive de la clémence du Roi, la réhabilitation de sa justice… etc.
6 - طلب رد الاعتبار القضائي:
نصت المادة (536) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجوز رد الاعتبار إلى كل محكوم عليه في جناية أو جنحة وهذه المادة تقابل المادة الأولى من المرسوم بقانون (41) لسنة 1931.
ولا شك أن هذا النص جاء عامًا مطلقًا غير مقيد بقيد فلكل محكوم عليه في جناية أو جنحة أن يطلب رد اعتباره لسابقة الحكم فيها سواء أكانت العقوبة مقيدة للحرية أم مالية وسواء أأفقدته حقوقه السياسية والمدنية أم لم تفقده.
ولقد حكم بأنه يجوز رد الاعتبار في عقوبة صدرت في جنح الضرب والإصابة الخطأ - على أنه لا يجوز رد الاعتبار في عقوبات المخالفات.
وإذا رجعنا إلى حالة فرنسا التشريعية وجدنا تطورًا في التشريع فلقد كان القانون القديم يحدد رد الاعتبار في حالات خاصة وبالنسبة لجرائم معينة كالمحكوم عليهم بعقوبات ماسة بالشرف فلم يكن النص عامًا كما هو الحال في مصر وظل التشريع على هذا النحو إلى أن ناله التطور شيئًا فشيئًا حتى صدر نص عام يبيح رد الاعتبار في كافة الحالات.
ومن المقرر أنه لا يجوز رد اعتبار المحكوم عليه إلا مرة واحدة وهو ما نصت عليه المادة الخامسة من قانون رد الاعتبار رقم (41) لسنة 1931 وما أكدته المادة (547) من قانون الإجراءات الجنائية الجديد فلا يسوغ لمن حكم برد اعتباره وارتكب جريمة حكم عليه فيها أن يجدد طلبه مرة ثانية إذ هذا النوع من المجرمين غير جديرين باحترام القانون لهم ورعايتهم ما دام قد ساء سلوكهم وعادوا إلى حياتهم الإجرامية السابقة على رد الاعتبار.
7 - شروط رد الاعتبار القضائي:
وهي ما نصت عليها المواد (537) و (538)، (539) و (541) و (548) و (549) من القانون فهذه المواد توجب توافر ثلاثة شروط لإمكان الحكم برد الاعتبار:
الأول: هو وجوب تنفيذ العقوبة exécution de la peine فتنفيذ العقوبة واجب لرد الاعتبار ويقصد بالعقوبة هنا جميع العقوبات الصادرة على طالب رد الاعتبار إذا كانت متعددة ويعتبر في حكم التنفيذ صدور أمر من ولي الأمر بالعفو عن العقوبة أو سقوطها بمضي المدة طبقًا للقانون.
والثاني: هو وجوب وفاء جميع الالتزامات المالية payement des condamnations pécuniaires فيحب للحكم برد اعتبار الطالب أن يوفي بكل ما حكم به عليه من غرامة أو رد أو تعويض أو مصاريف وحكمة هذا الشرط هو أنه يتعين على المحكوم عليه أن يصلح كافة ما نجم من ارتكابه لجريمته كي يمكن إسدال الستار عليها ومحو كافة آثارها - إلا أن للمحكمة أن تتجاوز عن هذا الشرط إذا أثبت المحكوم عليه أنه ليس بحال يستطيع معها الوفاء وإذا لم يوجد المحكوم له بالتعويضات أو الرد أو التعويض أو المصاريف أو امتنع عن قبولها وجب على المحكوم أن يودعها طبقًا لما هو مقرر في قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية، وإذا كان المحكوم عليه قد صدر عليه الحكم بالتضامن يكفي أن يدفع مقدار ما يخصه شخصيًا في الدين وعند الاقتضاء تعين المحكمة الحصة التي يجب عليه دفعها.
والثالث: هو مرور فترة هي مدة الاختبار المقررة في القانون دون أن يشوبها أية شائبة
épreuve d’une bonne conduite pandant un délai de temps.
ولا شك أن مرور هذه الفترة دون أن يحدث فيها ما يشين طالب رد الاعتبار تعتبر أمرًا ظاهرًا منضبطًا مناسبًا لضمان حسن سير وسلوك الطالب ولقد تفاوتت هذه الفترة بحسب نوع الجرائم والعقوبات فإذا كانت العقوبة المحكوم عليه فيها عقوبة جناية فهذه المدة هي خمسة عشر عامًا وإذا كانت عقوبة جنحة فهي ثماني سنوات أما في حالة الحكم للعود أو سقوط العقوبة بمضي المدة فهي خمسة عشر عامًا - وهذه المدد نصت عليها مواد المرسوم بقانون رقم (41) لسنة 1931، أما قانون الإجراءات الجنائية الجديد فقد قصر هذه المدة فحددها بست سنوات في عقوبة الجناية وثلاث سنوات في عقوبة الجنحة وتضاعف هذه المدد في حالتي الحكم للعود وسقوط العقوبة بمضي المدة - ولقد ضاعف القانون المدة في حالة الحكم للعود لحكمة رآها هي أن من حكم عليه بعقوبة مشددة لسبق الحكم عليه في جريمة مماثلة له يجب أن تمر فترة كافية لاختباره والوثوق من أنه قد ارتدع وقوم نفسه - كما أن المشرع ضاعف المدة في حالة سقوط العقوبة بمضي المدة لنفس الحكمة السابقة إذ أن المحكوم عليه لم يرتدع من صدور الحكم عليه بالعقوبة لعدم تنفيذها عليه ويتعين انتظار فترة من الزمن لإمكان الحكم على سيره وسلوكه – ولا شك أن هذه المدد تبدأ من تاريخ انتهاء تنفيذ العقوبة أو تاريخ وجوب انقضاء التنفيذ إذا أفرج عن المحكوم عليه تحت شرط, أما إذا حكم على طالب رد الاعتبار علاوة على العقوبة بالمراقبة مدة من الزمن فتبدأ المدة من اليوم الذي تنتهي فيه مدة المراقبة, وفي حالة العفو تبدأ المدة من تاريخ خطاب العفو - وغني عن البيان أن هذه العقوبة يقصد بها آخر عقوبة حكم فيها على المتهم فمن تاريخ انتهاء تنفيذ آخر عقوبة حكم فيها على طالب رد الاعتبار تحتسب المدة.
فإذا ما توافرت هذه الشروط ورأت المحكمة أن سلوك طالب رد الاعتبار يدعو إلى الثقة بتقديم نفسه تحكم برد اعتباره إليه وإلا يتعين رفض الطلب وفي هذه الحالة الأخيرة لا يجوز تجديد الطلب بسبب رفضه لسوء سلوك الطالب إلا بعد سنتين من هذا الرفض أما إذا كان سبب الرفض هو أن المحكوم عليه لم ينفذ سائر الشروط الأخرى فيجوز تجديد الطلب متى توافرت هذه الشروط.
ولقد نصت المادة (549) من قانون الإجراءات الجنائية الجديد على أنه يجوز إلغاء الحكم الصادر برد الاعتبار إذا ظهر أن المحكوم عليه صدرت ضده أحكام أخرى لم تكن المحكمة قد علمت بها أو حكم عليه فيها بعد رد الاعتبار في جريمة وقعت قبله وذلك بناءً على طلب من النيابة العامة.
8 - إجراءات رد الاعتبار القضائي:
وهي ما نصت عليها المواد (542)، (543)، (544)، (545)، (546) من قانون الإجراءات الجنائية فذكرت هذه المواد أن طلب رد الاعتبار يقدم بعريضة إلى النيابة العامة ويجب أن يشتمل على البيانات اللازمة لتعيين شخصية الطالب وأن يبين فيها تاريخ الحكم الصادر عليه والأماكن التي أقام فيها من ذلك الحين ثم تجري النيابة العامة تحقيقًا بشأن الطلب للاستيثاق من تاريخ إقامة الطالب بكل مكان نزله من وقت الحكم عليه ومدة تلك الإقامة وللوقوف على سلوكه ووسائل ارتزاقه وبوجه عام تتقصى كل ما تراه لازمًا من المعلومات وتضم التحقيق إلى الطلب وترفعه إلى المحكمة في الثلاثة أشهر التالية لتقديمه بتقرير يدون فيه رأيها وتقرر الأسباب التي بنى عليها ويرفق بالطلب صورة الحكم الصادر على الطالب وشهادة بسوابقه وتقرير عن سلوكه أثناء وجوده بالسجن، وتنظر المحكمة في الطلب وتفصل فيه في غرفة المشورة ويجوز لها سماع أقوال النيابة العمومية والطالب كما يجوز لها استيفاء كل ما تراه لازمًا من المعلومات ويكون إعلان الطالب بالحضور قبل الجلسة بثمانية أيام على الأقل - وقد نص القانون في المادة (536) من قانون الإجراءات الجنائية على أن المحكمة المختصة بنظر مواد رد الاعتبار هي محكمة الجنايات التابع لها محل إقامة المحكوم عليه فهي تفصل في طلبات رد الاعتبار إما برده إذا رأت أن سلوك الطالب يدعو إلى الثقة بحسن سيره وسلوكه وهنا ترسل النيابة العامة صورة من حكم رد الاعتبار إلى المحكمة التي صدر منها الحكم بالعقوبة للتأشير به على هامشه وتأمر أن يؤشر به في قلم السوابق – وإما أن تحكم برفض الطلب ولا يقبل الطعن في الحكم إلا بطريق النقض لخطأ في تطبيق القانون أو في تأويله وتتبع في الطعن الأوضاع والمواعيد المقررة للطعن بطريق النقض في الأحكام.
9 - رد الاعتبار القانوني:
صدر التشريع الجنائي المصري خلوًا من النص عليه إلى أن استحدثه قانون الإجراءات الجنائية الجديد في المادتين (550) و (551) فلقد اعتبر هذا القانون أن مجرد مرور اثني عشر عامًا على تنفيذ الأحكام الصادرة بعقوبة جناية أو بعقوبة جنحة في جريمة سرقة أو إخفاء أشياء مسروقة أو نصب أو خيانة أمانة أو تزوير أو شروع في هذه الجرائم وفي الجرائم المنصوص عليها في المادتين (355) و (356) عقوبات الخاصة بقتل الحيوانات أو تسميمها أو الإضرار بها ضررًا بليغًا وفي الجرائم المنصوص عليها في المادتين (367) و (368) عقوبات الخاصة بإتلاف المزروعات - يؤدي مرور هذه الفترة في هذا النوع من العقوبات إلى رد اعتبار المحكوم عليهم بحكم القانون وذلك ما لم يصدر على المحكوم عليهم خلال هذه الفترة حكم آخر بعقوبة في جناية أو جنحة - واعتبر المشرع في حكم تنفيذ هذه العقوبات العفو عنها أو سقوطها.
أما بالنسبة للمحكوم عليهم بعقوبة جنحة أخرى غير ما تقدم ذكره فيشترط القانون لرد الاعتبار فيها مضي ست سنوات من تاريخ تنفيذها أو العفو عنها دون أن يصدر على المحكوم عليه حكم آخر في جناية أو جنحة اللهم إلا إذا كان الحكم بعقوبة الجنحة قد اعتبر المحكوم عليه عائدًا أو كانت العقوبة قد سقطت بمضي المدة فتكون المدة اثني عشر عامًا.
وإذا كان المحكوم عليه قد صدرت ضده عدة أحكام فلا يرد اعتباره إليه بحكم القانون إلا إذا تحققت بالنسبة لكل منها الشروط المذكورة على أن يراعى في حساب المدة إسنادها إلى أحدث الأحكام.
10 - رد الاعتبار التجاري:
اشترطت المادة الثانية فقرة أخيرة من المرسوم بقانون (41) لسنة 1931 وجوب رد اعتبار المفلس التجاري إذا أراد رد اعتباره لسبق الحكم عليه في جريمة تفالس ولقد تأكد هذا الحكم في المادة (540) من قانون الإجراءات الجنائية فنصت على أنه (في حالة الحكم في جريمة تفالس يجب على الطالب أن يثبت أنه قد حصل على حكم برد اعتباره التجاري (RéHABILITATION COMMERCIALE فكأن الحصول على حكم برد الاعتبار التجاري شرط لازم لرد اعتباره الجنائي فإذا لم يتمكن الطالب من الحصول على حكم من الدائرة التجارية المختصة برد اعتباره التجاري فيتعين رفض طلبه لرد اعتباره الجنائي لسبق الحكم عليه لتفليسه بالتقصير أو بالتدليس.
ولا شك أن الحكم على التاجر بإشهار إفلاسه سواء بالتدليس banqueroute frauduleuse أو بالتقصير simple (يترتب عليه حرمانه من بعض الحقوق السياسية والمدنية بل ويؤثر في مركزه في الهيئة الاجتماعية، فلكي يستعيد مركزه السابق على الحكم بإشهار إفلاسه وبالتالي يتمتع بتلك الحقوق يتعين عليه أن يحصل على رد اعتباره تجاريًا).
ولقد تكفل قانون التجارة في نهاية مواده في الفصل الثالث عشر فنظم أحكامًا في إعادة اعتبار المفلس إليه في المواد من (408) إلى (419).
ولا داعي لشرح ما ورد بهذه المواد فهي من صميم أحكام القانون التجاري وإنما يجدر بنا في هذا الصدد أن نذكر أن القانون التجاري قد حرم المفلس بالتدليس من أن يرد اعتباره التجاري نهائيًا كما حرم بعض محكوم عليهم في جرائم أخرى فلقد نصت المادة (417) (لا يعاد الاعتبار أصلاً عن تفالس بالتدليس ولا لمن حكم عليه بسبب سرقة أو نصب أو خيانة ولا لمن باع عقارًا ليس له أو مرهونًا مع إخفاء رهنه ولا لمن لم يقدم حسابه ويوفِ المتأخر عليه وليًا كان أو وصيًا أو مأمورًا بإدارة أموال أو غيرهم ممن يكون ملزمًا بوفاء حساب مأموريته) إلا أنه يجوز أن يرد الاعتبار إلى المفلس بالتقصير الذي استوفى العقاب المحكوم عليه به وذلك إذا استوفى شروط رد الاعتبار وهي وجوب وفاء جميع المبالغ المطلوبة منه وفوائدها ومصاريفها كما نص القانون على إجراءات معينة لطلبات رد الاعتبار التجاري فأوجب تقديم الطلب إلى محكمة الاستئناف التابع لها المفلس مرفقًا به المخالصات المثبتة لوفائه لكل الديون وملحقاتها وأجاز القانون التجاري للدائنين أن يتدخلوا في طلب رد الاعتبار التجاري معارضين فيه إذا كان لهم ثمة اعتراض وإذا قضى برفض الطلب فلا يجوز تجديده إلا بعد مضي سنة ويترتب على الحكم برد الاعتبار التجاري زوال كل ما ترتب على حكم إشهار الإفلاس من آثار سواء أكانت خاصة بأموال المدين أم بحقوقه السياسية والمدنية.
ويمكن أن يستفاد مما تقدم أن رد الاعتبار التجاري قضائي لا قانوني فلا يحدث بحكم القانون كما هو الحال في فرنسا فاعتبر تشريعها مجرد مرور عشر سنوات من تاريخ إشهار الإفلاس برد الاعتبار إلى المفلس بحكم القانون إذا توافرت الشروط المطلوبة - أما في مصر فهو قضائي يجب للحكم به اللجوء إلى السلطة القضائية.
11 - آثار رد الاعتبار:
نصت عليها المادتان (552) و (553) من قانون الإجراءات الجنائية وهي تقابل المادتين (10) و (11) من المرسوم بقانون (41) لسنة 1931 ومضمونهما أنه يترتب على رد الاعتبار محو الحكم القاضي بالإدانة بالنسبة للمستقبل وزوال كل ما يترتب عليه من انعدام الأهلية والحرمان من الحقوق وسائر الآثار الجنائية كما لا يجوز الاحتجاج برد الاعتبار على الغير فيما يتعلق بالحقوق التي تترتب لهم من الحكم بالإدانة وعلى الأخص فيما يتعلق بالرد والتعويضات, فقد يقع أن الذين قضى لهم بتعويض مدني بموجب الحكم بالعقوبة الذي يمحو أثره رد الاعتبار لم توفِ إليهم حقوقهم في حالة تجاوز المحكمة عن هذا الشرط، وقد يقع أيضًا أن الذين أصابهم ضرر ولم يدعوا بالحقوق المدنية في الدعوى الجنائية يبقى لهم الحق في رفع دعوى مدنية مستقلة ضد المحكوم عليه فلا يجوز للمحكوم برد اعتباره أن يتخيل أن حكم رد اعتباره إليه يدفع عنه طلب التعويض المدني فإذا تطهر من الوجهة الجنائية فإنه لا يزال مسؤولاً عن تعويض كل ضرر ترتب على جريمته.
12 - خاتمة:
أما وقد فرغنا من هذا البحث الموجز في نظرية رد الاعتبار في التشريع المصري المعمول به وفي قانون الإجراءات الجنائية المزمع نشره، علنًا نكون قد وفينا الموضوع حقه ونأمل أن يحوز تقدير رجال الفقه والقضاء والله ولي التوفيق.
السنة الثانية والثلاثون سنة 1951
بحث في رد الاعتبار
دراسة قانونية تاريخية لأحكام رد الاعتبار في قانون الإجراءات الجنائية الجديد
لحضرة الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة ميت غمر
1 - تمهيد:
بمناسبة استقلال مصر القضائي بسبب إلغاء المحاكم المختلطة قام المشرع المصري بنهضة تشريعية فصدرت عدة تقنينات جديدة من بينها قانون الإجراءات الجنائية والذي لم يُنشر بعد في الجريدة الرسمية - ولا شك أن هذا القانون جاء معدلاً لأحكام قانون تحقيق الجنايات المعمول به الآن مستحدثًا لبعض النظم القضائية في المواد الجنائية أهمها الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام، ولا عجب إذا قلنا إنه بمناسبة هذه النهضة التشريعية الجديدة يتعين على كل مشتغل بالعلوم القانونية أن يساهم بنصيب في تلك النهضة فيتناول تلك الأحكام الجديدة بحثًا وتعليقًا - ولقد لاحظنا إبان دراستنا لهذا القانون أنه أورد أحكامًا في رد الاعتبار Réhabilitation تخالف أحكام القانون المعمول به وهو المرسوم بقانون رقم (41) لسنة 1931, فعن لنا بحثها من الوجهتين الفقهية والتاريخية.
2 - موضع رد الاعتبار في القانون الجنائي:
من المسلم به أن فقه القانون الجنائي يحتوي على نوعين من القواعد القانونية, الأولى موضوعية، والثانية شكلية، فالموضوعية هي القواعد المتعلقة بالجرائم وشروطها وأركانها وعقوباتها وهي مجموعة في تقنين واحد يسمى بقانون العقوبات, أما الشكلية فهي القواعد المتعلقة بالإجراءات التي تتبع عند وقوع الجرائم وهي مجموعة في تقنين ثانٍ أسماه المشرع المصري خطأ قانون تحقيق الجنايات ولم يرد في هذين التقنينين أحكام في رد الاعتبار وإنما صدر به قانون خاص هو المرسوم بقانون (41) لسنة 1931, ولما تناوله الشراح المصريون بالشرح أورده بعضهم عند بحث العقاب في قانون العقوبات القسم العام وأورده البعض الآخر عند شرح قانون تحقيق الجنايات في الباب الخاص بتنفيذ الأحكام ولقد صدر قانون الإجراءات الجنائية الجديد وأورد أحكام رد الاعتبار في الباب التاسع من الكتاب الرابع الخاص بتنفيذ الأحكام فأيد الاتجاه الأخير ولقد أحسن المشرع المصري صنعًا إذ أورد أحكام رد الاعتبار في قانون الإجراءات فما أحكام رد الاعتبار إلا أحكام تتعلق بالشكل لا بالموضوع.
3 - تطور تاريخي:
ليس نظام رد الاعتبار نظامًا حديثًا وإنما هو معروف إبان عهد الرومان فالقانون الروماني ميز بين العفو Grâce, indulgntia وبين ما أسماه برد الحالة Restitution de l’état Restitutia in intergrum رغم أن كليهما يصدران من ولي الأمر Prince فالعفو يمنع تنفيذ العقوبة أما رد الحالة إذا صدر عامًا مطلقًا فإنه يعيد إلى المحكوم عليه اعتباره بما فيها كافة حقوقه المدنية كأنه لم يحكم عليه بشيء – ولما جاء القانون الفرنسي القديم أيد هذا المبدأ - وكانت حالة المحكوم عليه ترجع إلى ما كانت عليه قبل الحكم بمقتضى خطابات تصدر من السلطان فكان رد الاعتبار في هذا العهد إداريًا لا دخل لأية سلطة أخرى فيه.
ولما جاءت الثورة الفرنسية ألغت الجمعية التأسيسية سنة 1791 كافة الحقوق التي يتمتع بها الملك Le souverain من بينها حق العفو واعتبرت رد الاعتبار عملاً صادرًا من الأمة نفسها لإصلاح الحالة الاجتماعية واعتبرته حقًا مقررًا لكل محكوم عليه فلم يعد يحمل صفة العفو mésure graciense ووضعت إجراءات وقواعد معينة في رد الاعتبار, ولما صدر القانون الفرنسي الحديث على هدى هذا الاتجاه الحديث أكد تلك القواعد والإجراءات وصدر بعد ذلك أمران في 18 إبريل سنة 1848 و 4 يوليو سنة 1852 معدلين لبعض أحكام رد الاعتبار ولقد أصبح رد الاعتبار في هذا العهد إداريًا ذا صفة قضائية فكانت محكمة الاستئناف التي يقيم في دائرتها طالب رد الاعتبار تبدي رأيها في طلب رد الاعتبار فإذا كان في مصلحة الطالب يحول إلى النائب العام ثم وزير العدل وهذا الأخير يستصدر أمرًا برد اعتبار الطالب من رئيس الدولة.
وظل الحال على هذا المنوال إلى أن صدر القانون المؤرخ في 14 أغسطس سنة 1885 فنقل الاختصاص في مسائل رد الاعتبار برمته إلى محكمة الاستئناف وحدها فأصبحت تفصل فيه على هدى ما يستبين لها من ظروف.
وفي 5 أغسطس سنة 1895, أدخل في فرنسا نظام رد الاعتبار القانوني الذي سنبحثه فيما بعد.
أما في مصر فلم يرد في التقنينات الجنائية أحكام لرد الاعتبار أكثر من الطلبات المقدمة إلى وزارة العدل بالتماس العفو عن العقوبات فاضطر المشرع المصري إلى سرعة معالجة التشريع القائم بتنظيم طريقة قانونية لرد الاعتبار فصدر في 5 مارس سنة 1931 المرسوم بقانون رقم (41) لسنة 1931 بشأن إعادة الاعتبار وينطبق على المحاكم الوطنية واشتمل على اثنتي عشرة مادة تناول فيها طريقة رد اعتبار المحكوم عليهم القضائية فجعل الحق في الحكم في رد الاعتبار لمحكمة الاستئناف - ولما صدر قانون تحقيق الجنايات الجديد للمحاكم المختلطة في 31 يوليو سنة 1937 وردت به أحكام لرد الاعتبار أمام المحاكم المختلطة في المواد (343) إلى (353) وجعل رد الاعتبار قضائيًا أيضًا فحسب.
ولم يؤيد المشرع المصري فكرة رد الاعتبار القانوني إلا في حالة واحدة وردت في قانون العقوبات في أحكام إيقاف التنفيذ فنصت المادة (59) من هذا القانون على أنه إذا انقضت مدة الإيقاف ولم يكن صدر في خلالها حكم بإلغائه فلا يمكن تنفيذ العقوبة بها ويعتبر الحكم كأن لم يكن – ولقد جرى قضاء محاكم الاستئناف على أنه لا يرد اعتبار المحكوم عليهم بأحكام مع إيقاف تنفيذها إذ يكتفى فيها بمرور المدة القانونية عليها وهي خمس سنوات حتى يعتبر الحكم كأن لم يكن ولا حاجة لرد اعتبار المحكوم عليه فيها.
وظلت الحالة على هذا النحو السابق إلى أن صدر قانون الإجراءات الجنائية الجديد والذي لم يُنشر بعد متضمنًا أحكامًا خاصة لرد الاعتبار وذلك في المواد من (536) إلى (553) أجاز فيها علاوة على طريقة رد الاعتبار القضائية طريقة أخرى هي رد الاعتبار القانونية أي بحكم القانون وذلك في المادتين (550) و (551) وذلك تمشيًا منه مع ما جرى عليه التشريع الحديث والقانون المقارن.
4 - تعريف رد الاعتبار:
لا شك أن الحكم بعقوبة جناية أو جنحة يؤدي من الانتقاص من شخصية المحكوم عليه ويحول دون استعادة مكانته الاجتماعية اللائقة ودون الوصول إلى مركز شريف إذ أن الحكم بالعقاب يتبعه في غالب الأحوال الحرمان من بعض الحقوق السياسية والمدنية ويسجل في قلم السوابق فيتعذر على المحكوم عليه الاندماج ثانية في الهيئة الاجتماعية, كما أنه ليس من العدل أن يحرم شخص من أن يتبوأ في الهيئة الاجتماعية المركز اللائق بكل وطني صالح إذا بذل مجهودًا ليحسن سيره وسلوكه وأقام الدليل على هذا بمرور فترة معينة دون أن يرتكب حوادث، ما لهذا قررت أغلب الشرائع أحكامًا برد اعتبار المحكوم عليهم وجعلته نظامًا مقررًا لصالح المحكوم عليهم بموجبه يستطيعون أن يحسنوا سيرهم وسلوكهم بغية مكافأتهم برد اعتبارهم إليهم كما أنه نظام مقرر لصالح الهيئة الاجتماعية نفسها فمن مصلحتها أن يندمج فيها كل من تاب وأصلح فيؤدي أعمالاً لصالح نفسه ولصالح المجموع في آن واحد - فما رد الاعتبار في الحقيقة إلا طريقة أدخلها الشارع المصري كي يمكِّن المحكوم عليهم من أن يستعيدوا حقوقهم السياسية والمدنية وبالتالي يندمجون في المجتمع مستردين مكانتهم السابقة للحكم.
5 - أنواع رد الاعتبار:
ورد الاعتبار إما أن يكون قضائيًا أو قانونيًا فرد الاعتبار القضائي هو مجموعة الإجراءات التي تتبع أمام جهة قضائية للحكم لطالبي رد الاعتبار بإعادة اعتبارهم إليهم فهو من صميم سلطان الهيئة القضائية تفصل فيه حسبما يتراءى لها من ظروف الطالب عما إذا كان جديرًا برد اعتباره إليه إذا حسن سيره وقوم نفسه منذ صدور الحكم عليه أم غير جدير, أما رد الاعتبار القانوني فهو يتقرر بحكم القانون de plein droit فمجرد مرور مدة يعينها القانون دون ارتكاب المحكوم عليه جرائم في خلالها يتعين رد اعتباره من تلقاء نفسه d’office دون حاجة إلى اللجوء إلى السلطة القضائية فهو رد اعتبار حتمي ipso facto légale إلا أن هذا النوع من رد الاعتبار قد استهدف لبعض الانتقادات فلقد قيل إنه يسمح لشخص ذي سيرة غير حميدة يعيش عيشة غير شريفة سلوكه شائن أن يستعيد اعتباره إذا مضت مدة معينة لم يرتكب فيها جريمة أو بعبارة أدق استطاع إخفاء ما يرتكبه من جرائم فأفلت من يد العدالة والقانون إلا أنه رغم هذا النقد الذي لا يوجه في الحقيقة إلا إلى نفر قليل من المحكوم عليهم فإن الاتجاه السائد في التشريع الحديث يميل إلى تأييد هذا النظام الأخير.
ولا يصح الخلط بين رد الاعتبار السابق شرحه وبين ما يسمى بالعفو الشامل أو العفو عن الجريمة أو كما يسميه بعض الشراح برد الاعتبار التشريعي, فرد الاعتبار الذي نحن بصدده ما هو إلا مكافأة شخصية على حسن سلوك المحكوم عليهم لا يكون إلا بعد تنفيذ العقوبة ولا يمحو الحكم بل يرفع آثاره بالنسبة للمستقبل أما رد الاعتبار التشريعي فهو يصدر بقانون في ظروف معينة ويكون في غالب الأحيان تدبيرًا سياسيًا يتخذ لغرض عام بقصد تسكين الخواطر وإسدال الستار عما وقع من حوادث ويترتب عليه اعتبار الجريمة كأنها لم تكن من الوجهة الجنائية.
كما يتميز رد الاعتبار عن العفو عن العقوبة grâce ولقد أفتى مجلس الدولة الفرنسي في 21 ديسمبر سنة 1822, أنهما يختلفان في المبدأ والآثار فالعفو عن العقوبة منحة من ولي الأمر يلتمسها solliciter المحكوم عليه فإذا أجيب إليه يصدر له خطاب عفو letter de grâce وبالتالي لا ينفذ الحكم عليه إنما يظل أثر الحكم قائمًا من حيث العود récidive ويحرر في صحيفة سوابقه وأحيانًا لا يشمل العقوبات التبعية - أما رد الاعتبار فهو حق للمحكوم عليه يكتسبه من حسن سيرته وسلوكه ويمحو الحكم بالإدانة وكافة نتائجه في الحال والاستقبال وعلى حد تعبير مجلس الدولة الفرنسي
La grâce et la réhabilitation différent essentiellement soit dans leur principe soit dans leur effets, que la grâce dérive de la clémence du Roi, la réhabilitation de sa justice… etc.
6 - طلب رد الاعتبار القضائي:
نصت المادة (536) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجوز رد الاعتبار إلى كل محكوم عليه في جناية أو جنحة وهذه المادة تقابل المادة الأولى من المرسوم بقانون (41) لسنة 1931.
