مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
تعريف منزل الدعارة
حسب القانون رقم (68) لسنة 1951
بحث للسيد الأستاذ عبد اللطيف الحسيني المحامي
عرفت المادة (8) من القانون رقم (68) لسنة 1951 الخاص ببيوت الدعارة، منزل الدعارة بأنه (كل مكان يُستعمل عادةً لممارسة دعارة الغير أو فجوره) فاستلزم النص لاعتبار المكان بيت دعارة توافر شرطين الاعتياد والغير.
أولاً: ركن الغير:
بمعنى أنه لا بد أن يقام الدليل على الاعتياد على الاستعمال بالوصف المتقدم وأن يكون من يمارس الدعارة هو غير أصحاب المنزل.
فإذا كان مرتكب الفجور هو من أصحاب المنزل فلا عقاب لأن الفجور في ذاته لا عقاب عليه، بل المعاقب هو دعارة الغير، أي الصفة العمومية، وهو مدلول كلمة الدعارة ذاتها.
فإذا كانت المرأة المضبوطة هي صاحبة المنزل دون غيرها من النساء فمن ثم لا تتوافر أركان النص المدخل للمنزل في دائرة العقاب.
وأدلة ذلك مستمدة من القانون نفسه، فمن المفهوم أن الرجل خصص منزلاً لاستقبال صديقاته من النساء لا عقاب عليه، والعكس صحيح والمساواة مفروضة وواجبة - ويلاحظ أن دعارة الغير لا تقوم بالرجل المضبوط مع المرأة المالكة للمنزل لأن هذه الحالة لا تعتبر دعارة الغير بل هي مزاج للنفس وحالة شخصية.
فالدعارة عمل مزدوج ولا يتصور فيه الانفراد، ووجود المرأة المالكة مع شخص آخر لا يعتبر دعارة الغير بل هي دعارة النفس - إذ لا تتصور دعارة النفس انفراد بلا رجل.
وإذن فدعارة الغير تستلزم نساء أخريات ورجال آخرين من غير أهل المنزل أقارب أو غرباء وهذا هو سياق نفس المادة (8) المذكورة إذ تقول (ولو كان من يمارس فيه الدعارة أو الفجور شخصًا واحدًا).
فمفهوم مع ما تقدم بأنه شخص واحد خلاف المالك، فما لم توجد هذه الحالة لا توجد الدعارة ولا يعتبر المكان بيتًا للدعارة.
ويؤكد ذلك القانون نفسه لأنه إذ نص على أنه يعتبر بيتًا للدعارة ولو كان من يمارس فيه الفجور أو الدعارة شخصًا واحدًا، فإنه قد جعل حكمًا خاصًا لكل من اعتاد ممارسة الفجور أو الدعارة في المادة (9 ف 3) بما يدل على أنه ميز وفرق بين مديرة المنزل وممارسة الفجور، وإذن فاشتراط وجود الغير لاعتبار بيت الدعارة ولو بواحدة، لا يقوم على المالكة بل على شخص آخر خلافها.
هو الفتاة التي تتلقى الفجور أو الدعارة بخلاف المالكة التي تدير المنزل.
والرجل كما قدمنا لا يعتبر غيرًا بالمعنى المقصود في المادة (8) لأنه يدخل ضمن دعارة النفس بمعنى الازدواج.
ومن أدلة ذلك أيضًا:
1 - إن مجرد الفجور لا عقاب عليه.
2 - إن المزاج الجنسي لا عقاب عليه.
3 - إن الحالات الشخصية لا عقاب عليها بل العقاب على الصفة العامة.
4 - إن الفقرة الأخيرة من المادة (8) تفترض التعدد إذ تقول:
(إذا كان مرتكب الجريمة (المديرة) من أصول من يمارس (الفتاة) الفجور أو الدعارة أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن له سلطة عليه).
بل إنه لا بد من اعتبار المكان بيتًا للدعارة من وجود الممارسة للفجور فضلاً عن المديرة، وحتى لو مارست المديرة الفجور فإنها لا تعتبر من الغير المقصود هنا.
5 - على الشرح المتقدم إن المادة (9) لا تعاقب على فجور البنت الموجودة بالمنزل فمن باب أولى صاحبته عند فجور نفسها.
6 - إن القضاء كان مستقرًا على هذا قبل صدور القانون ويلاحظ في ذلك حكم النقض الصادر في 24 يناير سنة 1949 الذي قضى بهذا المعنى تمامًا.
وهو ما عبر عنه بلفظ (النساء الأجنبيات).
وأصل الإشكال أنه عند صياغة القانون قدم مجلس النواب مشروعًا عرف فيه منزل الدعارة (بأنه كل مكان يدار للدعارة) غير أنه عند عرض الأمر على مجلس الشيوخ دس كلمة الغير، فقوض النص.
غير أنه إذا تعمقنا في الموضوع لوجدنا المسألة منطقية، إذ أن القوانين مهما غلت فإنها لا تستطيع مقاومة الطبيعة، وعلى ذلك فإن العلاقات الخاصة لا يمكن أن تُمحى فاضطر القانون إلى إغضاء البصر عنها ما لم تتطرق إلى صفة عامة فتتسع إلى غير أهلها.
ومن هنا يمكن تبرير التجاوز عن عقاب أهل المنزل إذا لم يأتوا بغيرهم لارتكاب الفحشاء.
وقد استقرت الأحكام بعد ذلك على هذا المنوال (نقض 27/ 1/ 1953 باسم… …. …) وسائر المحاكم الأخرى كالدائرة العاشرة المستأنفة بالإسكندرية وبعض المحاكم الجزئية وعلى الأخص محكمة باب شرقي.
ثانيًا: ركن العادة:
لا يعتبر المكان منزلاً للدعارة ما لم يتوفر فيه الشرط السابق وهذا الشرط لا يكفي بمفرده بل لا بد من إضافة شرط آخر هو ركن العادة، وليس الأمر اجتهادًا بل صريح نص المادة إذ تقول (كل مكان يُستعمل عادةً).
فتكون الجريمة من جرائم العادة التي لا تتوفر إلا بتوافر حصولها والمسألة ليست غريبة بل إن القانون قد دُرج على هذا الشأن في سائر حالاته ومن ذلك المادة التاسعة منه التي تعاقب الشخص الذي يمارس الفجور أو الدعارة فتى أو فتاة بعد ثبوت الاعتياد.
وما استقر عليه القضاء تفريعًا على هذا بأن الفجور في ذاته غير معاقب عليه ولو في حالة التلبس أو عند الاعتراف به، بل المعاقب هو اعتياد ذلك.
وهكذا الشأن تمامًا بالنسبة للمنزل ذاته فلا يكفي أن يدار للفساد حتى ينطبق النص بل لا بد من توافر ركن العادة في ذلك.
وللأمر حكمته فقد يحصل الفساد عرضًا أو مصادفة أو مرة واحدة لا تتكرر فيكون من صالح المجتمع إسدال الستار وتهيئة سبيل الإصلاح بدلاً من إشاعة اليأس والدفع إلى الفساد ما دامت النتيجة واحدة في الحالتين حالة الانفراد وحالة الاعتياد.
وحكمت بذلك محكمة النقض في القضية 1875 لسنة 20 قضائية وتواترت الأحكام بعد ذلك على هذا المنوال.
فنخلص مما تقدم بضرورة توافر الشرطين الغير والعادة لاعتبار المنزل مما يتناوله القانون.
كلمة ختامية:
يرى بعض الباحثين ضرورة معالجة نص المادة الثامنة بحذف كلمة الغير حتى يشمل النص كافة حالات الفساد وهو رأي له وجاهته واعتباره.
إلا أنه يمكن الرد عليه بأنه سيتناول حالات لا يمكن أن يقصدها المشرع ولا يستساغ العقاب عليها.
وقد يصل الأمر إلى مخالفة الطبيعة والاصطدام بها مما يؤدي إلى إشاعة اليأس والفوضى الجنسية بما في ذلك كثرة الجرائم من هذا القبيل.
ومن أمثلة ذلك، ما إذا كانت امرأة تعشق رجلاً وتعيش معه ويتردد عليها أو حتى أكثر من رجل دون أن يصل الأمر لناحية العمومية، فيشملها النص وهو أمر لا يمكن أن يقصده الشارع، فالحالة هذه تشبه الرجل الذي يتخذ منزلاً لنفسه ويجلب له سيدة أو أكثر لنفسه بدون عموم في الأمر وبدون اعتداء على حق آخر، فلم يقل أحد بجريمة أو شبهة، وهكذا الأمر بالنسبة للسيدة في الحالة العكسية إذن المساواة واجبة ولا يصح التفرقة بين الرجل والمرأة أمام القانون.
وعلى كل حال فإن المسألة تحتاج لكثير من الدراسة والتروي.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
سلطة مأموري الضبط القضائي في تفتيش الشخص في غير حالة التلبس
مجلة المحاماة – العدد الثامن
السنة الثانية والثلاثون – إبريل 1952
سلطة مأموري الضبط القضائي
في تفتيش الشخص في غير حالة التلبس [(1)]
لحضرة الدكتور توفيق محمد الشاوى الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول
من المسلم به أن التفتيش من أخطر الإجراءات الجنائية، وأن المشرع قيده بقيود كثيرة تضمن عدم إساءة استعمال هذا الحق من ناحية، وتضمن صحة النتائج التي يسفر عنها من ناحية أخرى، وأهم هذه القيود ما يتعلق بالاختصاص.
فالأصل أن سلطة التحقيق العادية - أي قاضي التحقيق - هي وحدها صاحبة الاختصاص الكامل في إجراء التفتيش باعتباره عملاً من أعمال التحقيق لا يجوز الالتجاء إليه إلا من تحقيق مفتوح، طبقًا للمادة (91) إجراءات بالنسبة لتفتيش الأمكنة، والمادة (94) بالنسبة لتفتيش الأشخاص، سواء في ذلك أشخاص المتهمين أو منازلهم، وأشخاص غير المتهمين أو منازلهم.
أما النيابة العامة، فإنها طبقًا للمادة (199) في حالة قيامها بتحقيق الجنح، تتمتع مبدئيًا بجميع سلطات قاضي التحقيق فيما عدا بعض القيود التي نص عليها صراحةً، وأهم هذه القيود ما نصت عليه المادة (206) إجراءات من قصر حقها في التفتيش على المتهمين ومنازلهم، فلا يجوز لها تفتيش شخص غير المتهم ولا منزله، ولا ضبط الرسائل، إلا بناءً على إذن من قاضي التحقيق.
وفي أحوال الجنايات لا يكون للنيابة إلا سلطة مأموري الضبط القضائي في أحوال التلبس أو في جمع الاستدلالات، فما هي سلطة مأموري الضبط في تفتيش المساكن والأشخاص؟
موضوع البحث:
أما تفتيش المساكن فأمره واضح، إذ من المتفق عليه أن مأموري الضبط لا حق لهم في إجرائه إلا في حالة واحدة عامة هي حالة التلبس وبشرط أن يكون محله مسكن المتهم طبقًا لصريح المادة (47) إجراءات [(2)].
ولكن الموضوع يدق إذا أردنا تحديد سلطة مأموري الضبط في تفتيش الشخص، إذ يجب علينا أن نحدد ما إذا كانت هذه السلطة تخضع لنفس القاعدة التي يخضع لها تفتيش المساكن بمعرفة مأموري الضبط، أي أنها لا تكون لهم في غير حالة التلبس أم لا.
لا أظن أحدًا من شراح القانون المصري قد أجاب على هذا السؤال إجابةً صريحةً واضحةً، وإن كانت الحلول التي أخذوا بها تدل أنهم يجيبون عليه بالنفي، أي أن تفتيش الأشخاص غير تفتيش المساكن فهو جائز لمأموري الضبط القضائي في غير حالة التلبس، لأنهم مجمعون على أن تفتيش الشخص مرتبط بالقبض عليه، وبما أن القبض جائز لمأموري الضبط القضائي في غير حالة التلبس (م 34)، فإن منطقهم يفترض ويستوجب أن يكون تفتيش الشخص جائزًا كذلك [(3)].
التوسع في سلطة تفتيش الشخص بمعرفة مأموري الضبط:
فالرأي الذي يسير عليه أغلب شراح القانون المصري يجيز تفتيش الأشخاص لمأموري الضبط في جميع الأحوال التي يجوز لهم فيها القبض ولو لم تكن حالة تلبس [(4)].
ولما كان القبض جائزًا لهم في غير حالة التلبس في ثلاث حالات أخرى نصت عليها المادة (34) أولاً وثالثًا ورابعًا، فإن التفتيش الشخصي يكون جائزًا في هذه الأحوال الثلاثة التي لا يجوز فيها لمأموري الضبط تفتيش المسكن.
ولخطورة هذه النتيجة نذكر هنا هذه الأحوال الثلاثة طبقًا لعبارة المادة (34) وهي:
أولاً: في الجنايات.
ثانيًا:… حالة التلبس.
ثالثًا: إذا كانت الجريمة جنحة معاقبًا عليها بالحبس، وكان المتهم موضوعًا تحت مراقبة البوليس، أو كان قد صدر إليه إنذار باعتباره متشردًا أو مشتبهًا فيه [(5)]، أو لم يكن له محل إقامة ثابت ومعروف في مصر.
رابعًا: في جنح السرقة والنصب والتفاليس والتعدي الشديد ومقاومة رجال السلطة العامة بالقوة أو بالعنف والقيادة والاتجار بالنساء والأطفال وانتهاك حرمة الآداب، وفي الجنح المنصوص عليها في قانون تحريم زراعة المواد المخدرة أو الاتجار فيها أو حيازتها أو استعمالها.
رأينا:
أما نحن فلا نقر هذا التوسع في سلطة مأموري الضبط القضائي في تفتيش الشخص، ونرى أنه لا يجوز لهم في غير حالة التلبس مطلقًا، لأن التفتيش حق واحد وإجراء واحد، سواء كان واقعًا على منزل أو على شخص، فليس من المعقول إن يمنع المشرع مأمور الضبط من تفتيش المساكن في غير حالة التلبس ويجيز لهم تفتيش الأشخاص.
وإن نظرة واحدة إلى حالات القبض السالفة التي ذكرتها المادة (34) تؤيد وجهة نظرنا، فكيف نجيز لمأمور الضبط أن يفتش متهمًا بجريمة إحراز مواد مخدرة في غير حالة تلبس؟ إن القول بذلك معناه أن تصبح كل ضمانات التفتيش لغوًا، إذ الثابت أن أغلب إجراءات التفتيش - وخاصة ما كان منها باطلاً - إنما يقع في جرائم المخدرات، فإذا نحن قلنا مع أصحاب المذهب السابق إن مأمور الضبط له تفتيش كل شخص متهم بجريمة من جرائم المخدرات دون اشتراط وجود التلبس فمعنى ذلك أننا فتحنا باب التعسف على مصراعيه أمام رجال البوليس الذين لن يعدموا اتهامًا يوجهوه إلى من يريدون تفتيشه دون أن يكون في حالة تلبس.
يضاف إلى ذلك أن بعض الجرائم التي أجاز القانون فيها القبض في الأحوال يصعب تصور ضرورة التفتيش أو فائدته فيها، وذلك كجرائم انتهاك حرمة الآداب، أو بعض صور التعدي الشديد، فإن كان هناك ما يبرر إجازة القبض فيها استثناءً من القواعد العامة، فلا نرى وجهًا لإجازة التفتيش فيها دون غيرها من الجرائم في الأحوال العادية.
الحجج التي يعتمد عليها القائلون بالتوسع والرد عليها:
قلنا إن من تعرضوا لهذه المسألة لم يضعوا لها حلاً صريحًا واضحًا، وإذا كان الحل غير واضح فإن أدلته وحججه أقل وضوحًا وصراحة، مما يصعب مهمة الباحث، وإن كان يسهل مهمة الناقد المعارض، ونحن هنا بلا شك في مجال البحث العلمي المجرد، فعلينا أن نختار الطريق الصعب، طريق البحث والتمحيص الذي يوجب أن نتطوع باستخراج حجج هذا الرأي من بين عبارات عامة مرسلة لجأ إليها من أخذوا به.
ومن بين هذه الأقوال المرسلة ما يمكن استبعاده دون جهد أو تعب، لأنها أقوال استطرادية لم يعن قائلوها بالتدليل على صحتها بحجة قانونية أو منطقية، ومن أمثلتها القول بأن (القانون يفرق في مدى حمايته بين الأماكن والأشخاص، فينص على حماية أوفى للأماكن [(6)]، وكان يجدر بمن يضع مبدءًا عامًا كهذا أن يذكر لنا على سبيل المثال قاعدة واحدة من القواعد المنظمة للتفتيش تفرق بين تفتيش الأماكن والأشخاص وتعطي للمكان حماية أوفى من حماية الشخص بدلاً من إطلاق القول بدون دليل يؤيده, ومن ناحية أخرى، فكيف يقبل باحث قانوني هذا الافتراض مع أننا نعلم أن المشرع لا يحمي (الأماكن) كلها بل يقصر حمايته على (المساكن) لأنها هي وحدها مقر الأشخاص ومقامهم فهي إذن حماية للأشخاص أنفسهم بطريق غير مباشر، فكيف إذن يقرر القانون لحرمة الأشخاص حماية أوفى إذا كان الاعتداء غير مباشر.