ولا شك أن هذا النص جاء عامًا مطلقًا غير مقيد بقيد فلكل محكوم عليه في جناية أو جنحة أن يطلب رد اعتباره لسابقة الحكم فيها سواء أكانت العقوبة مقيدة للحرية أم مالية وسواء أأفقدته حقوقه السياسية والمدنية أم لم تفقده.
ولقد حكم بأنه يجوز رد الاعتبار في عقوبة صدرت في جنح الضرب والإصابة الخطأ - على أنه لا يجوز رد الاعتبار في عقوبات المخالفات.
وإذا رجعنا إلى حالة فرنسا التشريعية وجدنا تطورًا في التشريع فلقد كان القانون القديم يحدد رد الاعتبار في حالات خاصة وبالنسبة لجرائم معينة كالمحكوم عليهم بعقوبات ماسة بالشرف فلم يكن النص عامًا كما هو الحال في مصر وظل التشريع على هذا النحو إلى أن ناله التطور شيئًا فشيئًا حتى صدر نص عام يبيح رد الاعتبار في كافة الحالات.
ومن المقرر أنه لا يجوز رد اعتبار المحكوم عليه إلا مرة واحدة وهو ما نصت عليه المادة الخامسة من قانون رد الاعتبار رقم (41) لسنة 1931 وما أكدته المادة (547) من قانون الإجراءات الجنائية الجديد فلا يسوغ لمن حكم برد اعتباره وارتكب جريمة حكم عليه فيها أن يجدد طلبه مرة ثانية إذ هذا النوع من المجرمين غير جديرين باحترام القانون لهم ورعايتهم ما دام قد ساء سلوكهم وعادوا إلى حياتهم الإجرامية السابقة على رد الاعتبار.
7 - شروط رد الاعتبار القضائي:
وهي ما نصت عليها المواد (537) و (538)، (539) و (541) و (548) و (549) من القانون فهذه المواد توجب توافر ثلاثة شروط لإمكان الحكم برد الاعتبار:
الأول: هو وجوب تنفيذ العقوبة exécution de la peine فتنفيذ العقوبة واجب لرد الاعتبار ويقصد بالعقوبة هنا جميع العقوبات الصادرة على طالب رد الاعتبار إذا كانت متعددة ويعتبر في حكم التنفيذ صدور أمر من ولي الأمر بالعفو عن العقوبة أو سقوطها بمضي المدة طبقًا للقانون.
والثاني: هو وجوب وفاء جميع الالتزامات المالية payement des condamnations pécuniaires فيحب للحكم برد اعتبار الطالب أن يوفي بكل ما حكم به عليه من غرامة أو رد أو تعويض أو مصاريف وحكمة هذا الشرط هو أنه يتعين على المحكوم عليه أن يصلح كافة ما نجم من ارتكابه لجريمته كي يمكن إسدال الستار عليها ومحو كافة آثارها - إلا أن للمحكمة أن تتجاوز عن هذا الشرط إذا أثبت المحكوم عليه أنه ليس بحال يستطيع معها الوفاء وإذا لم يوجد المحكوم له بالتعويضات أو الرد أو التعويض أو المصاريف أو امتنع عن قبولها وجب على المحكوم أن يودعها طبقًا لما هو مقرر في قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية، وإذا كان المحكوم عليه قد صدر عليه الحكم بالتضامن يكفي أن يدفع مقدار ما يخصه شخصيًا في الدين وعند الاقتضاء تعين المحكمة الحصة التي يجب عليه دفعها.
والثالث: هو مرور فترة هي مدة الاختبار المقررة في القانون دون أن يشوبها أية شائبة
épreuve d’une bonne conduite pandant un délai de temps.
ولا شك أن مرور هذه الفترة دون أن يحدث فيها ما يشين طالب رد الاعتبار تعتبر أمرًا ظاهرًا منضبطًا مناسبًا لضمان حسن سير وسلوك الطالب ولقد تفاوتت هذه الفترة بحسب نوع الجرائم والعقوبات فإذا كانت العقوبة المحكوم عليه فيها عقوبة جناية فهذه المدة هي خمسة عشر عامًا وإذا كانت عقوبة جنحة فهي ثماني سنوات أما في حالة الحكم للعود أو سقوط العقوبة بمضي المدة فهي خمسة عشر عامًا - وهذه المدد نصت عليها مواد المرسوم بقانون رقم (41) لسنة 1931، أما قانون الإجراءات الجنائية الجديد فقد قصر هذه المدة فحددها بست سنوات في عقوبة الجناية وثلاث سنوات في عقوبة الجنحة وتضاعف هذه المدد في حالتي الحكم للعود وسقوط العقوبة بمضي المدة - ولقد ضاعف القانون المدة في حالة الحكم للعود لحكمة رآها هي أن من حكم عليه بعقوبة مشددة لسبق الحكم عليه في جريمة مماثلة له يجب أن تمر فترة كافية لاختباره والوثوق من أنه قد ارتدع وقوم نفسه - كما أن المشرع ضاعف المدة في حالة سقوط العقوبة بمضي المدة لنفس الحكمة السابقة إذ أن المحكوم عليه لم يرتدع من صدور الحكم عليه بالعقوبة لعدم تنفيذها عليه ويتعين انتظار فترة من الزمن لإمكان الحكم على سيره وسلوكه – ولا شك أن هذه المدد تبدأ من تاريخ انتهاء تنفيذ العقوبة أو تاريخ وجوب انقضاء التنفيذ إذا أفرج عن المحكوم عليه تحت شرط, أما إذا حكم على طالب رد الاعتبار علاوة على العقوبة بالمراقبة مدة من الزمن فتبدأ المدة من اليوم الذي تنتهي فيه مدة المراقبة, وفي حالة العفو تبدأ المدة من تاريخ خطاب العفو - وغني عن البيان أن هذه العقوبة يقصد بها آخر عقوبة حكم فيها على المتهم فمن تاريخ انتهاء تنفيذ آخر عقوبة حكم فيها على طالب رد الاعتبار تحتسب المدة.
فإذا ما توافرت هذه الشروط ورأت المحكمة أن سلوك طالب رد الاعتبار يدعو إلى الثقة بتقديم نفسه تحكم برد اعتباره إليه وإلا يتعين رفض الطلب وفي هذه الحالة الأخيرة لا يجوز تجديد الطلب بسبب رفضه لسوء سلوك الطالب إلا بعد سنتين من هذا الرفض أما إذا كان سبب الرفض هو أن المحكوم عليه لم ينفذ سائر الشروط الأخرى فيجوز تجديد الطلب متى توافرت هذه الشروط.
ولقد نصت المادة (549) من قانون الإجراءات الجنائية الجديد على أنه يجوز إلغاء الحكم الصادر برد الاعتبار إذا ظهر أن المحكوم عليه صدرت ضده أحكام أخرى لم تكن المحكمة قد علمت بها أو حكم عليه فيها بعد رد الاعتبار في جريمة وقعت قبله وذلك بناءً على طلب من النيابة العامة.
8 - إجراءات رد الاعتبار القضائي:
وهي ما نصت عليها المواد (542)، (543)، (544)، (545)، (546) من قانون الإجراءات الجنائية فذكرت هذه المواد أن طلب رد الاعتبار يقدم بعريضة إلى النيابة العامة ويجب أن يشتمل على البيانات اللازمة لتعيين شخصية الطالب وأن يبين فيها تاريخ الحكم الصادر عليه والأماكن التي أقام فيها من ذلك الحين ثم تجري النيابة العامة تحقيقًا بشأن الطلب للاستيثاق من تاريخ إقامة الطالب بكل مكان نزله من وقت الحكم عليه ومدة تلك الإقامة وللوقوف على سلوكه ووسائل ارتزاقه وبوجه عام تتقصى كل ما تراه لازمًا من المعلومات وتضم التحقيق إلى الطلب وترفعه إلى المحكمة في الثلاثة أشهر التالية لتقديمه بتقرير يدون فيه رأيها وتقرر الأسباب التي بنى عليها ويرفق بالطلب صورة الحكم الصادر على الطالب وشهادة بسوابقه وتقرير عن سلوكه أثناء وجوده بالسجن، وتنظر المحكمة في الطلب وتفصل فيه في غرفة المشورة ويجوز لها سماع أقوال النيابة العمومية والطالب كما يجوز لها استيفاء كل ما تراه لازمًا من المعلومات ويكون إعلان الطالب بالحضور قبل الجلسة بثمانية أيام على الأقل - وقد نص القانون في المادة (536) من قانون الإجراءات الجنائية على أن المحكمة المختصة بنظر مواد رد الاعتبار هي محكمة الجنايات التابع لها محل إقامة المحكوم عليه فهي تفصل في طلبات رد الاعتبار إما برده إذا رأت أن سلوك الطالب يدعو إلى الثقة بحسن سيره وسلوكه وهنا ترسل النيابة العامة صورة من حكم رد الاعتبار إلى المحكمة التي صدر منها الحكم بالعقوبة للتأشير به على هامشه وتأمر أن يؤشر به في قلم السوابق – وإما أن تحكم برفض الطلب ولا يقبل الطعن في الحكم إلا بطريق النقض لخطأ في تطبيق القانون أو في تأويله وتتبع في الطعن الأوضاع والمواعيد المقررة للطعن بطريق النقض في الأحكام.
9 - رد الاعتبار القانوني:
صدر التشريع الجنائي المصري خلوًا من النص عليه إلى أن استحدثه قانون الإجراءات الجنائية الجديد في المادتين (550) و (551) فلقد اعتبر هذا القانون أن مجرد مرور اثني عشر عامًا على تنفيذ الأحكام الصادرة بعقوبة جناية أو بعقوبة جنحة في جريمة سرقة أو إخفاء أشياء مسروقة أو نصب أو خيانة أمانة أو تزوير أو شروع في هذه الجرائم وفي الجرائم المنصوص عليها في المادتين (355) و (356) عقوبات الخاصة بقتل الحيوانات أو تسميمها أو الإضرار بها ضررًا بليغًا وفي الجرائم المنصوص عليها في المادتين (367) و (368) عقوبات الخاصة بإتلاف المزروعات - يؤدي مرور هذه الفترة في هذا النوع من العقوبات إلى رد اعتبار المحكوم عليهم بحكم القانون وذلك ما لم يصدر على المحكوم عليهم خلال هذه الفترة حكم آخر بعقوبة في جناية أو جنحة - واعتبر المشرع في حكم تنفيذ هذه العقوبات العفو عنها أو سقوطها.
أما بالنسبة للمحكوم عليهم بعقوبة جنحة أخرى غير ما تقدم ذكره فيشترط القانون لرد الاعتبار فيها مضي ست سنوات من تاريخ تنفيذها أو العفو عنها دون أن يصدر على المحكوم عليه حكم آخر في جناية أو جنحة اللهم إلا إذا كان الحكم بعقوبة الجنحة قد اعتبر المحكوم عليه عائدًا أو كانت العقوبة قد سقطت بمضي المدة فتكون المدة اثني عشر عامًا.
وإذا كان المحكوم عليه قد صدرت ضده عدة أحكام فلا يرد اعتباره إليه بحكم القانون إلا إذا تحققت بالنسبة لكل منها الشروط المذكورة على أن يراعى في حساب المدة إسنادها إلى أحدث الأحكام.
10 - رد الاعتبار التجاري:
اشترطت المادة الثانية فقرة أخيرة من المرسوم بقانون (41) لسنة 1931 وجوب رد اعتبار المفلس التجاري إذا أراد رد اعتباره لسبق الحكم عليه في جريمة تفالس ولقد تأكد هذا الحكم في المادة (540) من قانون الإجراءات الجنائية فنصت على أنه (في حالة الحكم في جريمة تفالس يجب على الطالب أن يثبت أنه قد حصل على حكم برد اعتباره التجاري (RéHABILITATION COMMERCIALE فكأن الحصول على حكم برد الاعتبار التجاري شرط لازم لرد اعتباره الجنائي فإذا لم يتمكن الطالب من الحصول على حكم من الدائرة التجارية المختصة برد اعتباره التجاري فيتعين رفض طلبه لرد اعتباره الجنائي لسبق الحكم عليه لتفليسه بالتقصير أو بالتدليس.
ولا شك أن الحكم على التاجر بإشهار إفلاسه سواء بالتدليس banqueroute frauduleuse أو بالتقصير simple (يترتب عليه حرمانه من بعض الحقوق السياسية والمدنية بل ويؤثر في مركزه في الهيئة الاجتماعية، فلكي يستعيد مركزه السابق على الحكم بإشهار إفلاسه وبالتالي يتمتع بتلك الحقوق يتعين عليه أن يحصل على رد اعتباره تجاريًا).
ولقد تكفل قانون التجارة في نهاية مواده في الفصل الثالث عشر فنظم أحكامًا في إعادة اعتبار المفلس إليه في المواد من (408) إلى (419).
ولا داعي لشرح ما ورد بهذه المواد فهي من صميم أحكام القانون التجاري وإنما يجدر بنا في هذا الصدد أن نذكر أن القانون التجاري قد حرم المفلس بالتدليس من أن يرد اعتباره التجاري نهائيًا كما حرم بعض محكوم عليهم في جرائم أخرى فلقد نصت المادة (417) (لا يعاد الاعتبار أصلاً عن تفالس بالتدليس ولا لمن حكم عليه بسبب سرقة أو نصب أو خيانة ولا لمن باع عقارًا ليس له أو مرهونًا مع إخفاء رهنه ولا لمن لم يقدم حسابه ويوفِ المتأخر عليه وليًا كان أو وصيًا أو مأمورًا بإدارة أموال أو غيرهم ممن يكون ملزمًا بوفاء حساب مأموريته) إلا أنه يجوز أن يرد الاعتبار إلى المفلس بالتقصير الذي استوفى العقاب المحكوم عليه به وذلك إذا استوفى شروط رد الاعتبار وهي وجوب وفاء جميع المبالغ المطلوبة منه وفوائدها ومصاريفها كما نص القانون على إجراءات معينة لطلبات رد الاعتبار التجاري فأوجب تقديم الطلب إلى محكمة الاستئناف التابع لها المفلس مرفقًا به المخالصات المثبتة لوفائه لكل الديون وملحقاتها وأجاز القانون التجاري للدائنين أن يتدخلوا في طلب رد الاعتبار التجاري معارضين فيه إذا كان لهم ثمة اعتراض وإذا قضى برفض الطلب فلا يجوز تجديده إلا بعد مضي سنة ويترتب على الحكم برد الاعتبار التجاري زوال كل ما ترتب على حكم إشهار الإفلاس من آثار سواء أكانت خاصة بأموال المدين أم بحقوقه السياسية والمدنية.
ويمكن أن يستفاد مما تقدم أن رد الاعتبار التجاري قضائي لا قانوني فلا يحدث بحكم القانون كما هو الحال في فرنسا فاعتبر تشريعها مجرد مرور عشر سنوات من تاريخ إشهار الإفلاس برد الاعتبار إلى المفلس بحكم القانون إذا توافرت الشروط المطلوبة - أما في مصر فهو قضائي يجب للحكم به اللجوء إلى السلطة القضائية.
11 - آثار رد الاعتبار:
نصت عليها المادتان (552) و (553) من قانون الإجراءات الجنائية وهي تقابل المادتين (10) و (11) من المرسوم بقانون (41) لسنة 1931 ومضمونهما أنه يترتب على رد الاعتبار محو الحكم القاضي بالإدانة بالنسبة للمستقبل وزوال كل ما يترتب عليه من انعدام الأهلية والحرمان من الحقوق وسائر الآثار الجنائية كما لا يجوز الاحتجاج برد الاعتبار على الغير فيما يتعلق بالحقوق التي تترتب لهم من الحكم بالإدانة وعلى الأخص فيما يتعلق بالرد والتعويضات, فقد يقع أن الذين قضى لهم بتعويض مدني بموجب الحكم بالعقوبة الذي يمحو أثره رد الاعتبار لم توفِ إليهم حقوقهم في حالة تجاوز المحكمة عن هذا الشرط، وقد يقع أيضًا أن الذين أصابهم ضرر ولم يدعوا بالحقوق المدنية في الدعوى الجنائية يبقى لهم الحق في رفع دعوى مدنية مستقلة ضد المحكوم عليه فلا يجوز للمحكوم برد اعتباره أن يتخيل أن حكم رد اعتباره إليه يدفع عنه طلب التعويض المدني فإذا تطهر من الوجهة الجنائية فإنه لا يزال مسؤولاً عن تعويض كل ضرر ترتب على جريمته.
12 - خاتمة:
أما وقد فرغنا من هذا البحث الموجز في نظرية رد الاعتبار في التشريع المصري المعمول به وفي قانون الإجراءات الجنائية المزمع نشره، علنًا نكون قد وفينا الموضوع حقه ونأمل أن يحوز تقدير رجال الفقه والقضاء والله ولي التوفيق.
بحث في الغرامة الجنائية وسبيل تنفيذها
مجلة المحاماة - العدد الثامن والتاسع
السنة العاشرة - 1929 - 1930
بحث في الغرامة الجنائية وسبيل تنفيذها
وقع تحت نظري منشور سعادة النائب العمومي رقم (108) سنة 1929 الذي تضمن تعليمات للنيابات بخصوص تنفيذ الغرامات التي يقضي بها في جرائم المخدرات ذلك المنشور الذي صدر عقب مباحثة حكمدار العاصمة بصفته رئيسًا لمكتب المخدرات مع سعادته وما لاحظه من أنه لم ينفذ من مجموع الغرامات التي قضى بها من أول يناير حتى 31 أكتوبر سنة 1929 في قضايا المخدرات وقدرها 577.000 ألف جنيه إلا خمسة آلاف جنيه فقط (راجع تقرير مكتب المخدرات صـ 52 النسخة الفرنسية)، وقد تضمن المنشور ما يأتي:
يجب ألا يفوت النيابة أن الإكراه البدني الذي لا يمكن أن تزيد مدته في مواد الجنح على التسعين يومًا لا يعفي المحكوم عليه من كل ما هو محكوم به بل إن ما يتبقى من الغرامات محسوبًا على مقتضى المادة (270) من قانون تحقيق الجنايات دين للخزانة يجوز تحصيله بكافة الطرق المدنية الممكنة، إذن فالنيابة مكلفة باتخاذ كافة الوسائل المذكورة كالتنفيذ على أموال المدين ثابتة كانت أو منقولة وكالحجز لدى الغير.
وهذا الرأي الذي تضمنه المنشور صريح في عدم إبراء ذمة المحكوم عليه بغرامة والذي نفذت عليه بطريق الإكراه البدني لأقصى مدتها وهو ثلاثة شهور إلا من القدر الذي يحسب له بمقتضى المادة (270 ت. ج)، وحث النيابات على ضرورة التنفيذ على المحكوم عليه بما تبقى من الغرامة وهو ما نريد أن نعرض له في هذا البحث وما لا نرى بدًا من افتتاحه بمقدمة تاريخية عن عقوبة الغرامة راجعين إلى القانون الفرنسي الملهم لقانوننا الحالي.
مصدر الغرامة الجنائية في فرنسا
يرى شوفو وهيلي في كتابهما (نظرية قانون العقوبات) جزء 1 صـ 216 أن عقوبة الغرامة ترجع في الغالب إلى التقاليد الناشئة من العرف الفرنكي والجرماني أكثر مما ترجع إلى القانون الروماني، وبمقتضى هذا العرف كانت الجرائم مهما بلغت من خطورة قابلة للتصالح عليها في نظير مبلغ من المال يدفع جزء منه إلى الملك أو إلى أمير الإقطاع الذي كانت العدالة تقام في أرضه والباقي إلى المجني عليه، ولما ألغيت هذه المصالحات وقد بقيت آثارها حتى القرن الرابع عشر استبقى ذلك الجزء الذي كان يدفع للملك وسمي Amende بقصد تعويض الملك وأمراء الإقطاع عن المصاريف التي يتكبدونها في مطاردة المجرمين وقد روعي أن تكون متدرجة حسب الأغراض المطلوبة منها وأنها صالحة جد صلاحية لبعض الجرائم وأنها قابلة للتجزئة وقد ينزل حدها الأدنى إلى مبلغ ضئيل وأن تبرأ ذمة الحكومة عليه بها بمجرد دفعها، حتى أن بنتام ذكر في كتابه عن نظرية العقوبات صـ 340 أنه لا يوجد عقوبة مثلها يمكن توقيعها بأكبر قسط من المساواة وأكثر قابلية للاتفاق مع الحالة المالية لمن يحكم عليه بها فإذا جرد شخصان مثلاً من عشر أملاكهما كان الحرمان الذي يشعر به كلاهما واحدًا، وقد رغبت الشرائع القديمة في ملافاة نتائجها السيئة فقضت باعتبار الغرامات المبالغ فيها باطلة بنص القانون (فارنياشيوس في كتابه الجريمة والعقوبة).
وأعطيت للقاضي سلطة تخفيفها بل والإعفاء منها وكان الفقراء يعفون من دفعها بدون أن توقع عليهم عقوبة جسمانية في مقابل ذلك الإعفاء.
وقد سارت أغلب الشرائع الحديثة على ترك حرية التقدير للقاضي في توقيعها، وذكر القانون النمساوي في المواد (25) و(26) و(27) و(28) من قانون العقوبات أن الغرامة تفرض على نسبة دخل المتهم، وذكر في العهد الأكبر الإنجليزي أن العقوبة المالية يكون أساسها في التقدير وسائل الدخل ومركز المتهم ويجب ألا تكون ثقيلة حتى تلجئ المزارع إلى هجر غيطه أو التاجر إلى ترك حانوته أو العامل على بيع آلات الزراعة، وذكر القانون البلجيكي (م - 4) أنه في حالة عدم دفع الغرامة ينفذ بالحبس على المحكوم عليه، وليس هنا محل بيان التطورات التي سار عليها التشريع الفرنسي ونكتفي بالقول بأن قانون العقوبات ترك تحديد مقدار الغرامة إلى تقدير القاضي ونص على الحد الأعلى الذي يجب ألا يتجاوزه ذلك الحد الذي يختلف حسب خطورة الجريمة بدون الاهتمام بحالة المتهم المالية، ولكن في حالات كثيرة يحول عسر المحكوم عليه عن تنفيذ الغرامة ومن هنا نشأ إحلال العقوبة الجسمانية محلها ومرجع ذلك للقانون الروماني، وقد ظهر هذا المبدأ جليًا في القانون الفرنسي القديم الذي نص على أنه إذا لم يدفع المحكوم عليه الغرامة في ظرف ستة شهور من تاريخ الحكم تستبدل المحكمة العقوبات الجسمانية بعقوبة الغرامة وجاءت القوانين الحديثة وحددت مقدار ما يستنزل يوميًا عن كل يوم من الأيام التي تنفذ على المحكوم عليه بالحبس من أجل الغرامة.
في التنفيذ بالإكراه البدني لتحصيل الغرامة:
نص في المادة (52) من قانون العقوبات الفرنسي على جواز التنفيذ بالإكراه البدني لتحصيل الغرامات المحكوم بها أو المصاريف أو التعويضات أو الرد وهذا النص لم يكن إلا إقرارًا لنصوص القوانين القديمة كما أسلفنا القول، ولكن هذه القاعدة لم تؤخذ على علاتها من القانون القديم بل حصل تغيير في مدى تطبيقها فقد كان أجل الإكراه في القانون القديم غير محدد وتنتهي مدته بالدفع ولكن قانون العقوبات عدل في ذلك فأخذ بهذه القاعدة في الغرامات المحكوم بها في الجنايات وجعل أقصى مدة الإكراه شهرًا في الجنح، وذكر المسيو تارجيه Target في تعيين مبادئ قانون العقوبات ما يأتي:
في كل الحالات التي تصبح فيها الأمة دائنة يحسن أن يكون للإكراه البدني أجل يبتدئ من انتهاء العقوبة الجسمانية التي توقع على المتهم وبعد هذا الأجل أن قام دليل على استمرار حالة الإعسار يفرج عن المتهم مؤقتًا - لوكريه جزء 29 صـ 27 وجعلت أخيرًا أقصى مدة الإكراه البدني سنة في الجنايات وستة شهور في الجنح ونص على أن للحكومة الحق في إعادة التنفيذ بالإكراه البدني إذا رجعت للمتهم وسائل يسار، وتعدلت هذه المادة بقانون 17 إبريل سنة 831 و13 ديسمبر 848 و22 يوليو سنة 867، ونكتفي هنا بالقول بأن الغرض من القانون الأخير كان القضاء على مبدأ التنفيذ بالإكراه البدني ولذلك فقد منع من أجل الديون التجارية والمدنية وأبقى في المسائل الجنائية، ويهمنا أن نقتطف بعضًا مما ورد في المذكرة التفسيرية لهذا القانون (شوفو وهيلي جزء 1 صـ 307).
(وقد لوحظ أن يكون الإكراه البدني وسيلة من وسائل التنفيذ ضد المحكوم عليهم الذين يستطيعون دفع الغرامة أما ضد المعسرين فقد اعتبر بمثابة عقوبة جديدة تحل محل الأولى) وحددت مدة الإكراه البدني طبقًا لمبلغ الغرامة التي يحكم بها بحيث لا تتجاوز سنتين عن الغرامة التي تبلغ 2000 فرنك، وتنتهي مدة الإكراه البدني:
1 - إذا قدم المحكوم عليه كفيلاً.
2 - إذا قدم ما يثبت إعساره وفي الحالة الأخيرة يفرج عنه بعد تمضية نصف المدة المقدرة بالحكم.
طبيعة الإكراه البدني - هل هو عقوبة جديدة أم طريق من طرق التنفيذ:
سكت القانون الفرنسي عن تبديد اللبس الذي يحوط هذا الموضوع فذهب بعض الشراح إلى أن الإكراه البدني هو في الواقع عقوبة جسمانية تحل محل عقوبة الغرامة وذهب البعض الآخر إلى أن الإكراه البدني ليس إلا وسيلة من وسائل التنفيذ، وحجة الأولين أنه ينفذ على المحكوم عليه بالغرامة مهما برر أسباب إعساره وأنه ينفذ عليه بالإكراه البدني لمدد تختلف حسب خطورة الغرامة المقضي بها وأنه متى نفذ عليه مرة من أجل غرامة فلا يصح التنفيذ عليه مرة أخرى لتحصيل تلك الغرامة، الأمر الذي يدل على أن التنفيذ بالإكراه البدني قد حل محل الغرامة ومظهر ذلك تداخل النيابة العمومية في هذا التنفيذ (ورغبة الشارع في معاقبة المجرمين الذين يفرون من العقوبة بالاختباء وراء الإعسار حتى يمضوا بذلك مدة في الحبس).
هذه هي الحجج القوية التي يستعين بها أنصار هذا الرأي على التدليل على مذهبهم، أما أنصار الرأي الآخر الذي يعتبر التنفيذ بالإكراه البدني وسيلة من وسائل التنفيذ فقط فيلجأون إلى النصوص ويقولون إنها صامتة لم تصرح بأن التنفيذ بالإكراه البدني يحل محل الغرامة كما نص عليه في القانون الزراعي مثلاً Code Rural الصادر سنة 1791 وإذن فلا يمكن الوصول إليه استنتاجًا مهما كانت قوة الحجج التي تقدم.
في القانون المصري قبل سنة 1904:
يظهر أن الشارع المصري سنة 1882 كان يأخذ بالنظرية الثانية فضمن المواد (48)، (51) من قانون العقوبات مبادئه بهذا الخصوص والذي يهمنا منها المادة الأخيرة التي نص فيها على أن التنفيذ بالإكراه البدني لا يبرئ ذمة المحكوم عليه من الغرامة المقضي عليه بها كما لا تبرأ ذمته أيضًا من المصاريف ولا من الرد ويمكن التنفيذ على أملاكه من أجل تلك المبالغ إذا زالت حالة إعساره بعد التنفيذ عليه أو إذا كان لديه أملاك - واضح إذن من تلك المادة أن الشارع المصري كان من رأيه أن التنفيذ بالإكراه البدني ليس إلا وسيلة من وسائل التنفيذ لا تمنع من الالتجاء إلى الوسائل الأخرى لتحصيل الغرامات المقضي بها وأنه سوى في الحكم بين الغرامة والمصاريف القضائية والرد.
بعد سنة 1904:
في سنة 1904 نجد الشارع المصري عرف الغرامة في المادة (22 ع) المقابلة للمادة (48) قديمة ثم نجده ترك عمدًا المواد (49) و(50) و(51 ع) ويظهر أن سبب ذلك اعتباره أصوبية بحثها في قانون تحقيق الجنايات وفعلاً نراه في المادة (267 ت - ج) نص على جواز الإكراه البدني لتحصيل قيمة العقوبات المالية المقضي بها للحكومة وفصل كيفية احتسابه وأقصى مدته ونص في المادة (270 ت. ج) على أن ذمة المحكوم عليه لا تبرأ من المصاريف وما يجب رده والتعويضات بتنفيذ الإكراه البدني، ولكنها تبرأ من الغرامة وحدد كيفية احتساب تلك البراءة.
من تلك المقارنة يتبين ما يأتي:
أولاً: وقبل كل شيء أن الشارع المصري أراد على خلاف ما ورد في المادة (51) عقوبات قديمة أن يفرق بين الغرامة وبين المبالغ الأخرى من تعويضات ورد ومصاريف فقرر إبراء ذمة المحكوم عليه في الغرامة وعدم إبرائها من المصاريف والتعويضات وما يجب رده وهذا يخالف تمامًا نص المادة القديمة التي كانت تساوي في الحكم بين جميع تلك الأحوال معتبرة التنفيذ بالإكراه البدني وسيلة من طرق التنفيذ، فهل نفهم من ذلك ومن تلك المخالفة أن الشارع كان بصدد تقدم جديد أراد أن يأخذ به مبتعدًا عن المبادئ العتيقة ؟
الجواب على ذلك بالإيجاب فما عليك إلا الرجوع إلى التعليقات على المادة (270 ت. ج) جديدة ترى ما يأتي:
La Contrainte par corps libère de l’obligation de payer l’amende. La peine de l’amende est effectivement remplacée par la peine de l’emprisonnement. Pour les autres condemnations pécuniaires la contrainte continue à être considerée comme un simble moyen d’obtenir le paiement.