وهناك قاعدة أخرى بنوها على مقدمة صحيحة ولكنهم يستنتجون منها نتائج لا تستلزمها، فهم يقولون إن (تفتيش الأشخاص اعتداءً على الحرية الشخصية ويجوز طالما كان التعرض للحرية الشخصية جائزًا) [(7)]، أما أن تفتيش الشخص اعتداءً على الحرية الشخصية فهذا مسلم به ولكن ليس معنى ذلك أنه معادل للقبض، أو أقل منه خطورة، فيجب أن نذكر أن أهمية التفتيش لا ترجع لكونه اعتداءً على الحرية كالقبض، بل إن ما يميز التفتيش عن القبض هو أنه إجراء منتج للأدلة، ولهذا كانت الشروط التي يقررها له المشرع لا يقصد بها فقط حماية حرية الفرد - كما هو الشأن بالنسبة للقبض - بل المقصود بها قبل كل شيء هو ضمان صحة الأدلة التي يسفر عنها وهو ما يستلزم شروطًا وضمانات تختلف عن شروط الإجراءات المقيدة للحرية فقط كالقبض، فإن القبض التعسفي إجراءً يزول أثره بالإفراج عن المقبوض عليه أو بتعويضه عن الضرر الذي أصابه، أما التفتيش التعسفي فإن انتهاءه أو التعويض عنه لا يغني من وقع عليه شيئًا، بل يبقى عنه نتيجة خطيرة هي الدليل الذي توصل إليه من أجراه والذي قد يؤدي إلى إدانة من وقع عليه, ويظهر مدى الفرق بين أهمية القبض وأهمية التفتيش من الوجهة النظرية والعملية من مجرد مراجعة القضايا لكي نجد أنه من النادر الدفع ببطلان القبض، لأن هذا البطلان لا أهمية له في مصير الدعوى أو إدانة المتهم، بخلاف التفتيش فإن حالات الدفع ببطلانه لا يمكن حصرها، بل إنه في الحالات النادرة التي يدفع فيها المتهم ببطلان القبض إنما يقصد من وراء ذلك إبطال تفتيش ناتج عنه.
وأخيرًا تطوع أحد الزملاء فوضع قاعدة حاسمة تريحنا من كل المشكلات - لو أنها كانت صحيحة - فهو يقول إن (قيود التفتيش لا تسري على الأشخاص… فالشخص ليس مسكنًا) [(8)]، فهل معنى ذلك أن تفتيش الأشخاص لا يتقيد بأي قيد من القيود التي تستلزمها طبيعة التفتيش كإجراء من إجراءات جمع الأدلة، فيجوز إجراؤه ولو لم يوجد تحقيق مفتوح، أو وجد تحقيق ولكنه لا فائدة له من التفتيش؟ كل هذا لسبب واحد هو أن الشخص ليس مسكنًا كأن هناك من يقول بأن الشخص مسكن؟ والحقيقة أننا لسنا في حاجة للقول بأن الشخص مسكن لاشتراط توفر ضمانات معينة في تفتيشه، لأن المسكن إذا تمتع بضمانات فالشخص أولى بها لأن حرمة الشخص كما قدمنا هي مصدر حرمة المسكن وأساسها [(9)].
فتفتيش الشخص وإن كان يستلزم القبض عليه إلا أنه إجراء أكثر من مجرد القبض، هو بحث عن الأدلة اللازمة لتحقيق جنائي قائم، فهو إجراء لجمع الأدلة يختلف في طبيعته اختلافًا بينًا عن القبض الذي هو مجرد إجراء من الإجراءات الاحتياطية [(10)] لمنع المتهم من الهرب، وعلى ذلك فإن شروط تفتيش الشخص وضماناته لا محل لمقارنتها بضمانات القبض، بل إنها يجب أن تقاس على شروط تفتيش المسكن وضماناته لأن كلاهما تفتيش على كل حال، ولا فرق بينهما إلا في نوع المحل الذي يجرى فيه.
وأهم حجة يمكن أن تسعف القائلين بالرأي الذي ننتقده هي القاعدة القائلة بأن التفتيش الشخصي تابع للقبض، وهم يستنتجون من ذلك أنه يجب أن يكون جائزًا في أحوال القبض، وهم في ذلك يغفلون حقيقة هذه القاعدة ومغزاها، ويأخذون بظاهر عباراتها، لأن التفتيش التابع للقبض طبقًا لهذه القاعدة الشهيرة ليس هو التفتيش بالمعنى القانوني المراد به جمع الأدلة، بل هو نوع خاص متميز من التفتيش يقصد به ضبط ما مع المتهم من سلاح خشية مقاومته أثناء تنفيذ القبض، ولذلك نسميه (التفتيش الوقائي).
وعلى ذلك فإن نص المادة 46/ 1 من قانون الإجراءات الجنائية الذي يقرر أنه (في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونًا على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه)، هذا النص لا يصلح دليلاً للقول بأن أحوال تفتيش الشخص هي حالات القبض لأن كل ما قصد منه هو إجازة (التفتيش الوقائي) المكمل للقبض على المتهم والذي يقصد به الاحتياط لمنع مقاومة المقبوض عليه.
فمفتاح المشكلة في نظرنا هو التفرقة بين (التفتيش القضائي) [(11)] وهو التفتيش بالمعنى القانوني، وبين (التفتيش الوقائي) [(12)] التابع للقبض وهو الذي قصدته المادة 46/ 1 والذي تقصده محكمة النقض المصرية عندما تقرر أن التفتيش يتبع القبض، هذه التفرقة لم يتعرض لها أحد ممن بحثوا هذه المسألة في مصر، وهو ما أدى إلى توسعهم في حالات تفتيش الشخص ذلك التوسع الذي لا نقره.
(التفتيش القضائي) و (التفتيش الوقائي) للشخص:
فنحن نرى أنه لا بد من التمييز بين نوعين من تفتيش الشخص: الأول، وهو الذي يجب أن يسمى وحده تفتيشًا بالمعنى القانوني المعروف في القانون الجنائي، أي الاطلاع والبحث عن الأدلة، وهو الذي يعتبر (من أعمال التحقيق التي لا يجوز الالتجاء إليها إلا في تحقيق مفتوح، طبقًا لنص المادة (91) إجراءات، ولا يمكن أن تجريه سلطة التحقيق إلا متى توفرت لديها قرائن قوية على أن في إجرائه فائدة في (الإثبات) [(13)]. وهذا التفتيش سواء وقع على المسكن أو على الشخص واحد في شروطه وحالاته، فلا يكون تفتيش الشخص جائزًا لمأموري الضبط إلا في الحالة التي أجيز لهم فيها تفتيش المسكن وهي حالة التلبس [(14)]، ولا يمكن القول بجوازه لهم في غير تلك الحالة.
أما النوع الثاني وهو الذي يكون تابعًا للقبض على الأشخاص، فهو الذي سميناه (تفتيشًا وقائيًا) وهو ليس من إجراءات التحقيق ولا يقصد به البحث عن أدلة، وإنما هو إجراء بوليسي محض مقصود به إمكان تنفيذ الأمر بالقبض [(15)]، وهو لذلك محدود بحدود هذه الغاية ولا يجوز أن يتعداها.
ماهية (التفتيش الوقائي) وحدوده:
أحسن تعريف لهذا الإجراء يمكن استخراجه من عبارات محكمة النقض المصرية نفسها بأنه هو (ما يستلزمه تنفيذ القبض من بحث في ملابس المتهم لتجريده مما يحتمل أن يكون معه من سلاح خشية أن يستعمله في المقاومة أو الاعتداء على نفسه أو على من يقبض عليه) [(16)].
فهو إذن يختلف عن التفتيش من حيث طبيعته القانونية إذ أنه ليس إلا إجراءً بوليسيًا احتياطيًا تنفيذيًا ولذلك سمته إحدى المحاكم الفرنسية [(17)] (التفتيش البوليسي (fouille - mésure de police [(18)].
وقد بينت محكمة النقض المصرية علة إجازة هذا الإجراء وغايته بقولها إن( التفتيش) في هذه الحالة يكون لازمًا، ضرورة أنه من وسائل التوقي والتحوط الواجب توفيرها أمانًا من شر المقبوض عليه إذا ما حدثته نفسه، ابتغاء استرجاع حريته، بالاعتداء بما قد يكون معه من سلاح على من قبض عليه) [(19)].
وينتج عن الطبيعة البوليسية لهذا الإجراء أنه مخول لمن يباشر القبض فعلاً لا لمن يتولى التحقيق [(20)], وقد طبقت محكمة النقض المصرية هذه القاعدة بإطراد فأجازت هذا الإجراء الوقائي للقائم بتنفيذ القبض حتى ولو لم يكن من مأموري الضبط القضائي كعسكري البوليس [(21)] أو المخبر [(22)]، أو الفرد العادي [(23)] وهو أمر ما كان يمكن التسليم به، لو اعتبرنا من إجراءات التحقيق كالتفتيش العادي.
وهذا الإجراء البوليسي ليس خاصًا بالأشخاص فقط، بل إنه يمتد إلى المنازل، فمن المتفق عليه أن القائم بتنفيذ أمر القبض على شخص معين يجوز له دخول منزل هذا الشخص للقبض عليه [(24)], فهذا الدخول انتهاك لحرمة المنزل أجيز لمأموري الضبط، وحتى لرجال البوليس العاديين طالما كانوا قائمين بتنفيذ أمر قبض صحيح، ولا يصح أن يستنتج من ذلك أن تفتيش المنازل يجوز في أحوال القبض [(25)]، رغم ما جرى عليه بعض الفقهاء على تسمية هذا الدخول ( تفتيشًا) [(26)]، فهذا على كل حال ليس التفتيش القانوني بل إجراء بوليس مكمل للقبض يشبه ما يتخذ قبل الشخص لتجريده من سلاحه حتى يتم القبض عليه [(27)].
أهمية التمييز بين التفتيش الوقائي والتفتيش القانوني:
قد يرد علينا بأن التفرقة التي نقول بها نظرية محضة تقتصر على تغيير في التسمية، ولكنا نجيب بأن لهذه التفرقة الدقيقة بين الإجراءين أهمية خطيرة في العمل من ناحيتين:
1 - فمن حيث غاية الإجراء، ما يجوز للقائم بالقبض من تفتيش للشخص يجب أن تكون غايته هي تجريده من سلاحه الذي يعتدي به على غيره أو على نفسه فقط (فإذا ثبت أن التفتيش لم يقصد به من الأصل إلا البحث عن مخدر (أي عن أدلة) – كما هو الحال في هذه الدعوى - فإنه يكون باطلاً ولا يصح التمسك به [(28)]) هذا هو ما قررته محكمة النقض المصرية التي عقبت على ذلك بوضع قاعدة عامة تجعل هذا الإجراء قاصرًا على هذه الغاية إذ قالت (ويكون الحكم المطعون فيه إذ أجاز إطلاقًا تفتيش كل مقبوض عليه ولو لم يقصد من التفتيش ضبط سلاح معه، يكون قد أخطأ [(29)]) فيجب إذن أن يكون القصد الحقيقي من الإجراء هو القبض على المتهم وأن يكون ما تم من بحث واطلاع ضروريًا لإتمام هذا القبض، أما إذا تبين أن الغرض الأصلي من الإجراء هو تفتيش المتهم للبحث عن جريمة أو عن دليل فهو باطل.
2 - ومن حيث مدى الإجراء، بديهي أن ما يجوز للباحث عن الأدلة من أعمال الفحص والاطلاع أوسع مما يجوز للباحث عن سلاح فقط، فإن رجل البوليس أو المخبر أو الفرد العادي الذي يقبض على متهم - قبضًا قانونيًا - إذا جاز له أن (يفتشه) فليس معنى ذلك أنه يجوز له كل ما يجوز في حالة التفتيش العادي، بل كل ما له هو البحث الظاهري في أيدي الشخص أو ملابسه أي المظان التي يحتمل أن يوجد بها سلاح، فلا يجوز له إذن في نظرنا الاطلاع على جسم الشخص وخاصة كل ما يتصل بعوراته وما يخدش كرامته [(30)]، ومن باب أولى ليس له أن يجري تحليل محتويات معدته مثلاً، كذلك إذا كان مع المقبوض عليه حقيبة أو محفظة بها أوراق أو نقود فليس من حق القابض عليه أن يطلع عليها وكل ما له هو ضبطها حتى يستأذن سلطة التحقيق في تفتيشها تفتيشًا قانونيًا.
المادة 46/ 1 قاصرة على (التفتيش الوقائي):
هذا الإجراء في الحدود التي بيناها هو وحده الذي أرادته المادة 46/ 1 بقولها (في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونًا على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه), فالمقصود هنا هو (أن يفتشه تفتيشًا وقائيًا لنزع سلاحه) فهو وحده (التفتيش) الذي يستلزمه القبض ويستتبعه طبقًا لأحكام محكمة النقض المصرية كما بيناه) [(31)].
أما التفتيش القانوني للشخص فلا شأن لهذا النص به، بل هو مسكوت عنه، متروك للقواعد العامة في الاختصاص والتحقيق، وهذا ليس بدعًا في التشريع – وإن كان نقصًا فيه - فقانون تحقيق الجنايات لم يكن به أي نص على تفتيش الشخص، وكذلك قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الحالي، ومع ذلك فمن المجمع عليه أن تفتيش الشخص تسري عليه جميع أحكام تفتيش المسكن من حيث شروطه وحالاته، فلا يجوز لمأموري الضبط إلا في حالة التلبس.
وتظهر أهمية هذه القاعدة إذا لاحظنا أهمية الأحوال التي يجوز فيها القبض في غير حالة التلبس، وهي الحالات التي يجب أن يكون التفتيش الشخصي جائزًا لمأموري الضبط فيها طبقًا للرأي الذي انتقدناه، ومن أمثلة هذه الحالات:
1 - جناية عادية، ليست في حالة تلبس، ولم تطلب النيابة من قاضي التحقيق أن يفتح فيها تحقيقًا، فليس لها ولا لمأموري الضبط إلا سلطة جمع الاستدلالات ولكن لمأموري الضبط - والنيابة باعتبارها منهم – أن يقبضوا على المتهم طبقًا للمادة (34) (أولاً).
ولكن هل يجوز تفتيش شخصه في تلك الحالة ؟ أما قاضي التحقيق فلا يملك إصدار أمر تفتيشه ولا تفتيش مسكنه لأنه لا يوجد تحقيق ولا يجوز الأمر بالتفتيش إلا في تحقيق مفتوح, وكذلك النيابة لا يجوز لها إجراء تحقيق في الجنايات، بل عليها في هذه الحالة أن تقدم القضية لقاضي التحقيق وتطلب منه أن يفتح فيها تحقيقًا وتترك الأمر له, ويجب أن تسري هذه القاعدة في رأينا على مأموري الضبط من باب أولى لأنه لا يجوز أن يعطيهم سلطة لا يملكها قاضي التحقيق نفسه.
أما الرأي الذي انتقدناه فإنه يجيز لمأمور الضبط أن يفتش المتهم بحجة أنه يجوز له أن يقبض عليه وأن التفتيش جائز في جميع أحوال القبض، دون تحديد لنوع هذا التفتيش وحدوده فإذا فرضنا أن الجريمة هي جناية ضرب أفضى إلى عاهة مستديمة، وأن ضابط البوليس رأى أن يقبض على المتهم لتقديمه للنيابة، فهم يقولون بأنه يجوز لهذا الضابط أن يفتشه تفتيشًا كاملاً، بما في ذلك بداهةً الاطلاع على جسمه للبحث عن آثار جروح أو ما شابهها مما يؤكد اشتراكه في المشاجرة، أو البحث في الأوراق التي يحملها لعل فيها ما يدل على وجوده في محل المشاجرة في التاريخ الذي وقعت فيه ونحن نرى أن كلا الفعلين غير جائز، فليس له الاطلاع على جسمه ولا على أوراقه وكل ما له عند القبض عليه أن يجرده من سلاحه إن وجد معه ما يخشى أن يستعمله في الاعتداء عليه أو إن كان هناك مظنة لمقاومة أو اعتداء فقط، أما إن أراد أن يفتش جسمه أو أوراقه فلا بد من أن يعرض الأمر على النيابة وعليها بدورها أن تطلب من قاضي التحقيق فتح تحقيق والأمر بالتفتيش إن كان له محل.