وبعبارة أخرى فقد أراد الشارع المصري الرجوع إلى النظرية التي ابتعد عنها سنة 1882 تلك النظرية القديمة التي ترى في التنفيذ بالإكراه البدني عقوبة جديدة تحل محل عقوبة الغرامة، والنص صريح جدًا في عبارة التعليقات الآنفة على أن التنفيذ بالإكراه البدني يحل محل الغرامة، ونص المادة (270 ت. ج) نفسه يؤدي إلى هذه النتيجة فقد ذكر أن ذمة المحكوم عليه تبرأ على اعتبار عشرين قرشًا عن الثلاثة الأيام الأولى وعشرة قروش عن كل يوم آخر، وذكر في المادة (267) عدم تجاوز مدة الإكراه تسعين يومًا، فبديهي من مقارنة النصين ومتى وضعت القاعدة العامة وهي قاعدة الإبراء في الغرامة وجب أن يترتب عليها كل نتائجها فإذا حصل إكراه لتسعين يومًا أبرئت ذمة المحكوم عليه من كل الغرامة التي حكم عليه بها ولا يصح في هذه الحالة التفرقة بينها وبين ما إذا كان الإكراه لأقل من تسعين يومًا لعمومية النص، على أن الاجتهاد هنا قد قفل بابه فما دامت المذكرة التفسيرية قد نص فيها بصريح العبارة على أن التنفيذ بالإكراه البدني يحل محل عقوبة الغرامة وجب علينا الوقوف حيث أراد الشارع احترامًا لنصوصه وعملاً بتلك القاعدة الإنسانية التي أريد تطبيقها في التشريع المصري أخذًا بخلاصة الفقه الفرنسي المتنور فمتى نفذ على المحكوم عليه بأقصى مدة الإكراه البدني وجب ألا نعتبر هناك حكم غرامة ما قائمًا فقد اندثر هذا الحكم من وقت أن ابتدأ التنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدة وحلت محله العقوبة الجديدة.
هذا هو الرأي القانوني المحترم وهو يمثل تطورًا في الرأي لم يسعَ شارعنا إلا الأخذ به سنة 1904 وهو مبني على اعتبارات إنسانية ترجع إلى أصل الغرامة وهي ظاهرة من مقدمتنا التاريخية.
ولئن شكا رئيس مكتب المخدرات فلن يكون لشكواه إلا أثرها الصحيح وهو التوجه بها نحو السلطة التشريعية لإصدار ما يتفق من القوانين مع ما يراد معالجته، أما أن يكون لشكواه أثر المخالفة الصريحة لنصوص قوانيننا وإحلال التفسير محل التشريع وإهمال الأغراض الصريحة للشارع فهذا مما لا يرضاه الساهرون على تطبيق القانون وكفالة احترامه.
ومن الأسف أنني لم أعثر على أحكام صادرة بهذا الخصوص في محاكمنا المصرية سوى حكم غير منشور صادر من محكمة قنا الابتدائية الأهلية بهيئة استئنافية في 4 يونيه سنة 929 في القضية نمرة 63 سنة 929 يؤخذ منه ضمنًا وبطريق الاستنتاج العكسي الرأي الذي نقول به وإن كان النزاع الذي طرح للفصل فيه خاصًا بالغرامات الجمركية وطبيعتها.
الغرامة الجنائية وسبيل تنفيذها
نشرت المحاماة في مجلد العددين الثامن والتاسع من السنة العاشرة بحثًا مسهبًا عن الغرامة الجنائية وسبيل تنفيذها في القانون الأهلي الحاضر، وقد استعرضنا فيها الحالة تحت سلطان النصوص القديمة وبينا أن الشارع سنة 1904 عرف الغرامة بالمادة (22 ع) جديدة ثم ترك عمدًا المواد (49) و(50) و(51 ع) قديمة ورأى أصوبية بحثها في قانون تحقيق الجنايات، فذكر في المادة (267 ت. ج)، بجواز الإكراه البدني لتحصيل قيمة العقوبات المالية المقضي بها للحكومة وفصل كيفية احتسابه وأقصى مدته، ثم نص في المادة (270) على عدم إبراء ذمة المحكوم عليه من المصاريف وما يجب رده والتعويضات بتنفيذ الإكراه البدني عليه مع إبرائه من الغرامة، وعدد كيفية احتساب تلك البراءة.
وقد أظهرنا بجلاء من مقارنة النصوص القديمة بالجديدة أن الشارع كان إزاء تقدم جديد أريد به العودة إلى المبادئ الصحيحة فيما يختص بالغرامة إذ بعد أن كان شأنها شأن المصاريف وما يجب رده فصلت عنها وحدد أقصى مدة للإكراه البدني الذي يحصل تنفيذًا لها وبينت كيفية احتساب ذلك الإبراء وحمدنا للشارع هذه الطفرة وتقدمه على تشريع سنة 1883 الذي أخذ بالنظرية القاسية، ولا نكتفِ بذلك بل أظهرنا رغبة الشارع الصريحة متجلية في أعماله التحضيرية حيث ذكر في التعليقات على المادة (270 ت. ج) جديدة ما يأتي:
(La contrainte par corps libère de l’obligation de payer l’amende. La peine de l’amende est effectivement remplacée par la peine de l’emprisonnement. Pour les autres condamnations pécuniaires la contrainte continue a être considerée comme un simple moyen d’obtenir le paiement).
وإذن فقد قرر الشارع بجلاء ولا غموض أن التنفيذ بالإكراه البدني ما هو إلا عقوبة جديدة تحل محل الغرامة وأنه لا يعتبر وسيلة من الوسائل التي يقصد بها الحصول على تسديد الغرامة، وبديهي أنه متى تقرر ذلك وكنا أمام حالة شخص نُفذ عليه الإكراه البدني لمدة ثلاثة شهور وجب علينا عدم المساس بأمواله، لأنه لا يمكن أن توقع عقوبتان من أجل جريمة بلا نص، ولأن التنفيذ بالإكراه البدني عقوبة جديدة حلت محل القديمة وليست سبيلاً من سبل السداد.
طلع علينا بعد ذلك حكمان الأول من محكمة قنا الكلية بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1930، والثاني من محكمة الموسكي الجزئية بتاريخ 26 أكتوبر سنة 1930 [(1)] نشرا في العدد الرابع من السنة الحادية عشرة من مجلة المحاماة صـ 408 و423 وما بعدها قررا المبدأ المخالف، ونريد بكلمة موجزة أن نلخص ما جاء بهما من الحجج لنرى إن كانت تؤثر في شيء على سلامة الرأي الذي ذهبنا إليه.
فأما حجج الحكم الأول فهي ما يأتي:
1 - حيث إن المحكمة ترى أن الإكراه البدني طريقة من طرق التنفيذ يقصد بها إكراه المحكوم عليه بالغرامة على أدائها.
2 - حيث إن المادتين (267) و(270) جنايات اللتين يستند إليهما الدفاع لم ينص فيهما على أن التنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدته يبرئ المحكوم عليه من الغرامة كلها بالغة ما بلغت كما أن التعليقات على المادة (270) التي أشار إليها الدفاع في مذكرته لم تذكر ولا يستفاد منها ذلك.
3 - حيث إن المادة (269 ت. ج) تشير إلى جواز الجمع بين التنفيذ بالإكراه البدني والتنفيذ على الممتلكات وليس فيها ما يمنع من التنفيذ على الممتلكات بعد الالتجاء إلى التنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدته.
والرد على الحجة الأولى ميسور فليس هناك ما يمنع المحكمة من أن ترى ما تريد سوى الشارع، فإذا أقر رأيًا فليس لها أن تقر خلافه، وأما ما ورد بالحجتين الثانية والثالثة فيرد عليهما بما نقوله، الآن أيضًا وهو بنفسه الذي ذكرناه في بدء المقال، فمتى قرر الشارع حلاً مخصوصًا كان على المحاكم أن تطبق هذا الحل، صحيح أن الشارع لم يذكر ذلك الحل بصريح العبارة وفي مثل هذه الأحوال يستعين القاضي للوصول إلى رغبته بالأعمال التحضيرية ثم بالطريقة التاريخية لتفسير تلك الطريقة التي قال بها سافيني والمدرسة الألمانية والتي يرجع إليها الفضل في بقاء القانون على مرونته ومطابقته لمقتضيات العصر، ولو كلفت المحكمة نفسها عناء البحث التاريخي لوجدت الخلاف مستعرًا بين علماء القانون قبل سنة 1883 ولوجدت الشارع المصري إذ ذاك قد أخذ بنظرية قاسية عدل عنها في سنة 1904 وبرر عدوله بما جاء في التعليقات من أن عقوبة الإكراه البدني عقوبة جديدة تحل محل عقوبة الغرامة.
كل ذلك تغفله المحكمة لتقرر (إن الإكراه البدني طريقة من طرق التنفيذ) هذا في الوقت الذي يقرر الشارع بجلاء في التعليقات أنه قصد غير ذلك (وأراد بالإكراه البدني إحلاله محل الغرامة، أما في حالة الرد والتعويضات والمصاريف فقرر أنه يبقى كما كان وسيلة من وسائل الحصول على السداد)، ذلك كله تحقيقًا لأغراض إنسانية وتخفيفًا على المحكوم عليهم وتفريقًا بين طبيعة الغرامة وطبيعة العقوبات المالية الأخرى، والمادة (269) لا تنفع المحكمة في شيء فهي تقول بانتهاء الإكراه البدني من نفسه متى صار المبلغ الموازي للمدة التي قضاها المحكوم عليه في الإكراه محتسبًا حسب ما هو مقرر في المادة (267) مساويًا للمبلغ المطلوب أصلاً بعد استنزال ما يكون المحكوم عليه قد دفعه أو تحصيل منه بالتنفيذ على ممتلكاته، وهي قاعدة بديهية تطبق في الحالات القانونية التي يجوز الجمع فيها بين التنفيذ بالإكراه البدني وبين التنفيذ على الممتلكات، وهذا لا يكون إلا في حالات العقوبات المالية غير الغرامة كالرد والتعويضات والمصاريف وهي الحالات التي نص الشارع بصريح العبارة بالمادة (270 ت. ج) على أن التنفيذ بالإكراه البدني فيها غير مبرئ لذمته، وعلل في التعليقات ذلك بأنه قصد في الواقع أن يكون الإكراه البدني فيها وسيلة من وسائل الدفع، يمكن أيضًا أن نتصور تطبيق المادة (269) في حالة الغرامة وذلك إذا ما تبقى بعد التنفيذ على ممتلكات المدين مبلغ من الغرامة المحكوم بها، فإذا فرضنا أن شخصًا حكم عليه بغرامة 200 قرش وأمكن أن يحصل منه 170 قرشًا ففي هذه الحالة يصح أن ينفذ عليه بالإكراه البدني مدة أربعة أيام ويعتبر التنفيذ بالإكراه البدني لهذه المدة أنه عقوبة جديدة حلت محل عقوبة الغرامة لمبلغ 30 قرشًا التي لم تستوفَ، لا أنه وسيلة من وسائل التحصيل، ولكن ذلك لا يبرر بحال ما الرأي الذي ذهبت إليه المحكمة، قد يقال إنه لا فرق بين الحالتين إذا كانت الغرامة باهظة مثل غرامات المواد المخدرة وذلك في حالة ما إذا كانت أموال المدين غير كافية، فما الفرق بين أن ينفذ على ممتلكات المدين قبل الإكراه البدني أو بعده، وجوابنا أن الافتراضات الاحتمالية لحالات كهذه غير مؤثرة على قاعدة قانونية تستفاد من النصوص ومن الأعمال التشريعية، والواقع أن هناك فرق بين الحالتين، وقد قصد الشارع ألا يكون الإكراه البدني سيفًا مسلولاً على رقاب المحكوم عليهم توقعه الحكومة ثم بعد ذلك تلجأ إلى أمواله بل العدل والمنطق يقضيان عليها بأن تتحرى عن أموال المدين بداءةً ثم بعد ذلك ومتى استوفت ما أمكنها استيفاؤه فبوسعها أن تنفذ بالإكراه البدني عن المبلغ الباقي معتبرة أنه عقوبة جديدة تحل محل باقي الغرامة لا وسيلة من وسائل التنفيذ، وأما إذا بدأت بالتنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدته فقد سقطت عقوبة الغرامة نهائيًا، وهذا الرأي يحقق ما يبغيه أصحاب الرأي المخالف فقد عز عليهم أن تفلت ممتلكات المتجرين في المواد المخدرة، وإذن فما المانع من تجريدهم بداءةً من أملاكهم ثم التنفيذ بالإكراه البدني عن الباقي حتى ولو كان الباقي مبلغًا باهظًا ينفذ به لمدة ثلاثة شهور، وليس صحيحًا القول بأن النتيجة واحدة إذا نفذنا بداءةً بالإكراه البدني ثم بعد ذلك نفذنا على الممتلكات أو إذ نفذنا على الممتلكات أولاً ثم بعد ذلك بالإكراه البدني، فقد تكون النتيجة واحدة في حالة خاصة ولكن الوصول إليها يختلف تمام الاختلاف إذ في إحدى الحالتين طريقة الوصول متفقة مع نصوص القانون ورغبة الشارع وفي الأخرى مخالفة تمام الاختلاف، ولا ضير في ذلك على رأينا بل وليس هذا مضعفًا له إذ الفرق الجوهري بينه وبين الرأي المخالف لا زال كما هو حتى في هذه الحالة التي تتحد فيها النتيجة، إذ على حسب الرأي المخالف تكون أموال المحكوم عليه التي يجمعها مستقبلاً ولو من طريق شريف عرضة للتنفيذ عليها ما دام حكم الغرامة لم يسقط بالتقادم بخلاف رأينا فإنه يؤمنه عليها ولا شك أن ذلك تشجيعًا له على سلوك طريق مستقيم غير طريق الإجرام، ولا يقال إن بقاء الغرامة سيفًا معلقًا رادعًا له فهناك طرق كثيرة لا تعجزه يستطيع أن يتفادى بها هذا السيف.
بقيت حجج محكمة الموسكي الجزئية وقد قالت:
(وحيث إنه مع التمشي مع المعارض في دفاعه واعتبار أن الإكراه البدني لأقصى حدوده مبرئ لذمة المحكوم عليه فإن قانون المخدرات الصادر في 14 إبريل سنة 928 قد جاء معدلاً لقانون 21 يناير سنة 925، وقد نص في ديباجة القانون الأخير على أنه نظرًا لأن سوء استعمال الجواهر المخدرة يستلزم تعديل التشريع المعمول به الآن وأنه يستحسن من جهة أخرى جعل هذا التشريع متناسبًا مع التشريع الأجنبي والدولي.
(وحيث إنه يؤخذ مما تقدم أن قانون المخدرات الجديد الذي عدل قانون سنة 1925 إنما هو تشريع جديد أريد به تعديل التشريع السابق ولو أدى ذلك إلى مخالفة الأحكام المنصوص عنها في القوانين السابقة كما نص بذلك بصريح العبارة في ديباجة القانون الصادر سنة 1925 المعدل لقانون سنة 1928).
وكان بودنا أن نتابع المحكمة في حجتها هذه لولا أن المادة (49) من القانون الجديد نصت على إلغاء قانون سنة 925 بمجرد العمل بهذا القانون فكل ما ورد في قانون سنة 925 ملغى لا أثر له، ومن الغريب أن المحكمة تصر على أن تأخذ من هذا القانون الملغى قاعدة تهدم بها ما ورد في قانون تحقيق الجنايات المعمول بها، وعلى أي أساس، ولماذا، لأن الشارع ذكر في ديباجة القانون الملغى أن سوء استعمال المواد المخدرة يستدعي تعديل التشريع، فهل تعديل التشريع يترتب عليه مخالفة كل نص سابق ولو كان غير مرتبط به، أم أن تعديل التشريع وجعله مطابقًا للتشريع الأجنبي والدولي قصد به تعديل العقوبة والتشديد فيها فقط ولا تأثير بذلك على قواعد الإجراءات المنصوص عنها في قانون تحقيق الجنايات والتي لا يمكن أن تلغى إلا بنص صريح يلغيها.
الواقع أن قواعد الإجراءات كجميع القواعد المنصوص عنها في القوانين لا تلغى إلا بنص صريح ومن التعسف في التفسير أن يقال بأن تعديل العقوبة في قانون ملغى يعتبر إلغاءً لقاعدة أساسية نص عنها في قانون تحقيق الجنايات.
أما الحجج الأخرى التي وردت بالحكم المذكور من أنه لا يتفق مع العدالة والمنطق أن يستوي في العقاب من حكم عليه بمائة جنيه غرامة ومن حكم عليه بألف وبأن قانون المخدرات الجديد قانون صارم أراد الشارع به الزجر، فكل ذلك جميل ومعقول، ولكنه لن يكون بحال ما مبررًا للقاضي بأن يتجاوز سلطانه وهو التطبيق للقانون الحالي والإتيان بقاعدة جديدة مخالفة للواردة في التشريع المعمول به لأنه من عمل الشارع وليس من عمل القاضي، ولن يكون للمقت والكراهية التي نضمرها للمخدرات والمتجرين بها ولا للرغبة النبيلة في المحافظة على سلامة الهيئة الاجتماعية أي أثر في نفوسنا يجعلنا نغتصب سلطانًا ليس لنا، وأجدى على الهيئة الاجتماعية المحافظة على كيانها ببقاء كل سلطة في الحيز الذي أعطى إليها بمقتضى القواعد الأساسية لكل قانون أساسي في أن تلجأ سلطة إلى اغتصاب اختصاص الأخرى مهما كان الغرض نبيلاً، على أن تدخل الشارع ليس بالأمر المستبعد، وقد طالبنا به في مقالنا السابق ونلح الآن بالمطالبة به صونًا للنصوص القانونية من العبث بها.
محمد مختار عبد الله
القاضي بالمحاكم الأهلية
[(1)] الخطأ الخاص بهذا الحكم كما نشر بالعدد الرابع جاء في العدد الخامس على حقيقته كما هو منشور الآن بهذا البحث.
السنة العاشرة - 1929 - 1930
بحث في الغرامة الجنائية وسبيل تنفيذها
وقع تحت نظري منشور سعادة النائب العمومي رقم (108) سنة 1929 الذي تضمن تعليمات للنيابات بخصوص تنفيذ الغرامات التي يقضي بها في جرائم المخدرات ذلك المنشور الذي صدر عقب مباحثة حكمدار العاصمة بصفته رئيسًا لمكتب المخدرات مع سعادته وما لاحظه من أنه لم ينفذ من مجموع الغرامات التي قضى بها من أول يناير حتى 31 أكتوبر سنة 1929 في قضايا المخدرات وقدرها 577.000 ألف جنيه إلا خمسة آلاف جنيه فقط (راجع تقرير مكتب المخدرات صـ 52 النسخة الفرنسية)، وقد تضمن المنشور ما يأتي:
يجب ألا يفوت النيابة أن الإكراه البدني الذي لا يمكن أن تزيد مدته في مواد الجنح على التسعين يومًا لا يعفي المحكوم عليه من كل ما هو محكوم به بل إن ما يتبقى من الغرامات محسوبًا على مقتضى المادة (270) من قانون تحقيق الجنايات دين للخزانة يجوز تحصيله بكافة الطرق المدنية الممكنة، إذن فالنيابة مكلفة باتخاذ كافة الوسائل المذكورة كالتنفيذ على أموال المدين ثابتة كانت أو منقولة وكالحجز لدى الغير.
وهذا الرأي الذي تضمنه المنشور صريح في عدم إبراء ذمة المحكوم عليه بغرامة والذي نفذت عليه بطريق الإكراه البدني لأقصى مدتها وهو ثلاثة شهور إلا من القدر الذي يحسب له بمقتضى المادة (270 ت. ج)، وحث النيابات على ضرورة التنفيذ على المحكوم عليه بما تبقى من الغرامة وهو ما نريد أن نعرض له في هذا البحث وما لا نرى بدًا من افتتاحه بمقدمة تاريخية عن عقوبة الغرامة راجعين إلى القانون الفرنسي الملهم لقانوننا الحالي.
مصدر الغرامة الجنائية في فرنسا
يرى شوفو وهيلي في كتابهما (نظرية قانون العقوبات) جزء 1 صـ 216 أن عقوبة الغرامة ترجع في الغالب إلى التقاليد الناشئة من العرف الفرنكي والجرماني أكثر مما ترجع إلى القانون الروماني، وبمقتضى هذا العرف كانت الجرائم مهما بلغت من خطورة قابلة للتصالح عليها في نظير مبلغ من المال يدفع جزء منه إلى الملك أو إلى أمير الإقطاع الذي كانت العدالة تقام في أرضه والباقي إلى المجني عليه، ولما ألغيت هذه المصالحات وقد بقيت آثارها حتى القرن الرابع عشر استبقى ذلك الجزء الذي كان يدفع للملك وسمي Amende بقصد تعويض الملك وأمراء الإقطاع عن المصاريف التي يتكبدونها في مطاردة المجرمين وقد روعي أن تكون متدرجة حسب الأغراض المطلوبة منها وأنها صالحة جد صلاحية لبعض الجرائم وأنها قابلة للتجزئة وقد ينزل حدها الأدنى إلى مبلغ ضئيل وأن تبرأ ذمة الحكومة عليه بها بمجرد دفعها، حتى أن بنتام ذكر في كتابه عن نظرية العقوبات صـ 340 أنه لا يوجد عقوبة مثلها يمكن توقيعها بأكبر قسط من المساواة وأكثر قابلية للاتفاق مع الحالة المالية لمن يحكم عليه بها فإذا جرد شخصان مثلاً من عشر أملاكهما كان الحرمان الذي يشعر به كلاهما واحدًا، وقد رغبت الشرائع القديمة في ملافاة نتائجها السيئة فقضت باعتبار الغرامات المبالغ فيها باطلة بنص القانون (فارنياشيوس في كتابه الجريمة والعقوبة).
وأعطيت للقاضي سلطة تخفيفها بل والإعفاء منها وكان الفقراء يعفون من دفعها بدون أن توقع عليهم عقوبة جسمانية في مقابل ذلك الإعفاء.
وقد سارت أغلب الشرائع الحديثة على ترك حرية التقدير للقاضي في توقيعها، وذكر القانون النمساوي في المواد (25) و(26) و(27) و(28) من قانون العقوبات أن الغرامة تفرض على نسبة دخل المتهم، وذكر في العهد الأكبر الإنجليزي أن العقوبة المالية يكون أساسها في التقدير وسائل الدخل ومركز المتهم ويجب ألا تكون ثقيلة حتى تلجئ المزارع إلى هجر غيطه أو التاجر إلى ترك حانوته أو العامل على بيع آلات الزراعة، وذكر القانون البلجيكي (م - 4) أنه في حالة عدم دفع الغرامة ينفذ بالحبس على المحكوم عليه، وليس هنا محل بيان التطورات التي سار عليها التشريع الفرنسي ونكتفي بالقول بأن قانون العقوبات ترك تحديد مقدار الغرامة إلى تقدير القاضي ونص على الحد الأعلى الذي يجب ألا يتجاوزه ذلك الحد الذي يختلف حسب خطورة الجريمة بدون الاهتمام بحالة المتهم المالية، ولكن في حالات كثيرة يحول عسر المحكوم عليه عن تنفيذ الغرامة ومن هنا نشأ إحلال العقوبة الجسمانية محلها ومرجع ذلك للقانون الروماني، وقد ظهر هذا المبدأ جليًا في القانون الفرنسي القديم الذي نص على أنه إذا لم يدفع المحكوم عليه الغرامة في ظرف ستة شهور من تاريخ الحكم تستبدل المحكمة العقوبات الجسمانية بعقوبة الغرامة وجاءت القوانين الحديثة وحددت مقدار ما يستنزل يوميًا عن كل يوم من الأيام التي تنفذ على المحكوم عليه بالحبس من أجل الغرامة.
في التنفيذ بالإكراه البدني لتحصيل الغرامة:
نص في المادة (52) من قانون العقوبات الفرنسي على جواز التنفيذ بالإكراه البدني لتحصيل الغرامات المحكوم بها أو المصاريف أو التعويضات أو الرد وهذا النص لم يكن إلا إقرارًا لنصوص القوانين القديمة كما أسلفنا القول، ولكن هذه القاعدة لم تؤخذ على علاتها من القانون القديم بل حصل تغيير في مدى تطبيقها فقد كان أجل الإكراه في القانون القديم غير محدد وتنتهي مدته بالدفع ولكن قانون العقوبات عدل في ذلك فأخذ بهذه القاعدة في الغرامات المحكوم بها في الجنايات وجعل أقصى مدة الإكراه شهرًا في الجنح، وذكر المسيو تارجيه Target في تعيين مبادئ قانون العقوبات ما يأتي:
في كل الحالات التي تصبح فيها الأمة دائنة يحسن أن يكون للإكراه البدني أجل يبتدئ من انتهاء العقوبة الجسمانية التي توقع على المتهم وبعد هذا الأجل أن قام دليل على استمرار حالة الإعسار يفرج عن المتهم مؤقتًا - لوكريه جزء 29 صـ 27 وجعلت أخيرًا أقصى مدة الإكراه البدني سنة في الجنايات وستة شهور في الجنح ونص على أن للحكومة الحق في إعادة التنفيذ بالإكراه البدني إذا رجعت للمتهم وسائل يسار، وتعدلت هذه المادة بقانون 17 إبريل سنة 831 و13 ديسمبر 848 و22 يوليو سنة 867، ونكتفي هنا بالقول بأن الغرض من القانون الأخير كان القضاء على مبدأ التنفيذ بالإكراه البدني ولذلك فقد منع من أجل الديون التجارية والمدنية وأبقى في المسائل الجنائية، ويهمنا أن نقتطف بعضًا مما ورد في المذكرة التفسيرية لهذا القانون (شوفو وهيلي جزء 1 صـ 307).
(وقد لوحظ أن يكون الإكراه البدني وسيلة من وسائل التنفيذ ضد المحكوم عليهم الذين يستطيعون دفع الغرامة أما ضد المعسرين فقد اعتبر بمثابة عقوبة جديدة تحل محل الأولى) وحددت مدة الإكراه البدني طبقًا لمبلغ الغرامة التي يحكم بها بحيث لا تتجاوز سنتين عن الغرامة التي تبلغ 2000 فرنك، وتنتهي مدة الإكراه البدني:
1 - إذا قدم المحكوم عليه كفيلاً.
2 - إذا قدم ما يثبت إعساره وفي الحالة الأخيرة يفرج عنه بعد تمضية نصف المدة المقدرة بالحكم.
طبيعة الإكراه البدني - هل هو عقوبة جديدة أم طريق من طرق التنفيذ:
سكت القانون الفرنسي عن تبديد اللبس الذي يحوط هذا الموضوع فذهب بعض الشراح إلى أن الإكراه البدني هو في الواقع عقوبة جسمانية تحل محل عقوبة الغرامة وذهب البعض الآخر إلى أن الإكراه البدني ليس إلا وسيلة من وسائل التنفيذ، وحجة الأولين أنه ينفذ على المحكوم عليه بالغرامة مهما برر أسباب إعساره وأنه ينفذ عليه بالإكراه البدني لمدد تختلف حسب خطورة الغرامة المقضي بها وأنه متى نفذ عليه مرة من أجل غرامة فلا يصح التنفيذ عليه مرة أخرى لتحصيل تلك الغرامة، الأمر الذي يدل على أن التنفيذ بالإكراه البدني قد حل محل الغرامة ومظهر ذلك تداخل النيابة العمومية في هذا التنفيذ (ورغبة الشارع في معاقبة المجرمين الذين يفرون من العقوبة بالاختباء وراء الإعسار حتى يمضوا بذلك مدة في الحبس).
هذه هي الحجج القوية التي يستعين بها أنصار هذا الرأي على التدليل على مذهبهم، أما أنصار الرأي الآخر الذي يعتبر التنفيذ بالإكراه البدني وسيلة من وسائل التنفيذ فقط فيلجأون إلى النصوص ويقولون إنها صامتة لم تصرح بأن التنفيذ بالإكراه البدني يحل محل الغرامة كما نص عليه في القانون الزراعي مثلاً Code Rural الصادر سنة 1791 وإذن فلا يمكن الوصول إليه استنتاجًا مهما كانت قوة الحجج التي تقدم.
في القانون المصري قبل سنة 1904:
يظهر أن الشارع المصري سنة 1882 كان يأخذ بالنظرية الثانية فضمن المواد (48)، (51) من قانون العقوبات مبادئه بهذا الخصوص والذي يهمنا منها المادة الأخيرة التي نص فيها على أن التنفيذ بالإكراه البدني لا يبرئ ذمة المحكوم عليه من الغرامة المقضي عليه بها كما لا تبرأ ذمته أيضًا من المصاريف ولا من الرد ويمكن التنفيذ على أملاكه من أجل تلك المبالغ إذا زالت حالة إعساره بعد التنفيذ عليه أو إذا كان لديه أملاك - واضح إذن من تلك المادة أن الشارع المصري كان من رأيه أن التنفيذ بالإكراه البدني ليس إلا وسيلة من وسائل التنفيذ لا تمنع من الالتجاء إلى الوسائل الأخرى لتحصيل الغرامات المقضي بها وأنه سوى في الحكم بين الغرامة والمصاريف القضائية والرد.