2 - جنحة مخدرات عادية ليست في حالة تلبس، قبض على بعض المتهمين فيها ورأى ضابط البوليس أن يقبض على شخص آخر باعتباره شريكًا لهم فله طبقًا للمادة (34) (رابعًا) حق القبض في هذه الحالة, ولكن هل له أن يفتش شخص المتهم وما معه من أمتعة أو حقائب بقصد البحث عن مخدرات فيها؟ يجيز ذلك الرأي الذي نعارضه, أما نحن فنرى أن هذا التفتيش المقصود به البحث عن دليل أو عن جسم الجريمة لا يجوز المأمور الضبط القضائي بل يجب عليه أن يرفع الأمر إلى الهيئة التي تتولى التحقيق فعلاً - أي قاضي التحقيق أو النيابة العامة على حسب الأحوال - لتأمر بما تراه, أما إذا فتش من تلقاء نفسه فإجراؤه باطل لأن الجريمة ليست في حالة تلبس.
الخلاصة:
من ذلك كله يتضح أننا لا نقر أي تفرقة بين تفتيش المسكن وتفتيش الشخص، فحالات تفتيش الشخص يجب أن تقاس على حالات تفتيش المسكن، ولم يكن هناك أي داعٍ لكي يفرق المشرع بينهما ولذلك فإن نص المادة 46/ 1 يفسر على ضوء هذه الفكرة الأساسية، وأن يحمل التفتيش الشخصي المقصود بها على التفتيش المكمل للقبض، وكون التفتيش مكملاً للقبض ليس مرجعه أنه مقيد للحرية الشخصية كالقبض، أو أن حرمة الشخص أقل أهمية من حرمة المسكن، لسبب واحد يسير هو أن تفتيش المسكن ذاته أو دخوله يكون مكملاً للقبض في بعض الأحيان ويصبح جائزًا هو الآخر كلما كان القبض جائزًا، وذلك إذا أريد القبض على شخص في مسكنه فللقائم بتنفيذ هذا الأمر أن يدخل المسكن ليبحث عنه، فالدخول هنا يمكن أن يسمى تفتيشًا ولكنه هو أيضًا من نوع خاص مكمل للقبض من طبيعة بوليسية، وهو في هذا يشبه التفتيش الوقائي من حيث طبيعته وحدوده مما يدل على أن القول بأن تفتيش الشخص تابع للقبض عليه لا يمكن أن تنصرف إلى التفتيش القانوني من ناحية ولا يمكن أن تكون قاصرة على تفتيش الأشخاص من ناحية أخرى.
[(1)] نص المحاضرة التي ألقيت بدار نقابة المحامين في يوم 3 إبريل سنة 1952.
[(2)] وقد نصت المادة (48) على حالة خاصة استثنائية إذ أجازت لمأموري الضبط ولو في غير حالة التلبس أن يفتشوا منازل الأشخاص الموضوعين تحت مراقبة البوليس إذا وجدت أوجه قوية تدعو للاستثناء في أنهم ارتكبوا جناية أو جنحة، ويفهم من هذا النص بمفهوم المخالفة أن تفتيش المساكن في غير حالة التلبس ممنوع على مأموري الضبط إذا لم يكن المتهم موضوعًا تحت مراقبة البوليس، ويراجع العرابي باشا جـ 1 ص (252) رقم (487).
[(3)] العرابي باشا جـ 1 ص (274) رقم (34)، والدكتور محمود مصطفى ص (167)، (194).
ويراجع تحت سلطان القانون القديم القللي بك طبعة سنة 1941 ص (191), والموسوعة الجنائية جـ (3) ص (549) رقم (70) وقد ورد فيه صراحةً (……… يضاف إلى ذلك أن التفتيش الشخصي عند القبض على المتهم أمر تستلزمه مصلحة التحقيق لمنع المقبوض عليه من إعدام جسم الجريمة أو من إخفائه، لذلك كله كان الإجماع منعقدًا على أن لرجال البوليس دائمًا حق تفتيش الأشخاص الذين يقبضون عليهم وفقًا للقانون….).
[(4)] و [(5)] المراجع المشار إليها في الهامش السابق، ويظهر أن حكم النقض الصادر في 3 يونيه سنة 1940, قد أخذ بهذا الرأي إذ قرر أنه (بمقتضى القانون رقم (24) لسنة 1923, إذا كان المتهم قد سبق إنذاره مشبوهًا، وكانت القرائن متوافرة على ارتكابه جريمة إحراز مخدر، فإن ذلك - بغض النظر عن قيام التلبس - يبرر القبض عليه وتفتيشه.. رغم أن المحكمة قررت بصراحة (إن هذه الواقعة لا يجوز فيها الضبط والتفتيش على أساس التلبس لأن المتهم لم يكن في حالة من حالاته)، مجموعة القواعد ج (5) ص (222) رقم (117) وهو حكم شاذ في نظرنا يخالف ما استقر عليه قضاء النقض كما سنبينه فيما بعد.
[(6)] شرح قانون الإجراءات الجنائية للدكتور محمود مصطفى ص (194).
[(7)] المرجع السابق ص (153) حيث يضيف (فتفتيش الشخص أقل خطورة من القبض عليه).
[(8)] المرجع السابق ص (153)، (194).
[(9)] والحقيقة أن الحماية هنا لا تقرر للمسكن للشخص لذاتهما، لأن القانون لا يحمي الأشياء وإنما يحمي الحقوق فقط، والحق الذي يحميه المشرع عندما يمنع انتهاك حرمة المسكن أو حرمة الشخص هو حق واحد له ذاتية خاصة نسميه (الحق في السر DROIT AU SECRET) أي حق الفرد في أن يمنع الغير عن الاطلاع على مظاهر حياته الخاصة، ومقر هذه المظاهر في الأصل هو جسم الشخص ومسكنه، تراجع رسالتنا في (النظرية العامة للتفتيش في القانون الجنائي المصري والفرنسي) طبعة جامعة فؤاد بالفرنسية سنة 1950ص (4) رقم(4) وما بعدها.
[(10)] والإجراءات الاحتياطية كالقبض والحبس الاحتياطي هي من إجراءات التحقيق من حيث الشكل فقط، أما من حيث غايتها فهي في الواقع كما قالت محكمة النقض المصرية في حكمها الصادر في 15 يونيه سنة 1915, وهي احتياطات متعلقة بالأمن وإدارية أكثر منها قضائية), المجموعة الرسمية السنة 31 س (207), وهذا هو ما يميزها عن إجراءات جمع الأدلة التي هي إجراءات قضائية لأن غايتها هي الأدلة أو الإثبات، والتفتيش القانوني يدخل في مجموعة الإجراءات القضائية المتعلقة بجمع الأدلة.
[(11)] أخذ بهذه التسمية (جارو) جـ 3 رقم (900) ص (204)، وموريزوتيبولت ص (447) و (لويس لامبير) في (البوليس القضائي) جـ (1) ص (351)، وبعض الفقهاء يفضل تسميته (التفتيش التحقيقي fouille - acte d’instruction).
[(12)] هذه تسمية استحدثناها، وهي غير موجودة في الفقه المصري، ولكنا أخذناها عن عبارات بعض أحكام النقض المصرية، مثل نقض 11 يونيه سنة 1945, حيث وصفت هذا التفتيش بأنه (من وسائل التوقي والتحوط الواجب توفيرها أمانًا من شر المقبوض عليه) مجموعة القواعد جـ (6) ص (733) رقم (598)، وهذا في نظرنا أفضل من تسمية التفتيش البوليسي التي أخذ بها القضاء الفرنسي في بعض أحكامه.
[(13)] لذلك اشترطت المادة 91/ 1 لإجراء التفتيش بمعرفة قاضي التحقيق (أن توجد قرائن على أنه – صاحب المنزل - حائز لأشياء تتعلق بالجريمة) وبالنسبة للشخص اشترطت م (94) (أن يتضح من إمارات قوية أنه يخفي أشياء تفيد في كشف الحقيقة), وبالنسبة لضبط المراسلات التليفونية أجازته م (95) (متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة) كما أن المادة (47) التي خولت لمأموري الضبط تفتيش مسكن المتهم في حالة التلبس اشترطت لذلك (أن يتضح له من إمارات قوية أنها – أي الأشياء والأوراق التي تفيد في كشف الحقيقة - موجودة فيه) تراجع تعليقاتنا على هذه المواد جميعًا في كتابنا (مجموعة الإجراءات الجنائية ص (42)، (65)، (66)، (67)).
[(14)] أما الحالة المنصوص عليها في المادة (48) الخاصة بتفتيش منازل الأشخاص الموضوعين تحت المراقبة فهي حالة استثنائية لا يجوز القياس عليها.
[(15)] ولذلك فإنه يجوز في جميع أحوال القبض أيًا كان نوع هذا القبض أو سببه أو الغرض منه، نقض (24) ديسمبر سنة 1945, مجموعة القواعد جـ 7 ص (32) رقم (42), حتى ولو لم يكن القبض من أعمال التحقيق بأن كان المقصود منه تنفيذ حكم جنائي مثلاً أو تنفيذ أمر بالحبس الاحتياطي.
[(16)] نقض (2) يونيه سنة 1941, مجموعة القواعد جـ 5 ص (537) رقم (273) ويراجع الحكم المشار إليه في الهامش السابق أيضًا.
[(17)] محكمة استئناف نيم في جازيت ديباليه 1927 - 1 - ص (194), حيث قررت (إن هذا الإجراء ليس من إجراءات التحقيق، بل هو مجرد إجراء بوليسي عام وضروري، يتخذ للصالح العام ولصالح المقبوض عليه نفسه) يراجع أيضًا (جازيت ديتريبينو 1927 – 4262).
[(18)] أما التفتيش العادي فهو التفتيش القانوني أو التفتيش التحقيقي fouille - mesure d’instruction.
[(19)] نقض 11 يونيه سنة 1945, بمجموعة القواعد القانونية جـ 6 ص (733) رقم (598) وقد استعملت محكمة النقض هذه العبارات نفسها في حكم بتاريخ 24 ديسمبر سنة 1945, بالمجموعة جـ 7 ص (32) رقم (42).
[(20)] لذلك نرى المادة (94) التي خولت لقاضي التحقيق حق تفتيش شخص المتهم وغير المتهم في جميع الأحوال قد نصت على أن هذا التفتيش (يراعي فيه حكم الفقرة الثانية من م (46)) فالإحالة هنا قاصرة على الفقرة الثانية وقد استبعد المشرع عمدًا الإحالة إلى الفقرة الأولى من م (46) التي تعطي لمأمور الضبط حق تفتيش الشخص في أحوال القبض عليه، مع أنه ليس من المعقول إن يحرم قاضي التحقيق من سلطة مخولة لمأموري الضبط إذا كانت سلطة تحقيق، ولكن هذا الاستبعاد مرده أن المشرع لا يعتبر هذه السلطة المخولة لمأموري الضبط سلطة تحقيق، بل هي سلطة بوليسية محضة، والتفتيش لا يكون إجراءً بوليسيًا بل هو سلطة تحقيق.
[(21)] يراجع حكم النقض في 16/ 10/ 1944, بمجموعة القواعد القانونية جـ 6 ص (516) رقم (375) وحكم 8 فبراير سنة 1937, بالمجموعة جـ 4 ص (41) رقم (43) وحكم 2 يونيه سنة 1941, بالمجموعة جـ 5 ص (536) رقم (273).
[(22)] نقض (2) مارس سنة 1936, بمجموعة القواعد جـ 3 ص (582) رقم (448).
[(23)] نقض (2) مارس سنة 1946, المشار إليه في الهامش السابق، ويلاحظ أن المخبر من رجال البوليس وليس من مأموري الضبط فليس له سلطة أكثر مما للفرد العادي.
[(24)] (جارو) جـ (3) رقم (910)، (911) ص (218) والعرابي باشا جـ (1) ص (310) رقم (616) والقللي بك ص (224).
[(25)] ومع ذلك فقد كانت المادة (53) من القانون المختلط تنص صراحةً على أن لمأموري الضبط حق تفتيش مسكن المتهم في أحوال القبض عليه.
[(26)] المراجع المشار إليها في الهامشين السالفين.
[(27)] ولذلك قال (جارو) إن التفتيش بالمعنى الحقيقي هو الذي يقصد به البحث عن الأدلة وجمعها) يراجع جـ (3) ص (219) رقم (912).
[(28)] نقض 2 يونيه سنة 1941, وقد نشر نصه كاملاً في مجموعة القواعد جـ (5) ص (537) رقم (273).
[(29)] الحكم المشار إليه في الهامش السابق.
[(30)] والقانون البلجيكي يفرق بين تفتيش جسم الشخص Exploration corporelle وهو وحده الذي يعتبر من إجراءات التحقيق، ولا بد له من أمر صادر من غرفة الاتهام، أما تفتيش ملابس الشخص فيخرج عن هذه القاعدة ويجوز لقاضي التحقيق ولمأموري الضبط باعتباره عملاً بوليسيًا في حدود الضرورة التي تستلزمه وهي نزع سلاح الشخص عند القبض عليه، تراجع (الباندكت البلجيكية) جـ (4) ص (65) رقم (16)، (17).
[(31)] وقد ورد صراحةً بالمذكرة الإيضاحية لمشروع قانون الإجراءات الجنائية أن هذه المادة (46/ 1) قد وضعت لإقرار المبدأ الذي أشارت به محكمة النقض والإبرام باستمرار), فتفسير هذا النص وفهم معناه يجب الرجوع فيه إلى أحكام النقض التي أشرنا إليها فيما سبق, ومذهب محكمة النقض المصرية يختلف تمامًا عما كان يقرره القانون المختلط في المادة (53) منه لأنه كان يصرح بأن تفتيش الأشخاص وتفتيش المساكن كلاهما جائز في أحوال القبض وكان يسوي صراحة بين التفتيش المقصود به القبض على الشخص والتفتيش المقصود به جمع الأدلة وهو ما لا تقره محكمة النقض المصرية، قارن العرابي باشا جـ (1) ص (274) رقم (534) الذي يسوي بين مذهب النقض وبين القانون المختلط وهو ما لا نوافق عليه.
السنة الثانية والثلاثون – إبريل 1952
سلطة مأموري الضبط القضائي
في تفتيش الشخص في غير حالة التلبس [(1)]
لحضرة الدكتور توفيق محمد الشاوى الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول
من المسلم به أن التفتيش من أخطر الإجراءات الجنائية، وأن المشرع قيده بقيود كثيرة تضمن عدم إساءة استعمال هذا الحق من ناحية، وتضمن صحة النتائج التي يسفر عنها من ناحية أخرى، وأهم هذه القيود ما يتعلق بالاختصاص.
فالأصل أن سلطة التحقيق العادية - أي قاضي التحقيق - هي وحدها صاحبة الاختصاص الكامل في إجراء التفتيش باعتباره عملاً من أعمال التحقيق لا يجوز الالتجاء إليه إلا من تحقيق مفتوح، طبقًا للمادة (91) إجراءات بالنسبة لتفتيش الأمكنة، والمادة (94) بالنسبة لتفتيش الأشخاص، سواء في ذلك أشخاص المتهمين أو منازلهم، وأشخاص غير المتهمين أو منازلهم.
أما النيابة العامة، فإنها طبقًا للمادة (199) في حالة قيامها بتحقيق الجنح، تتمتع مبدئيًا بجميع سلطات قاضي التحقيق فيما عدا بعض القيود التي نص عليها صراحةً، وأهم هذه القيود ما نصت عليه المادة (206) إجراءات من قصر حقها في التفتيش على المتهمين ومنازلهم، فلا يجوز لها تفتيش شخص غير المتهم ولا منزله، ولا ضبط الرسائل، إلا بناءً على إذن من قاضي التحقيق.
وفي أحوال الجنايات لا يكون للنيابة إلا سلطة مأموري الضبط القضائي في أحوال التلبس أو في جمع الاستدلالات، فما هي سلطة مأموري الضبط في تفتيش المساكن والأشخاص؟
موضوع البحث:
أما تفتيش المساكن فأمره واضح، إذ من المتفق عليه أن مأموري الضبط لا حق لهم في إجرائه إلا في حالة واحدة عامة هي حالة التلبس وبشرط أن يكون محله مسكن المتهم طبقًا لصريح المادة (47) إجراءات [(2)].
ولكن الموضوع يدق إذا أردنا تحديد سلطة مأموري الضبط في تفتيش الشخص، إذ يجب علينا أن نحدد ما إذا كانت هذه السلطة تخضع لنفس القاعدة التي يخضع لها تفتيش المساكن بمعرفة مأموري الضبط، أي أنها لا تكون لهم في غير حالة التلبس أم لا.