بعد سنة 1904:
في سنة 1904 نجد الشارع المصري عرف الغرامة في المادة (22 ع) المقابلة للمادة (48) قديمة ثم نجده ترك عمدًا المواد (49) و(50) و(51 ع) ويظهر أن سبب ذلك اعتباره أصوبية بحثها في قانون تحقيق الجنايات وفعلاً نراه في المادة (267 ت - ج) نص على جواز الإكراه البدني لتحصيل قيمة العقوبات المالية المقضي بها للحكومة وفصل كيفية احتسابه وأقصى مدته ونص في المادة (270 ت. ج) على أن ذمة المحكوم عليه لا تبرأ من المصاريف وما يجب رده والتعويضات بتنفيذ الإكراه البدني، ولكنها تبرأ من الغرامة وحدد كيفية احتساب تلك البراءة.
من تلك المقارنة يتبين ما يأتي:
أولاً: وقبل كل شيء أن الشارع المصري أراد على خلاف ما ورد في المادة (51) عقوبات قديمة أن يفرق بين الغرامة وبين المبالغ الأخرى من تعويضات ورد ومصاريف فقرر إبراء ذمة المحكوم عليه في الغرامة وعدم إبرائها من المصاريف والتعويضات وما يجب رده وهذا يخالف تمامًا نص المادة القديمة التي كانت تساوي في الحكم بين جميع تلك الأحوال معتبرة التنفيذ بالإكراه البدني وسيلة من طرق التنفيذ، فهل نفهم من ذلك ومن تلك المخالفة أن الشارع كان بصدد تقدم جديد أراد أن يأخذ به مبتعدًا عن المبادئ العتيقة ؟
الجواب على ذلك بالإيجاب فما عليك إلا الرجوع إلى التعليقات على المادة (270 ت. ج) جديدة ترى ما يأتي:
La Contrainte par corps libère de l’obligation de payer l’amende. La peine de l’amende est effectivement remplacée par la peine de l’emprisonnement. Pour les autres condemnations pécuniaires la contrainte continue à être considerée comme un simble moyen d’obtenir le paiement.
وبعبارة أخرى فقد أراد الشارع المصري الرجوع إلى النظرية التي ابتعد عنها سنة 1882 تلك النظرية القديمة التي ترى في التنفيذ بالإكراه البدني عقوبة جديدة تحل محل عقوبة الغرامة، والنص صريح جدًا في عبارة التعليقات الآنفة على أن التنفيذ بالإكراه البدني يحل محل الغرامة، ونص المادة (270 ت. ج) نفسه يؤدي إلى هذه النتيجة فقد ذكر أن ذمة المحكوم عليه تبرأ على اعتبار عشرين قرشًا عن الثلاثة الأيام الأولى وعشرة قروش عن كل يوم آخر، وذكر في المادة (267) عدم تجاوز مدة الإكراه تسعين يومًا، فبديهي من مقارنة النصين ومتى وضعت القاعدة العامة وهي قاعدة الإبراء في الغرامة وجب أن يترتب عليها كل نتائجها فإذا حصل إكراه لتسعين يومًا أبرئت ذمة المحكوم عليه من كل الغرامة التي حكم عليه بها ولا يصح في هذه الحالة التفرقة بينها وبين ما إذا كان الإكراه لأقل من تسعين يومًا لعمومية النص، على أن الاجتهاد هنا قد قفل بابه فما دامت المذكرة التفسيرية قد نص فيها بصريح العبارة على أن التنفيذ بالإكراه البدني يحل محل عقوبة الغرامة وجب علينا الوقوف حيث أراد الشارع احترامًا لنصوصه وعملاً بتلك القاعدة الإنسانية التي أريد تطبيقها في التشريع المصري أخذًا بخلاصة الفقه الفرنسي المتنور فمتى نفذ على المحكوم عليه بأقصى مدة الإكراه البدني وجب ألا نعتبر هناك حكم غرامة ما قائمًا فقد اندثر هذا الحكم من وقت أن ابتدأ التنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدة وحلت محله العقوبة الجديدة.
هذا هو الرأي القانوني المحترم وهو يمثل تطورًا في الرأي لم يسعَ شارعنا إلا الأخذ به سنة 1904 وهو مبني على اعتبارات إنسانية ترجع إلى أصل الغرامة وهي ظاهرة من مقدمتنا التاريخية.
ولئن شكا رئيس مكتب المخدرات فلن يكون لشكواه إلا أثرها الصحيح وهو التوجه بها نحو السلطة التشريعية لإصدار ما يتفق من القوانين مع ما يراد معالجته، أما أن يكون لشكواه أثر المخالفة الصريحة لنصوص قوانيننا وإحلال التفسير محل التشريع وإهمال الأغراض الصريحة للشارع فهذا مما لا يرضاه الساهرون على تطبيق القانون وكفالة احترامه.
ومن الأسف أنني لم أعثر على أحكام صادرة بهذا الخصوص في محاكمنا المصرية سوى حكم غير منشور صادر من محكمة قنا الابتدائية الأهلية بهيئة استئنافية في 4 يونيه سنة 929 في القضية نمرة 63 سنة 929 يؤخذ منه ضمنًا وبطريق الاستنتاج العكسي الرأي الذي نقول به وإن كان النزاع الذي طرح للفصل فيه خاصًا بالغرامات الجمركية وطبيعتها.
الغرامة الجنائية وسبيل تنفيذها
نشرت المحاماة في مجلد العددين الثامن والتاسع من السنة العاشرة بحثًا مسهبًا عن الغرامة الجنائية وسبيل تنفيذها في القانون الأهلي الحاضر، وقد استعرضنا فيها الحالة تحت سلطان النصوص القديمة وبينا أن الشارع سنة 1904 عرف الغرامة بالمادة (22 ع) جديدة ثم ترك عمدًا المواد (49) و(50) و(51 ع) قديمة ورأى أصوبية بحثها في قانون تحقيق الجنايات، فذكر في المادة (267 ت. ج)، بجواز الإكراه البدني لتحصيل قيمة العقوبات المالية المقضي بها للحكومة وفصل كيفية احتسابه وأقصى مدته، ثم نص في المادة (270) على عدم إبراء ذمة المحكوم عليه من المصاريف وما يجب رده والتعويضات بتنفيذ الإكراه البدني عليه مع إبرائه من الغرامة، وعدد كيفية احتساب تلك البراءة.
وقد أظهرنا بجلاء من مقارنة النصوص القديمة بالجديدة أن الشارع كان إزاء تقدم جديد أريد به العودة إلى المبادئ الصحيحة فيما يختص بالغرامة إذ بعد أن كان شأنها شأن المصاريف وما يجب رده فصلت عنها وحدد أقصى مدة للإكراه البدني الذي يحصل تنفيذًا لها وبينت كيفية احتساب ذلك الإبراء وحمدنا للشارع هذه الطفرة وتقدمه على تشريع سنة 1883 الذي أخذ بالنظرية القاسية، ولا نكتفِ بذلك بل أظهرنا رغبة الشارع الصريحة متجلية في أعماله التحضيرية حيث ذكر في التعليقات على المادة (270 ت. ج) جديدة ما يأتي:
(La contrainte par corps libère de l’obligation de payer l’amende. La peine de l’amende est effectivement remplacée par la peine de l’emprisonnement. Pour les autres condamnations pécuniaires la contrainte continue a être considerée comme un simple moyen d’obtenir le paiement).
وإذن فقد قرر الشارع بجلاء ولا غموض أن التنفيذ بالإكراه البدني ما هو إلا عقوبة جديدة تحل محل الغرامة وأنه لا يعتبر وسيلة من الوسائل التي يقصد بها الحصول على تسديد الغرامة، وبديهي أنه متى تقرر ذلك وكنا أمام حالة شخص نُفذ عليه الإكراه البدني لمدة ثلاثة شهور وجب علينا عدم المساس بأمواله، لأنه لا يمكن أن توقع عقوبتان من أجل جريمة بلا نص، ولأن التنفيذ بالإكراه البدني عقوبة جديدة حلت محل القديمة وليست سبيلاً من سبل السداد.
طلع علينا بعد ذلك حكمان الأول من محكمة قنا الكلية بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1930، والثاني من محكمة الموسكي الجزئية بتاريخ 26 أكتوبر سنة 1930 [(1)] نشرا في العدد الرابع من السنة الحادية عشرة من مجلة المحاماة صـ 408 و423 وما بعدها قررا المبدأ المخالف، ونريد بكلمة موجزة أن نلخص ما جاء بهما من الحجج لنرى إن كانت تؤثر في شيء على سلامة الرأي الذي ذهبنا إليه.
فأما حجج الحكم الأول فهي ما يأتي:
1 - حيث إن المحكمة ترى أن الإكراه البدني طريقة من طرق التنفيذ يقصد بها إكراه المحكوم عليه بالغرامة على أدائها.
2 - حيث إن المادتين (267) و(270) جنايات اللتين يستند إليهما الدفاع لم ينص فيهما على أن التنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدته يبرئ المحكوم عليه من الغرامة كلها بالغة ما بلغت كما أن التعليقات على المادة (270) التي أشار إليها الدفاع في مذكرته لم تذكر ولا يستفاد منها ذلك.
3 - حيث إن المادة (269 ت. ج) تشير إلى جواز الجمع بين التنفيذ بالإكراه البدني والتنفيذ على الممتلكات وليس فيها ما يمنع من التنفيذ على الممتلكات بعد الالتجاء إلى التنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدته.
والرد على الحجة الأولى ميسور فليس هناك ما يمنع المحكمة من أن ترى ما تريد سوى الشارع، فإذا أقر رأيًا فليس لها أن تقر خلافه، وأما ما ورد بالحجتين الثانية والثالثة فيرد عليهما بما نقوله، الآن أيضًا وهو بنفسه الذي ذكرناه في بدء المقال، فمتى قرر الشارع حلاً مخصوصًا كان على المحاكم أن تطبق هذا الحل، صحيح أن الشارع لم يذكر ذلك الحل بصريح العبارة وفي مثل هذه الأحوال يستعين القاضي للوصول إلى رغبته بالأعمال التحضيرية ثم بالطريقة التاريخية لتفسير تلك الطريقة التي قال بها سافيني والمدرسة الألمانية والتي يرجع إليها الفضل في بقاء القانون على مرونته ومطابقته لمقتضيات العصر، ولو كلفت المحكمة نفسها عناء البحث التاريخي لوجدت الخلاف مستعرًا بين علماء القانون قبل سنة 1883 ولوجدت الشارع المصري إذ ذاك قد أخذ بنظرية قاسية عدل عنها في سنة 1904 وبرر عدوله بما جاء في التعليقات من أن عقوبة الإكراه البدني عقوبة جديدة تحل محل عقوبة الغرامة.
كل ذلك تغفله المحكمة لتقرر (إن الإكراه البدني طريقة من طرق التنفيذ) هذا في الوقت الذي يقرر الشارع بجلاء في التعليقات أنه قصد غير ذلك (وأراد بالإكراه البدني إحلاله محل الغرامة، أما في حالة الرد والتعويضات والمصاريف فقرر أنه يبقى كما كان وسيلة من وسائل الحصول على السداد)، ذلك كله تحقيقًا لأغراض إنسانية وتخفيفًا على المحكوم عليهم وتفريقًا بين طبيعة الغرامة وطبيعة العقوبات المالية الأخرى، والمادة (269) لا تنفع المحكمة في شيء فهي تقول بانتهاء الإكراه البدني من نفسه متى صار المبلغ الموازي للمدة التي قضاها المحكوم عليه في الإكراه محتسبًا حسب ما هو مقرر في المادة (267) مساويًا للمبلغ المطلوب أصلاً بعد استنزال ما يكون المحكوم عليه قد دفعه أو تحصيل منه بالتنفيذ على ممتلكاته، وهي قاعدة بديهية تطبق في الحالات القانونية التي يجوز الجمع فيها بين التنفيذ بالإكراه البدني وبين التنفيذ على الممتلكات، وهذا لا يكون إلا في حالات العقوبات المالية غير الغرامة كالرد والتعويضات والمصاريف وهي الحالات التي نص الشارع بصريح العبارة بالمادة (270 ت. ج) على أن التنفيذ بالإكراه البدني فيها غير مبرئ لذمته، وعلل في التعليقات ذلك بأنه قصد في الواقع أن يكون الإكراه البدني فيها وسيلة من وسائل الدفع، يمكن أيضًا أن نتصور تطبيق المادة (269) في حالة الغرامة وذلك إذا ما تبقى بعد التنفيذ على ممتلكات المدين مبلغ من الغرامة المحكوم بها، فإذا فرضنا أن شخصًا حكم عليه بغرامة 200 قرش وأمكن أن يحصل منه 170 قرشًا ففي هذه الحالة يصح أن ينفذ عليه بالإكراه البدني مدة أربعة أيام ويعتبر التنفيذ بالإكراه البدني لهذه المدة أنه عقوبة جديدة حلت محل عقوبة الغرامة لمبلغ 30 قرشًا التي لم تستوفَ، لا أنه وسيلة من وسائل التحصيل، ولكن ذلك لا يبرر بحال ما الرأي الذي ذهبت إليه المحكمة، قد يقال إنه لا فرق بين الحالتين إذا كانت الغرامة باهظة مثل غرامات المواد المخدرة وذلك في حالة ما إذا كانت أموال المدين غير كافية، فما الفرق بين أن ينفذ على ممتلكات المدين قبل الإكراه البدني أو بعده، وجوابنا أن الافتراضات الاحتمالية لحالات كهذه غير مؤثرة على قاعدة قانونية تستفاد من النصوص ومن الأعمال التشريعية، والواقع أن هناك فرق بين الحالتين، وقد قصد الشارع ألا يكون الإكراه البدني سيفًا مسلولاً على رقاب المحكوم عليهم توقعه الحكومة ثم بعد ذلك تلجأ إلى أمواله بل العدل والمنطق يقضيان عليها بأن تتحرى عن أموال المدين بداءةً ثم بعد ذلك ومتى استوفت ما أمكنها استيفاؤه فبوسعها أن تنفذ بالإكراه البدني عن المبلغ الباقي معتبرة أنه عقوبة جديدة تحل محل باقي الغرامة لا وسيلة من وسائل التنفيذ، وأما إذا بدأت بالتنفيذ بالإكراه البدني لأقصى مدته فقد سقطت عقوبة الغرامة نهائيًا، وهذا الرأي يحقق ما يبغيه أصحاب الرأي المخالف فقد عز عليهم أن تفلت ممتلكات المتجرين في المواد المخدرة، وإذن فما المانع من تجريدهم بداءةً من أملاكهم ثم التنفيذ بالإكراه البدني عن الباقي حتى ولو كان الباقي مبلغًا باهظًا ينفذ به لمدة ثلاثة شهور، وليس صحيحًا القول بأن النتيجة واحدة إذا نفذنا بداءةً بالإكراه البدني ثم بعد ذلك نفذنا على الممتلكات أو إذ نفذنا على الممتلكات أولاً ثم بعد ذلك بالإكراه البدني، فقد تكون النتيجة واحدة في حالة خاصة ولكن الوصول إليها يختلف تمام الاختلاف إذ في إحدى الحالتين طريقة الوصول متفقة مع نصوص القانون ورغبة الشارع وفي الأخرى مخالفة تمام الاختلاف، ولا ضير في ذلك على رأينا بل وليس هذا مضعفًا له إذ الفرق الجوهري بينه وبين الرأي المخالف لا زال كما هو حتى في هذه الحالة التي تتحد فيها النتيجة، إذ على حسب الرأي المخالف تكون أموال المحكوم عليه التي يجمعها مستقبلاً ولو من طريق شريف عرضة للتنفيذ عليها ما دام حكم الغرامة لم يسقط بالتقادم بخلاف رأينا فإنه يؤمنه عليها ولا شك أن ذلك تشجيعًا له على سلوك طريق مستقيم غير طريق الإجرام، ولا يقال إن بقاء الغرامة سيفًا معلقًا رادعًا له فهناك طرق كثيرة لا تعجزه يستطيع أن يتفادى بها هذا السيف.
بقيت حجج محكمة الموسكي الجزئية وقد قالت:
(وحيث إنه مع التمشي مع المعارض في دفاعه واعتبار أن الإكراه البدني لأقصى حدوده مبرئ لذمة المحكوم عليه فإن قانون المخدرات الصادر في 14 إبريل سنة 928 قد جاء معدلاً لقانون 21 يناير سنة 925، وقد نص في ديباجة القانون الأخير على أنه نظرًا لأن سوء استعمال الجواهر المخدرة يستلزم تعديل التشريع المعمول به الآن وأنه يستحسن من جهة أخرى جعل هذا التشريع متناسبًا مع التشريع الأجنبي والدولي.
(وحيث إنه يؤخذ مما تقدم أن قانون المخدرات الجديد الذي عدل قانون سنة 1925 إنما هو تشريع جديد أريد به تعديل التشريع السابق ولو أدى ذلك إلى مخالفة الأحكام المنصوص عنها في القوانين السابقة كما نص بذلك بصريح العبارة في ديباجة القانون الصادر سنة 1925 المعدل لقانون سنة 1928).
وكان بودنا أن نتابع المحكمة في حجتها هذه لولا أن المادة (49) من القانون الجديد نصت على إلغاء قانون سنة 925 بمجرد العمل بهذا القانون فكل ما ورد في قانون سنة 925 ملغى لا أثر له، ومن الغريب أن المحكمة تصر على أن تأخذ من هذا القانون الملغى قاعدة تهدم بها ما ورد في قانون تحقيق الجنايات المعمول بها، وعلى أي أساس، ولماذا، لأن الشارع ذكر في ديباجة القانون الملغى أن سوء استعمال المواد المخدرة يستدعي تعديل التشريع، فهل تعديل التشريع يترتب عليه مخالفة كل نص سابق ولو كان غير مرتبط به، أم أن تعديل التشريع وجعله مطابقًا للتشريع الأجنبي والدولي قصد به تعديل العقوبة والتشديد فيها فقط ولا تأثير بذلك على قواعد الإجراءات المنصوص عنها في قانون تحقيق الجنايات والتي لا يمكن أن تلغى إلا بنص صريح يلغيها.
الواقع أن قواعد الإجراءات كجميع القواعد المنصوص عنها في القوانين لا تلغى إلا بنص صريح ومن التعسف في التفسير أن يقال بأن تعديل العقوبة في قانون ملغى يعتبر إلغاءً لقاعدة أساسية نص عنها في قانون تحقيق الجنايات.
أما الحجج الأخرى التي وردت بالحكم المذكور من أنه لا يتفق مع العدالة والمنطق أن يستوي في العقاب من حكم عليه بمائة جنيه غرامة ومن حكم عليه بألف وبأن قانون المخدرات الجديد قانون صارم أراد الشارع به الزجر، فكل ذلك جميل ومعقول، ولكنه لن يكون بحال ما مبررًا للقاضي بأن يتجاوز سلطانه وهو التطبيق للقانون الحالي والإتيان بقاعدة جديدة مخالفة للواردة في التشريع المعمول به لأنه من عمل الشارع وليس من عمل القاضي، ولن يكون للمقت والكراهية التي نضمرها للمخدرات والمتجرين بها ولا للرغبة النبيلة في المحافظة على سلامة الهيئة الاجتماعية أي أثر في نفوسنا يجعلنا نغتصب سلطانًا ليس لنا، وأجدى على الهيئة الاجتماعية المحافظة على كيانها ببقاء كل سلطة في الحيز الذي أعطى إليها بمقتضى القواعد الأساسية لكل قانون أساسي في أن تلجأ سلطة إلى اغتصاب اختصاص الأخرى مهما كان الغرض نبيلاً، على أن تدخل الشارع ليس بالأمر المستبعد، وقد طالبنا به في مقالنا السابق ونلح الآن بالمطالبة به صونًا للنصوص القانونية من العبث بها.
محمد مختار عبد الله
القاضي بالمحاكم الأهلية
[(1)] الخطأ الخاص بهذا الحكم كما نشر بالعدد الرابع جاء في العدد الخامس على حقيقته كما هو منشور الآن بهذا البحث.
بحث مدى حجية الترخيص بحمل الأسلحة
مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
مدى حجية الترخيص بحمل الأسلحة
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
1 - تمهيد:
نصت المادة الأولى من القانون رقم (58) لسنة 1949 بشأن الأسلحة وذخائرها على حظر إحراز الأسلحة النارية بجميع أنواعها أو حيازتها بدون ترخيص من وزير الداخلية أو من ينوب عنه وحددت المادة الثانية مفعول الترخيص لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد، ووضحت المادة الثالثة كيفية مباشرة وزير الداخلية أو من ينوب عنه حق منح الترخيص أو رفضه أو تقصير مدته أو قصره على أنواع معينة من الأسلحة أو تقيده بأي شرط أو قيد يرى من المصلحة تقيده به - وحق سحبه له إلى أن جاءت المادة التاسعة التي نصت على عقاب كل من أحرز أو حاز أسلحة نارية مششخنة بالأشغال الشاقة المؤقتة.
وسنبحث في هذا الصدد حالة الشخص المرخص له بإحراز سلاح تطبيقًا للمواد السابقة ثم وجد محرزًا لسلاح آخر لم يشمله الترخيص.
2 - أهمية البحث:
هل إذا كان هذا السلاح الناري الثاني مششخنًا يعتبر مثل هذا الشخص قد ارتكب الجناية المنصوص عليها في المادة التاسعة من هذا القانون، ولعل صعوبة البحث راجعة إلى أنه ظاهر هذا القانون لم يتعرض صراحةً لمعالجة هذه الحالة بين ثنايا نصوصه، مما حدا ببعض رجال الفقه إلى اعتبار هذا الشخص قد ارتكب الجناية المذكورة مستندين في ذلك إلى أن الرخصة قاصرة على السلاح المعين فيها فحسب.
وبرجوعنا إلى القضاء المصري لم نعثر على حكم تعرض لهذه المشكلة القانونية، كما لا يجدينا البحث في تطبيقات أحكام قانون السلاح الفرنسي وهو المرسوم بقانون الصادر في 18 إبريل 1939 للاختلاف البين بين قانوننا والقانون الفرنسي في هذا المجال.
3 - مناط البحث:
ولعل الذي يسعفنا في هذا المقام هو معرفة ماهية هذا الترخيص وتكييفه من الوجهة القانونية بمعنى أنه يجدر بنا أن نتساءل هل رخصة حمل السلاح ذات صفة شخصية أي أنها صدرت للشخص ذاته أم أنها ذات صفة عينية أي عالقة بالشيء وحده.
4 - الترخيص شخصي:
ولا شك أن الذين يذهبون إلى اعتبار مثل هذا الشخص مرتكبًا للجناية المذكورة يؤكدون أن الترخيص عيني خاص بالسلاح الوارد فيه دون غيره من الأسلحة، إلا أننا نخالفهم في زعمهم هذا منادين باعتبار الترخيص شخصي وإلى القارئ الأدلة التي تؤيد ذلك.
أولاً: الثابت من الاطلاع على القرار الوزاري الصادر في 19 إبريل سنة 1952 بتنفيذ أحكام هذا القانون أن إجراءات الحصول على الترخيص تنحصر في تقديم طلب الترخيص إلى الجهة المختصة يرفق به شهادة من إدارة تحقيق الشخصية عن سوابق الطالب وشهادة إدارية بأنه محمود السيرة حسن السمعة لم يسبق إدخاله مستشفى أو مصحة للأمراض العقلية - ثم تجرى التحريات الكافية عن الطالب، ويعطى له الترخيص بعد ذلك مشتملاً البيانات الآتية: اسم الطالب، وصف السلاح المرخص له به، الأغراض التي من أجلها رُخص له في إحرازه أو حيازته، تاريخ منح الترخيص وانتهاء مدته، الشروط التي يرى تقييد الترخيص بها، والمعروف أن القصد من البيانات تقييد الترخيص من أجل المصلحة العامة حماية للأمن والنظام الاجتماعي.
فهل قصد المشرع أن يسري بين حالة مثل هذا الشخص الذي قام بتنفيذ هذه الإجراءات وبين آخر لم يتخذ إجراءات الترخيص أو اتخذها ولم يصرح له بحمل السلاح ؟
لا ريب أن الجواب بالسلب من الوجهة القانونية ومن اعتبار العدالة في آنٍ واحد إذ القول بعكس ذلك يجرد هذا الترخيص من كل حجية.
ثانيًا: من المُسلم به حتى من أنصار المذهب المعارض أن السلاح المرخص بحمله إذا انتقل إحرازه أو حيازته إلى شخص آخر لم يرخص له بحمل السلاح اعتبر هذا الشخص محرزًا أو حائزًا السلاح بدون ترخيص ويقع تحت طائلة العقاب المقرر في المادة التاسعة سالفة الذكر، وهذه النتيجة دفعت أنصار المذهب المعارض إلى القول بأن الترخيص عيني وشخصي معًا وهو ما لا يمكن الأخذ به، وإنما يتعين القول باعتبار الترخيص شخصي فإذا حاز أو أحرز المرخص له سلاحًا آخر فيكون قد خالف شروط الترخيص وهو ما يقع تحت أحكام المادة (11) من هذا القانون والتي تنص على أن (كل مخالفة أخرى لأحكام هذا القانون يعاقب عليها بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على عشرة جنيهات أو بإحدى هاتين العقوبتين).
ومما يثبت ذلك أن هذه المادة وردت بعد المادتين (9)، (10) اللتين تعاقبان على إحراز أو حيازة الأسلحة النارية والذخائر بغير ترخيص ويستفاد من ذلك أن المادة (11) خاصة بمخالفة شروط الترخيص وغير ذلك من المخالفات الأخرى لأحكام القانون ولو كان عكس ذلك لكان جديرًا بالمشرع أن ينص في المادتين (9)، (10) بالعقاب على الإحراز والحيازة بغير ترخيص أو عند مخالفة الترخيص معًا وهذا ما لم يفعله مما يخلص منه أنه ترك الواقعة الثانية إلى المادة ذات التطبيق العام وهي رقم (11)، ومما يؤكد ذلك أيضًا أن المادة (12) أوجبت الحكم بمصادرة السلاح موضوع الجريمة في كل الحالات ومن بينها المادة (11) سالفة الذكر ولا يمكن أن تفهم هذه المادة باحتوائها على المادة (11) إلا إذا كان إحراز السلاح مما لا ينطبق عليه المادتين (9)، (10) من هذا القانون.
ثالثًا: بالاطلاع على المادة (102 أ) من قانون العقوبات التي أضيفت بمقتضى القانون رقم (50) لسنة 1949 والتي تنص على أنه (يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة كل من أحرز مفرقعات أو حازها أو صنعها أو استوردها قبل الحصول على ترخيص بذلك…) ولم يرد في هذا القانون مادة مماثلة للمادة (11) من القانون رقم (58) لسنة 1949 بشأن الأسلحة وذخائرها والسابق شرحها باعتبارها تتضمن مخالفة شروط الترخيص، مما دفع المشرع المصري إلى معالجة هذا النقص الظاهر في التشريع فصدر القانون رقم (7) لسنة 1952 في 24 يناير سنة 1952 بإضافة مادة جديدة إلى هذا القانون رقم (102) وهي تنص على أنه (يعاقب بالحبس على مخالفة شروط الترخيص المشار إليها في المادة (102 أ)).
ومفهوم ذلك أن المشرع اعتبر مخالفة شروط الترخيص أقل جرمًا من إحراز المفرقعات بغير ترخيص فكيف الأولى جنحة والثانية جناية.
ولقد ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم (7) سنة 1952 ما يلي:
أصدر وزير الداخلية بالاتفاق مع وزير العدل قرارًا في 20/ 9/ 1950 لبيان الشروط الخاصة بالتراخيص المنصوص عليها في المادة (102 أ) من قانون العقوبات والإجراءات المتعلقة بها [(1)].
ولما كانت أحكام القانون بوضعها الحالي خالية من نص خاص يعاقب على مخالفة شروط نقل هذه المفرقعات وتخزينها وما قد يترتب على ذلك من نتائج خطيرة مما تصبح معه العقوبة الواجبة التطبيق هي مجرد عقوبة المخالفة عملاً بالمادة (395) فقرة ثانية من قانون العقوبات وسحب الترخيص وهي عقوبة لا تتلاءم مع خطورة الفعل في ذاته، لذلك رُئي وضع نص ينسحب على كافة وجوه المخالفات.
ويمكن أن نستخلص من ذلك أن المشرع المصري جاء في قانون السلاح أكثر حرصًا منه في قانون المفرقعات فأورد مادة ذات تطبيق عام هي المادة (11) التي استهلها بعبارة (كل مخالفة أخرى لأحكام هذا القانون…
وإذا لم يكن هذا القانون قد تضمن هذه المادة لكنت قد ذهبت إلى اعتبار المسألة محل بحثنا مخالفة بالتطبيق إلى الفقرة الثانية من المادة (395) من قانون العقوبات جريًا على ما ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم (7) سنة 1952 المذكور.
رابعًا: ومما يؤكد هذا الرأي عبارة (كل مخالفة أخرى) الواردة في المادة (11) إذ لو كان المشرع يقصد بها حالات وجوب الأخطار عن الأسلحة بالنسبة لبعض الأشخاص المذكورين في المادتين (4) و(7) من هذا القانون لكان أجدر به أن ينص صراحةً على ذلك في هذه المادة دون استعمال عبارة (كل مخالفة أخرى).
وهذا الرأي ينطبق حتى ولو كان الشخص قد رخص له بحمل سلاح غير مششخن فطالما أنه قد صدر له الترخيص من الجهة المختصة بحمل السلاح فمعنى هذا أنه جدير بحمله ولا خطر على الأمن والنظام بإحرازه أو حيازته له فإذا حددته هذه الجهة بنوع معين من الأسلحة ولو غير مششخن فإننا لا يمكن أن نعتبره لم يرخص له أصلاً بحمل السلاح ثم نوجه إليه تهمة الجناية إذا وجد محرزًا لسلاح آخر مششخن إذ أن هذا يجافي نصوص القانون ويؤدي إلى انعدام حجية الترخيص الصادر له بحمل السلاح وهذا ما لا يستساغ عقلاً.
ولا يقدح في ذلك القول بأن هذا الشخص وقد رخص له بسلاح غير مششخن فلا يعتد بهذا الترخيص إذا أحرز سلاحًا مششخنًا بدعوى أن من يملك الأقل لا يملك الأعلى، هذا غير صحيح إذ طالما أنه قد رخص له بحمل السلاح فإذا أحرز سلاحًا ثانيًا ولو مششخنًا فيكون قد خالف شروط الترخيص الصادر له وتنطبق على فعله الجنحة الواردة في المادة (11) من هذا القانون.
ولا يحتج علينا بأن هذا الرأي قد يؤدي إلى نتيجة غريبة هي أن من رخص له بحمل سلاح أبيض إذا أحرز سلاحًا مششحنًا فإنه يكون قد خالف المادة (11) من هذا القانون وتوجه إليه تهمة الجنحة فقط، فيرد على ذلك بأن القانون رقم (58) لسنة 1949 قسم الأسلحة إلى نوعين أسلحة نارية وأسلحة بيضاء ونظم لكلاهما أحكامًا خاصة للاختلاف بينهما من حيث طبيعتها ففي المادة الأولى منه نص على أنه (يحظر بغير ترخيص من وزير الداخلية أو من ينيبه عنه إحراز الأسلحة النارية بجميع أنواعها أو حيازتها أو الاتجار بها أو صنعها أو استيرادها) ثم جاء بعد ذلك وقال وكذلك الأسلحة البيضاء المبينة في الجدول (رقم أ) الملحق بهذا القانون.
وعند ما نص على عقاب الإحراز أو الحيازة لها انفردت المادة (8) بالأسلحة البيضاء بينما جاءت المادة (9) خاصة بالأسلحة النارية وكل ذلك يؤكد إيمان المشرع المصري باختلاف طبيعة كل نوع من الأسلحة فإذا رخص لشخص بحمل سلاح من أي نوع ثم أحرز سلاحًا من النوع الثاني فيعتبر الترخيص بالنسبة لهذا النوع الثاني كأن لم يكن ويعتبر حائزًا للسلاح بغير ترخيص فإن كان مششخنًا توجه إليه الجناية الموضحة بالمادة التاسعة ومما يؤكد ذلك أيضًا أن القانون القديم رقم (8) سنة 1917 كان يفرق أيضًا بين هذين النوعين من جهة طبيعتها والعقوبة المقررة لها إلا أنه فيما يختص بالأسلحة النارية فلم يكن يقسمها إلى قسمين مششخن وغير مششخن إذ أن هذه القسمة أوردها القانون الجديد بقصد تشديد العقوبة على النوع الأول وإن كان في النهاية قد سوى تقريبًا بينهما إذا كان الحائز للسلاح غير المششخن من الأشخاص المنصوص عليهم في الفقرات الخمس الأولى من المادة السادسة ففي الحالتين اعتبر الواقعة جناية.
5 - خاتمة:
هذه هي خلاصة اجتهادي في هذا القانون والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وأملي أن يكون الله عز وجل قد وفقني إلى الصواب فجنبني الزلل فوصلت إلى الحقيقة في هذا البحث.
والله ولي التوفيق،
[(1)] راجع قرار وزير الداخلية الصادر في 28 سبتمبر سنة 1950 بالشروط والإجراءات الخاصة بالحصول على التراخيص المنصوص عليها في م (102 أ ع) (المادة الرابعة منه) الوقائع عدد 92.
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
مدى حجية الترخيص بحمل الأسلحة
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
1 - تمهيد:
نصت المادة الأولى من القانون رقم (58) لسنة 1949 بشأن الأسلحة وذخائرها على حظر إحراز الأسلحة النارية بجميع أنواعها أو حيازتها بدون ترخيص من وزير الداخلية أو من ينوب عنه وحددت المادة الثانية مفعول الترخيص لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد، ووضحت المادة الثالثة كيفية مباشرة وزير الداخلية أو من ينوب عنه حق منح الترخيص أو رفضه أو تقصير مدته أو قصره على أنواع معينة من الأسلحة أو تقيده بأي شرط أو قيد يرى من المصلحة تقيده به - وحق سحبه له إلى أن جاءت المادة التاسعة التي نصت على عقاب كل من أحرز أو حاز أسلحة نارية مششخنة بالأشغال الشاقة المؤقتة.
وسنبحث في هذا الصدد حالة الشخص المرخص له بإحراز سلاح تطبيقًا للمواد السابقة ثم وجد محرزًا لسلاح آخر لم يشمله الترخيص.
2 - أهمية البحث:
هل إذا كان هذا السلاح الناري الثاني مششخنًا يعتبر مثل هذا الشخص قد ارتكب الجناية المنصوص عليها في المادة التاسعة من هذا القانون، ولعل صعوبة البحث راجعة إلى أنه ظاهر هذا القانون لم يتعرض صراحةً لمعالجة هذه الحالة بين ثنايا نصوصه، مما حدا ببعض رجال الفقه إلى اعتبار هذا الشخص قد ارتكب الجناية المذكورة مستندين في ذلك إلى أن الرخصة قاصرة على السلاح المعين فيها فحسب.
وبرجوعنا إلى القضاء المصري لم نعثر على حكم تعرض لهذه المشكلة القانونية، كما لا يجدينا البحث في تطبيقات أحكام قانون السلاح الفرنسي وهو المرسوم بقانون الصادر في 18 إبريل 1939 للاختلاف البين بين قانوننا والقانون الفرنسي في هذا المجال.
3 - مناط البحث:
ولعل الذي يسعفنا في هذا المقام هو معرفة ماهية هذا الترخيص وتكييفه من الوجهة القانونية بمعنى أنه يجدر بنا أن نتساءل هل رخصة حمل السلاح ذات صفة شخصية أي أنها صدرت للشخص ذاته أم أنها ذات صفة عينية أي عالقة بالشيء وحده.
4 - الترخيص شخصي:
ولا شك أن الذين يذهبون إلى اعتبار مثل هذا الشخص مرتكبًا للجناية المذكورة يؤكدون أن الترخيص عيني خاص بالسلاح الوارد فيه دون غيره من الأسلحة، إلا أننا نخالفهم في زعمهم هذا منادين باعتبار الترخيص شخصي وإلى القارئ الأدلة التي تؤيد ذلك.
أولاً: الثابت من الاطلاع على القرار الوزاري الصادر في 19 إبريل سنة 1952 بتنفيذ أحكام هذا القانون أن إجراءات الحصول على الترخيص تنحصر في تقديم طلب الترخيص إلى الجهة المختصة يرفق به شهادة من إدارة تحقيق الشخصية عن سوابق الطالب وشهادة إدارية بأنه محمود السيرة حسن السمعة لم يسبق إدخاله مستشفى أو مصحة للأمراض العقلية - ثم تجرى التحريات الكافية عن الطالب، ويعطى له الترخيص بعد ذلك مشتملاً البيانات الآتية: اسم الطالب، وصف السلاح المرخص له به، الأغراض التي من أجلها رُخص له في إحرازه أو حيازته، تاريخ منح الترخيص وانتهاء مدته، الشروط التي يرى تقييد الترخيص بها، والمعروف أن القصد من البيانات تقييد الترخيص من أجل المصلحة العامة حماية للأمن والنظام الاجتماعي.
فهل قصد المشرع أن يسري بين حالة مثل هذا الشخص الذي قام بتنفيذ هذه الإجراءات وبين آخر لم يتخذ إجراءات الترخيص أو اتخذها ولم يصرح له بحمل السلاح ؟
لا ريب أن الجواب بالسلب من الوجهة القانونية ومن اعتبار العدالة في آنٍ واحد إذ القول بعكس ذلك يجرد هذا الترخيص من كل حجية.
ثانيًا: من المُسلم به حتى من أنصار المذهب المعارض أن السلاح المرخص بحمله إذا انتقل إحرازه أو حيازته إلى شخص آخر لم يرخص له بحمل السلاح اعتبر هذا الشخص محرزًا أو حائزًا السلاح بدون ترخيص ويقع تحت طائلة العقاب المقرر في المادة التاسعة سالفة الذكر، وهذه النتيجة دفعت أنصار المذهب المعارض إلى القول بأن الترخيص عيني وشخصي معًا وهو ما لا يمكن الأخذ به، وإنما يتعين القول باعتبار الترخيص شخصي فإذا حاز أو أحرز المرخص له سلاحًا آخر فيكون قد خالف شروط الترخيص وهو ما يقع تحت أحكام المادة (11) من هذا القانون والتي تنص على أن (كل مخالفة أخرى لأحكام هذا القانون يعاقب عليها بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على عشرة جنيهات أو بإحدى هاتين العقوبتين).
ومما يثبت ذلك أن هذه المادة وردت بعد المادتين (9)، (10) اللتين تعاقبان على إحراز أو حيازة الأسلحة النارية والذخائر بغير ترخيص ويستفاد من ذلك أن المادة (11) خاصة بمخالفة شروط الترخيص وغير ذلك من المخالفات الأخرى لأحكام القانون ولو كان عكس ذلك لكان جديرًا بالمشرع أن ينص في المادتين (9)، (10) بالعقاب على الإحراز والحيازة بغير ترخيص أو عند مخالفة الترخيص معًا وهذا ما لم يفعله مما يخلص منه أنه ترك الواقعة الثانية إلى المادة ذات التطبيق العام وهي رقم (11)، ومما يؤكد ذلك أيضًا أن المادة (12) أوجبت الحكم بمصادرة السلاح موضوع الجريمة في كل الحالات ومن بينها المادة (11) سالفة الذكر ولا يمكن أن تفهم هذه المادة باحتوائها على المادة (11) إلا إذا كان إحراز السلاح مما لا ينطبق عليه المادتين (9)، (10) من هذا القانون.
ثالثًا: بالاطلاع على المادة (102 أ) من قانون العقوبات التي أضيفت بمقتضى القانون رقم (50) لسنة 1949 والتي تنص على أنه (يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة كل من أحرز مفرقعات أو حازها أو صنعها أو استوردها قبل الحصول على ترخيص بذلك…) ولم يرد في هذا القانون مادة مماثلة للمادة (11) من القانون رقم (58) لسنة 1949 بشأن الأسلحة وذخائرها والسابق شرحها باعتبارها تتضمن مخالفة شروط الترخيص، مما دفع المشرع المصري إلى معالجة هذا النقص الظاهر في التشريع فصدر القانون رقم (7) لسنة 1952 في 24 يناير سنة 1952 بإضافة مادة جديدة إلى هذا القانون رقم (102) وهي تنص على أنه (يعاقب بالحبس على مخالفة شروط الترخيص المشار إليها في المادة (102 أ)).
ومفهوم ذلك أن المشرع اعتبر مخالفة شروط الترخيص أقل جرمًا من إحراز المفرقعات بغير ترخيص فكيف الأولى جنحة والثانية جناية.
ولقد ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم (7) سنة 1952 ما يلي:
أصدر وزير الداخلية بالاتفاق مع وزير العدل قرارًا في 20/ 9/ 1950 لبيان الشروط الخاصة بالتراخيص المنصوص عليها في المادة (102 أ) من قانون العقوبات والإجراءات المتعلقة بها [(1)].
ولما كانت أحكام القانون بوضعها الحالي خالية من نص خاص يعاقب على مخالفة شروط نقل هذه المفرقعات وتخزينها وما قد يترتب على ذلك من نتائج خطيرة مما تصبح معه العقوبة الواجبة التطبيق هي مجرد عقوبة المخالفة عملاً بالمادة (395) فقرة ثانية من قانون العقوبات وسحب الترخيص وهي عقوبة لا تتلاءم مع خطورة الفعل في ذاته، لذلك رُئي وضع نص ينسحب على كافة وجوه المخالفات.
ويمكن أن نستخلص من ذلك أن المشرع المصري جاء في قانون السلاح أكثر حرصًا منه في قانون المفرقعات فأورد مادة ذات تطبيق عام هي المادة (11) التي استهلها بعبارة (كل مخالفة أخرى لأحكام هذا القانون…
وإذا لم يكن هذا القانون قد تضمن هذه المادة لكنت قد ذهبت إلى اعتبار المسألة محل بحثنا مخالفة بالتطبيق إلى الفقرة الثانية من المادة (395) من قانون العقوبات جريًا على ما ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم (7) سنة 1952 المذكور.
رابعًا: ومما يؤكد هذا الرأي عبارة (كل مخالفة أخرى) الواردة في المادة (11) إذ لو كان المشرع يقصد بها حالات وجوب الأخطار عن الأسلحة بالنسبة لبعض الأشخاص المذكورين في المادتين (4) و(7) من هذا القانون لكان أجدر به أن ينص صراحةً على ذلك في هذه المادة دون استعمال عبارة (كل مخالفة أخرى).
وهذا الرأي ينطبق حتى ولو كان الشخص قد رخص له بحمل سلاح غير مششخن فطالما أنه قد صدر له الترخيص من الجهة المختصة بحمل السلاح فمعنى هذا أنه جدير بحمله ولا خطر على الأمن والنظام بإحرازه أو حيازته له فإذا حددته هذه الجهة بنوع معين من الأسلحة ولو غير مششخن فإننا لا يمكن أن نعتبره لم يرخص له أصلاً بحمل السلاح ثم نوجه إليه تهمة الجناية إذا وجد محرزًا لسلاح آخر مششخن إذ أن هذا يجافي نصوص القانون ويؤدي إلى انعدام حجية الترخيص الصادر له بحمل السلاح وهذا ما لا يستساغ عقلاً.
ولا يقدح في ذلك القول بأن هذا الشخص وقد رخص له بسلاح غير مششخن فلا يعتد بهذا الترخيص إذا أحرز سلاحًا مششخنًا بدعوى أن من يملك الأقل لا يملك الأعلى، هذا غير صحيح إذ طالما أنه قد رخص له بحمل السلاح فإذا أحرز سلاحًا ثانيًا ولو مششخنًا فيكون قد خالف شروط الترخيص الصادر له وتنطبق على فعله الجنحة الواردة في المادة (11) من هذا القانون.
ولا يحتج علينا بأن هذا الرأي قد يؤدي إلى نتيجة غريبة هي أن من رخص له بحمل سلاح أبيض إذا أحرز سلاحًا مششحنًا فإنه يكون قد خالف المادة (11) من هذا القانون وتوجه إليه تهمة الجنحة فقط، فيرد على ذلك بأن القانون رقم (58) لسنة 1949 قسم الأسلحة إلى نوعين أسلحة نارية وأسلحة بيضاء ونظم لكلاهما أحكامًا خاصة للاختلاف بينهما من حيث طبيعتها ففي المادة الأولى منه نص على أنه (يحظر بغير ترخيص من وزير الداخلية أو من ينيبه عنه إحراز الأسلحة النارية بجميع أنواعها أو حيازتها أو الاتجار بها أو صنعها أو استيرادها) ثم جاء بعد ذلك وقال وكذلك الأسلحة البيضاء المبينة في الجدول (رقم أ) الملحق بهذا القانون.
وعند ما نص على عقاب الإحراز أو الحيازة لها انفردت المادة (8) بالأسلحة البيضاء بينما جاءت المادة (9) خاصة بالأسلحة النارية وكل ذلك يؤكد إيمان المشرع المصري باختلاف طبيعة كل نوع من الأسلحة فإذا رخص لشخص بحمل سلاح من أي نوع ثم أحرز سلاحًا من النوع الثاني فيعتبر الترخيص بالنسبة لهذا النوع الثاني كأن لم يكن ويعتبر حائزًا للسلاح بغير ترخيص فإن كان مششخنًا توجه إليه الجناية الموضحة بالمادة التاسعة ومما يؤكد ذلك أيضًا أن القانون القديم رقم (8) سنة 1917 كان يفرق أيضًا بين هذين النوعين من جهة طبيعتها والعقوبة المقررة لها إلا أنه فيما يختص بالأسلحة النارية فلم يكن يقسمها إلى قسمين مششخن وغير مششخن إذ أن هذه القسمة أوردها القانون الجديد بقصد تشديد العقوبة على النوع الأول وإن كان في النهاية قد سوى تقريبًا بينهما إذا كان الحائز للسلاح غير المششخن من الأشخاص المنصوص عليهم في الفقرات الخمس الأولى من المادة السادسة ففي الحالتين اعتبر الواقعة جناية.
5 - خاتمة:
هذه هي خلاصة اجتهادي في هذا القانون والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وأملي أن يكون الله عز وجل قد وفقني إلى الصواب فجنبني الزلل فوصلت إلى الحقيقة في هذا البحث.
والله ولي التوفيق،
[(1)] راجع قرار وزير الداخلية الصادر في 28 سبتمبر سنة 1950 بالشروط والإجراءات الخاصة بالحصول على التراخيص المنصوص عليها في م (102 أ ع) (المادة الرابعة منه) الوقائع عدد 92.
بحث في علاج مشكلة المخدرات
مجلة المحاماة - العددان الخامس والسادس
السنة الثامنة والعشرون سنة 1948
بحث
في علاج مشكلة المخدرات
بقلم الأستاذ جمال الدين العطيفي
وكيل نيابة مخدرات مصر
مقدمة عامة
لست بحاجة إلى أن أُبين مضار المواد المخدرة وخطرها على الجماعة، فبلادنا لم تفق بعد من ذكرى السنوات التي أعقبت الحرب الماضية، حين أنهكت المخدرات قوانا العاملة حتى قُدر عدد المدمنين عليها في سنة 1930 وحدها بخمسمائة ألف شخص، وحتى وقف الدكتور عبد الخالق سليم مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب أثناء نظر قانون المخدرات ينبه إلى خطورة الحالة فقال:
(من المُسلم به أن الحرب العظمى كلفت المتحاربين ضحايا هائلة في النفس وضحايا في المال، وقد انتشر الآن في البلاد وباء خطر جدًا، ليس على المال والأنفس فحسب ولكنه وباء يسطو على الأخلاق فيفسدها، وعلى الكرامة فيسحقها وعلى الإرادة فيسلبها وعلى عاطفة الشرف فيذهقها، حتى إذا سلم المصاب به من الموت ولو إلى حين عاش ذليلاً بائسًا يتمنى الموت ولكنه لا يجد الشجاعة الكافية للانتحار، ومما يزيد الإنسان أسى أن هذا الوباء قد بدأ ينشب أظفاره في طبقة الفلاحين والعمال، تلك الطبقة التي عليها قوام العمران في البلاد، وهذا الوباء… هو انتشار تعاطي المخدرات (مناقشات مجلس النواب جلسة 24 يناير سنة 1927).
فالإدمان على المخدرات يصيب الشخص في صحته وفي عقله وفي ماله، ويفسد خلقه واستعداده للعمل بل إنه يؤثر حتى على ذرية المدمن الذين يرثون وهنًا وانحطاطًا عن آبائهم، وهو وثيق الصلة بالإجرام يدفع إلى ارتكاب الجريمة، ويخلق ميلاً إليها، ذلك أن التنبه الحادث من تعاطيها يدفع إلى أعمال العنف والاعتداء والقتل (يراجع في ذلك الدكتور دوبري في كتاب ميرابان La lutte anti toxique صـ 160).
والمواد المخدرة جميعًا تستوي في مضارها، سواء أكانت من المخدرات المعروفة بالبيضاء (وأهمها الكوكايين والهيرويين والمورفين) أم من المخدرات السوداء (وأظهر أنواعها الحشيش وهو المعروف بالقنب الهندي والأفيون) فلكل تفرقة يراد إيجادها بين هذين النوعين تفرقة تحكمية خطرة.
لقد اقترح بعض أعضاء البرلمان أثناء مناقشة قانون المخدرات سنة 1927، عدم التسوية في العقوبة بين نوعي المخدرات، وتشديد العقوبة بالنسبة للمخدرات البيضاء، وكان مما قاله في ذلك الصدد الدكتور حسين يوسف عامر عضو مجلس النواب في جلسة 8 فبراير سنة 1927 إن المخدرات تنقسم إلى قسمين مختلفين تبعًا لجسامة الخطر الناتج من استعمال كل قسم منهما، فالحشيش والأفيون أقل خطرًا من باقي المخدرات كالكوكايين والمورفين، وأنه لا جدال في أن استعمال الأفيون والحشيش يؤثر في العقل والجسم إلى درجة محدودة خلافًا للكوكايين الذي يؤدي حتمًا بمن يستعمله إلى الجنون في مدة سنتين كما قرر رجال الطب، فضلاً عن إضعافه لقوة التناسل وإقلاله لشهية الأكل - أما الحشيش فبالعكس من ذلك لأنه يفتح الشهية للطعام، وانتهى الدكتور عامر إلى أنه ما دام الأمر كذلك فليس من المصلحة مطلقًا التسوية في العقوبة بين من يتجر في الحشيش والأفيون ومن يتجر في باقي أنواع المخدرات الأخرى.
غير أن ذلك الرأي لم يلقَ قبولاً، حتى قال مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب الدكتور عبد الخالق سليم بحق، أنه إذا كان تعاطي الكوكايين يقتل الأشخاص بعد سنتين فما ذلك إلا لسرعة تأثيره في الجسم، ولكن تأثير الحشيش كالسرطان متى دخل الجسم أصبح علاجه من المستحيلات وضرب مثلاً على أن مدى الضرر لا تأثير له في تقرير العقوبة - أن من يزور سندًا على شخص يملك خمسين فدانًا يعاقب بنفس العقوبة التي ينالها من يزور سندًا على شخص يملك مائتي فدان.
(جلسة مجلس النواب 8 فبراير سنة 1927).
وانتهى البرلمان إلى التسوية في العقوبة بين من يتجر في المخدرات البيضاء والسوداء، وإن كانت نصوص القانون مع ذلك لم تخل بما يشير إلى زيادة اهتمام الشارع بمكافحة المخدرات البيضاء، فالمادة (46) من القانون قد نصت على مكافآت أكثر سخاءً لمن يضبطون المواد المخدرة غير الأفيون والحشيش.
ولقد أردت أن أنبه هنا إلى خطر إيجاد أية تفرقة بين المخدرات البيضاء والسوداء، بمناسبة ما أثير في إحدى اجتماعات لجان جامعة الدول العربية من مناقشات تميل إلى إيجاد هذه التفرقة، ولعل اللجنة المشكلة في وزارة الصحة العمومية لتعديل قانون المخدرات تبقى على هذه التسوية في عقوبة المخدرات البيضاء والسوداء.
فمع التسليم بأن ضرر المخدرات البيضاء أسرع ظهورًا، فإن الضرر متحقق في الحالتين، وقد سبق للدكتور حامد محمود حين كان مديرًا لأقسام الصحة الاجتماعية بوزارة الصحة أن قرر (أنه لخطأ عظيم الاستهانة بالضرر الذي يلحق البلاد من تزايد استعمال الحشيش والأفيون لأن خطر ذلك على البلاد مزدوج - خطر على المدمنين أنفسهم وخطر على الجماعة العامة. إن مدمن المخدرات مثل حامل ميكروب التيفوئيد ينشر مرضه بين الآخرين الذين يخالطونه. والإدمان على الهيرويين سريع في نتائجه والمفروض أن حياة المدمن على الهيرويين قصيرة بينما أن المدمن على الأفيون يعيش عدة سنوات وإن كانت النتيجة في النهاية واحدة اضمحلال فوفاة - ومع ذلك فإن الخطر على الجماعة من الإدمان على الأفيون أعظم من خطر الإدمان على الهيرويين لأن عدوى مدمن الأفيون تبقى منتشرة عددًا أكثر من السنين فهوة كقدوة ومغرٍ يعدي نسبيًا عددًا من الأشخاص أكثر من الذين يعديهم مدمن الهيرويين الذي حياته أقصر من حياة الآخر) (التقرير السنوي لمكتب المخدرات عن سنة 1940 ص ل).
وقبل ذلك نشر طبيبان هنديان في يوليو سنة 1939 بحثًا مستفيضًا عن إدمان مخدر القنب الهندي (الحشيش) في مجلة (Indian Research memories) انتهيا فيه إلى أن تدخين الحشيش يؤدي إلى حالة تسمم شديد نتيجة مفعول الحشيش على مراكز المخ العليا، وأنه إذا دام استعمال الحشيش مدة كبيرة فإنه قد يتسبب عنه الجنون (تقرير مدير مكتب المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية عن سنة 1942، المنشور في واشنجطون في مارس سنة 1943).
يضاف إلى ما تقدم أن التفرقة بين المخدرات البيضاء والسوداء غير منتجة، لأنه من الأفيون وهو أحد المخدرات السوداء تستخرج بعض المخدرات البيضاء وهي المورفين والهيرويين.
هذه هي مضار المخدرات بوجه عام، وقد كان أشد ما عانته مصر من هذه المخدرات عقب الحرب العظمى، حين اشتد الإدمان على المخدرات البيضاء، مما أفزع الرأي العام وأولي الأمر، فصدر القانون رقم (21) لسنة 1928 متأثرًا بخطورة الحالة، حتى أنه صرح جهارًا أثناء نظر ذلك القانون في البرلمان، بأن روح التشديد يجب أن تسوده، وأنشئ مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة بقرار من مجلس الوزراء في 2 مارس سنة 1929، وكانت نتيجة ذلك التشريع الجديد وما بذله رجال مكتب المخدرات من جهود أن الحالة بدأت في التحسن، وما كان عام 1933 حتى صرح مدير مكتب المخدرات بأن خطر المخدرات الذي هدد البلاد بالخراب منذ بضع سنوات قد زال وأصبحت مناوأته والسيطرة عليه ممكنة في المستقبل. (تقرير مكتب المخدرات عام 1933).
وبقيام الحرب الأخيرة، توقفت تجارة المخدرات البيضاء عن نشاطها، ذلك أن الصين وبلاد وسط أوروبا وهي موطن هذه المخدرات، قد أصبحت ميدانًا لحرب ضروس وأصبح نقل هذه المخدرات عبر البحار متعذرًا.
غير أن تضاؤل كمية المواد البيضاء المضبوطة تم انعدامها، قد قابله تزايد في كميات المواد السوداء (الحشيش والأفيون) التي تهرب إلى مصر عبر قنال السويس فدل هذا على أن الإدمان على المخدرات ما زال كامنًا في النفوس، وأنه وقد تعذر الحصول على المخدرات البيضاء فإن المدمن يستعيض عنها بالمخدرات السوداء التي تُحدث نفس التأثير الضار.
سنتيجرام
جرام
كيلو جرام
فمنذ قيام الحرب كانت كمية الحشيش المضبوطة
78
372
459
وكمية الأفيون
5
417
1037
(إحصائية مكتب المخدرات عن سنة 1938).
وفي سنة 1944 قفزت كمية المخدرات من الحشيش إلى
85
244
1445
ومن الأفيون
1
412
1171
واستمرت هذه الزيادة حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها فبلغت مضبوطات عام 1947 من المواد السوداء.
الأفيون
80
873
3654
الحشيش
39
929
8459
(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).
ولا شك أن هذه الأرقام تدل في ذاتها على خطورة الحالة، فالمخدرات السوداء تهرب إلى مصر عبر قنال السويس، على ظهور الجمال وفي بطونها، وفي سيارات الجيوش المتحاربة وفي المراكب والقطارات والطائرات، ومصدرها الرئيس هو سوريا للحشيش وتركيا للأفيون.
إن المخدرات تدخل مصر إذن، وتتداول بكثرة في داخلية البلاد هذه الأيام، فما زال الإدمان عليها كامنًا في النفوس كما أسلفت، ويغري الكسب أصحاب النفوس الضعيفة على الاتجار فيها، فإذا كان سعر الكيلو من الحشيش والأفيون لا يتجاوز عشرين جنيهًا في سوريا، فإنه في مصر قد وصل إلى أكثر من مائة وخمسين جنيهًا وقد بدى أخيرًا نوع من التعاون الإجرامي الخطير بين عصابات تهريب المخدرات في البلاد العربية المتاخمة، وبين العصابات في مصر.
سنتيجرام
جرام
كيلو جرام
على أن دلائل كثيرة في مصر تدل على بدء تسرب المواد البيضاء إلى البلاد، حتى أنه ضبط من الكوكايين عام 1947
50
81
1
ومن الهيرويين
15
592
1
(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).
ولو أصبحت المخدرات البيضاء في متناول اليد، فإن البلاد ستسقط ثانيةً في الهاوية التي تردت فيها بعد الحرب الماضية بل إن الخطر اليوم سيصبح عظيمًا، ذلك أن الفلاحين لا يحصلون على غذاء كافٍ، وقد أنهكتهم أمراض البلهارسيا والانكلستوما، فهم في حاجة إلى ما يجدد نشاطهم، فإذا وصل الهيرويين إلى أيديهم بسعر رخيص فإن الكارثة ستكون شديدة.
ويبدو من ذلك التحليل المتقدم، أن المخدرات يكمن خطرها في ناحيتين:
1 - جلبها من الخارج وتداولها في الداخل.
2 - الإدمان عليها.
وسنعرض مقترحاتنا بالنسبة للخطرين على التوالي.
الباب الأول: مكافحة جلب المخدرات وتداوله
من المُسلم به أن مكافحة الاتجار في المخدرات، لا تتأتي بالوسائل الداخلية وحدها، بل إنه لا بد من نوع من التآزر الدولي في مكافحتها.