لا أظن أحدًا من شراح القانون المصري قد أجاب على هذا السؤال إجابةً صريحةً واضحةً، وإن كانت الحلول التي أخذوا بها تدل أنهم يجيبون عليه بالنفي، أي أن تفتيش الأشخاص غير تفتيش المساكن فهو جائز لمأموري الضبط القضائي في غير حالة التلبس، لأنهم مجمعون على أن تفتيش الشخص مرتبط بالقبض عليه، وبما أن القبض جائز لمأموري الضبط القضائي في غير حالة التلبس (م 34)، فإن منطقهم يفترض ويستوجب أن يكون تفتيش الشخص جائزًا كذلك [(3)].
التوسع في سلطة تفتيش الشخص بمعرفة مأموري الضبط:
فالرأي الذي يسير عليه أغلب شراح القانون المصري يجيز تفتيش الأشخاص لمأموري الضبط في جميع الأحوال التي يجوز لهم فيها القبض ولو لم تكن حالة تلبس [(4)].
ولما كان القبض جائزًا لهم في غير حالة التلبس في ثلاث حالات أخرى نصت عليها المادة (34) أولاً وثالثًا ورابعًا، فإن التفتيش الشخصي يكون جائزًا في هذه الأحوال الثلاثة التي لا يجوز فيها لمأموري الضبط تفتيش المسكن.
ولخطورة هذه النتيجة نذكر هنا هذه الأحوال الثلاثة طبقًا لعبارة المادة (34) وهي:
أولاً: في الجنايات.
ثانيًا:… حالة التلبس.
ثالثًا: إذا كانت الجريمة جنحة معاقبًا عليها بالحبس، وكان المتهم موضوعًا تحت مراقبة البوليس، أو كان قد صدر إليه إنذار باعتباره متشردًا أو مشتبهًا فيه [(5)]، أو لم يكن له محل إقامة ثابت ومعروف في مصر.
رابعًا: في جنح السرقة والنصب والتفاليس والتعدي الشديد ومقاومة رجال السلطة العامة بالقوة أو بالعنف والقيادة والاتجار بالنساء والأطفال وانتهاك حرمة الآداب، وفي الجنح المنصوص عليها في قانون تحريم زراعة المواد المخدرة أو الاتجار فيها أو حيازتها أو استعمالها.
رأينا:
أما نحن فلا نقر هذا التوسع في سلطة مأموري الضبط القضائي في تفتيش الشخص، ونرى أنه لا يجوز لهم في غير حالة التلبس مطلقًا، لأن التفتيش حق واحد وإجراء واحد، سواء كان واقعًا على منزل أو على شخص، فليس من المعقول إن يمنع المشرع مأمور الضبط من تفتيش المساكن في غير حالة التلبس ويجيز لهم تفتيش الأشخاص.
وإن نظرة واحدة إلى حالات القبض السالفة التي ذكرتها المادة (34) تؤيد وجهة نظرنا، فكيف نجيز لمأمور الضبط أن يفتش متهمًا بجريمة إحراز مواد مخدرة في غير حالة تلبس؟ إن القول بذلك معناه أن تصبح كل ضمانات التفتيش لغوًا، إذ الثابت أن أغلب إجراءات التفتيش - وخاصة ما كان منها باطلاً - إنما يقع في جرائم المخدرات، فإذا نحن قلنا مع أصحاب المذهب السابق إن مأمور الضبط له تفتيش كل شخص متهم بجريمة من جرائم المخدرات دون اشتراط وجود التلبس فمعنى ذلك أننا فتحنا باب التعسف على مصراعيه أمام رجال البوليس الذين لن يعدموا اتهامًا يوجهوه إلى من يريدون تفتيشه دون أن يكون في حالة تلبس.
يضاف إلى ذلك أن بعض الجرائم التي أجاز القانون فيها القبض في الأحوال يصعب تصور ضرورة التفتيش أو فائدته فيها، وذلك كجرائم انتهاك حرمة الآداب، أو بعض صور التعدي الشديد، فإن كان هناك ما يبرر إجازة القبض فيها استثناءً من القواعد العامة، فلا نرى وجهًا لإجازة التفتيش فيها دون غيرها من الجرائم في الأحوال العادية.
الحجج التي يعتمد عليها القائلون بالتوسع والرد عليها:
قلنا إن من تعرضوا لهذه المسألة لم يضعوا لها حلاً صريحًا واضحًا، وإذا كان الحل غير واضح فإن أدلته وحججه أقل وضوحًا وصراحة، مما يصعب مهمة الباحث، وإن كان يسهل مهمة الناقد المعارض، ونحن هنا بلا شك في مجال البحث العلمي المجرد، فعلينا أن نختار الطريق الصعب، طريق البحث والتمحيص الذي يوجب أن نتطوع باستخراج حجج هذا الرأي من بين عبارات عامة مرسلة لجأ إليها من أخذوا به.
ومن بين هذه الأقوال المرسلة ما يمكن استبعاده دون جهد أو تعب، لأنها أقوال استطرادية لم يعن قائلوها بالتدليل على صحتها بحجة قانونية أو منطقية، ومن أمثلتها القول بأن (القانون يفرق في مدى حمايته بين الأماكن والأشخاص، فينص على حماية أوفى للأماكن [(6)]، وكان يجدر بمن يضع مبدءًا عامًا كهذا أن يذكر لنا على سبيل المثال قاعدة واحدة من القواعد المنظمة للتفتيش تفرق بين تفتيش الأماكن والأشخاص وتعطي للمكان حماية أوفى من حماية الشخص بدلاً من إطلاق القول بدون دليل يؤيده, ومن ناحية أخرى، فكيف يقبل باحث قانوني هذا الافتراض مع أننا نعلم أن المشرع لا يحمي (الأماكن) كلها بل يقصر حمايته على (المساكن) لأنها هي وحدها مقر الأشخاص ومقامهم فهي إذن حماية للأشخاص أنفسهم بطريق غير مباشر، فكيف إذن يقرر القانون لحرمة الأشخاص حماية أوفى إذا كان الاعتداء غير مباشر.
وهناك قاعدة أخرى بنوها على مقدمة صحيحة ولكنهم يستنتجون منها نتائج لا تستلزمها، فهم يقولون إن (تفتيش الأشخاص اعتداءً على الحرية الشخصية ويجوز طالما كان التعرض للحرية الشخصية جائزًا) [(7)]، أما أن تفتيش الشخص اعتداءً على الحرية الشخصية فهذا مسلم به ولكن ليس معنى ذلك أنه معادل للقبض، أو أقل منه خطورة، فيجب أن نذكر أن أهمية التفتيش لا ترجع لكونه اعتداءً على الحرية كالقبض، بل إن ما يميز التفتيش عن القبض هو أنه إجراء منتج للأدلة، ولهذا كانت الشروط التي يقررها له المشرع لا يقصد بها فقط حماية حرية الفرد - كما هو الشأن بالنسبة للقبض - بل المقصود بها قبل كل شيء هو ضمان صحة الأدلة التي يسفر عنها وهو ما يستلزم شروطًا وضمانات تختلف عن شروط الإجراءات المقيدة للحرية فقط كالقبض، فإن القبض التعسفي إجراءً يزول أثره بالإفراج عن المقبوض عليه أو بتعويضه عن الضرر الذي أصابه، أما التفتيش التعسفي فإن انتهاءه أو التعويض عنه لا يغني من وقع عليه شيئًا، بل يبقى عنه نتيجة خطيرة هي الدليل الذي توصل إليه من أجراه والذي قد يؤدي إلى إدانة من وقع عليه, ويظهر مدى الفرق بين أهمية القبض وأهمية التفتيش من الوجهة النظرية والعملية من مجرد مراجعة القضايا لكي نجد أنه من النادر الدفع ببطلان القبض، لأن هذا البطلان لا أهمية له في مصير الدعوى أو إدانة المتهم، بخلاف التفتيش فإن حالات الدفع ببطلانه لا يمكن حصرها، بل إنه في الحالات النادرة التي يدفع فيها المتهم ببطلان القبض إنما يقصد من وراء ذلك إبطال تفتيش ناتج عنه.
وأخيرًا تطوع أحد الزملاء فوضع قاعدة حاسمة تريحنا من كل المشكلات - لو أنها كانت صحيحة - فهو يقول إن (قيود التفتيش لا تسري على الأشخاص… فالشخص ليس مسكنًا) [(8)]، فهل معنى ذلك أن تفتيش الأشخاص لا يتقيد بأي قيد من القيود التي تستلزمها طبيعة التفتيش كإجراء من إجراءات جمع الأدلة، فيجوز إجراؤه ولو لم يوجد تحقيق مفتوح، أو وجد تحقيق ولكنه لا فائدة له من التفتيش؟ كل هذا لسبب واحد هو أن الشخص ليس مسكنًا كأن هناك من يقول بأن الشخص مسكن؟ والحقيقة أننا لسنا في حاجة للقول بأن الشخص مسكن لاشتراط توفر ضمانات معينة في تفتيشه، لأن المسكن إذا تمتع بضمانات فالشخص أولى بها لأن حرمة الشخص كما قدمنا هي مصدر حرمة المسكن وأساسها [(9)].
فتفتيش الشخص وإن كان يستلزم القبض عليه إلا أنه إجراء أكثر من مجرد القبض، هو بحث عن الأدلة اللازمة لتحقيق جنائي قائم، فهو إجراء لجمع الأدلة يختلف في طبيعته اختلافًا بينًا عن القبض الذي هو مجرد إجراء من الإجراءات الاحتياطية [(10)] لمنع المتهم من الهرب، وعلى ذلك فإن شروط تفتيش الشخص وضماناته لا محل لمقارنتها بضمانات القبض، بل إنها يجب أن تقاس على شروط تفتيش المسكن وضماناته لأن كلاهما تفتيش على كل حال، ولا فرق بينهما إلا في نوع المحل الذي يجرى فيه.
وأهم حجة يمكن أن تسعف القائلين بالرأي الذي ننتقده هي القاعدة القائلة بأن التفتيش الشخصي تابع للقبض، وهم يستنتجون من ذلك أنه يجب أن يكون جائزًا في أحوال القبض، وهم في ذلك يغفلون حقيقة هذه القاعدة ومغزاها، ويأخذون بظاهر عباراتها، لأن التفتيش التابع للقبض طبقًا لهذه القاعدة الشهيرة ليس هو التفتيش بالمعنى القانوني المراد به جمع الأدلة، بل هو نوع خاص متميز من التفتيش يقصد به ضبط ما مع المتهم من سلاح خشية مقاومته أثناء تنفيذ القبض، ولذلك نسميه (التفتيش الوقائي).
وعلى ذلك فإن نص المادة 46/ 1 من قانون الإجراءات الجنائية الذي يقرر أنه (في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونًا على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه)، هذا النص لا يصلح دليلاً للقول بأن أحوال تفتيش الشخص هي حالات القبض لأن كل ما قصد منه هو إجازة (التفتيش الوقائي) المكمل للقبض على المتهم والذي يقصد به الاحتياط لمنع مقاومة المقبوض عليه.
فمفتاح المشكلة في نظرنا هو التفرقة بين (التفتيش القضائي) [(11)] وهو التفتيش بالمعنى القانوني، وبين (التفتيش الوقائي) [(12)] التابع للقبض وهو الذي قصدته المادة 46/ 1 والذي تقصده محكمة النقض المصرية عندما تقرر أن التفتيش يتبع القبض، هذه التفرقة لم يتعرض لها أحد ممن بحثوا هذه المسألة في مصر، وهو ما أدى إلى توسعهم في حالات تفتيش الشخص ذلك التوسع الذي لا نقره.
(التفتيش القضائي) و (التفتيش الوقائي) للشخص:
فنحن نرى أنه لا بد من التمييز بين نوعين من تفتيش الشخص: الأول، وهو الذي يجب أن يسمى وحده تفتيشًا بالمعنى القانوني المعروف في القانون الجنائي، أي الاطلاع والبحث عن الأدلة، وهو الذي يعتبر (من أعمال التحقيق التي لا يجوز الالتجاء إليها إلا في تحقيق مفتوح، طبقًا لنص المادة (91) إجراءات، ولا يمكن أن تجريه سلطة التحقيق إلا متى توفرت لديها قرائن قوية على أن في إجرائه فائدة في (الإثبات) [(13)]. وهذا التفتيش سواء وقع على المسكن أو على الشخص واحد في شروطه وحالاته، فلا يكون تفتيش الشخص جائزًا لمأموري الضبط إلا في الحالة التي أجيز لهم فيها تفتيش المسكن وهي حالة التلبس [(14)]، ولا يمكن القول بجوازه لهم في غير تلك الحالة.
أما النوع الثاني وهو الذي يكون تابعًا للقبض على الأشخاص، فهو الذي سميناه (تفتيشًا وقائيًا) وهو ليس من إجراءات التحقيق ولا يقصد به البحث عن أدلة، وإنما هو إجراء بوليسي محض مقصود به إمكان تنفيذ الأمر بالقبض [(15)]، وهو لذلك محدود بحدود هذه الغاية ولا يجوز أن يتعداها.
ماهية (التفتيش الوقائي) وحدوده:
أحسن تعريف لهذا الإجراء يمكن استخراجه من عبارات محكمة النقض المصرية نفسها بأنه هو (ما يستلزمه تنفيذ القبض من بحث في ملابس المتهم لتجريده مما يحتمل أن يكون معه من سلاح خشية أن يستعمله في المقاومة أو الاعتداء على نفسه أو على من يقبض عليه) [(16)].
فهو إذن يختلف عن التفتيش من حيث طبيعته القانونية إذ أنه ليس إلا إجراءً بوليسيًا احتياطيًا تنفيذيًا ولذلك سمته إحدى المحاكم الفرنسية [(17)] (التفتيش البوليسي (fouille - mésure de police [(18)].
وقد بينت محكمة النقض المصرية علة إجازة هذا الإجراء وغايته بقولها إن( التفتيش) في هذه الحالة يكون لازمًا، ضرورة أنه من وسائل التوقي والتحوط الواجب توفيرها أمانًا من شر المقبوض عليه إذا ما حدثته نفسه، ابتغاء استرجاع حريته، بالاعتداء بما قد يكون معه من سلاح على من قبض عليه) [(19)].
وينتج عن الطبيعة البوليسية لهذا الإجراء أنه مخول لمن يباشر القبض فعلاً لا لمن يتولى التحقيق [(20)], وقد طبقت محكمة النقض المصرية هذه القاعدة بإطراد فأجازت هذا الإجراء الوقائي للقائم بتنفيذ القبض حتى ولو لم يكن من مأموري الضبط القضائي كعسكري البوليس [(21)] أو المخبر [(22)]، أو الفرد العادي [(23)] وهو أمر ما كان يمكن التسليم به، لو اعتبرنا من إجراءات التحقيق كالتفتيش العادي.
وهذا الإجراء البوليسي ليس خاصًا بالأشخاص فقط، بل إنه يمتد إلى المنازل، فمن المتفق عليه أن القائم بتنفيذ أمر القبض على شخص معين يجوز له دخول منزل هذا الشخص للقبض عليه [(24)], فهذا الدخول انتهاك لحرمة المنزل أجيز لمأموري الضبط، وحتى لرجال البوليس العاديين طالما كانوا قائمين بتنفيذ أمر قبض صحيح، ولا يصح أن يستنتج من ذلك أن تفتيش المنازل يجوز في أحوال القبض [(25)]، رغم ما جرى عليه بعض الفقهاء على تسمية هذا الدخول ( تفتيشًا) [(26)]، فهذا على كل حال ليس التفتيش القانوني بل إجراء بوليس مكمل للقبض يشبه ما يتخذ قبل الشخص لتجريده من سلاحه حتى يتم القبض عليه [(27)].
أهمية التمييز بين التفتيش الوقائي والتفتيش القانوني:
قد يرد علينا بأن التفرقة التي نقول بها نظرية محضة تقتصر على تغيير في التسمية، ولكنا نجيب بأن لهذه التفرقة الدقيقة بين الإجراءين أهمية خطيرة في العمل من ناحيتين:
1 - فمن حيث غاية الإجراء، ما يجوز للقائم بالقبض من تفتيش للشخص يجب أن تكون غايته هي تجريده من سلاحه الذي يعتدي به على غيره أو على نفسه فقط (فإذا ثبت أن التفتيش لم يقصد به من الأصل إلا البحث عن مخدر (أي عن أدلة) – كما هو الحال في هذه الدعوى - فإنه يكون باطلاً ولا يصح التمسك به [(28)]) هذا هو ما قررته محكمة النقض المصرية التي عقبت على ذلك بوضع قاعدة عامة تجعل هذا الإجراء قاصرًا على هذه الغاية إذ قالت (ويكون الحكم المطعون فيه إذ أجاز إطلاقًا تفتيش كل مقبوض عليه ولو لم يقصد من التفتيش ضبط سلاح معه، يكون قد أخطأ [(29)]) فيجب إذن أن يكون القصد الحقيقي من الإجراء هو القبض على المتهم وأن يكون ما تم من بحث واطلاع ضروريًا لإتمام هذا القبض، أما إذا تبين أن الغرض الأصلي من الإجراء هو تفتيش المتهم للبحث عن جريمة أو عن دليل فهو باطل.