أولاً: الوسائل الداخلية:
1 - لعل أول ما يرد على الذهن هو منع تسرب المخدرات إلى الداخل، وهذه المهمة تؤدي بطبيعتها عند الحدود والمواني المصرية، وهي تؤدي عند الحدود الشرقية بوجه خاص هذه الأيام التي ازداد فيها تهريب المخدرات السوداء، لأن الموطن الحقيقي لذلك التهريب كما أسلفت هو بلاد فلسطين وسوريا ولبنان.
ولا شك أن حُسن مراقبة الحدود المصرية الشرقية، من شأنه أن يؤدي إلى ضبط كل من تسوله نفسه بأن يجلب المخدرات إلى مصر، وإلى ضبط ما يحمله من هذه السموم غير أن هذه الرقابة في وقتنا الحاضر ليست موكولة إلى هيئة واحدة، بل إنها موكولة إلى مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة وإلى البوليس ومصلحة الحدود ومصلحة خفر السواحل ومصلحة الجمارك، حتى أن قنال السويس يقوم بحراسة شاطئها الشرقي رجال مصلحة الحدود، وشاطئها الغربي رجال مصلحة خفر السواحل، وكانت نتيجة ذلك عدم التآزر بين رجال المصلحتين وعدم تبادل المعلومات واشتراك القوات معًا في العمل فهذا التقسيم في المناطق وتعدد الهيئات التي تتولى مكافحة التهريب، من شأنه أن يعرقل الجهود التي تبذل في هذا السبيل وقد سبق لسعادة اللواء حسن عبد الوهاب باشا مدير عام خفر السواحل أن اقترح في عام 1944 توحيد السلطات القائمة على مقاومة التهريب وأن يتولاها موظف له منصب وكيل وزارة لشؤون التهريب، وأيد ذلك الاقتراح سعادة اللواء رسل باشا مدير مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة، في ذلك الحين، ذاكرًا أن التهريب في مصر يمتد في الداخل والخارج منطويًا على تجارة واسعة النطاق في الأسلحة والذخائر والمواد الغذائية وما إليها، وأنه إذا أصبح في الإمكان تهريب البضائع من مختلف الأنواع دون الوقوع تحت طائلة العقاب فمن الممكن أيضًا أن يهرب الناس، وإذا بالرقابة الضعيفة عند الحدود تصبح ذات يوم خطرًا شديدًا على مصر.
(تقرير مكتب المخدرات عن سنة 1944 صـ 5).
ويتصل بإنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب، وجوب تعزيز هذه الإدارة بعد وافر من الضباط الأكفاء المثقفين، حتى لا يترك أمر جمع الاستدلالات والتحريات إلى فئات البوليس الملكي والجنود - والاستعانة بالطائرات على نطاق واسع لكشف زراعات الحشيش والخشخاش، وبالمراكب لمكافحة التهريب عبر البحار.
2 - إذا لم تفد هذه الجهود في منع المخدرات من دخول البلاد وتسرب بعضها إلى الداخل أو زرعها بعض الفلاحين طمعًا في الربح - فإنه يجب أن يتوافر الجزاء الرادع على الاتجار فيها أو زراعتها.
إن القانون رقم (21) لسنة 1928 ينص في المادة (35) منه على معاقبة من يُصدر أو يُجلب الجواهر المخدرة أو يبيعها أو يشتريها أو يُحرزها أو يحوزها أو يقدمها للتعاطي أو يُسهل تعاطيها… بالحبس مع الشغل من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 200 جنيه إلى ألف جنيه.
وينص القانون رقم (42) لسنة 1942 الخاص بمنع زراعة الحشيش على عقوبة الحبس من ستة شهور إلى سنتين وغرامة من 100 جنيه إلى 200 جنيه.
بينما ينص المرسوم بقانون الصادر سنة 1926 المعدل بالقانون رقم (64) لسنة 1940 الخاص بمنع زراعة الخشخاش (الأفيون) على عقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة شهور وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا أو إحدى هاتين العقوبتين.
ويبدو من مراجعة هذه النصوص أن الشارع يفرق بين عقوبة من يحرز الحشيش أو الأفيون، ومن يزرعه، مع أن زراعة الحشيش أو الخشخاش لا تقل خطوة عن إحرازه بل قد تزيد أحيانًا، وهذه التفرقة بين جرائم الزراعة وغيرها لا تعرفها قوانين المخدرات في الخارج (يراجع على سبيل المثال الذي يُحسن أن يُحتذى قانون الأفيون والجواهر المخدرة لسنة 1929 الصادر في كندا).
على أن العقوبة حتى في حالة الجرائم الواردة بالمادة (35) من القانون رقم (21) لسنة 1928 لم تعد كافية لردع المتجرين بالمخدرات ولمواجهة خطورة الحالة، وهي أقل من نظيراتها في بعض التشريعات الأجنبية، فالتشريع الصيني الصادر في 16 مايو سنة 1934 يجيز الحكم بالإعدام في جرائم بيع المواد المخدرة وصناعتها ونقلها وفي القانون الإنجليزي الصادر في 17 مايو سنة 1923 يجوز أن يصل عقاب المتجرين في المخدرات إلى الأشغال الشاقة مدة عشر سنوات وغرامة ألف جنيه، وفي الولايات المتحدة يجيز قانون جون ملر الصادر في سنة 1922 إيصال مدة الحبس إلى عشر سنوات والغرامة إلى 5000 دولار.
وظاهر من ذلك أن الدول التي وجدت نفسها أمام خطر عظيم من انتشار هذه المواد اضطرت إلى زيادة العقوبة زيادة تدفع أذاها، ففي هذه البلاد يعاقب على جرائم المخدرات بعقوبة الجناية.
وقد اقترح في مصر أثناء مناقشة قانون المخدرات في البرلمان، جعل عقوبة الاتجار في المخدرات جناية، غير أن لجنة الحقانية بمجلس النواب لم ترَ هذا الرأي، (لأن اعتبار هذه الجريمة جناية سيصادف عقبات كثيرة عند تطبيق القانون على الأجانب لعدم وجود محاكم جنايات بالمحاكم المختلطة، وعدم ملاءمة قانون تحقيق الجنايات المختلط الذي وضع وقت إنشائها لروح الأنظمة الحاضرة مما يستدعي إعادة النظر فيه، وهذا يستغرق وقتًا طويلاً، أما أن تعتبر الجريمة جناية بالنسبة للمصري فقط فيحول ذلك دون اتجاره في تلك المواد فيحتكرها الأجنبي ويلحق الضرر بأبناء البلاد فإذا ضُبط طُبقت عليه عقوبة المخالفة، فهذا ظلم، كما أن التدرج في التشريع يقتضي عدم اعتبارها جناية، فهذه الجريمة كانت المحاكم الأهلية تقضي فيها باعتبارها مخالفة إلى عهد قريب.
وظاهر أن هذه الاعتبارات التي كانت قائمة وقت صدور القانون رقم (21) لسنة 1928 قد زالت الآن بزوال الامتيازات الأجنبية وخضوع الأجانب للتشريع والقضاء المصريين لذا فمن المأمول، وهناك لجنة مشكلة في وزارة الصحة لتعديل قانون المخدرات، أن يكون تشديد العقوبة أحد أُسس التنقيح، وخصوصًا بالنسبة للجرائم التي ترتكبها الجماعات.
ثانيًا: الوسائل الدولية:
يقضي واجب التضامن الدولي على العائلة الدولية أن يتعاون أفرادها لمكافحة الإجرام وإذا كانت هذه الحقيقة مثمرة بالنسبة لسائر الجرائم الأخرى، فإنه لا غناء عنها بالنسبة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات، ذلك أنه في بعض الدول تعتبر المخدرات تجارة وصناعة رابحة، ومهما سمت تشريعات البلاد الداخلية، وسمت مراقبتها لحدودها لمنع تسرب هذه السموم إلى مواطنيها - فإن التضامن الدولي - سيبقى أبدًا العامل الهام في القضاء على المخدرات.
ومنذ أن عمت المخدرات العالم سارت الدول في هذا الطريق الدولي، فعقدت اتفاقية لاهاي لمعالجة موضوع المخدرات المصنوعة وإنتاجها، وانتهز الحلفاء اجتماع مؤتمر الصلح فضمنوا معاهدة فرساى نصًا لا يمت إلى الحرب والسياسة بصلة، هو تنفيذ ما اتفق عليه في لاهاي، واعتبار التصديق على معاهدة فرساى بمثابة تصديق على اتفاقيات لاهاي.
وبعد أن أنشئت عصبة الأمم كان أول عمل قامت به أن أصدرت جمعيتها العمومية قرارًا في 15 ديسمبر سنة 1920 بتشكيل لجنة أسمتها المجلس الاستشاري للأفيون والمخدرات الضارة الأخرى، وعقدت بعد ذلك مؤتمرات جنيف التي انتهت إلى إبرام اتفاقية الأفيون الدولية في 19 فبراير سنة 1925 وتوالت بعد ذلك المؤتمرات لتحديد صناعة المواد المخدرة وأبرمت الدول اتفاقية لتحديد صناعة المواد المخدرة وتنظيم توزيعها في 13 يوليو سنة 1931 واتفاقية عقوبات الاتجار في المخدرات في 29 يونيو سنة 1936.
وظلت لجنة الأفيون بعصبة الأمم تباشر أعمالها وأبحاثها، ورغم قيام الحرب في سنة 1939 فإنها لم تتوقف عن القيام بواجباتها من واشنجطون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وألغيت عصبة الأمم واجتمع مندوبو دول العالم في مؤتمر سان فرنسسكو وأعدوا ميثاق هيئة الأمم المتحدة، صرح مندوب الولايات المتحدة بأن ميدان الإشراف الدولي على الاتجار بالعقاقير الخطرة هو من الميادين التي تدخل في نطاق أعمال المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الأمم المتحدة وانتهى الأمر بأن أصبح لهيئة الأمم المتحدة من الإشراف والرقابة على صناعة المخدرات والاتجار فيها في العالم ما كان لعصبة الأمم، وقرر المجلس الاقتصادي والاجتماعي تشكيل لجنة للمواد المخدرة من خمسة عشر عضوًا يمثلون خمس عشرة دولة من بينها مصر، وكان أول اجتماع لهذه اللجنة في 18 نوفمبر سنة 1946 بمدينة نيويورك.
أشرت إلى هذه السلسلة من الجهود التي بذلتها دول العالم لأبين أهميتها القصوى في مكافحة المخدرات، ولا شك أن هذه الأهمية تبدو كاملة بالنسبة لمصر ذلك أن مصدر الخطر عليها يكمن وراء حدودها الشرقية، فالحشيش يزرع في سوريا ولبنان وشرق الأردن، والأفيون المزروع في تركيا يهرب إلى مصر عن طريق سوريا وفلسطين، فلا غرو إذن أن كل الجهود الداخلية التي تبذل في مصر، تصبح غير مجدية، إذا ما استمرت البلاد المتاخمة لحدودنا الشرقية غير ملقية بالاً إلى مكافحة المخدرات.
إن القانون في هذه البلاد يعاقب على جرائم المخدرات، وقد انضمت هذه البلاد إلى هيئة الأمم المتحدة وأصبحت ملزمة بتوصياتها وقراراتها، غير أنه رغم ذلك، فإن قوانين المخدرات في هذه البلاد غير منفذة فعلاً، وما زال الحشيش معتبرًا كأنه جزء من ثروتها القومية ويزرع علنًا فيها، وكانت الحجة في ذلك أن زراعة الحشيش في سوريا تقليدية ولا يمكن الاستعاضة عنه بمحصول آخر، وفوق أنه لا يضر السوريين لعدم استهلاكهم له، فإنه يُدر عليهم أرباحًا وافرة.
فمنذ عام 1939 حين توصل اللواء رسل باشا إلى التفاهم مع سلطات الانتداب الفرنسي على إعدام زراعات الحشيش، قامت قيامة السوريين وصحفهم، حتى أن إحدى هذه الصحف وهي صحيفة صوت الأحرار نشرت بعددها الصادر في 18 يوليو سنة 1939 مقالاً ترد فيه على دعاة الانتصار لمنع زراعة الحشيش ومما جاء في ذلك المقال (أما اختراق قانون عصبة الأمم، فلست أدري إذا كان – جريمة، بعد أن اخترقت كل قوانينها دول أوروبية تسبقنا أشواطًا - على الأقل في رأي أوروبا - في ميادين الحضارة والرقي، وأما الكيد للإنسانية فلا أعرف ما إذا كان جريمة في بلد ضعيف هزيل يؤثر أن يموت الغريب موتًا بطيئًا (وعلى الكيف) بالحشيش على أن يموت جوعًا، ولا سيما بعد أن رأينا ونرى كيف تسام الإنسانية، وكيف يطعنها كثير من الأقوياء والمتمدينين، طعنات لا هوادة فيها ولا رحمة وإن قتل حرية شعب من الشعوب لأعظم - والله أعلم - من تصدير الحشيش إلى محششين يحصلون عليه من غيرنا بأي طريقة كانت).
وذلك المقال المتجني يعيد إلى الأذهان ما كتبه أحد كتاب سوريا في صحيفة فرنسية تصدر في سوريا اسمها (La Syrie)، إبان زيارة البعثة الطبية المصرية لسوريا عام 1924، إذ قال - إن سوريا ومصر شقيقتان لأن إحداهما تزرع الحشيش والأخرى تشربه.
فليس لنا أن نأمل إذن إلا في أن حكومات هذه البلاد وقد نالت استقلالها وانضمت مع مصر إلى جامعة الدول العربية ستواجه هذه الحالة بروح مستنيرة فإن كانت المخدرات هناك تجارة رابحة، فإنها تجلب على مصر شرًا ووباءً مستطيرًا وقد أوصى مجلس الجامعة جميع الدول العربية بالتعاون لمكافحة المخدرات غير أن الأمر يحتاج إلى إصدار تشريع موحد بشأن جرائم المخدرات بين جميع الدول العربية أعضاء الجامعة - وإلى عقد اتفاقية تتعهد فيها كل دولة بأن - تبذل كل مجهودها لمكافحة هذا الخطر في أراضيها.
ذلك هو طريق التضامن الدولي الذي سلكته من قبل دول العالم، والذي أقرته عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية التي أسلفت الإشارة إليها، فلعل تضامن الدول العربية لمكافحة المخدرات، يكون ناجعًا في درء خطرها عن بلادنا.
الباب الثاني: علاج الإدمان على المخدرات
1 - تدل زيادة مضبوطات المخدرات في مصر على أن الإدمان على المخدرات ما زال كامنًا في النفوس فالفلاح الذي أنهك الفقر وسوء التغذية قواه، كما أنهكته أمراض البلهارسيا والانكلستوما في حاجة دائمًا إلى منبه يجدد نشاطه وحيويته، وهو حين أصبحت المخدرات البيضاء صعبة المنال، استعاض عنها بالمخدرات السوداء، وحين لا يستطيع الحصول على هذه لارتفاع ثمنها فإنا نراه يلجأ إلى تعاطي الشاي الأسود المغلي، وهو سم لا يقل ضررًا عن المخدرات، ولا يمكن أن يوجد تشريع يتناوله بالعقاب، ومن ذلك يبدو أن مشكلة المخدرات في الحقيقة جزء من مشكلة الفقر والمرض التي تعانيها مصر.
وثمة سبب آخر يشجع الفلاحين على تعاطي المخدرات، وهو ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن المخدرات مباحة شرعًا، على خلاف الخمر فمن الملاحظ أن جمهور المدمنين يتعاطون المخدرات ولا يتعاطون الخمر استنادًا إلى ذلك الاعتقاد، والحقيقة أن كل مسكر خمر: وكل خمر حرام، فالخمر تطلق على كل ما يفقد الوعي أو ينقصه كالمخدرات، وقد أفتى بذلك حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية عام 1940 - وجاء في فتواه (أنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة ومفاسد كثيرة فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد، فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررًا ولذلك قال بعض علماء الحنفية (إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع) وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها ووضوحها ولأنه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل وينبهه ويحدث من الطرب واللذة عند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الخمر والمسكر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ما خلاصته (إن الحشيشة حرام يُحد متناولها كما يُحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظًا أو معنى). (تراجع الفتوى كاملة في تقرير مكتب المخدرات عن عام 1940 صـ 54).
وبمثل ذلك أفتى الشيخان الجليلان أحمد جربوع وعلي الحناوي في سوريا ومما جاء في هذه الفتوى وقد نشرتها جريدة الجبل أول أغسطس سنة 1944 (أنه لمن دواعي الأسف العميق أن يتصل بنا وجود أراضٍ في جبلنا الأشم زُرع فيها القنب الهندي الذي يستخرج منه الحشيش، هذه النبتة التي حرمها الله ورسوله والتي تخل بالشرف والدين، وتضر بالصحة والأخلاق ولأنها من المسكرات القبيحة التي هي أشد خطرًا وضررًا من الخمر).
وجاء في كتاب المنن لمؤلفه الإمام الشعراني المتوفى سنة 973 هجرية، وهو سفر قيم أحاط فيه مؤلفه بمضار المخدرات وتحريمها ما نصه:
(ذكر الشيخ قطب الدين العسقلاني خليفة شيخ الشيوخ الشيخ شهاب الدين السهرودي - رحمه الله تعالى-، في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دنيوية وأخروية، وقال الحكماء أنها تورث أكثر من ثلثمائة داء في البدن كل داء لا يوجد له دواء في هذا الزمان فمنها - تنقيص القوى، وإحراق الدماء وتقليل الحماء، وتنقيب الكبد وتقريح الجسد، وتجفيف الرطوبات، وتضعيف اللثات، وتصفير اللون وتحفير الأسنان، وتورث البخر في الفم، وتولد السوداء، والجذام، والبرص والخرص، واللقوة، وموت الفجأة، وتورث كثرة الخطأ والنسيان، والضجر من الناس، وتولد الأعشاء في العيون، وتخلط العقول، وتورث الجنون غالبًا، وتسقط المروءة، وتفسد الفكرة، وتولد الخيال الفاسد، ونسيان الحال والمآل، والفراغ من أمور الآخرة، وتُنسي العبد ذكر ربه، وتجعله يفشي أسرار الإخوان وتذهب الحياء، وتكثر المراء، وتنفي الفتوة والمروءة، وتكشف العورة وتمنع الغيرة، وتتلف الكيس، وتجعل صاحبها جليسًا لإبليس، وتفسد العقل وتقطع النسل، وتجلب الأمراض والأسقام مع تولد البرص والجذام، وتورث الأبنه وتولد الرعشة وتحرك الدهشة وتسقط شعر الأجفان وتجفف المني، وتظهر الداء الخفي، وتضر الأحشاء، وتبطل الأعضاء، وتقوي النفس، وتهز السعلة، وتحبس البول، وتزيد الحرص، وتسهر الجفون، وتضعف العيون، وتورث الكسل عن الصلاة وحضور الجماعات، والوقوع في المحظورات، وارتكاب الأجرام، وجماع الآثام، والوقوع في الحرام، وأنواع الأمراض والسقام).
وهناك ظاهرة أخرى تستحق العناية، استفحل أمرها هذه الأيام وهي أن تعاطي المخدرات والإدمان عليها قد بدأ يتسرب إلى الطبقة المتوسطة والمؤثرة. وليس هناك تفسير لهذه الظاهرة إلا أنها نتيجة للتدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي الذي يعقب الحروب عادةً.
فنحن في حاجة ماسة إذن إلى دعاية منظمة تحمل على المخدرات وتعاطيها وإلى إعداد قسم بمتحف فؤاد الأول الصحي تعرض فيه نماذج لما قد يصير إليه المدمن نتيجة تعاطيه المخدرات، نحن في حاجة إلى من يعظون في المساجد والكنائس ينبهون الناس إلى خطورة المخدرات ومضارها، وإلى أن يطوف الفانوس السحري بلاد الريف يعرض على الفلاحين صورة الآدميين الذين أضنتهم هذه السموم الفتاكة، حتى ينفروا من المخدرات وتعاطيها.
2 - والمدمن كما هو ظاهر مجرم مريض، يجب معالجته وهو أحيانًا يفزع من إدمانه ومع ذلك لا يستطيع الإقلاع عن عادته بل إن منع المخدر عنه قد يسبب له أضرارًا بالغة وقد يعرض حياته للخطر وقد وصف الدكتور جان بيرن (Jean Perrin) حالة مثل ذلك المدمن في كتابه - مسؤولية المدمن الجنائية - فقال (إن المدمن يعلم أنه بتعاطيه المخدرات سيقع تحت طائلة العقاب، ولكن شيئًا لا يستطيع إيقافه، لا الاعتبارات الأدبية، ولا عواطفه العائلية كإنسان عادي ولا خشية العقاب، فالمدمن إنسان أناني لا يهتم إلا بإشباع غرائزه).
ومثل ذلك المجرم يختلف تمامًا عمن يزرع الحشيش أو الخشخاش أو يتجر فيهما، فإنه لا يبغي كسبًا، ولا يحيق من فعله ضرر بالجماعة التي يعيش فيها إلا عن طريق غير مباشر، بل إن كل المضار واقعة عليه، لذلك فيجب على المشرع أن يهتم بمعالجته قبل أن يعمل على معاقبته، فإن فكرة العقوبة بالنسبة لذلك النوع من المجرمين تفقد حكمتها والغرض منها، ومهمة المشرع تبدو بالنسبة له مهمة تهذيبية علاجية (but curatif).
ولا شك أن هذه الاعتبارات هي التي أوحت إلى واضعي قانون المخدرات رقم (21) لسنة 1928، النص في المادة (36) منه في فقرتها الثانية على أنه يجوز للمحكمة بدلاً من عقوبة الحبس أن تحكم بإرسال الجاني إلى إصلاحية خاصة لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد عن سنة.
غير أن المشرع قد جانبه التوفيق حين حرم المحكمة من جواز إبدال عقوبة الحبس المحكوم بها، بالإرسال إلى الإصلاحية إذا كان قد سبق إرسال الجاني إليها، ذلك أن حكمة الإرسال إلى الإصلاحية تتحقق أيضًا بالنسبة للمجرم العائد، بل إنها قد لا تتحقق إلا بالنسبة لذلك النفر من المجرمين والمدمن كما أسلفت مريض أكثر منه مجرم.
وليس ذلك هو الانتقاد الوحيد الذي يمكن ملاحظته على ذلك النص، فإن تحديد مدة الإصلاحية عيب ملحوظ فيه، إذ لما كان الغرض من الإرسال إلى الإصلاحية هو معالجة المدمن بغية شفائه، فإن الأولى هو عدم تحديد المدة التي يقضيها المدمن في الإصلاحية، بل إنها تترك لتقدير أطبائه، ويكون له إذا زادت المدة عن حد معين أن يتظلم إلى القاضي.
على أنه بصرف النظر عن هذين الانتقادين، فإن نص المادة (36) لم يوضع موضع التنفيذ، إذ لم تنشأ الإصلاحية المشار إليها حتى اليوم، ورغم أن كلاً من الحكومات المتعاقبة قد حرصت على أن تذكر في خطاب عرشها أنها جادة في إنشاء هذه الإصلاحية - فإنها لم تخرج إلى حيز الوجود.
وكانت نتيجة ذلك النص العاطل عن التنفيذ أن بعض المحاكم قد قضت بإرسال المتهم إلى الإصلاحية فلم يُنفذ الحكم وبرئ المتهم من عقوبة توقع عليه، ولم تستطع محكمة النقض والإبرام شيئًا أمام هذه النتيجة بل إنها قررت في حكمها الصادر في 6 يناير سنة 1941 (القضية رقم 385/ 11 قضائية - مجموعة محمود عمر صـ 339 قاعدة رقم 180) بأن القاضي إذا رأى من وقائع الدعوى المعروضة عليه أن المتهم في حالة تستدعي العلاج والإصلاح وأمر بإرساله إلى المصحة فلا يجوز الطعن على حكمه بمقولة إن مصحة المدمنين على المخدرات إذا كانت لم تنشأ بعد لم يكن للقاضي أن يختارها بل كان عليه أن يحكم بعقوبة الحبس ذلك أن الحبس والإصلاحية ليسا عقوبتين متعادلتين يحكم القاضي بأيهما حسب مشيئته في كل دعوى بغض النظر عن حالة كل متهم وظروفه، بل إن كلاً منهما قد قرر ملاحظًا فيه غرض خاص - واستطردت المحكمة العليا فذكرت في أسباب حكمها الحكمة من نص المادة (36) وميزت بين عقوبة الحبس والمقصود بها تأديب الجاني عما وقع منه ليكف عن الرجوع إليه وليكون عبرة لغيره، والإصلاحية وهي ليست إلا وسيلة من وسائل العلاج والإصلاح قررها القانون للمدمنين - الذين تملكهم داء الاعتياد على تعاطي المخدرات حتى لم يعودوا يقدرون على الإمساك عنها ولا يجدي عقاب في حدهم عنها، وأمثال هؤلاء إذا نزل العقاب بهم فإنه يكون عديم الأثر في تقويمهم ولا يتحقق به الغرض الذي قصده القانون من العقوبة.
وجود الإصلاحية إذن لا غناء عنه لمعالجة المدمنين، وطالما أن هذه الإصلاحية لم تنشأ فإن أحكامنا ستظل دائرة في حلقة مفرغة، فهي تنزل بالمتهم العقوبة فلا تجديه نفعًا - وإذا خرج من السجن ألحت عليه عادته، فإذا ضُبط أنزلت به المحكمة العقوبة… وهكذا…
ومن الغريب أنه منذ سنة 1935 حين عُرضت على القضاء المصري قضية الأطباء المعروفة، التي اُتهم فيها ثمانِ أطباء وصيدلي وفلاح بتسهيل تعاطي جواهر مخدرة وإحرازها في غير الأحوال المشروعة وعدم إمساك الدفاتر الخاصة بقيد هذه المواد - ودلت هذه القضية على وجود عدد كبير من متعاطي المخدرات من أفراد الطبقات الوسطى يرغبون في الشفاء ولا يجدون المستشفى الذي يأويهم، وهم لا يملكون المال ليضمنوا وسيلة مؤكدة للشفاء في باريس أو فيينا - من الغريب أنه منذ ذلك الحين وقد وضحت الحاجة إلى إنشاء المصحة التي أشار إليها القانون، فإن الصيحات التي بذلها دعاة الإصلاح لم تلبث حتى خفتت تدريجيًا وتلاشت.
وقد حرصت محكمة المخدرات التي أصدرت الحكم في هذه القضية على أن تبدي ملاحظاتها على خلو البلاد من مؤسسة لعلاج المدمنين على المخدرات والعناية بهم، فذكرت في أسباب حكمها (أنه إذا كانت الحكومة المصرية قد تهاونت في إنشاء المصحات للعلاج ورأت في المدمن مجرمًا تلقيه في السجون فمجرد أن تعرضه لخطر الموت في حالة المنع الفجائي من المخدر هو أمر لا يعدو النظريات المحضة، بدليل إحصائياتها من السجون، فالمصحة لازمة إذا لم تكن لبدء العلاج فلإتمامه كما تقدم، وطالما أنها لم تنشأ فستستمر الحكومة والبلاد في حلقة مفرغة يعود فيها المدمن إلى إدمانه كلما انتهت مدة عقوبته أو علاجه بمعرفة الطبيب الممارس، وهي حالة تدعو إلى الأسى (حكم محكمة المخدرات الصادر في 2 يونيو سنة 1935 والذي تأيد بأسبابه استئنافيًا في 6 أغسطس سنة 1935 المحاماة السنة السادسة عشرة صـ 674).
وقد تنبهت كل البلاد المتمدينة التي دهمها خطر الإدمان على المخدرات إلى وجوب إنشاء مصحات للعلاج فأصدرت البرازيل حديثًا تشريعًا مؤداه أن يرسل المدمنون الذين يحكم عليهم لتعاطي المخدرات إلى إصلاحيات خاصة.
وفي الصين نص تشريع سنة 1934 على معالجة مدمني المخدرات في مصحات خاصة، وفي الولايات المتحدة أنشأت في سنة 1935 مصحتان لإيواء الرجال والنساء، ثم أنشأت بعد ذلك مستشفيات لعلاج المدمنين في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
وفي إنجلترا أنشأت كذلك إصلاحيات خاصة لعزل المدمنين، وقد ذكر الدكتور برانث وايت Branth waite مفتش الإصلاحيات في إنجلترا، في هذا الصدد (أن أنظمة السجن العادية لا تصلح لمعالجة حالة المدمنين كما أنها لا تتلاءم بصفة عامة مع حالة الأشخاص المصابين بعاهات عقلية وذلك لأن المدمن يحتاج إلى عناية خاصة واستحمام منتظم ورياضة بدنية، كل ذلك بقصد استئصال العلل البدنية الطبيعية التي تعتبر في الواقع سببًا مباشرًا لاختلال التوازن العقلي، وأن غرف السجون الصغيرة بل وأبنيتها الضيقة لا تتفق مطلقًا مع ما تتطلبه حالة المدمن من الأعمال الشاقة الصحية المستمرة والرياضة والعمل مع زملائه طول اليوم تحت ملاحظة دقيقة، فضلاً عن وسائل التهذيب الواجبة، ولا نزاع في أن تعويدهم على النظام أمر واجب ومن المستحب ألا تبلغ أساليب النظام في صرامتها أساليب السجون بل تكون على نمط النظام العسكري أو المتبع في سفن الملاحة كما أنه يحسن بقدر الإمكان أن يعدل عن العقاب الصارم إلى أمور يكون من شأنها تشجيعهم على العمل طمعًا في المكافأة وحبًا في التحلي بالخُلق الحسن لا أن يدفعوا إلى العمل خشية العقاب، وأهم أمر يجب الالتفات إليه هو المعالجة الطبية لتلك العقلية الشاذة في إبان ظهورها، وكلما كانت الإصلاحية أشبه في كل أنظمتها بمصح عقلي كلما كانت النتائج أجدى وأنفع).
ويُحسن بنا بمناسبة الحديث عن التشريعات الأجنبية أن نذكر تلك الرغبة القديمة التي سبق أن أبداها المؤتمر الطبي الذي انعقد بمدينة بيزانكن Besançn في فرنسا عام 1923، في أن تعمل الحكومات على إنشاء مصحات لعلاج المدمنين على المخدرات، وقد انتهى كذلك العلماء في ألمانيا وعلى رأسهم لوان Lewin إلى أن الإدمان على المخدرات كالإدمان على الخمور، كلاهما مرض وأن المدمنين يجب أن يعالجوا في مصحات خاصة، وفي سويسرا صدر قانون في مقاطعة زيورخ يمنح السلطات العامة حق حجز المدمنين في الإصلاحيات (يراجع في ذلك رسالة الدكتور جان بيران Jean Perrin السابق الإشارة إليها صـ 19 و20).
على أن إرسال المدمنين إلى المصحات يجب ألا يقتصر على من يحكم عليه في إحدى جرائم المخدرات، بل إن المصحات يجب أن تفتح أبوابها لكل من يرغب في العلاج من المدمنين ولو لم يحكم عليه في جريمة ما.
وليس الغرض من حجز المدمنين في مصحات هو حاجتهم إلى العلاج والرعاية فحسب بل إن هناك غرضًا آخر هو عزل مسجوني المواد المخدرة عزلاً تامًا عن باقي المسجونين لأنه قد يحدث من اختلاطهم انتشار استعمال المخدرات، وفي ذلك يقول الدكتور ماسيجروف وهو ثقة من كبار الأطباء إن خطر المدمن وعدواه تفوقان بعشرة أمثال الخطر المتخلف من الأبرص والعدوى منه، وليس المقصود بالعدوى الاحتكاك الجسمي بل المقصود هو الاحتكاك العقلي والاجتماعي.
ومنذ 3 أكتوبر سنة 1932 خصصت مصلحة السجون مزرعة في طرة لإقامة المحكوم عليهم طبقًا للمادة (35) من قانون المخدرات بالحبس لأكثر من سنة يعملون فيها كالمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وذلك لحصرهم في بيئة واحدة ومنع انتقال شرورهم إلى غيرهم (تقرير مصلحة السجون السنوي 1934 - 1935 صـ 4) على أن إنشاء مثل هذه المؤسسة لإيواء المدمنين كان أولى وأجدر.
وليس أدل على أن إرسال المجرم المدمن إلى السجن إجراءً ليس فيه أي نفع وأن العقوبة التي يقضي بها عليه لا تفيد أثرها وهو الزجر - من أن بعض هؤلاء المدمنين يعودون إلى تعاطي المخدرات وهم ما زالوا في السجن لم يوفوا مدة العقوبة المحكوم بها عليهم، ولقد أحصيت عدد هذه الحالات التي ضُبطت في خلال عام 1947 بالقاهرة فوجدتها أربع عشرة حالة، وإنه من المؤسف حقًا أن تتسرب المخدرات إلى داخل السجون، وهذه الحالة تستدعي وجوب تشديد الرقابة.
ولهذه الاعتبارات المتقدمة، فإن أشعر تمامًا بأن كل الجهود المبذولة لن تؤتي ثمارها المرجوة في القضاء على الإدمان على المخدرات، اللهم إلا إذا أنشئت الإصلاحية التي أشارت إليها المادة (36) من القانون.
3 - تقضي المادة (55) من قانون العقوبات بأنه يجوز للمحكمة عند الحكم في جناية أو جنحة بالغرامة أو بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أن تأمر في نفس الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مخالفة القانون، وقد أُدخل ذلك المبدأ في القانون المصري، لأول مرة سنة 1904 وهو مستنبط من القانون البلجيكي الصادر في 31 مايو سنة 1888 (قانون لدجون) وكذا من القانون الفرنسي الصادر في 26 مارس سنة 1891 (قانون بيرانجيه) وقد أسس ذلك المبدأ كما جاء في تعليقات الحقانية على قانون سنة 1904، على فكرة أنه من المستحسن وقاية من يرتكبون الجرائم لأول مرة من تأثيرات السجون المفسدة للأخلاق كلما كان هناك أمل في أن هذه الرأفة لا تكون في غير موضعها.
وتنص المادة (40) من قانون المخدرات رقم (21) لسنة 1928 على أنه لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذ الحبس لمن يحكم عليه في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون. ويفسر ذلك النص الذي جاء على خلاف القواعد العامة، أن قانون المخدرات صدر في وقت كان انتشار المخدرات فيه على أشده وكان التشديد مطابقًا لرغبات الرأي العام الذي هاله تفشي الإدمان على هذه المواد، حتى أنه ذكر جهارًا في مجلس البرلمان أن روح الشدة يجب أن تسود نصوص القانون وأنه إذا أدت شدة القانون إلى تضحية بعض الحالات الفردية فذلك تبرره سلامة المجموع، وذكرت لجنة الحقانية بمجلس النواب في تقريرها عن القانون، أنه لا محل لإيقاف التنفيذ بالنسبة لهذه الطبقة من المجرمين.
ومع التسليم بأن جرائم المخدرات من الجرائم الخطيرة التي يجب تشديد العقوبة بالنسبة لها، فإن الحكمة التي حدت بالشارع إلى أن يدخل نظام إيقاف تنفيذ العقوبة في قانون العقوبات، متحققة في هذه الحالة أيضًا.
وقد تبين لي من مراجعة كثير من القضايا أن بعض النشء تفتنه المخدرات ويرغب في تقليد غيره من أنداده، فيقدم على تعاطيها غير مقدر خطورتها فإذا أوقعه حظه العاثر وقُدم إلى المحاكمة، فإن القاضي لا يملك غير أن يقضي بمعاقبته. وقد يكون في دخوله السجن واتصاله بغيره من المسجونين مفسدة.
على أنه مع تقدير وجوب عدم حرمان المحكوم عليه من إيقاف تنفيذ العقوبة فظاهر أنه لا محل لذلك الإيقاف إلا في جرائم التعاطي والاستعمال الشخصي التي نصت عليها المادة (36) من القانون. أما غيرها من الجرائم الواردة بالمادة (35) فهي جرائم شديدة الخطورة، لا يستأهل مرتكبها أي تخفيف أو رحمة.
وظاهر أيضًا أنه لا محل لإيقاف التنفيذ في جرائم التعاطي إلا بالنسبة لمن يحكم عليه لأول مرة، أما العائد فشخص لم يفلح الحكم السابق في تهديده وزجره، وهو فضلاً عن ذلك قد يعد مدمنًا، وهناك وسائل لعلاجه نظمها القانون وهي إرساله إلى الإصلاحية.
وفي هذه الحدود التي بيناها، ليست هناك أية خشية من إجازة الحكم بإيقاف التنفيذ، فإن أمر ذلك الإيقاف متروك لفطنة القاضي وحُسن تقديره، يزن الاعتبارات التي تدعو إليه، كما يقدر العقوبة التي يحكم بها، وهو في قضائه خاضع لرقابة محكمة ثاني درجة، إذا رأت النيابة العمومية رفع الأمر إليها ولا شك أن الحكم بإيقاف التنفيذ خير من أن يتلمس القضاة سُبل البراءة، في كثير من القضايا التي كانت ظروفها تبرر التغاضي عن معاقبة المتهمين فيها - لأن الحكم القاضي بوقف تنفيذ العقوبة هو حكم بالإدانة يبقى مسلطًا على المحكوم عليه مدة خمس سنين.
ومهما يكن الأمر فلا يمكن القول بأن مثل جرائم التعاطي إذا ارتكبها متهم لأول مرة أشد خطرًا من مواد الجنايات التي يجوز الحكم بإيقاف التنفيذ فيها طبقًا للمادة (55) عقوبات.
الخلاصة
يتبين مما تقدم أن مخاطر المخدرات هي:
أولاً: في جلبها وتداولها.
ثانيًا: في الإدمان عليها.
وأن لمكافحة الخطر الأول وسائل داخلية ووسائل دولية.
ومقترحاتنا بالنسبة للوسائل الداخلية هي:
1 - إنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب.
2 - تشديد العقوبة بالنسبة لجرائم الزراعة وجرائم المادة (35).
وبالنسبة للوسائل الدولية:
1 – تقنين قانون موحد بين البلاد العربية.
2 – اتفاقية بين البلاد العربية لمكافحة المخدرات.
أما معالجة الخطر الثاني فيكون عن طريق:
1 – الدعاية.
2 - إصلاحيات المدمنين.
3 - إجازة وقف التنفيذ في جرائم التعاطي.
السنة الثامنة والعشرون سنة 1948
بحث
في علاج مشكلة المخدرات
بقلم الأستاذ جمال الدين العطيفي
وكيل نيابة مخدرات مصر
مقدمة عامة
لست بحاجة إلى أن أُبين مضار المواد المخدرة وخطرها على الجماعة، فبلادنا لم تفق بعد من ذكرى السنوات التي أعقبت الحرب الماضية، حين أنهكت المخدرات قوانا العاملة حتى قُدر عدد المدمنين عليها في سنة 1930 وحدها بخمسمائة ألف شخص، وحتى وقف الدكتور عبد الخالق سليم مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب أثناء نظر قانون المخدرات ينبه إلى خطورة الحالة فقال:
(من المُسلم به أن الحرب العظمى كلفت المتحاربين ضحايا هائلة في النفس وضحايا في المال، وقد انتشر الآن في البلاد وباء خطر جدًا، ليس على المال والأنفس فحسب ولكنه وباء يسطو على الأخلاق فيفسدها، وعلى الكرامة فيسحقها وعلى الإرادة فيسلبها وعلى عاطفة الشرف فيذهقها، حتى إذا سلم المصاب به من الموت ولو إلى حين عاش ذليلاً بائسًا يتمنى الموت ولكنه لا يجد الشجاعة الكافية للانتحار، ومما يزيد الإنسان أسى أن هذا الوباء قد بدأ ينشب أظفاره في طبقة الفلاحين والعمال، تلك الطبقة التي عليها قوام العمران في البلاد، وهذا الوباء… هو انتشار تعاطي المخدرات (مناقشات مجلس النواب جلسة 24 يناير سنة 1927).
فالإدمان على المخدرات يصيب الشخص في صحته وفي عقله وفي ماله، ويفسد خلقه واستعداده للعمل بل إنه يؤثر حتى على ذرية المدمن الذين يرثون وهنًا وانحطاطًا عن آبائهم، وهو وثيق الصلة بالإجرام يدفع إلى ارتكاب الجريمة، ويخلق ميلاً إليها، ذلك أن التنبه الحادث من تعاطيها يدفع إلى أعمال العنف والاعتداء والقتل (يراجع في ذلك الدكتور دوبري في كتاب ميرابان La lutte anti toxique صـ 160).
والمواد المخدرة جميعًا تستوي في مضارها، سواء أكانت من المخدرات المعروفة بالبيضاء (وأهمها الكوكايين والهيرويين والمورفين) أم من المخدرات السوداء (وأظهر أنواعها الحشيش وهو المعروف بالقنب الهندي والأفيون) فلكل تفرقة يراد إيجادها بين هذين النوعين تفرقة تحكمية خطرة.
لقد اقترح بعض أعضاء البرلمان أثناء مناقشة قانون المخدرات سنة 1927، عدم التسوية في العقوبة بين نوعي المخدرات، وتشديد العقوبة بالنسبة للمخدرات البيضاء، وكان مما قاله في ذلك الصدد الدكتور حسين يوسف عامر عضو مجلس النواب في جلسة 8 فبراير سنة 1927 إن المخدرات تنقسم إلى قسمين مختلفين تبعًا لجسامة الخطر الناتج من استعمال كل قسم منهما، فالحشيش والأفيون أقل خطرًا من باقي المخدرات كالكوكايين والمورفين، وأنه لا جدال في أن استعمال الأفيون والحشيش يؤثر في العقل والجسم إلى درجة محدودة خلافًا للكوكايين الذي يؤدي حتمًا بمن يستعمله إلى الجنون في مدة سنتين كما قرر رجال الطب، فضلاً عن إضعافه لقوة التناسل وإقلاله لشهية الأكل - أما الحشيش فبالعكس من ذلك لأنه يفتح الشهية للطعام، وانتهى الدكتور عامر إلى أنه ما دام الأمر كذلك فليس من المصلحة مطلقًا التسوية في العقوبة بين من يتجر في الحشيش والأفيون ومن يتجر في باقي أنواع المخدرات الأخرى.
غير أن ذلك الرأي لم يلقَ قبولاً، حتى قال مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب الدكتور عبد الخالق سليم بحق، أنه إذا كان تعاطي الكوكايين يقتل الأشخاص بعد سنتين فما ذلك إلا لسرعة تأثيره في الجسم، ولكن تأثير الحشيش كالسرطان متى دخل الجسم أصبح علاجه من المستحيلات وضرب مثلاً على أن مدى الضرر لا تأثير له في تقرير العقوبة - أن من يزور سندًا على شخص يملك خمسين فدانًا يعاقب بنفس العقوبة التي ينالها من يزور سندًا على شخص يملك مائتي فدان.
(جلسة مجلس النواب 8 فبراير سنة 1927).
وانتهى البرلمان إلى التسوية في العقوبة بين من يتجر في المخدرات البيضاء والسوداء، وإن كانت نصوص القانون مع ذلك لم تخل بما يشير إلى زيادة اهتمام الشارع بمكافحة المخدرات البيضاء، فالمادة (46) من القانون قد نصت على مكافآت أكثر سخاءً لمن يضبطون المواد المخدرة غير الأفيون والحشيش.
ولقد أردت أن أنبه هنا إلى خطر إيجاد أية تفرقة بين المخدرات البيضاء والسوداء، بمناسبة ما أثير في إحدى اجتماعات لجان جامعة الدول العربية من مناقشات تميل إلى إيجاد هذه التفرقة، ولعل اللجنة المشكلة في وزارة الصحة العمومية لتعديل قانون المخدرات تبقى على هذه التسوية في عقوبة المخدرات البيضاء والسوداء.
فمع التسليم بأن ضرر المخدرات البيضاء أسرع ظهورًا، فإن الضرر متحقق في الحالتين، وقد سبق للدكتور حامد محمود حين كان مديرًا لأقسام الصحة الاجتماعية بوزارة الصحة أن قرر (أنه لخطأ عظيم الاستهانة بالضرر الذي يلحق البلاد من تزايد استعمال الحشيش والأفيون لأن خطر ذلك على البلاد مزدوج - خطر على المدمنين أنفسهم وخطر على الجماعة العامة. إن مدمن المخدرات مثل حامل ميكروب التيفوئيد ينشر مرضه بين الآخرين الذين يخالطونه. والإدمان على الهيرويين سريع في نتائجه والمفروض أن حياة المدمن على الهيرويين قصيرة بينما أن المدمن على الأفيون يعيش عدة سنوات وإن كانت النتيجة في النهاية واحدة اضمحلال فوفاة - ومع ذلك فإن الخطر على الجماعة من الإدمان على الأفيون أعظم من خطر الإدمان على الهيرويين لأن عدوى مدمن الأفيون تبقى منتشرة عددًا أكثر من السنين فهوة كقدوة ومغرٍ يعدي نسبيًا عددًا من الأشخاص أكثر من الذين يعديهم مدمن الهيرويين الذي حياته أقصر من حياة الآخر) (التقرير السنوي لمكتب المخدرات عن سنة 1940 ص ل).
وقبل ذلك نشر طبيبان هنديان في يوليو سنة 1939 بحثًا مستفيضًا عن إدمان مخدر القنب الهندي (الحشيش) في مجلة (Indian Research memories) انتهيا فيه إلى أن تدخين الحشيش يؤدي إلى حالة تسمم شديد نتيجة مفعول الحشيش على مراكز المخ العليا، وأنه إذا دام استعمال الحشيش مدة كبيرة فإنه قد يتسبب عنه الجنون (تقرير مدير مكتب المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية عن سنة 1942، المنشور في واشنجطون في مارس سنة 1943).
يضاف إلى ما تقدم أن التفرقة بين المخدرات البيضاء والسوداء غير منتجة، لأنه من الأفيون وهو أحد المخدرات السوداء تستخرج بعض المخدرات البيضاء وهي المورفين والهيرويين.
هذه هي مضار المخدرات بوجه عام، وقد كان أشد ما عانته مصر من هذه المخدرات عقب الحرب العظمى، حين اشتد الإدمان على المخدرات البيضاء، مما أفزع الرأي العام وأولي الأمر، فصدر القانون رقم (21) لسنة 1928 متأثرًا بخطورة الحالة، حتى أنه صرح جهارًا أثناء نظر ذلك القانون في البرلمان، بأن روح التشديد يجب أن تسوده، وأنشئ مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة بقرار من مجلس الوزراء في 2 مارس سنة 1929، وكانت نتيجة ذلك التشريع الجديد وما بذله رجال مكتب المخدرات من جهود أن الحالة بدأت في التحسن، وما كان عام 1933 حتى صرح مدير مكتب المخدرات بأن خطر المخدرات الذي هدد البلاد بالخراب منذ بضع سنوات قد زال وأصبحت مناوأته والسيطرة عليه ممكنة في المستقبل. (تقرير مكتب المخدرات عام 1933).
وبقيام الحرب الأخيرة، توقفت تجارة المخدرات البيضاء عن نشاطها، ذلك أن الصين وبلاد وسط أوروبا وهي موطن هذه المخدرات، قد أصبحت ميدانًا لحرب ضروس وأصبح نقل هذه المخدرات عبر البحار متعذرًا.
غير أن تضاؤل كمية المواد البيضاء المضبوطة تم انعدامها، قد قابله تزايد في كميات المواد السوداء (الحشيش والأفيون) التي تهرب إلى مصر عبر قنال السويس فدل هذا على أن الإدمان على المخدرات ما زال كامنًا في النفوس، وأنه وقد تعذر الحصول على المخدرات البيضاء فإن المدمن يستعيض عنها بالمخدرات السوداء التي تُحدث نفس التأثير الضار.
سنتيجرام
جرام
كيلو جرام
فمنذ قيام الحرب كانت كمية الحشيش المضبوطة
78
372
459
وكمية الأفيون
5
417
1037
(إحصائية مكتب المخدرات عن سنة 1938).
وفي سنة 1944 قفزت كمية المخدرات من الحشيش إلى
85
244
1445
ومن الأفيون
1
412
1171
واستمرت هذه الزيادة حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها فبلغت مضبوطات عام 1947 من المواد السوداء.
الأفيون
80
873
3654
الحشيش
39
929
8459
(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).
ولا شك أن هذه الأرقام تدل في ذاتها على خطورة الحالة، فالمخدرات السوداء تهرب إلى مصر عبر قنال السويس، على ظهور الجمال وفي بطونها، وفي سيارات الجيوش المتحاربة وفي المراكب والقطارات والطائرات، ومصدرها الرئيس هو سوريا للحشيش وتركيا للأفيون.
إن المخدرات تدخل مصر إذن، وتتداول بكثرة في داخلية البلاد هذه الأيام، فما زال الإدمان عليها كامنًا في النفوس كما أسلفت، ويغري الكسب أصحاب النفوس الضعيفة على الاتجار فيها، فإذا كان سعر الكيلو من الحشيش والأفيون لا يتجاوز عشرين جنيهًا في سوريا، فإنه في مصر قد وصل إلى أكثر من مائة وخمسين جنيهًا وقد بدى أخيرًا نوع من التعاون الإجرامي الخطير بين عصابات تهريب المخدرات في البلاد العربية المتاخمة، وبين العصابات في مصر.
سنتيجرام
جرام
كيلو جرام
على أن دلائل كثيرة في مصر تدل على بدء تسرب المواد البيضاء إلى البلاد، حتى أنه ضبط من الكوكايين عام 1947
50
81
1
ومن الهيرويين
15
592
1
(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).
ولو أصبحت المخدرات البيضاء في متناول اليد، فإن البلاد ستسقط ثانيةً في الهاوية التي تردت فيها بعد الحرب الماضية بل إن الخطر اليوم سيصبح عظيمًا، ذلك أن الفلاحين لا يحصلون على غذاء كافٍ، وقد أنهكتهم أمراض البلهارسيا والانكلستوما، فهم في حاجة إلى ما يجدد نشاطهم، فإذا وصل الهيرويين إلى أيديهم بسعر رخيص فإن الكارثة ستكون شديدة.
ويبدو من ذلك التحليل المتقدم، أن المخدرات يكمن خطرها في ناحيتين:
1 - جلبها من الخارج وتداولها في الداخل.
2 - الإدمان عليها.
وسنعرض مقترحاتنا بالنسبة للخطرين على التوالي.
الباب الأول: مكافحة جلب المخدرات وتداوله
من المُسلم به أن مكافحة الاتجار في المخدرات، لا تتأتي بالوسائل الداخلية وحدها، بل إنه لا بد من نوع من التآزر الدولي في مكافحتها.
أولاً: الوسائل الداخلية:
1 - لعل أول ما يرد على الذهن هو منع تسرب المخدرات إلى الداخل، وهذه المهمة تؤدي بطبيعتها عند الحدود والمواني المصرية، وهي تؤدي عند الحدود الشرقية بوجه خاص هذه الأيام التي ازداد فيها تهريب المخدرات السوداء، لأن الموطن الحقيقي لذلك التهريب كما أسلفت هو بلاد فلسطين وسوريا ولبنان.
ولا شك أن حُسن مراقبة الحدود المصرية الشرقية، من شأنه أن يؤدي إلى ضبط كل من تسوله نفسه بأن يجلب المخدرات إلى مصر، وإلى ضبط ما يحمله من هذه السموم غير أن هذه الرقابة في وقتنا الحاضر ليست موكولة إلى هيئة واحدة، بل إنها موكولة إلى مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة وإلى البوليس ومصلحة الحدود ومصلحة خفر السواحل ومصلحة الجمارك، حتى أن قنال السويس يقوم بحراسة شاطئها الشرقي رجال مصلحة الحدود، وشاطئها الغربي رجال مصلحة خفر السواحل، وكانت نتيجة ذلك عدم التآزر بين رجال المصلحتين وعدم تبادل المعلومات واشتراك القوات معًا في العمل فهذا التقسيم في المناطق وتعدد الهيئات التي تتولى مكافحة التهريب، من شأنه أن يعرقل الجهود التي تبذل في هذا السبيل وقد سبق لسعادة اللواء حسن عبد الوهاب باشا مدير عام خفر السواحل أن اقترح في عام 1944 توحيد السلطات القائمة على مقاومة التهريب وأن يتولاها موظف له منصب وكيل وزارة لشؤون التهريب، وأيد ذلك الاقتراح سعادة اللواء رسل باشا مدير مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة، في ذلك الحين، ذاكرًا أن التهريب في مصر يمتد في الداخل والخارج منطويًا على تجارة واسعة النطاق في الأسلحة والذخائر والمواد الغذائية وما إليها، وأنه إذا أصبح في الإمكان تهريب البضائع من مختلف الأنواع دون الوقوع تحت طائلة العقاب فمن الممكن أيضًا أن يهرب الناس، وإذا بالرقابة الضعيفة عند الحدود تصبح ذات يوم خطرًا شديدًا على مصر.
(تقرير مكتب المخدرات عن سنة 1944 صـ 5).
ويتصل بإنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب، وجوب تعزيز هذه الإدارة بعد وافر من الضباط الأكفاء المثقفين، حتى لا يترك أمر جمع الاستدلالات والتحريات إلى فئات البوليس الملكي والجنود - والاستعانة بالطائرات على نطاق واسع لكشف زراعات الحشيش والخشخاش، وبالمراكب لمكافحة التهريب عبر البحار.
2 - إذا لم تفد هذه الجهود في منع المخدرات من دخول البلاد وتسرب بعضها إلى الداخل أو زرعها بعض الفلاحين طمعًا في الربح - فإنه يجب أن يتوافر الجزاء الرادع على الاتجار فيها أو زراعتها.
إن القانون رقم (21) لسنة 1928 ينص في المادة (35) منه على معاقبة من يُصدر أو يُجلب الجواهر المخدرة أو يبيعها أو يشتريها أو يُحرزها أو يحوزها أو يقدمها للتعاطي أو يُسهل تعاطيها… بالحبس مع الشغل من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 200 جنيه إلى ألف جنيه.
وينص القانون رقم (42) لسنة 1942 الخاص بمنع زراعة الحشيش على عقوبة الحبس من ستة شهور إلى سنتين وغرامة من 100 جنيه إلى 200 جنيه.
بينما ينص المرسوم بقانون الصادر سنة 1926 المعدل بالقانون رقم (64) لسنة 1940 الخاص بمنع زراعة الخشخاش (الأفيون) على عقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة شهور وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا أو إحدى هاتين العقوبتين.
ويبدو من مراجعة هذه النصوص أن الشارع يفرق بين عقوبة من يحرز الحشيش أو الأفيون، ومن يزرعه، مع أن زراعة الحشيش أو الخشخاش لا تقل خطوة عن إحرازه بل قد تزيد أحيانًا، وهذه التفرقة بين جرائم الزراعة وغيرها لا تعرفها قوانين المخدرات في الخارج (يراجع على سبيل المثال الذي يُحسن أن يُحتذى قانون الأفيون والجواهر المخدرة لسنة 1929 الصادر في كندا).
على أن العقوبة حتى في حالة الجرائم الواردة بالمادة (35) من القانون رقم (21) لسنة 1928 لم تعد كافية لردع المتجرين بالمخدرات ولمواجهة خطورة الحالة، وهي أقل من نظيراتها في بعض التشريعات الأجنبية، فالتشريع الصيني الصادر في 16 مايو سنة 1934 يجيز الحكم بالإعدام في جرائم بيع المواد المخدرة وصناعتها ونقلها وفي القانون الإنجليزي الصادر في 17 مايو سنة 1923 يجوز أن يصل عقاب المتجرين في المخدرات إلى الأشغال الشاقة مدة عشر سنوات وغرامة ألف جنيه، وفي الولايات المتحدة يجيز قانون جون ملر الصادر في سنة 1922 إيصال مدة الحبس إلى عشر سنوات والغرامة إلى 5000 دولار.
وظاهر من ذلك أن الدول التي وجدت نفسها أمام خطر عظيم من انتشار هذه المواد اضطرت إلى زيادة العقوبة زيادة تدفع أذاها، ففي هذه البلاد يعاقب على جرائم المخدرات بعقوبة الجناية.
وقد اقترح في مصر أثناء مناقشة قانون المخدرات في البرلمان، جعل عقوبة الاتجار في المخدرات جناية، غير أن لجنة الحقانية بمجلس النواب لم ترَ هذا الرأي، (لأن اعتبار هذه الجريمة جناية سيصادف عقبات كثيرة عند تطبيق القانون على الأجانب لعدم وجود محاكم جنايات بالمحاكم المختلطة، وعدم ملاءمة قانون تحقيق الجنايات المختلط الذي وضع وقت إنشائها لروح الأنظمة الحاضرة مما يستدعي إعادة النظر فيه، وهذا يستغرق وقتًا طويلاً، أما أن تعتبر الجريمة جناية بالنسبة للمصري فقط فيحول ذلك دون اتجاره في تلك المواد فيحتكرها الأجنبي ويلحق الضرر بأبناء البلاد فإذا ضُبط طُبقت عليه عقوبة المخالفة، فهذا ظلم، كما أن التدرج في التشريع يقتضي عدم اعتبارها جناية، فهذه الجريمة كانت المحاكم الأهلية تقضي فيها باعتبارها مخالفة إلى عهد قريب.
وظاهر أن هذه الاعتبارات التي كانت قائمة وقت صدور القانون رقم (21) لسنة 1928 قد زالت الآن بزوال الامتيازات الأجنبية وخضوع الأجانب للتشريع والقضاء المصريين لذا فمن المأمول، وهناك لجنة مشكلة في وزارة الصحة لتعديل قانون المخدرات، أن يكون تشديد العقوبة أحد أُسس التنقيح، وخصوصًا بالنسبة للجرائم التي ترتكبها الجماعات.
ثانيًا: الوسائل الدولية:
يقضي واجب التضامن الدولي على العائلة الدولية أن يتعاون أفرادها لمكافحة الإجرام وإذا كانت هذه الحقيقة مثمرة بالنسبة لسائر الجرائم الأخرى، فإنه لا غناء عنها بالنسبة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات، ذلك أنه في بعض الدول تعتبر المخدرات تجارة وصناعة رابحة، ومهما سمت تشريعات البلاد الداخلية، وسمت مراقبتها لحدودها لمنع تسرب هذه السموم إلى مواطنيها - فإن التضامن الدولي - سيبقى أبدًا العامل الهام في القضاء على المخدرات.
ومنذ أن عمت المخدرات العالم سارت الدول في هذا الطريق الدولي، فعقدت اتفاقية لاهاي لمعالجة موضوع المخدرات المصنوعة وإنتاجها، وانتهز الحلفاء اجتماع مؤتمر الصلح فضمنوا معاهدة فرساى نصًا لا يمت إلى الحرب والسياسة بصلة، هو تنفيذ ما اتفق عليه في لاهاي، واعتبار التصديق على معاهدة فرساى بمثابة تصديق على اتفاقيات لاهاي.