2 - ومن حيث مدى الإجراء، بديهي أن ما يجوز للباحث عن الأدلة من أعمال الفحص والاطلاع أوسع مما يجوز للباحث عن سلاح فقط، فإن رجل البوليس أو المخبر أو الفرد العادي الذي يقبض على متهم - قبضًا قانونيًا - إذا جاز له أن (يفتشه) فليس معنى ذلك أنه يجوز له كل ما يجوز في حالة التفتيش العادي، بل كل ما له هو البحث الظاهري في أيدي الشخص أو ملابسه أي المظان التي يحتمل أن يوجد بها سلاح، فلا يجوز له إذن في نظرنا الاطلاع على جسم الشخص وخاصة كل ما يتصل بعوراته وما يخدش كرامته [(30)]، ومن باب أولى ليس له أن يجري تحليل محتويات معدته مثلاً، كذلك إذا كان مع المقبوض عليه حقيبة أو محفظة بها أوراق أو نقود فليس من حق القابض عليه أن يطلع عليها وكل ما له هو ضبطها حتى يستأذن سلطة التحقيق في تفتيشها تفتيشًا قانونيًا.
المادة 46/ 1 قاصرة على (التفتيش الوقائي):
هذا الإجراء في الحدود التي بيناها هو وحده الذي أرادته المادة 46/ 1 بقولها (في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونًا على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه), فالمقصود هنا هو (أن يفتشه تفتيشًا وقائيًا لنزع سلاحه) فهو وحده (التفتيش) الذي يستلزمه القبض ويستتبعه طبقًا لأحكام محكمة النقض المصرية كما بيناه) [(31)].
أما التفتيش القانوني للشخص فلا شأن لهذا النص به، بل هو مسكوت عنه، متروك للقواعد العامة في الاختصاص والتحقيق، وهذا ليس بدعًا في التشريع – وإن كان نقصًا فيه - فقانون تحقيق الجنايات لم يكن به أي نص على تفتيش الشخص، وكذلك قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الحالي، ومع ذلك فمن المجمع عليه أن تفتيش الشخص تسري عليه جميع أحكام تفتيش المسكن من حيث شروطه وحالاته، فلا يجوز لمأموري الضبط إلا في حالة التلبس.
وتظهر أهمية هذه القاعدة إذا لاحظنا أهمية الأحوال التي يجوز فيها القبض في غير حالة التلبس، وهي الحالات التي يجب أن يكون التفتيش الشخصي جائزًا لمأموري الضبط فيها طبقًا للرأي الذي انتقدناه، ومن أمثلة هذه الحالات:
1 - جناية عادية، ليست في حالة تلبس، ولم تطلب النيابة من قاضي التحقيق أن يفتح فيها تحقيقًا، فليس لها ولا لمأموري الضبط إلا سلطة جمع الاستدلالات ولكن لمأموري الضبط - والنيابة باعتبارها منهم – أن يقبضوا على المتهم طبقًا للمادة (34) (أولاً).
ولكن هل يجوز تفتيش شخصه في تلك الحالة ؟ أما قاضي التحقيق فلا يملك إصدار أمر تفتيشه ولا تفتيش مسكنه لأنه لا يوجد تحقيق ولا يجوز الأمر بالتفتيش إلا في تحقيق مفتوح, وكذلك النيابة لا يجوز لها إجراء تحقيق في الجنايات، بل عليها في هذه الحالة أن تقدم القضية لقاضي التحقيق وتطلب منه أن يفتح فيها تحقيقًا وتترك الأمر له, ويجب أن تسري هذه القاعدة في رأينا على مأموري الضبط من باب أولى لأنه لا يجوز أن يعطيهم سلطة لا يملكها قاضي التحقيق نفسه.
أما الرأي الذي انتقدناه فإنه يجيز لمأمور الضبط أن يفتش المتهم بحجة أنه يجوز له أن يقبض عليه وأن التفتيش جائز في جميع أحوال القبض، دون تحديد لنوع هذا التفتيش وحدوده فإذا فرضنا أن الجريمة هي جناية ضرب أفضى إلى عاهة مستديمة، وأن ضابط البوليس رأى أن يقبض على المتهم لتقديمه للنيابة، فهم يقولون بأنه يجوز لهذا الضابط أن يفتشه تفتيشًا كاملاً، بما في ذلك بداهةً الاطلاع على جسمه للبحث عن آثار جروح أو ما شابهها مما يؤكد اشتراكه في المشاجرة، أو البحث في الأوراق التي يحملها لعل فيها ما يدل على وجوده في محل المشاجرة في التاريخ الذي وقعت فيه ونحن نرى أن كلا الفعلين غير جائز، فليس له الاطلاع على جسمه ولا على أوراقه وكل ما له عند القبض عليه أن يجرده من سلاحه إن وجد معه ما يخشى أن يستعمله في الاعتداء عليه أو إن كان هناك مظنة لمقاومة أو اعتداء فقط، أما إن أراد أن يفتش جسمه أو أوراقه فلا بد من أن يعرض الأمر على النيابة وعليها بدورها أن تطلب من قاضي التحقيق فتح تحقيق والأمر بالتفتيش إن كان له محل.
2 - جنحة مخدرات عادية ليست في حالة تلبس، قبض على بعض المتهمين فيها ورأى ضابط البوليس أن يقبض على شخص آخر باعتباره شريكًا لهم فله طبقًا للمادة (34) (رابعًا) حق القبض في هذه الحالة, ولكن هل له أن يفتش شخص المتهم وما معه من أمتعة أو حقائب بقصد البحث عن مخدرات فيها؟ يجيز ذلك الرأي الذي نعارضه, أما نحن فنرى أن هذا التفتيش المقصود به البحث عن دليل أو عن جسم الجريمة لا يجوز المأمور الضبط القضائي بل يجب عليه أن يرفع الأمر إلى الهيئة التي تتولى التحقيق فعلاً - أي قاضي التحقيق أو النيابة العامة على حسب الأحوال - لتأمر بما تراه, أما إذا فتش من تلقاء نفسه فإجراؤه باطل لأن الجريمة ليست في حالة تلبس.
الخلاصة:
من ذلك كله يتضح أننا لا نقر أي تفرقة بين تفتيش المسكن وتفتيش الشخص، فحالات تفتيش الشخص يجب أن تقاس على حالات تفتيش المسكن، ولم يكن هناك أي داعٍ لكي يفرق المشرع بينهما ولذلك فإن نص المادة 46/ 1 يفسر على ضوء هذه الفكرة الأساسية، وأن يحمل التفتيش الشخصي المقصود بها على التفتيش المكمل للقبض، وكون التفتيش مكملاً للقبض ليس مرجعه أنه مقيد للحرية الشخصية كالقبض، أو أن حرمة الشخص أقل أهمية من حرمة المسكن، لسبب واحد يسير هو أن تفتيش المسكن ذاته أو دخوله يكون مكملاً للقبض في بعض الأحيان ويصبح جائزًا هو الآخر كلما كان القبض جائزًا، وذلك إذا أريد القبض على شخص في مسكنه فللقائم بتنفيذ هذا الأمر أن يدخل المسكن ليبحث عنه، فالدخول هنا يمكن أن يسمى تفتيشًا ولكنه هو أيضًا من نوع خاص مكمل للقبض من طبيعة بوليسية، وهو في هذا يشبه التفتيش الوقائي من حيث طبيعته وحدوده مما يدل على أن القول بأن تفتيش الشخص تابع للقبض عليه لا يمكن أن تنصرف إلى التفتيش القانوني من ناحية ولا يمكن أن تكون قاصرة على تفتيش الأشخاص من ناحية أخرى.
[(1)] نص المحاضرة التي ألقيت بدار نقابة المحامين في يوم 3 إبريل سنة 1952.
[(2)] وقد نصت المادة (48) على حالة خاصة استثنائية إذ أجازت لمأموري الضبط ولو في غير حالة التلبس أن يفتشوا منازل الأشخاص الموضوعين تحت مراقبة البوليس إذا وجدت أوجه قوية تدعو للاستثناء في أنهم ارتكبوا جناية أو جنحة، ويفهم من هذا النص بمفهوم المخالفة أن تفتيش المساكن في غير حالة التلبس ممنوع على مأموري الضبط إذا لم يكن المتهم موضوعًا تحت مراقبة البوليس، ويراجع العرابي باشا جـ 1 ص (252) رقم (487).
[(3)] العرابي باشا جـ 1 ص (274) رقم (34)، والدكتور محمود مصطفى ص (167)، (194).
ويراجع تحت سلطان القانون القديم القللي بك طبعة سنة 1941 ص (191), والموسوعة الجنائية جـ (3) ص (549) رقم (70) وقد ورد فيه صراحةً (……… يضاف إلى ذلك أن التفتيش الشخصي عند القبض على المتهم أمر تستلزمه مصلحة التحقيق لمنع المقبوض عليه من إعدام جسم الجريمة أو من إخفائه، لذلك كله كان الإجماع منعقدًا على أن لرجال البوليس دائمًا حق تفتيش الأشخاص الذين يقبضون عليهم وفقًا للقانون….).
[(4)] و [(5)] المراجع المشار إليها في الهامش السابق، ويظهر أن حكم النقض الصادر في 3 يونيه سنة 1940, قد أخذ بهذا الرأي إذ قرر أنه (بمقتضى القانون رقم (24) لسنة 1923, إذا كان المتهم قد سبق إنذاره مشبوهًا، وكانت القرائن متوافرة على ارتكابه جريمة إحراز مخدر، فإن ذلك - بغض النظر عن قيام التلبس - يبرر القبض عليه وتفتيشه.. رغم أن المحكمة قررت بصراحة (إن هذه الواقعة لا يجوز فيها الضبط والتفتيش على أساس التلبس لأن المتهم لم يكن في حالة من حالاته)، مجموعة القواعد ج (5) ص (222) رقم (117) وهو حكم شاذ في نظرنا يخالف ما استقر عليه قضاء النقض كما سنبينه فيما بعد.
[(6)] شرح قانون الإجراءات الجنائية للدكتور محمود مصطفى ص (194).
[(7)] المرجع السابق ص (153) حيث يضيف (فتفتيش الشخص أقل خطورة من القبض عليه).
[(8)] المرجع السابق ص (153)، (194).
[(9)] والحقيقة أن الحماية هنا لا تقرر للمسكن للشخص لذاتهما، لأن القانون لا يحمي الأشياء وإنما يحمي الحقوق فقط، والحق الذي يحميه المشرع عندما يمنع انتهاك حرمة المسكن أو حرمة الشخص هو حق واحد له ذاتية خاصة نسميه (الحق في السر DROIT AU SECRET) أي حق الفرد في أن يمنع الغير عن الاطلاع على مظاهر حياته الخاصة، ومقر هذه المظاهر في الأصل هو جسم الشخص ومسكنه، تراجع رسالتنا في (النظرية العامة للتفتيش في القانون الجنائي المصري والفرنسي) طبعة جامعة فؤاد بالفرنسية سنة 1950ص (4) رقم(4) وما بعدها.
[(10)] والإجراءات الاحتياطية كالقبض والحبس الاحتياطي هي من إجراءات التحقيق من حيث الشكل فقط، أما من حيث غايتها فهي في الواقع كما قالت محكمة النقض المصرية في حكمها الصادر في 15 يونيه سنة 1915, وهي احتياطات متعلقة بالأمن وإدارية أكثر منها قضائية), المجموعة الرسمية السنة 31 س (207), وهذا هو ما يميزها عن إجراءات جمع الأدلة التي هي إجراءات قضائية لأن غايتها هي الأدلة أو الإثبات، والتفتيش القانوني يدخل في مجموعة الإجراءات القضائية المتعلقة بجمع الأدلة.
[(11)] أخذ بهذه التسمية (جارو) جـ 3 رقم (900) ص (204)، وموريزوتيبولت ص (447) و (لويس لامبير) في (البوليس القضائي) جـ (1) ص (351)، وبعض الفقهاء يفضل تسميته (التفتيش التحقيقي fouille - acte d’instruction).
[(12)] هذه تسمية استحدثناها، وهي غير موجودة في الفقه المصري، ولكنا أخذناها عن عبارات بعض أحكام النقض المصرية، مثل نقض 11 يونيه سنة 1945, حيث وصفت هذا التفتيش بأنه (من وسائل التوقي والتحوط الواجب توفيرها أمانًا من شر المقبوض عليه) مجموعة القواعد جـ (6) ص (733) رقم (598)، وهذا في نظرنا أفضل من تسمية التفتيش البوليسي التي أخذ بها القضاء الفرنسي في بعض أحكامه.
[(13)] لذلك اشترطت المادة 91/ 1 لإجراء التفتيش بمعرفة قاضي التحقيق (أن توجد قرائن على أنه – صاحب المنزل - حائز لأشياء تتعلق بالجريمة) وبالنسبة للشخص اشترطت م (94) (أن يتضح من إمارات قوية أنه يخفي أشياء تفيد في كشف الحقيقة), وبالنسبة لضبط المراسلات التليفونية أجازته م (95) (متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة) كما أن المادة (47) التي خولت لمأموري الضبط تفتيش مسكن المتهم في حالة التلبس اشترطت لذلك (أن يتضح له من إمارات قوية أنها – أي الأشياء والأوراق التي تفيد في كشف الحقيقة - موجودة فيه) تراجع تعليقاتنا على هذه المواد جميعًا في كتابنا (مجموعة الإجراءات الجنائية ص (42)، (65)، (66)، (67)).
[(14)] أما الحالة المنصوص عليها في المادة (48) الخاصة بتفتيش منازل الأشخاص الموضوعين تحت المراقبة فهي حالة استثنائية لا يجوز القياس عليها.
[(15)] ولذلك فإنه يجوز في جميع أحوال القبض أيًا كان نوع هذا القبض أو سببه أو الغرض منه، نقض (24) ديسمبر سنة 1945, مجموعة القواعد جـ 7 ص (32) رقم (42), حتى ولو لم يكن القبض من أعمال التحقيق بأن كان المقصود منه تنفيذ حكم جنائي مثلاً أو تنفيذ أمر بالحبس الاحتياطي.
[(16)] نقض (2) يونيه سنة 1941, مجموعة القواعد جـ 5 ص (537) رقم (273) ويراجع الحكم المشار إليه في الهامش السابق أيضًا.
[(17)] محكمة استئناف نيم في جازيت ديباليه 1927 - 1 - ص (194), حيث قررت (إن هذا الإجراء ليس من إجراءات التحقيق، بل هو مجرد إجراء بوليسي عام وضروري، يتخذ للصالح العام ولصالح المقبوض عليه نفسه) يراجع أيضًا (جازيت ديتريبينو 1927 – 4262).
[(18)] أما التفتيش العادي فهو التفتيش القانوني أو التفتيش التحقيقي fouille - mesure d’instruction.
[(19)] نقض 11 يونيه سنة 1945, بمجموعة القواعد القانونية جـ 6 ص (733) رقم (598) وقد استعملت محكمة النقض هذه العبارات نفسها في حكم بتاريخ 24 ديسمبر سنة 1945, بالمجموعة جـ 7 ص (32) رقم (42).
[(20)] لذلك نرى المادة (94) التي خولت لقاضي التحقيق حق تفتيش شخص المتهم وغير المتهم في جميع الأحوال قد نصت على أن هذا التفتيش (يراعي فيه حكم الفقرة الثانية من م (46)) فالإحالة هنا قاصرة على الفقرة الثانية وقد استبعد المشرع عمدًا الإحالة إلى الفقرة الأولى من م (46) التي تعطي لمأمور الضبط حق تفتيش الشخص في أحوال القبض عليه، مع أنه ليس من المعقول إن يحرم قاضي التحقيق من سلطة مخولة لمأموري الضبط إذا كانت سلطة تحقيق، ولكن هذا الاستبعاد مرده أن المشرع لا يعتبر هذه السلطة المخولة لمأموري الضبط سلطة تحقيق، بل هي سلطة بوليسية محضة، والتفتيش لا يكون إجراءً بوليسيًا بل هو سلطة تحقيق.
[(21)] يراجع حكم النقض في 16/ 10/ 1944, بمجموعة القواعد القانونية جـ 6 ص (516) رقم (375) وحكم 8 فبراير سنة 1937, بالمجموعة جـ 4 ص (41) رقم (43) وحكم 2 يونيه سنة 1941, بالمجموعة جـ 5 ص (536) رقم (273).
[(22)] نقض (2) مارس سنة 1936, بمجموعة القواعد جـ 3 ص (582) رقم (448).
[(23)] نقض (2) مارس سنة 1946, المشار إليه في الهامش السابق، ويلاحظ أن المخبر من رجال البوليس وليس من مأموري الضبط فليس له سلطة أكثر مما للفرد العادي.
[(24)] (جارو) جـ (3) رقم (910)، (911) ص (218) والعرابي باشا جـ (1) ص (310) رقم (616) والقللي بك ص (224).
[(25)] ومع ذلك فقد كانت المادة (53) من القانون المختلط تنص صراحةً على أن لمأموري الضبط حق تفتيش مسكن المتهم في أحوال القبض عليه.
[(26)] المراجع المشار إليها في الهامشين السالفين.
[(27)] ولذلك قال (جارو) إن التفتيش بالمعنى الحقيقي هو الذي يقصد به البحث عن الأدلة وجمعها) يراجع جـ (3) ص (219) رقم (912).
[(28)] نقض 2 يونيه سنة 1941, وقد نشر نصه كاملاً في مجموعة القواعد جـ (5) ص (537) رقم (273).
[(29)] الحكم المشار إليه في الهامش السابق.
[(30)] والقانون البلجيكي يفرق بين تفتيش جسم الشخص Exploration corporelle وهو وحده الذي يعتبر من إجراءات التحقيق، ولا بد له من أمر صادر من غرفة الاتهام، أما تفتيش ملابس الشخص فيخرج عن هذه القاعدة ويجوز لقاضي التحقيق ولمأموري الضبط باعتباره عملاً بوليسيًا في حدود الضرورة التي تستلزمه وهي نزع سلاح الشخص عند القبض عليه، تراجع (الباندكت البلجيكية) جـ (4) ص (65) رقم (16)، (17).
[(31)] وقد ورد صراحةً بالمذكرة الإيضاحية لمشروع قانون الإجراءات الجنائية أن هذه المادة (46/ 1) قد وضعت لإقرار المبدأ الذي أشارت به محكمة النقض والإبرام باستمرار), فتفسير هذا النص وفهم معناه يجب الرجوع فيه إلى أحكام النقض التي أشرنا إليها فيما سبق, ومذهب محكمة النقض المصرية يختلف تمامًا عما كان يقرره القانون المختلط في المادة (53) منه لأنه كان يصرح بأن تفتيش الأشخاص وتفتيش المساكن كلاهما جائز في أحوال القبض وكان يسوي صراحة بين التفتيش المقصود به القبض على الشخص والتفتيش المقصود به جمع الأدلة وهو ما لا تقره محكمة النقض المصرية، قارن العرابي باشا جـ (1) ص (274) رقم (534) الذي يسوي بين مذهب النقض وبين القانون المختلط وهو ما لا نوافق عليه.
حق النيابة في استئناف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات في ظل قانون الإجراءات الجنائية
مجلة المحاماة – العدد السابع
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث
حق النيابة في استئناف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات في ظل قانون الإجراءات الجنائية [(1)]
للأستاذ محمد عبد العزيز يوسف فهمي وكيل أول نيابة دمنهور الكلية
نصت المادة (402) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجوز للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات إذا طلبت الحكم بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وحكم ببراءة المتهم أو لم يحكم بما طلبته النيابة.
ولقد ثار الخلاف حول ما إذا كان مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على جريمة معينة يشمل طلب ما قضت به تلك المادة ولو كان ذلك على سبيل الخيار للمحكمة أم أنه يتعين على النيابة أن تطلب صراحةً من المحكمة الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو الحكم بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غير ذلك كالهدم وإعادة الشيء لأصله بحيث إذا لم تطلب ذلك وكان الحكم بأيهم على سبيل الخيار للمحكمة كان استئنافها غير جائز؟
تنص الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من تعليمات النيابة العامة الصادرة بشأن تنفيذ قانون الإجراءات (ص 46) على ما يأتي:
(تعتبر العقوبة مطلوبًا الحكم بها من النيابة في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا كان نص القانون المطلوب تطبيقه على الواقعة يقرر حدًا أقصى للغرامة يزيد على خمسة جنيهات).
ويبدو من الاطلاع على هذا النص أن النيابة العامة قد أخذت بالرأي القائل بأن مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على الجريمة يشمل طلب كل ما قضت به تلك المادة مع أن الرأي الراجح في الفقه والقضاء يرى عكس هذا الرأي إذ جاء في المذكرة الإيضاحية تعليقًا على المادة (402) إجراءات أن هذا النص يشبه في مجمله نظام الاستئناف الحالي الخاص بالمخالفات (المادة (153) من قانون تحقيق الجنايات المُلغى) إذ تنص تلك المادة على أن للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في مواد المخالفات إذا طلبت الحكم بعقوبة غير الغرامة والمصاريف وحكم ببراءة المتهم أو إذا لم يحكم بما طلبته النيابة.
والرأي الذي ساد في الفقه والقضاء أنه إذا كانت العقوبة المنصوص عليها هي الغرامة أو الحبس بطريق الخيار وطلبت النيابة تطبيق المادة المشتملة على هذه العقوبة فتعتبر أنها تركت الخيار للقاضي في توقيع أيهما فلا يجوز لها استئناف حكم البراءة بناءً على أن المادة التي طلبت العقاب بمقتضاها تشتمل على عقوبة الحبس أيضًا، إذ أنه ليس من المعول عليه في جواز استئنافها النظر في العقوبة المشتملة عليها المادة بل إن القانون صريح في أن المعول عليه هو طلبات النيابة وهي لم تصرح بطلب الحكم بعقوبة الحبس (مصر الابتدائية 6 يناير 1909 مج (10) وقنا الابتدائية في 29 يوليو سنة 1921).
وهذا الرأي يرجحه الفقه أيضًا فيرى زكي باشا العرابي في كتابه المبادئ الأساسية للتحقيقات والإجراءات الجنائية ج (2) ط, (940) ص (320) بند (529) أن استئناف النيابة أساسه الطلبات التي أبدتها فعلاً بالجلسة ولم تجبها إليها المحكمة.
كما يراه أيضًا القللي بك في كتابه أصول قانون تحقيق الجنايات طبعة ثانية مكررة (942) ص (470) وجندي بك عبد الملك في الموسوعة الجنائية ج (1) ص (552) بند (16) وما بعده).
وإذن ففي قضايا القتل الخطأ والشروع في السرقة والنصب والضرب والشروع في الرشوة وغيرها من الجرائم المماثلة إذا اكتفت النيابة بطلب تطبيق المادة المنطبقة على الجريمة ولم تصرح بطلب آخر وقضت المحكمة بالبراءة أو بالغرامة أو لم تقضِ بالعقوبات التكميلية أو بغير ذلك فإن استئنافها لا يجوز لأن الحكم بأيها على سبيل الخيار للمحكمة ولم تصرح النيابة بطلب عقوبة معينة.
أما إذا كان النص الذي طلبته النيابة يوجب الحكم بالحبس أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو بعقوبة تكميلية أخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله ولا يترك الخيار للمحكمة فإنا نرى أن مجرد طلب النيابة تطبيق المادة المنطبقة يعتبر طلبًا منها بتطبيق العقوبات الأصلية والتكميلية وغيرها التي يوجب القانون الحكم بها فإذا لم تقضِ المحكمة بما أوجبه القانون والذي يعتبر طلبًا من النيابة فإن استئنافها يجوز على التفصيل الآتي:
إذا طلبت النيابة الحكم بغير الغرامة والمصاريف أي بالحبس أو بالعقوبات التكميلية الأخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله فإن استئناف النيابة يكون جائزًا إطلاقًا حتى لو أجابت المحكمة النيابة إلى طلبها وقضت بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غيرها لأن إجابتها إلى ما طلبت لا تمنعها من استئناف الحكم لمصلحة المجتمع والعدالة (تراجع المادة 402/ 2) بخلاف ما إذا طلبت الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وأجابتها المحكمة إلى ما طلبت فإن استئنافها لا يجوز.
وهذا الرأي الراجح لا يتفق وتعليمات النيابة العامة إلا إذا استبدلت كلمة أدنى بكلمة أقصى في الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من التعليمات والمشار إليها بصدر هذا البحث لأن الفقرة بوضعها الحالي تفيد أن النيابة العامة أخذت بالرأي المرجوح مع أن الفقرة الثانية من المادة نفسها اعتبرت العقوبة مطلوبًا الحكم بها إذا كان القانون يوجب الحكم بالحبس أو المراقبة أو المصادرة أو الإغلاق أي أن الفقرة الثانية تفيد الأخذ بالرأي الراجح بعكس الأولى مع قيام التلازم بين الفقرتين لوحدة علة الحكم فيهما.
[(1)] أخذت محكمة دمنهور الابتدائية بهيئة استئنافية بوجهة نظر البحث والمراجع المشار إليها فيه وذلك في الحكم الصادر بتاريخ 15 يناير سنة 1952, في القضية رقم (1478) سنة 1951, ايتاي البارود (19 سنة 52 س).
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث
حق النيابة في استئناف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات في ظل قانون الإجراءات الجنائية [(1)]
للأستاذ محمد عبد العزيز يوسف فهمي وكيل أول نيابة دمنهور الكلية
نصت المادة (402) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجوز للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات إذا طلبت الحكم بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وحكم ببراءة المتهم أو لم يحكم بما طلبته النيابة.
ولقد ثار الخلاف حول ما إذا كان مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على جريمة معينة يشمل طلب ما قضت به تلك المادة ولو كان ذلك على سبيل الخيار للمحكمة أم أنه يتعين على النيابة أن تطلب صراحةً من المحكمة الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو الحكم بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غير ذلك كالهدم وإعادة الشيء لأصله بحيث إذا لم تطلب ذلك وكان الحكم بأيهم على سبيل الخيار للمحكمة كان استئنافها غير جائز؟
تنص الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من تعليمات النيابة العامة الصادرة بشأن تنفيذ قانون الإجراءات (ص 46) على ما يأتي:
(تعتبر العقوبة مطلوبًا الحكم بها من النيابة في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا كان نص القانون المطلوب تطبيقه على الواقعة يقرر حدًا أقصى للغرامة يزيد على خمسة جنيهات).
ويبدو من الاطلاع على هذا النص أن النيابة العامة قد أخذت بالرأي القائل بأن مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على الجريمة يشمل طلب كل ما قضت به تلك المادة مع أن الرأي الراجح في الفقه والقضاء يرى عكس هذا الرأي إذ جاء في المذكرة الإيضاحية تعليقًا على المادة (402) إجراءات أن هذا النص يشبه في مجمله نظام الاستئناف الحالي الخاص بالمخالفات (المادة (153) من قانون تحقيق الجنايات المُلغى) إذ تنص تلك المادة على أن للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في مواد المخالفات إذا طلبت الحكم بعقوبة غير الغرامة والمصاريف وحكم ببراءة المتهم أو إذا لم يحكم بما طلبته النيابة.
والرأي الذي ساد في الفقه والقضاء أنه إذا كانت العقوبة المنصوص عليها هي الغرامة أو الحبس بطريق الخيار وطلبت النيابة تطبيق المادة المشتملة على هذه العقوبة فتعتبر أنها تركت الخيار للقاضي في توقيع أيهما فلا يجوز لها استئناف حكم البراءة بناءً على أن المادة التي طلبت العقاب بمقتضاها تشتمل على عقوبة الحبس أيضًا، إذ أنه ليس من المعول عليه في جواز استئنافها النظر في العقوبة المشتملة عليها المادة بل إن القانون صريح في أن المعول عليه هو طلبات النيابة وهي لم تصرح بطلب الحكم بعقوبة الحبس (مصر الابتدائية 6 يناير 1909 مج (10) وقنا الابتدائية في 29 يوليو سنة 1921).
وهذا الرأي يرجحه الفقه أيضًا فيرى زكي باشا العرابي في كتابه المبادئ الأساسية للتحقيقات والإجراءات الجنائية ج (2) ط, (940) ص (320) بند (529) أن استئناف النيابة أساسه الطلبات التي أبدتها فعلاً بالجلسة ولم تجبها إليها المحكمة.
كما يراه أيضًا القللي بك في كتابه أصول قانون تحقيق الجنايات طبعة ثانية مكررة (942) ص (470) وجندي بك عبد الملك في الموسوعة الجنائية ج (1) ص (552) بند (16) وما بعده).
وإذن ففي قضايا القتل الخطأ والشروع في السرقة والنصب والضرب والشروع في الرشوة وغيرها من الجرائم المماثلة إذا اكتفت النيابة بطلب تطبيق المادة المنطبقة على الجريمة ولم تصرح بطلب آخر وقضت المحكمة بالبراءة أو بالغرامة أو لم تقضِ بالعقوبات التكميلية أو بغير ذلك فإن استئنافها لا يجوز لأن الحكم بأيها على سبيل الخيار للمحكمة ولم تصرح النيابة بطلب عقوبة معينة.
أما إذا كان النص الذي طلبته النيابة يوجب الحكم بالحبس أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو بعقوبة تكميلية أخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله ولا يترك الخيار للمحكمة فإنا نرى أن مجرد طلب النيابة تطبيق المادة المنطبقة يعتبر طلبًا منها بتطبيق العقوبات الأصلية والتكميلية وغيرها التي يوجب القانون الحكم بها فإذا لم تقضِ المحكمة بما أوجبه القانون والذي يعتبر طلبًا من النيابة فإن استئنافها يجوز على التفصيل الآتي:
إذا طلبت النيابة الحكم بغير الغرامة والمصاريف أي بالحبس أو بالعقوبات التكميلية الأخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله فإن استئناف النيابة يكون جائزًا إطلاقًا حتى لو أجابت المحكمة النيابة إلى طلبها وقضت بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غيرها لأن إجابتها إلى ما طلبت لا تمنعها من استئناف الحكم لمصلحة المجتمع والعدالة (تراجع المادة 402/ 2) بخلاف ما إذا طلبت الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وأجابتها المحكمة إلى ما طلبت فإن استئنافها لا يجوز.
وهذا الرأي الراجح لا يتفق وتعليمات النيابة العامة إلا إذا استبدلت كلمة أدنى بكلمة أقصى في الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من التعليمات والمشار إليها بصدر هذا البحث لأن الفقرة بوضعها الحالي تفيد أن النيابة العامة أخذت بالرأي المرجوح مع أن الفقرة الثانية من المادة نفسها اعتبرت العقوبة مطلوبًا الحكم بها إذا كان القانون يوجب الحكم بالحبس أو المراقبة أو المصادرة أو الإغلاق أي أن الفقرة الثانية تفيد الأخذ بالرأي الراجح بعكس الأولى مع قيام التلازم بين الفقرتين لوحدة علة الحكم فيهما.
[(1)] أخذت محكمة دمنهور الابتدائية بهيئة استئنافية بوجهة نظر البحث والمراجع المشار إليها فيه وذلك في الحكم الصادر بتاريخ 15 يناير سنة 1952, في القضية رقم (1478) سنة 1951, ايتاي البارود (19 سنة 52 س).
بحث تعاصر النية مع الفعل المادي
كتبهااحمد الجمل ، في 23 سبتمبر 2009 الساعة: 17:55 م
مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة العشرون سنة 1939
بحث تعاصر [(1)] النية مع الفعل المادي
De la concomitance de l’intention et du fait matériel.
تمهيد وعرض للمسألة:
الجريمة – في القانون الجنائي - عمدية وغير عمدية، مثل الأولى القتل عمدًا، ومثل الثانية القتل خطأ، ولا بد في هذه وتلك من عنصر أدبي شخصي هو في الحالة الأولى توجيه الإرادة والعمل أو الامتناع نحو إحداث النتيجة: القتل، وفي الحالة الثانية التزام موقف إيجابي أو سلبي وفق الأحوال يؤدي إلى حصول النتيجة المحرمة: القتل، بغير أن تكون مقصودة ابتداءً أو مقبولة قبولاً احتماليًا [(2)] والفصيلة الأولى، أي الجرائم العمدية، هي المقصودة في هذا البحث، فهي لا تقوم بغير وجود (النية) – نية القتل في مثالنا - ولا تقوم بغير وجود (الواقعة المادية) واقعة القتل في هذا المثال.
لا بد إذن من اجتماع هذين الركنين، هذه حقيقة بسيطة لا نزاع حولها، ولكن متى يجب أن يكون هذا الاجتماع؟ وما هي النسبة الزمنية المتبادلة بين كل من الركنين؟ هذه هي المسألة التي نحاول معالجتها الآن.
ولاحتفظ بمثال القتل عمدًا، ولا فرض أن زيدًا من الناس ينقم من بكر أمورًا وقد انتهى إلى عقد العزم والنية عقدًا نهائيًا على قتل غريمه بكر وحدد لذلك اليوم الأخير من شهر معين هو شهر يناير وحدث أن خرج زيد يقود سيارته في اليوم الأول من شهر يناير المذكور، وكان بكر يسير في طريق السيارة دون أن يفطن زيد إلى وجوده ووقع من زيد خطأ ترتب عليه موت أشخاص اتضح فيما بعد أن بكرًا واحد منهم، هنا وجدت نية القتل عند زيد، وحصل أيضًا منه إزهاق النفس الإنسانية التي كان انتوى ازهاقها، فهل نأخذه بجريمة القتل عمدًا؟ كلا الركنين موجود ولكنهما لم يتلبس أحدهما بالآخر، لم يوجدًا في وقت واحد.