وبعد أن أنشئت عصبة الأمم كان أول عمل قامت به أن أصدرت جمعيتها العمومية قرارًا في 15 ديسمبر سنة 1920 بتشكيل لجنة أسمتها المجلس الاستشاري للأفيون والمخدرات الضارة الأخرى، وعقدت بعد ذلك مؤتمرات جنيف التي انتهت إلى إبرام اتفاقية الأفيون الدولية في 19 فبراير سنة 1925 وتوالت بعد ذلك المؤتمرات لتحديد صناعة المواد المخدرة وأبرمت الدول اتفاقية لتحديد صناعة المواد المخدرة وتنظيم توزيعها في 13 يوليو سنة 1931 واتفاقية عقوبات الاتجار في المخدرات في 29 يونيو سنة 1936.
وظلت لجنة الأفيون بعصبة الأمم تباشر أعمالها وأبحاثها، ورغم قيام الحرب في سنة 1939 فإنها لم تتوقف عن القيام بواجباتها من واشنجطون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وألغيت عصبة الأمم واجتمع مندوبو دول العالم في مؤتمر سان فرنسسكو وأعدوا ميثاق هيئة الأمم المتحدة، صرح مندوب الولايات المتحدة بأن ميدان الإشراف الدولي على الاتجار بالعقاقير الخطرة هو من الميادين التي تدخل في نطاق أعمال المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الأمم المتحدة وانتهى الأمر بأن أصبح لهيئة الأمم المتحدة من الإشراف والرقابة على صناعة المخدرات والاتجار فيها في العالم ما كان لعصبة الأمم، وقرر المجلس الاقتصادي والاجتماعي تشكيل لجنة للمواد المخدرة من خمسة عشر عضوًا يمثلون خمس عشرة دولة من بينها مصر، وكان أول اجتماع لهذه اللجنة في 18 نوفمبر سنة 1946 بمدينة نيويورك.
أشرت إلى هذه السلسلة من الجهود التي بذلتها دول العالم لأبين أهميتها القصوى في مكافحة المخدرات، ولا شك أن هذه الأهمية تبدو كاملة بالنسبة لمصر ذلك أن مصدر الخطر عليها يكمن وراء حدودها الشرقية، فالحشيش يزرع في سوريا ولبنان وشرق الأردن، والأفيون المزروع في تركيا يهرب إلى مصر عن طريق سوريا وفلسطين، فلا غرو إذن أن كل الجهود الداخلية التي تبذل في مصر، تصبح غير مجدية، إذا ما استمرت البلاد المتاخمة لحدودنا الشرقية غير ملقية بالاً إلى مكافحة المخدرات.
إن القانون في هذه البلاد يعاقب على جرائم المخدرات، وقد انضمت هذه البلاد إلى هيئة الأمم المتحدة وأصبحت ملزمة بتوصياتها وقراراتها، غير أنه رغم ذلك، فإن قوانين المخدرات في هذه البلاد غير منفذة فعلاً، وما زال الحشيش معتبرًا كأنه جزء من ثروتها القومية ويزرع علنًا فيها، وكانت الحجة في ذلك أن زراعة الحشيش في سوريا تقليدية ولا يمكن الاستعاضة عنه بمحصول آخر، وفوق أنه لا يضر السوريين لعدم استهلاكهم له، فإنه يُدر عليهم أرباحًا وافرة.
فمنذ عام 1939 حين توصل اللواء رسل باشا إلى التفاهم مع سلطات الانتداب الفرنسي على إعدام زراعات الحشيش، قامت قيامة السوريين وصحفهم، حتى أن إحدى هذه الصحف وهي صحيفة صوت الأحرار نشرت بعددها الصادر في 18 يوليو سنة 1939 مقالاً ترد فيه على دعاة الانتصار لمنع زراعة الحشيش ومما جاء في ذلك المقال (أما اختراق قانون عصبة الأمم، فلست أدري إذا كان – جريمة، بعد أن اخترقت كل قوانينها دول أوروبية تسبقنا أشواطًا - على الأقل في رأي أوروبا - في ميادين الحضارة والرقي، وأما الكيد للإنسانية فلا أعرف ما إذا كان جريمة في بلد ضعيف هزيل يؤثر أن يموت الغريب موتًا بطيئًا (وعلى الكيف) بالحشيش على أن يموت جوعًا، ولا سيما بعد أن رأينا ونرى كيف تسام الإنسانية، وكيف يطعنها كثير من الأقوياء والمتمدينين، طعنات لا هوادة فيها ولا رحمة وإن قتل حرية شعب من الشعوب لأعظم - والله أعلم - من تصدير الحشيش إلى محششين يحصلون عليه من غيرنا بأي طريقة كانت).
وذلك المقال المتجني يعيد إلى الأذهان ما كتبه أحد كتاب سوريا في صحيفة فرنسية تصدر في سوريا اسمها (La Syrie)، إبان زيارة البعثة الطبية المصرية لسوريا عام 1924، إذ قال - إن سوريا ومصر شقيقتان لأن إحداهما تزرع الحشيش والأخرى تشربه.
فليس لنا أن نأمل إذن إلا في أن حكومات هذه البلاد وقد نالت استقلالها وانضمت مع مصر إلى جامعة الدول العربية ستواجه هذه الحالة بروح مستنيرة فإن كانت المخدرات هناك تجارة رابحة، فإنها تجلب على مصر شرًا ووباءً مستطيرًا وقد أوصى مجلس الجامعة جميع الدول العربية بالتعاون لمكافحة المخدرات غير أن الأمر يحتاج إلى إصدار تشريع موحد بشأن جرائم المخدرات بين جميع الدول العربية أعضاء الجامعة - وإلى عقد اتفاقية تتعهد فيها كل دولة بأن - تبذل كل مجهودها لمكافحة هذا الخطر في أراضيها.
ذلك هو طريق التضامن الدولي الذي سلكته من قبل دول العالم، والذي أقرته عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية التي أسلفت الإشارة إليها، فلعل تضامن الدول العربية لمكافحة المخدرات، يكون ناجعًا في درء خطرها عن بلادنا.
الباب الثاني: علاج الإدمان على المخدرات
1 - تدل زيادة مضبوطات المخدرات في مصر على أن الإدمان على المخدرات ما زال كامنًا في النفوس فالفلاح الذي أنهك الفقر وسوء التغذية قواه، كما أنهكته أمراض البلهارسيا والانكلستوما في حاجة دائمًا إلى منبه يجدد نشاطه وحيويته، وهو حين أصبحت المخدرات البيضاء صعبة المنال، استعاض عنها بالمخدرات السوداء، وحين لا يستطيع الحصول على هذه لارتفاع ثمنها فإنا نراه يلجأ إلى تعاطي الشاي الأسود المغلي، وهو سم لا يقل ضررًا عن المخدرات، ولا يمكن أن يوجد تشريع يتناوله بالعقاب، ومن ذلك يبدو أن مشكلة المخدرات في الحقيقة جزء من مشكلة الفقر والمرض التي تعانيها مصر.
وثمة سبب آخر يشجع الفلاحين على تعاطي المخدرات، وهو ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن المخدرات مباحة شرعًا، على خلاف الخمر فمن الملاحظ أن جمهور المدمنين يتعاطون المخدرات ولا يتعاطون الخمر استنادًا إلى ذلك الاعتقاد، والحقيقة أن كل مسكر خمر: وكل خمر حرام، فالخمر تطلق على كل ما يفقد الوعي أو ينقصه كالمخدرات، وقد أفتى بذلك حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية عام 1940 - وجاء في فتواه (أنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة ومفاسد كثيرة فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد، فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررًا ولذلك قال بعض علماء الحنفية (إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع) وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها ووضوحها ولأنه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل وينبهه ويحدث من الطرب واللذة عند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الخمر والمسكر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ما خلاصته (إن الحشيشة حرام يُحد متناولها كما يُحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظًا أو معنى). (تراجع الفتوى كاملة في تقرير مكتب المخدرات عن عام 1940 صـ 54).
وبمثل ذلك أفتى الشيخان الجليلان أحمد جربوع وعلي الحناوي في سوريا ومما جاء في هذه الفتوى وقد نشرتها جريدة الجبل أول أغسطس سنة 1944 (أنه لمن دواعي الأسف العميق أن يتصل بنا وجود أراضٍ في جبلنا الأشم زُرع فيها القنب الهندي الذي يستخرج منه الحشيش، هذه النبتة التي حرمها الله ورسوله والتي تخل بالشرف والدين، وتضر بالصحة والأخلاق ولأنها من المسكرات القبيحة التي هي أشد خطرًا وضررًا من الخمر).
وجاء في كتاب المنن لمؤلفه الإمام الشعراني المتوفى سنة 973 هجرية، وهو سفر قيم أحاط فيه مؤلفه بمضار المخدرات وتحريمها ما نصه:
(ذكر الشيخ قطب الدين العسقلاني خليفة شيخ الشيوخ الشيخ شهاب الدين السهرودي - رحمه الله تعالى-، في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دنيوية وأخروية، وقال الحكماء أنها تورث أكثر من ثلثمائة داء في البدن كل داء لا يوجد له دواء في هذا الزمان فمنها - تنقيص القوى، وإحراق الدماء وتقليل الحماء، وتنقيب الكبد وتقريح الجسد، وتجفيف الرطوبات، وتضعيف اللثات، وتصفير اللون وتحفير الأسنان، وتورث البخر في الفم، وتولد السوداء، والجذام، والبرص والخرص، واللقوة، وموت الفجأة، وتورث كثرة الخطأ والنسيان، والضجر من الناس، وتولد الأعشاء في العيون، وتخلط العقول، وتورث الجنون غالبًا، وتسقط المروءة، وتفسد الفكرة، وتولد الخيال الفاسد، ونسيان الحال والمآل، والفراغ من أمور الآخرة، وتُنسي العبد ذكر ربه، وتجعله يفشي أسرار الإخوان وتذهب الحياء، وتكثر المراء، وتنفي الفتوة والمروءة، وتكشف العورة وتمنع الغيرة، وتتلف الكيس، وتجعل صاحبها جليسًا لإبليس، وتفسد العقل وتقطع النسل، وتجلب الأمراض والأسقام مع تولد البرص والجذام، وتورث الأبنه وتولد الرعشة وتحرك الدهشة وتسقط شعر الأجفان وتجفف المني، وتظهر الداء الخفي، وتضر الأحشاء، وتبطل الأعضاء، وتقوي النفس، وتهز السعلة، وتحبس البول، وتزيد الحرص، وتسهر الجفون، وتضعف العيون، وتورث الكسل عن الصلاة وحضور الجماعات، والوقوع في المحظورات، وارتكاب الأجرام، وجماع الآثام، والوقوع في الحرام، وأنواع الأمراض والسقام).
وهناك ظاهرة أخرى تستحق العناية، استفحل أمرها هذه الأيام وهي أن تعاطي المخدرات والإدمان عليها قد بدأ يتسرب إلى الطبقة المتوسطة والمؤثرة. وليس هناك تفسير لهذه الظاهرة إلا أنها نتيجة للتدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي الذي يعقب الحروب عادةً.
فنحن في حاجة ماسة إذن إلى دعاية منظمة تحمل على المخدرات وتعاطيها وإلى إعداد قسم بمتحف فؤاد الأول الصحي تعرض فيه نماذج لما قد يصير إليه المدمن نتيجة تعاطيه المخدرات، نحن في حاجة إلى من يعظون في المساجد والكنائس ينبهون الناس إلى خطورة المخدرات ومضارها، وإلى أن يطوف الفانوس السحري بلاد الريف يعرض على الفلاحين صورة الآدميين الذين أضنتهم هذه السموم الفتاكة، حتى ينفروا من المخدرات وتعاطيها.
2 - والمدمن كما هو ظاهر مجرم مريض، يجب معالجته وهو أحيانًا يفزع من إدمانه ومع ذلك لا يستطيع الإقلاع عن عادته بل إن منع المخدر عنه قد يسبب له أضرارًا بالغة وقد يعرض حياته للخطر وقد وصف الدكتور جان بيرن (Jean Perrin) حالة مثل ذلك المدمن في كتابه - مسؤولية المدمن الجنائية - فقال (إن المدمن يعلم أنه بتعاطيه المخدرات سيقع تحت طائلة العقاب، ولكن شيئًا لا يستطيع إيقافه، لا الاعتبارات الأدبية، ولا عواطفه العائلية كإنسان عادي ولا خشية العقاب، فالمدمن إنسان أناني لا يهتم إلا بإشباع غرائزه).
ومثل ذلك المجرم يختلف تمامًا عمن يزرع الحشيش أو الخشخاش أو يتجر فيهما، فإنه لا يبغي كسبًا، ولا يحيق من فعله ضرر بالجماعة التي يعيش فيها إلا عن طريق غير مباشر، بل إن كل المضار واقعة عليه، لذلك فيجب على المشرع أن يهتم بمعالجته قبل أن يعمل على معاقبته، فإن فكرة العقوبة بالنسبة لذلك النوع من المجرمين تفقد حكمتها والغرض منها، ومهمة المشرع تبدو بالنسبة له مهمة تهذيبية علاجية (but curatif).
ولا شك أن هذه الاعتبارات هي التي أوحت إلى واضعي قانون المخدرات رقم (21) لسنة 1928، النص في المادة (36) منه في فقرتها الثانية على أنه يجوز للمحكمة بدلاً من عقوبة الحبس أن تحكم بإرسال الجاني إلى إصلاحية خاصة لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد عن سنة.
غير أن المشرع قد جانبه التوفيق حين حرم المحكمة من جواز إبدال عقوبة الحبس المحكوم بها، بالإرسال إلى الإصلاحية إذا كان قد سبق إرسال الجاني إليها، ذلك أن حكمة الإرسال إلى الإصلاحية تتحقق أيضًا بالنسبة للمجرم العائد، بل إنها قد لا تتحقق إلا بالنسبة لذلك النفر من المجرمين والمدمن كما أسلفت مريض أكثر منه مجرم.
وليس ذلك هو الانتقاد الوحيد الذي يمكن ملاحظته على ذلك النص، فإن تحديد مدة الإصلاحية عيب ملحوظ فيه، إذ لما كان الغرض من الإرسال إلى الإصلاحية هو معالجة المدمن بغية شفائه، فإن الأولى هو عدم تحديد المدة التي يقضيها المدمن في الإصلاحية، بل إنها تترك لتقدير أطبائه، ويكون له إذا زادت المدة عن حد معين أن يتظلم إلى القاضي.
على أنه بصرف النظر عن هذين الانتقادين، فإن نص المادة (36) لم يوضع موضع التنفيذ، إذ لم تنشأ الإصلاحية المشار إليها حتى اليوم، ورغم أن كلاً من الحكومات المتعاقبة قد حرصت على أن تذكر في خطاب عرشها أنها جادة في إنشاء هذه الإصلاحية - فإنها لم تخرج إلى حيز الوجود.
وكانت نتيجة ذلك النص العاطل عن التنفيذ أن بعض المحاكم قد قضت بإرسال المتهم إلى الإصلاحية فلم يُنفذ الحكم وبرئ المتهم من عقوبة توقع عليه، ولم تستطع محكمة النقض والإبرام شيئًا أمام هذه النتيجة بل إنها قررت في حكمها الصادر في 6 يناير سنة 1941 (القضية رقم 385/ 11 قضائية - مجموعة محمود عمر صـ 339 قاعدة رقم 180) بأن القاضي إذا رأى من وقائع الدعوى المعروضة عليه أن المتهم في حالة تستدعي العلاج والإصلاح وأمر بإرساله إلى المصحة فلا يجوز الطعن على حكمه بمقولة إن مصحة المدمنين على المخدرات إذا كانت لم تنشأ بعد لم يكن للقاضي أن يختارها بل كان عليه أن يحكم بعقوبة الحبس ذلك أن الحبس والإصلاحية ليسا عقوبتين متعادلتين يحكم القاضي بأيهما حسب مشيئته في كل دعوى بغض النظر عن حالة كل متهم وظروفه، بل إن كلاً منهما قد قرر ملاحظًا فيه غرض خاص - واستطردت المحكمة العليا فذكرت في أسباب حكمها الحكمة من نص المادة (36) وميزت بين عقوبة الحبس والمقصود بها تأديب الجاني عما وقع منه ليكف عن الرجوع إليه وليكون عبرة لغيره، والإصلاحية وهي ليست إلا وسيلة من وسائل العلاج والإصلاح قررها القانون للمدمنين - الذين تملكهم داء الاعتياد على تعاطي المخدرات حتى لم يعودوا يقدرون على الإمساك عنها ولا يجدي عقاب في حدهم عنها، وأمثال هؤلاء إذا نزل العقاب بهم فإنه يكون عديم الأثر في تقويمهم ولا يتحقق به الغرض الذي قصده القانون من العقوبة.
وجود الإصلاحية إذن لا غناء عنه لمعالجة المدمنين، وطالما أن هذه الإصلاحية لم تنشأ فإن أحكامنا ستظل دائرة في حلقة مفرغة، فهي تنزل بالمتهم العقوبة فلا تجديه نفعًا - وإذا خرج من السجن ألحت عليه عادته، فإذا ضُبط أنزلت به المحكمة العقوبة… وهكذا…
ومن الغريب أنه منذ سنة 1935 حين عُرضت على القضاء المصري قضية الأطباء المعروفة، التي اُتهم فيها ثمانِ أطباء وصيدلي وفلاح بتسهيل تعاطي جواهر مخدرة وإحرازها في غير الأحوال المشروعة وعدم إمساك الدفاتر الخاصة بقيد هذه المواد - ودلت هذه القضية على وجود عدد كبير من متعاطي المخدرات من أفراد الطبقات الوسطى يرغبون في الشفاء ولا يجدون المستشفى الذي يأويهم، وهم لا يملكون المال ليضمنوا وسيلة مؤكدة للشفاء في باريس أو فيينا - من الغريب أنه منذ ذلك الحين وقد وضحت الحاجة إلى إنشاء المصحة التي أشار إليها القانون، فإن الصيحات التي بذلها دعاة الإصلاح لم تلبث حتى خفتت تدريجيًا وتلاشت.
وقد حرصت محكمة المخدرات التي أصدرت الحكم في هذه القضية على أن تبدي ملاحظاتها على خلو البلاد من مؤسسة لعلاج المدمنين على المخدرات والعناية بهم، فذكرت في أسباب حكمها (أنه إذا كانت الحكومة المصرية قد تهاونت في إنشاء المصحات للعلاج ورأت في المدمن مجرمًا تلقيه في السجون فمجرد أن تعرضه لخطر الموت في حالة المنع الفجائي من المخدر هو أمر لا يعدو النظريات المحضة، بدليل إحصائياتها من السجون، فالمصحة لازمة إذا لم تكن لبدء العلاج فلإتمامه كما تقدم، وطالما أنها لم تنشأ فستستمر الحكومة والبلاد في حلقة مفرغة يعود فيها المدمن إلى إدمانه كلما انتهت مدة عقوبته أو علاجه بمعرفة الطبيب الممارس، وهي حالة تدعو إلى الأسى (حكم محكمة المخدرات الصادر في 2 يونيو سنة 1935 والذي تأيد بأسبابه استئنافيًا في 6 أغسطس سنة 1935 المحاماة السنة السادسة عشرة صـ 674).
وقد تنبهت كل البلاد المتمدينة التي دهمها خطر الإدمان على المخدرات إلى وجوب إنشاء مصحات للعلاج فأصدرت البرازيل حديثًا تشريعًا مؤداه أن يرسل المدمنون الذين يحكم عليهم لتعاطي المخدرات إلى إصلاحيات خاصة.
وفي الصين نص تشريع سنة 1934 على معالجة مدمني المخدرات في مصحات خاصة، وفي الولايات المتحدة أنشأت في سنة 1935 مصحتان لإيواء الرجال والنساء، ثم أنشأت بعد ذلك مستشفيات لعلاج المدمنين في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
وفي إنجلترا أنشأت كذلك إصلاحيات خاصة لعزل المدمنين، وقد ذكر الدكتور برانث وايت Branth waite مفتش الإصلاحيات في إنجلترا، في هذا الصدد (أن أنظمة السجن العادية لا تصلح لمعالجة حالة المدمنين كما أنها لا تتلاءم بصفة عامة مع حالة الأشخاص المصابين بعاهات عقلية وذلك لأن المدمن يحتاج إلى عناية خاصة واستحمام منتظم ورياضة بدنية، كل ذلك بقصد استئصال العلل البدنية الطبيعية التي تعتبر في الواقع سببًا مباشرًا لاختلال التوازن العقلي، وأن غرف السجون الصغيرة بل وأبنيتها الضيقة لا تتفق مطلقًا مع ما تتطلبه حالة المدمن من الأعمال الشاقة الصحية المستمرة والرياضة والعمل مع زملائه طول اليوم تحت ملاحظة دقيقة، فضلاً عن وسائل التهذيب الواجبة، ولا نزاع في أن تعويدهم على النظام أمر واجب ومن المستحب ألا تبلغ أساليب النظام في صرامتها أساليب السجون بل تكون على نمط النظام العسكري أو المتبع في سفن الملاحة كما أنه يحسن بقدر الإمكان أن يعدل عن العقاب الصارم إلى أمور يكون من شأنها تشجيعهم على العمل طمعًا في المكافأة وحبًا في التحلي بالخُلق الحسن لا أن يدفعوا إلى العمل خشية العقاب، وأهم أمر يجب الالتفات إليه هو المعالجة الطبية لتلك العقلية الشاذة في إبان ظهورها، وكلما كانت الإصلاحية أشبه في كل أنظمتها بمصح عقلي كلما كانت النتائج أجدى وأنفع).
ويُحسن بنا بمناسبة الحديث عن التشريعات الأجنبية أن نذكر تلك الرغبة القديمة التي سبق أن أبداها المؤتمر الطبي الذي انعقد بمدينة بيزانكن Besançn في فرنسا عام 1923، في أن تعمل الحكومات على إنشاء مصحات لعلاج المدمنين على المخدرات، وقد انتهى كذلك العلماء في ألمانيا وعلى رأسهم لوان Lewin إلى أن الإدمان على المخدرات كالإدمان على الخمور، كلاهما مرض وأن المدمنين يجب أن يعالجوا في مصحات خاصة، وفي سويسرا صدر قانون في مقاطعة زيورخ يمنح السلطات العامة حق حجز المدمنين في الإصلاحيات (يراجع في ذلك رسالة الدكتور جان بيران Jean Perrin السابق الإشارة إليها صـ 19 و20).
على أن إرسال المدمنين إلى المصحات يجب ألا يقتصر على من يحكم عليه في إحدى جرائم المخدرات، بل إن المصحات يجب أن تفتح أبوابها لكل من يرغب في العلاج من المدمنين ولو لم يحكم عليه في جريمة ما.
وليس الغرض من حجز المدمنين في مصحات هو حاجتهم إلى العلاج والرعاية فحسب بل إن هناك غرضًا آخر هو عزل مسجوني المواد المخدرة عزلاً تامًا عن باقي المسجونين لأنه قد يحدث من اختلاطهم انتشار استعمال المخدرات، وفي ذلك يقول الدكتور ماسيجروف وهو ثقة من كبار الأطباء إن خطر المدمن وعدواه تفوقان بعشرة أمثال الخطر المتخلف من الأبرص والعدوى منه، وليس المقصود بالعدوى الاحتكاك الجسمي بل المقصود هو الاحتكاك العقلي والاجتماعي.
ومنذ 3 أكتوبر سنة 1932 خصصت مصلحة السجون مزرعة في طرة لإقامة المحكوم عليهم طبقًا للمادة (35) من قانون المخدرات بالحبس لأكثر من سنة يعملون فيها كالمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وذلك لحصرهم في بيئة واحدة ومنع انتقال شرورهم إلى غيرهم (تقرير مصلحة السجون السنوي 1934 - 1935 صـ 4) على أن إنشاء مثل هذه المؤسسة لإيواء المدمنين كان أولى وأجدر.
وليس أدل على أن إرسال المجرم المدمن إلى السجن إجراءً ليس فيه أي نفع وأن العقوبة التي يقضي بها عليه لا تفيد أثرها وهو الزجر - من أن بعض هؤلاء المدمنين يعودون إلى تعاطي المخدرات وهم ما زالوا في السجن لم يوفوا مدة العقوبة المحكوم بها عليهم، ولقد أحصيت عدد هذه الحالات التي ضُبطت في خلال عام 1947 بالقاهرة فوجدتها أربع عشرة حالة، وإنه من المؤسف حقًا أن تتسرب المخدرات إلى داخل السجون، وهذه الحالة تستدعي وجوب تشديد الرقابة.
ولهذه الاعتبارات المتقدمة، فإن أشعر تمامًا بأن كل الجهود المبذولة لن تؤتي ثمارها المرجوة في القضاء على الإدمان على المخدرات، اللهم إلا إذا أنشئت الإصلاحية التي أشارت إليها المادة (36) من القانون.
3 - تقضي المادة (55) من قانون العقوبات بأنه يجوز للمحكمة عند الحكم في جناية أو جنحة بالغرامة أو بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أن تأمر في نفس الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مخالفة القانون، وقد أُدخل ذلك المبدأ في القانون المصري، لأول مرة سنة 1904 وهو مستنبط من القانون البلجيكي الصادر في 31 مايو سنة 1888 (قانون لدجون) وكذا من القانون الفرنسي الصادر في 26 مارس سنة 1891 (قانون بيرانجيه) وقد أسس ذلك المبدأ كما جاء في تعليقات الحقانية على قانون سنة 1904، على فكرة أنه من المستحسن وقاية من يرتكبون الجرائم لأول مرة من تأثيرات السجون المفسدة للأخلاق كلما كان هناك أمل في أن هذه الرأفة لا تكون في غير موضعها.
وتنص المادة (40) من قانون المخدرات رقم (21) لسنة 1928 على أنه لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذ الحبس لمن يحكم عليه في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون. ويفسر ذلك النص الذي جاء على خلاف القواعد العامة، أن قانون المخدرات صدر في وقت كان انتشار المخدرات فيه على أشده وكان التشديد مطابقًا لرغبات الرأي العام الذي هاله تفشي الإدمان على هذه المواد، حتى أنه ذكر جهارًا في مجلس البرلمان أن روح الشدة يجب أن تسود نصوص القانون وأنه إذا أدت شدة القانون إلى تضحية بعض الحالات الفردية فذلك تبرره سلامة المجموع، وذكرت لجنة الحقانية بمجلس النواب في تقريرها عن القانون، أنه لا محل لإيقاف التنفيذ بالنسبة لهذه الطبقة من المجرمين.
ومع التسليم بأن جرائم المخدرات من الجرائم الخطيرة التي يجب تشديد العقوبة بالنسبة لها، فإن الحكمة التي حدت بالشارع إلى أن يدخل نظام إيقاف تنفيذ العقوبة في قانون العقوبات، متحققة في هذه الحالة أيضًا.
وقد تبين لي من مراجعة كثير من القضايا أن بعض النشء تفتنه المخدرات ويرغب في تقليد غيره من أنداده، فيقدم على تعاطيها غير مقدر خطورتها فإذا أوقعه حظه العاثر وقُدم إلى المحاكمة، فإن القاضي لا يملك غير أن يقضي بمعاقبته. وقد يكون في دخوله السجن واتصاله بغيره من المسجونين مفسدة.
على أنه مع تقدير وجوب عدم حرمان المحكوم عليه من إيقاف تنفيذ العقوبة فظاهر أنه لا محل لذلك الإيقاف إلا في جرائم التعاطي والاستعمال الشخصي التي نصت عليها المادة (36) من القانون. أما غيرها من الجرائم الواردة بالمادة (35) فهي جرائم شديدة الخطورة، لا يستأهل مرتكبها أي تخفيف أو رحمة.
وظاهر أيضًا أنه لا محل لإيقاف التنفيذ في جرائم التعاطي إلا بالنسبة لمن يحكم عليه لأول مرة، أما العائد فشخص لم يفلح الحكم السابق في تهديده وزجره، وهو فضلاً عن ذلك قد يعد مدمنًا، وهناك وسائل لعلاجه نظمها القانون وهي إرساله إلى الإصلاحية.
وفي هذه الحدود التي بيناها، ليست هناك أية خشية من إجازة الحكم بإيقاف التنفيذ، فإن أمر ذلك الإيقاف متروك لفطنة القاضي وحُسن تقديره، يزن الاعتبارات التي تدعو إليه، كما يقدر العقوبة التي يحكم بها، وهو في قضائه خاضع لرقابة محكمة ثاني درجة، إذا رأت النيابة العمومية رفع الأمر إليها ولا شك أن الحكم بإيقاف التنفيذ خير من أن يتلمس القضاة سُبل البراءة، في كثير من القضايا التي كانت ظروفها تبرر التغاضي عن معاقبة المتهمين فيها - لأن الحكم القاضي بوقف تنفيذ العقوبة هو حكم بالإدانة يبقى مسلطًا على المحكوم عليه مدة خمس سنين.
ومهما يكن الأمر فلا يمكن القول بأن مثل جرائم التعاطي إذا ارتكبها متهم لأول مرة أشد خطرًا من مواد الجنايات التي يجوز الحكم بإيقاف التنفيذ فيها طبقًا للمادة (55) عقوبات.
الخلاصة
يتبين مما تقدم أن مخاطر المخدرات هي:
أولاً: في جلبها وتداولها.
ثانيًا: في الإدمان عليها.
وأن لمكافحة الخطر الأول وسائل داخلية ووسائل دولية.
ومقترحاتنا بالنسبة للوسائل الداخلية هي:
1 - إنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب.
2 - تشديد العقوبة بالنسبة لجرائم الزراعة وجرائم المادة (35).
وبالنسبة للوسائل الدولية:
1 – تقنين قانون موحد بين البلاد العربية.
2 – اتفاقية بين البلاد العربية لمكافحة المخدرات.
أما معالجة الخطر الثاني فيكون عن طريق:
1 – الدعاية.
2 - إصلاحيات المدمنين.
3 - إجازة وقف التنفيذ في جرائم التعاطي.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)