الرأي الغالب:
أما الرأي الغالب فيحتم التعاصر بين الركنين ولا يقبل إدانة المتهم في الفرض السابق على أساس القتل عمدًا لأنه ارتكب القتل عندما حدث القتل خطأ لا عمدًا.
وهذا الرأي يستند إلى أساس نظري كما يعتمد على بعض النصوص القانونية: فإن النية الخبيثة وحدها لا عقاب عليها وما لم تقترن ببدء في التنفيذ على الأقل فصاحبها لا يمكن اعتباره مجرمًا بالمعنى القانوني بل أنه قد يصرح عن نيته الخبيثة بأعمال تحضيرية ولكنه إن وقف عند هذا المدى لا يعاقب لأنه لما يشرع في التنفيذ، وما دام الأمر كذلك فلا سبيل إلى محاسبة قائد السيارة على نية القتل التي طوى عليها جوانحه لأنها نية بغير تنفيذ ولا بدء في تنفيذ، فإن كان قد قتل غريمه فيما بعد غير منتو قتله في هذه الساعة لأنه غير عالم بوجوده وغير راغب في وقوع حادثة لا يعلم من يكون ضحيتها، فحسابه محدود بهذه الحادثة: إن ثبت عليه خطأ أخذ بالقتل خطأ وإلا فالأمر قضاء وقدر ولا تثريب عليه.
أما النصوص القانونية التي يعتمد عليها هذا الرأي الغالب فمنها - في قانون العقوبات المصري - المادة (62) (فقرة أولى) التي تعفي من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الفعل) فاقد الشعور أو الاختيار في عمله لجنون أو عاهة في العقل، فإذا كان المتهم قد انتوى ارتكاب الجريمة وهو عاقل ثم أصيب بالجنون وارتكب تلك الجريمة مجنونًا فلا عقاب عليه وذلك لأن النية لم تصاحب الفعل المادي.
وكذلك الفقرة الثانية من المادة المذكورة التي تعفى من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الجريمة) فاقدًا الوعي بسبب السكر الخ.
وتمت مواد كثيرة تشير إلى ركن النية مقرونًا بالركن المادي فالمواد (206) و (208) و (213) و(214) و(215) و(217) و(220) و(221) (باب التزوير) تستعمل عبارات مع علمه (بتقليدها أو بتزويرها) و (بقصد التزوير) الخ مضافة إلى الفعل المادي.
ولقد أراد المشرع المصري الخروج على هذه القاعدة العامة قاعدة التعاصر في مسألة واحدة بخصوصها فاضطر إلى سن تشريع خاص استحدث به جريمة جديدة هي جريمة العثور على شيء ضائع والاحتفاظ به، أما التشريع الذي جرمها به فهو دكريتو سنة 1899 الذي قال:
(كل من يعثر على شيء أو حيوان ضائع ولم يتيسر له رده إلى صاحبه في الحال يجب عليه أن يسلمه أو أن يبلغ عنه إلى أقرب نقطة للبوليس في المدن أو إلى العمد في القرى).
ويجب إجراء التسليم أو التبليغ في ظرف ثلاثة أيام في المدن وثمانية أيام في القرى ومن لم يفعل ذلك يعاقب بدفع غرامة يجوز إبلاغها إلى مائة قرش وبضياع حقه في المكافأة المنصوص عنها في المادة الثالثة.
فإذا كان حبس الشيء أو الحيوان مصحوبًا بنية امتلاكه بطريق الغش فتقام الدعوى الجنائية المقررة لمثل هذه الحالة ولا يبقى هنالك وجه للمحاكمة عن المخالفة.
هذا التشريع الخاص هو – طبقًا للرأي الغالب - دليل على أن الأصل تحتيم تعاصر النية والفعل المادي وإلا ما أحتاج المشرع إلى تشريع يصدره بخصوص مسألة بعينها ما دام الحكم الذي يريده ثابتًا ومستفادًا من المبادئ العامة.
أي أن أصحاب الرأي الغالب يستنتجون من هذا الدكر يتو بمفهوم العكس A Contrario ما يؤيد نظريتهم [(3)].
بل ذهب الأستاذ جرانمولان إلى أبعد من ذلك فقال أن هذا المبدأ العام - وهو وجوب تعاصر النية والركن المادي - ظل محترمًا حتى في هذا الدكريتو فمن يعثر على شيء ضائع ثم تطرأ عليه بعد هذا العثور نية الاحتفاظ به لنفسه لا يرتُكب جنحة السرقة ولا جنحة مشبهة بها لأن الدكريتو المذكور لم يرد الخروج على القاعدة العامة وإنما أحال عليها، وسيأتي تفصيل رأيه.
رأي القضاء الفرنسي:
وليس في التشريع الفرنسي نص خاص بالعثور على شيء والاحتفاظ به فماذا كان موقف القضاء الفرنسي من هاذ الفعل؟ كان موقفه مؤيدًا للرأي الغالب لأنه فرق بين حالتين: الأولى وجود نية الغش عند العثور على الشيء، والثانية طروء هذه النية بعد العثور عليه، وفي الأولى قضى بالعقاب، وفي الثانية قضى بالبراءة.
وقد لخص الأستاذ جرانمولان هذا الموقف بقوله في كتاب (قانون العقوبات المصري - الجزء الثاني - ص (425) - فقرة (1670)) ما يأتي:
La jurisprudence francaise distingue si l’intention frauduleuse existait au moment ou la chose a été trouveé ou si elle n’est survenue que postérieurement.
Elle admet qu’il y a vol si l’intention de s’approprier l’objet est née au moment de la prise de possession car la soustraction fraudu leuse résulte de l’enelèvement de la chose trouvée avec l’intention de se l’approprier.
Dans la seconde hypothèse où la chose a été ramassée sans intention d’appropriation et où cette intention n’est survenue qu’ultérieurement, il n’y a pas vol. La loi exige, en effet, la soustration frauduleuse c’est - à - dire que l’intention criminelle existe au moment où la chose est appréhendée tandisque, dans l’espèce, elle ne s’est formée qu’après coup.
وترجمة ما تقدم:
(يميز القضاء الفرنسي بين حالة وجود نية الغش في اللحظة التي عثر فيها على الشيء، وحالة عدم وجود هذه النية إلا بعد العثور عليه، ويقرر القضاء وجود جريمة سرقة إذا كانت نية تملك الشيء قد ولدت في لحظة الحيازة لأن الاختلاس ينتج من حمل الشيء المعثور عليه حملاً مصحوبًا بنية تملكه.
أما في الفرض الثاني حيث يكون الشيء قد حمل بغير نية تملكه وحيث تكون هذه النية قد وجدت فيما بعد، فلا سرقة، أن القانون يشترط - في الواقع – (الأخذ بنية الغش) ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
وقد أشار الأستاذ جرانمولان في حاشية ص (425) المذكورة إلى أحكام قضائية فرنسية منها حكم النقض في 25 إبريل سنة 1884 وحكم النقض في 11 أغسطس سنة 1879 وحكم النقض في 16 مايو سنة 1903.
رأي الأستاذ جرانمولان:
والتأمل في الفقرات التي اقتبسناها يظهر أن الأستاذ جرانمولان يوافق على رأي القضاء في فرنسا، وتمت عبارة نود أن يقف عندها لما لها من أهمية في خصوص قضيتنا تلك هي قول الأستاذ:
(إن القانون يشترط في الواقع، الأخذ بنية الغش (la soustraction frauduleuse ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
رأي الأستاذ بالنسبة للقانون المصري:
وقد انتقل الأستاذ جرانمولان إلى القانون المصري ثم قال بغير تردد أن الحلول التي تقررت في فرنسا يجب الأخذ بها في مصر حيث النصوص والمبادئ متفقة مع ما يقابلها في فرنسا:
Les solutions de la jurisprudence francaise semblent devoir être admises en droit egyptien où les textes et les principes sont les mêmes.
(المرجع السابق ص (426) فقرة (1671)).
دكريتو 1899:
ولقد وصل الأستاذ، في تمسكه بهذا المبدأ المجمع عليه، إلى حيث خالف رأي لجنة المراقبة القضائية وارتأى أن دكريتو سنة 1899 ليس من شأنه التأثير فيه أي أن العثور على شيء بغير وجود نية تملكه ثم طروء هذه النية فيما بعد لا يعاقب عليه في مصر لأن هذا الدكريتو لم يفعل أكثر من الإحالة على قانون العقوبات وهذا القانون لا يقبل مطلقًا، لا بروحه ومبادئه العامة ولا بنصوصه، أن يعاقب على فعل جنائي لم يقترن بنية جنائية وإنما ولدت بعده. وهاكم نص قول الأستاذ في هذا الصدد:
Mais, quoiqu’ il parle de rétention frauduleuse, sans exiger que la soustraction elle même ait ete frauduleuse, ce texte se borne à renvoyer au code pénal; il ne parait pas qu’il ait entendu innover hi decider qu’il y a vol même dans le cas où l’intention de s’approprier l’object he prend naissance qu’après la mainmise sur l’objet perdu.
(المرجع السابق ص (427) – تابع الفقرة (1671)).
وأنه ليسترعي انتباهنا قول الأستاذ في الفقرة المتقدمة (ومع أنه – أي الدكريتو - يتكلم عن الاحتفاظ بنية التملك بغير اشتراط أن الأخذ عند العثور نفسه كان بنية التملك، فإن هذا النص يقنع بالإحالة على قانون العقوبات، ولا يبدو أنه أراد التجديد أو أراد تقرير وجود السرقة حتى في حالة عدم تولد نية التملك إلا بعد وضع اليد على الشيء الضائع).
وقد سنحت لمحكمة النقض في مصر فرصة قريبة لمعالجة هذه النقطة الفرعية فقضت بغير ما ارتآه جرانمولان.
قالت محكمة النقض:
(يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور على الأشياء الضائعة أن يتوافر لدى العاثر على الشيء الضائع نية امتلاكه سيان في ذلك إن كانت هذه النية مقارنة للعثور على الشيء أو لاحقة عليه [(4)].
وقد جاء هذا ردًا على طعن للمتهم لخصته محكمة النقض بقولها، (وحيث أن أوجه الطعن تتلخص في أن الطاعن لم تكن عنده نية اختلاس الأشياء الضائعة وقت أن عثر عليها مع أن توفر تلك النية وقت العثور على الشيء ضروري لتطبيق قانون الأشياء الضائعة الخ).
وظاهر مما تقدم أن المتهم بنى أول وجه للطعن على تلك المسألة القانونية وتمسك فيها بالقول الذي قال به جرانمولان ولكن محكمة النقض رفضت قبوله [(5)]
رأي القلة:
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النقطة الأساسية فنقول أن الرأي القائل بوجوب التعاصر هو الرأي السائد ولكنه ليس الرأي المجمع عليه.
وقد تصدى لانتقاده الأستاذ البرت شيرون A. Cheron في دروس ألقاها على طلبة الدكتوراه وطلبة المعهد الجنائي بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وقال، بالقياس إلى الحجج النظرية، أنه لا ينازع في وجوب توفر صلة jointure بين النية والفعل المادي وأن هذه الصلة هي في الأغلب صلة في الزمان يتوفر بها التعاصر المذكور، ولكن ليس من المحتم أن تكون هذه الصلة دائمًا صلة زمنية وإنما المحتم أن توجد بين الأمرين رابطة منطقية فإن وجدت فلا مانع، من الوجهة الاجتماعية ولا الوجهة الخلقية، تمنع العقاب ويضرب لرأيه مثلاً، رجلاً انتوى سرقة حافظة نقود موجودة في معطف رجل آخر ولكنه لم يرتكب السرقة خوفًا من أن يراه ثم حدث بعد ذلك أن أراد الأول (ولنسمه (1)) أن يرتدي معطفه فأخطأه وارتدى معطف صاحب الحافظة (ولنسمه ب) فلما فطن إلى خطئه انتفع من هذا الخطأ واختلس حافظة النقود، ثم يضرب مثلاً ثانيًا رجلاً عثر على مال في الطريق فاتجه صوب الشرطة لتسليمه ولكنه غير في الطريق نيته واحتفظ به لنفسه، في هذين المثلين لا توجد الصلة الزمنية التي نسميها التعاصر ولكن توجد الصلة المنطقية وهي، في رأي الأستاذ شيرون، كافية للإدانة.
ويستند الأستاذ أيضًا إلى ما أثبته علم النفس من وجود العقل الباطن ففي المثلين المتقدمين توجد رابطة لا شعورية بين العثور البريء والاحتفاظ غير البريء والسكران الذي ارتكب فاقدًا وعيه جريمة كان انتوى ارتكابها في وعيه قد تأثر في جريمته بعزيمته السابقة التي اختزنها عقله الباطن ولو أنها في الظاهر لم تكن موجودة وقت مقارفة الجرم.
أما النصوص التي ارتكن إليها أصحاب الرأي الغالب فلا يراها الأستاذ شيرون قاطعة، ذلك أنهم تمسكوا بما جاء فيها من عبارات مثل (مع علمه بذلك) الخ ولكن كل هذه الـ Adverbes لا تفيد أكثر من اشتراط النية ولكنها لا تفيد وجوب تعاصر النية مع الفعل.
وأما المادة الـ (57) التي تشير إلى وقت ارتكاب الفعل فهي في رأي الأستاذ حجة قوية تدعم رأي من يخالفهم ولكنه يرى أن في تلك المادة عينها ما يعزز رأيه هو ذلك أنها لا تعفى من العقوبة إلا من تناول الخمر (بغير علمه أو بغير رضاه) ومعنى هذا أن من يتناول الخمر عالمًا بتناولها ليتشجع على ارتكاب جريمة انتوى ارتكابها حالة صحوه، لا ينجو من العقوبة رغم أن النية لن تكون معاصرة للفعل، وقد أردف الأستاذ هذا بقوله أنه يعلم أن المحاكم تبرئ في هذا الفرض على أساس انعدام النية [(6)]
ولكنه ينتقد هذا القضاء لأنه يخالف النص الصريح الذي يشترط أن يكون تناول الخمر بغير علمه أو بغير رضائه ثم لأنه يتنافى مع المصلحة الاجتماعية لأن السكر مع سبق الإصرار لا يجوز اعتباره سببًا من أسباب عدم العقوبة في حين تعتبره المادة (92) من القانون الإيطالي ظرفًا مشددًا.
أما دكريتو مايو سنة 1898 فإن الأستاذ يتساءل لماذا لا نعتبره تقريرًا للقاعدة بدل أن نعتبره خروجًا على القاعدة، فهو يفسره على أساس مفهوم الموافقة في حين أن أصحاب الرأي السابق أخذوا بمفهوم المخالفة.
ونلاحظ نحن فوق ما تقدم أن من الممكن أن يقال - من وجهة نظر الأستاذ شيرون - أن المشرع الصمري في الدكريتو المذكور قصر همه على استحداث جريمة جديدة هي إهمال تسليم الشيء المعثور عليه في حين أن نية اختلاسه لم توجد مطلقًا لا عند العثور ولا بعد العثور وقد جعل هذه الجريمة المستحدثة مجرد مخالفة، ثم خشي أن يفهم من هذا خطأ رغبته في تخفيف واقعة أخذ الشيء أو الحيوان بنية - الاحتفاظ به أي اختلاسه يجعلها مخالفة وهي في الأصل جنحة فعمد إلى هذا التنبيه في الفقرة الأخيرة، فالجريمة المستحدثة إذن بهذا الدكريتو ليست هي العثور على شيء ثم طروء نية اختلاسه بعد العثور عليه لأن هذه الواقعة ليست في حاجة إلى تشريع خاص يجعلها جنحة، وإنما الجريمة المستحدثة بالدكريتو هي أخذ الشيء الضائع وإهمال تسليمه للسلطة المنصوص عليها في المادة المعين دون أن يقترن هذا الإهمال بنية اختلاسه.
ثم نلاحظ ثانيًا أن أصحاب هذا الرأي غير السائد كانوا يستطيعون أن يجدوا في موقف الأستاذ جرانمولان ثغرة ذلك أنه ارتأى إدانة من تناول المسكر أو المخدر عمدًا تشجعًا على ارتكاب جريمة ثم ارتكبها فاقد الوعي، فإن هذا الرأي يفهم من الأستاذ شيرون ولكنه يتسق بسهولة مع ما ذهب إليه الأستاذ جرانمولان في تفسير دكريتو 1898.
ثم نلاحظ ثالثًا أن فريقي الباحثين - في استهدائهم بالنصوص - لم يتكلموا عن النصوص الفرنسية والمصرية - الخاصة بحالة الاشتراك اللاحق للجريمة فقد (كان القانون الفرنسي، فوق معاقبة من يعتاد على إيواء المجرمين الذين يقطعون الطرق ويفسدون أمن الدولة باعتباره شريكًا لهم، تقضي بأن من يخفي أشياء مسلوبة أو مختلسة أو مأخوذة بطريق ارتكاب جناية أو جنحة مع علمه بذلك، يعامل معاملة الشريك ي هذه الجناية أو الجنحة (م 51 – 62)، وكان القانون المصري السابق على سنة 1904 يحتوي على أحكام مطابقة لهذه الأحكام الفرنسية ويجعل من إخفاء الأشياء المحصلة من طريق الجناية أو الجنحة اشتراكًا فيها بعد ارتكابها (م 68 – 69).
غير أن هذا النص الخاص بحالة الاشتراك بإخفاء الأشياء كان موضعًا لانتقاد الفقهاء في فرنسا لأنه يترتب عليه تحميل المخفي مسؤولية جريمة وقعت على غير علم منه، دون أن يتفق سلفًا على ارتكابها ودون أن يساهم فيها، ولأنه لا يتصور من الوجهة القانونية البحتة أن يشترك شخص في الجريمة بعد إتمام تنفيذها، لأن الاشتراك يتضمن اتفاقًا سابقًا على الجريمة وقصد التعاون على إحداثها، مع أن المخفي يعاقب كشريك ولو لم يتوفر عنده شيء من ذلك، فإن لم يكن بد من عقابه فلا يحاسب كأنه شريك في الجريمة التي وقعت بل على فعله كجريمة مستقلة، فلما عدل القانون المصري في سنة 1904 كان لهذه المطاعن أثرها عند المشرع فألغى الحكمين السابقين، وهما الاشتراك بالاعتياد على إيواء كبار المجرمين والاشتراك بإخفاء الأشياء المحصلة من طريق جناية أو جنحة، وبذلك قضى على حالة الاشتراك اللاحق للجريمة، وجعل من إخفاء الأشياء جريمة قائمة بذاتها، ولكنها مقصورة على ما جاء من طريق السرقة دون الجرائم الأخرى، (م 322 ع)، وكذلك فعل المشرع الفرنسي بقانون أصدره في 22 مايو سنة 1915 فألغى الاشتراك بإخفاء الأشياء، مع إبقائه النص الخاص بالاعتياد على إيواء المجرمين، واعتبر إخفاء الأشياء جريمة خاصة ولكنه جعلها عامة على الأشياء المحصلة بطريق أي جناية أو جنحة (م – 46 ع. ف) [(7)].
إذن فالقانون الفرنسي والمصري كانا، قبل تعديلهما، يعرفان حالة الاشتراك اللاحق في جريمة فيعتبران شريكًا فيها من لم تكن عنده نية الاشتراك قبل أو وقت ارتكابها ولكن النية الإجرامية ولنسميها تجوزًا نية الاشتراك - وجدت لاحقة على الفعل، ولكن القانونين لم يأخذا بهذا الاشتراك للاحق إلا في جرائم معينة، أفلا يمكن إذن أن نستنتج من هذا، بمفهوم العكس، أن القاعدة هو وجوب توفر نية الاشتراك مصاحبة للجريمة المشترك فيها؟ ثم أن القانونين عدلا من أحكامهما لاستثنائية المشار إليها تحت ضغط الانتقاد الفقهي الذي أومأنا إليه؛ ألا نرى أن هذا الانتقاد يصدر عن عين الأساس الذي يصدر عنه الرأي الغالب في أمر تعاصر النية مع الفعل المادي؟ وهذه الحلول الوضعية التي انتهى إليها القانونان في شأن إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة (أية جناية أو جنحة) في فرنسا وجريمة السرقة فقط في مصر) ألا تدل على أن المشرع عندما أراد تجريم هذا الفعل احتاج إلى نص خاص إذ لم تسعفه المبادئ العامة التي تحتم تعاصر النية والفعل المادي؟
هذا كله من وجهة نظر الرأي الغالب، فهل يستطيع الرأي الآخر أن يجد في هذه المسألة استنادًا له؟ لست أرى هذا إلا أن يفسرها على أساس مفهوم الموافقة Par analogie كما فعل عندما قابل دكريتو سنة 1898 الذي أسلفنا العرض له.
ختام
نرى من العرض المتقدم أن محكمة النقض عندنا لم تفصل في المسألة الرئيسية التي عالجناها ولكنها أتيح لها الفصل في نقطة فرعية حين قضت بأن الواقعة المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو واقعة معاقب عليها أي أن التعاصر غير مطلوب فيها ولو أنها أسست هذا العقاب على القواعد العامة لكان قضاؤها هذا فصلاً في المسألة الرئيسية، ولكن الظاهر أنها قضت بالعقوبة تطبيقًا للدكريتو أي لهذا النص الخاص الذي رأينا كيف تناقض الرأيان في تفسير دلالته بالقياس إلى مسألة التعاصر بوجه عام.
والواقع أن هذا الدكريتو مفتقر إلى تعديل في الصياغة وأن قوله (الجريمة الواردة في القانون) هو تعمية لا ندري مسوغًا لوجودها فهي أشبه بلغة الساسة منها بلغة المشرعين.
وقد آن الوقت أيضًا لكي يتساءل الباحثون هل ينصحون للمشرع بتحديد موقفه من هذه المسألة الكلية مسألة تعاصر النية تحديدًا واحدًا وواضحًا بالقياس أي جميع الجرائم العمدية.
عبده حسن الزيات
المحامي
[(1)] المجلة: لم نقرأ في المعجمات كلمة تعاصر ولا معاصرة بهذا المعنى والأفضل أن يقال ملابسة النية للفعل المادي أو اقترانها به ونوجه النظر إلى أن الهوامش الآتية هي للأستاذ صاحب المقال.
[(2)] هذا عرض إجمالي كان يفتقر إلى مزيد من الدقة والبيان لو أن المقصود في هذا المقال تحديد الركن الأدبي وعناصره والنية الاحتمالية الخ:
ولكنا نرى – مع ذلك – أن نشير إلى المذهب الذي قال بأن المسؤولية الجنائية قد توجد في بعض الجرائم بغير وجود هذا العنصر الشخصي أي بغير وجود عمد وبغير وجود خطأ فهذه.
مسؤولية مادية موضوعية objective صيغة على غرار المسؤولية المادية المشهورة بالمسؤولية الشيئية في القانون المدني Respon. Réelle ومن القائلين بهذا الرأي برنس وقد شيده على أساس من بعض مواد قانون العقوبات أو اللوائح الأخرى التي تعاقب على أمور بغير اشتراط عمد أو خطأ من المتهم: مثل العثور في حقيبة المسافر على أشياء تستوجب رسومًا جمركية ولكن المسافر لم يقرر وجودها.
ولكن هذه النظرية قد قوبلت بالإنكار من مؤلفين كثيرين منهم جارو وجارسون وجرانمولان وشيرون فعندهم أن المسؤولية الجنائية لا تقوم بغير هذا العنصر الأدبي الشخصي فإذا ثبت - في المثل المتقدم - أن الأشياء دست على حقيبة المسافر بغير علمه نجا من المسؤولية الجنائية.
وقد أعود إلى هذه النقطة ببحث أوسع في عدد قادم.
[(3)] لم يفرد أحد لهذه المسألة، مسألة المعاصرة فصلاً خاصًا غير الأستاذ البرت شيرون في دروسه التي ألقاها على طلبة المعهد الجنائي وطلبة دبلوم القانون العام بقسم الدكتوراه بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول - فإذا قلنا الرأي الغالب وأصحابه فإنما نستند إلى أنهم لم يخرجوا على هذا الرأي تسليمًا به، كما نستند إلى أنهم عند الكلام على بعض الجرائم العمدية في القسم الخاص يشيرون إلى قاعدة التعاصر ويشترطونه (مثلاً الأستاذ أحمد بك أمين عند كلامه عن السرقة) ص (643) - والأستاذ زكي العرابي في كتابه عن القسم العام من قانون العقوبات ص (103) عند كلامه عن السكر كسبب لعدم المسؤولية فهو يقول تعليقًا على المادة (57) (أن السكر متى كان تامًا يترتب عليه فقد الشعور ولا يصح معاقبة الجاني في جرائم العمد إلا إذا وجد القصد الجنائي وقت ارتكاب الجريمة).
[(4)] 7 فبراير 1938 – الطعن رقم 589 سنة 8 ق - المحاماة (س 18 - ع 9 - ص 814).
[(5)] وبالتمعن في عبارات محكمة النقض نرى أنها قالت (يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور الخ) – فهل نفهم من هذا أنها تعتبر تلك الواقعة، من جهة التكييف القانوني، سرقة أو أنها تراها جنحة أخرى ليست بسرقة ولكن تطبق عليها مواد السرقة؟ هنا نواجه هذه النقطة الفرعية، نقطة التكييف القانوني للجريمة المذكورة في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو، فإن لجنة المراقبة القضائية قد اعتبرتها مشابهة للسرقة assimilé ولكن الأستاذ شيرون يقول أنه لا داعي لهذه التسوية assimilation لأن الواقعة في رأيه واقعة سرعة النية فيها غير متعاصرة مع الفعل المادي، وهذا نص قوله:
(Suivant mon opinion, il n’y a pas besoin d’assimilation; c’est un vol où l’intention n’est pas concomitante au fait matériel.
أما الأستاذ جرانمولان فهو يرى كما تقدم أن المشرع المصري لم يقصد اعتبار الواقعة سرقة ولا جنحة أخرى، وقد أشار إلى أن بعض القوانين الأجنبية جعلت الواقعة المذكورة جنحة ولكنها لم تجعلها في مرتبة السرقة ثم علق على ذلك بقوله أن هذه الواقعة تستحق العقاب ولكن بأخف من عقاب السرقة لأن السارق يدبر الجريمة أما من يعثر على شيء ثم تطرأ عليه نية الاحتفاظ به لنفسه فالمصادفة هي التي هيأت له الجريمة فهو أقل من السارق خطورة.
[(6)] هذا نص قول الأستاذ:
je sais bien que les tribunaux acquittent dans ce cas , pour défaut p’intcntion. Mais cette jurisprudence me paraît trés contestable.
ويبدو لي أن في قول الأستاذ أن المحاكم تبرئ في هذه الحالة كثيرًا من التعميم لأن بعض الأحكام حكمت بالإدانة وقررت أنه (يشترط لتطبيق المادة (57) من قانون العقوبات أن تكون الغيبوبة التي يستند إليها المتهم لطلب الحكم بأنه غير مسؤول جنائيًا ناشئة عن عقاقير مخدرة أخذها المتهم قهرًا عنه أو على غير علم منه بها) (النقض في 3 - 3 - 1924 - المحاماة (س 5 ص 1).
[(7)] الأستاذ علي بدوي - الأحكام العامة في القانون الجنائي - الجزء الأول ص (322) و (323) وحاشيتيها.
كتبهااحمد الجمل ، في 23 سبتمبر 2009 الساعة: 17:55 م
مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة العشرون سنة 1939
بحث تعاصر [(1)] النية مع الفعل المادي
De la concomitance de l’intention et du fait matériel.
تمهيد وعرض للمسألة:
الجريمة – في القانون الجنائي - عمدية وغير عمدية، مثل الأولى القتل عمدًا، ومثل الثانية القتل خطأ، ولا بد في هذه وتلك من عنصر أدبي شخصي هو في الحالة الأولى توجيه الإرادة والعمل أو الامتناع نحو إحداث النتيجة: القتل، وفي الحالة الثانية التزام موقف إيجابي أو سلبي وفق الأحوال يؤدي إلى حصول النتيجة المحرمة: القتل، بغير أن تكون مقصودة ابتداءً أو مقبولة قبولاً احتماليًا [(2)] والفصيلة الأولى، أي الجرائم العمدية، هي المقصودة في هذا البحث، فهي لا تقوم بغير وجود (النية) – نية القتل في مثالنا - ولا تقوم بغير وجود (الواقعة المادية) واقعة القتل في هذا المثال.
لا بد إذن من اجتماع هذين الركنين، هذه حقيقة بسيطة لا نزاع حولها، ولكن متى يجب أن يكون هذا الاجتماع؟ وما هي النسبة الزمنية المتبادلة بين كل من الركنين؟ هذه هي المسألة التي نحاول معالجتها الآن.
ولاحتفظ بمثال القتل عمدًا، ولا فرض أن زيدًا من الناس ينقم من بكر أمورًا وقد انتهى إلى عقد العزم والنية عقدًا نهائيًا على قتل غريمه بكر وحدد لذلك اليوم الأخير من شهر معين هو شهر يناير وحدث أن خرج زيد يقود سيارته في اليوم الأول من شهر يناير المذكور، وكان بكر يسير في طريق السيارة دون أن يفطن زيد إلى وجوده ووقع من زيد خطأ ترتب عليه موت أشخاص اتضح فيما بعد أن بكرًا واحد منهم، هنا وجدت نية القتل عند زيد، وحصل أيضًا منه إزهاق النفس الإنسانية التي كان انتوى ازهاقها، فهل نأخذه بجريمة القتل عمدًا؟ كلا الركنين موجود ولكنهما لم يتلبس أحدهما بالآخر، لم يوجدًا في وقت واحد.
الرأي الغالب:
أما الرأي الغالب فيحتم التعاصر بين الركنين ولا يقبل إدانة المتهم في الفرض السابق على أساس القتل عمدًا لأنه ارتكب القتل عندما حدث القتل خطأ لا عمدًا.
وهذا الرأي يستند إلى أساس نظري كما يعتمد على بعض النصوص القانونية: فإن النية الخبيثة وحدها لا عقاب عليها وما لم تقترن ببدء في التنفيذ على الأقل فصاحبها لا يمكن اعتباره مجرمًا بالمعنى القانوني بل أنه قد يصرح عن نيته الخبيثة بأعمال تحضيرية ولكنه إن وقف عند هذا المدى لا يعاقب لأنه لما يشرع في التنفيذ، وما دام الأمر كذلك فلا سبيل إلى محاسبة قائد السيارة على نية القتل التي طوى عليها جوانحه لأنها نية بغير تنفيذ ولا بدء في تنفيذ، فإن كان قد قتل غريمه فيما بعد غير منتو قتله في هذه الساعة لأنه غير عالم بوجوده وغير راغب في وقوع حادثة لا يعلم من يكون ضحيتها، فحسابه محدود بهذه الحادثة: إن ثبت عليه خطأ أخذ بالقتل خطأ وإلا فالأمر قضاء وقدر ولا تثريب عليه.
أما النصوص القانونية التي يعتمد عليها هذا الرأي الغالب فمنها - في قانون العقوبات المصري - المادة (62) (فقرة أولى) التي تعفي من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الفعل) فاقد الشعور أو الاختيار في عمله لجنون أو عاهة في العقل، فإذا كان المتهم قد انتوى ارتكاب الجريمة وهو عاقل ثم أصيب بالجنون وارتكب تلك الجريمة مجنونًا فلا عقاب عليه وذلك لأن النية لم تصاحب الفعل المادي.
وكذلك الفقرة الثانية من المادة المذكورة التي تعفى من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الجريمة) فاقدًا الوعي بسبب السكر الخ.
وتمت مواد كثيرة تشير إلى ركن النية مقرونًا بالركن المادي فالمواد (206) و (208) و (213) و(214) و(215) و(217) و(220) و(221) (باب التزوير) تستعمل عبارات مع علمه (بتقليدها أو بتزويرها) و (بقصد التزوير) الخ مضافة إلى الفعل المادي.
ولقد أراد المشرع المصري الخروج على هذه القاعدة العامة قاعدة التعاصر في مسألة واحدة بخصوصها فاضطر إلى سن تشريع خاص استحدث به جريمة جديدة هي جريمة العثور على شيء ضائع والاحتفاظ به، أما التشريع الذي جرمها به فهو دكريتو سنة 1899 الذي قال:
(كل من يعثر على شيء أو حيوان ضائع ولم يتيسر له رده إلى صاحبه في الحال يجب عليه أن يسلمه أو أن يبلغ عنه إلى أقرب نقطة للبوليس في المدن أو إلى العمد في القرى).
ويجب إجراء التسليم أو التبليغ في ظرف ثلاثة أيام في المدن وثمانية أيام في القرى ومن لم يفعل ذلك يعاقب بدفع غرامة يجوز إبلاغها إلى مائة قرش وبضياع حقه في المكافأة المنصوص عنها في المادة الثالثة.
فإذا كان حبس الشيء أو الحيوان مصحوبًا بنية امتلاكه بطريق الغش فتقام الدعوى الجنائية المقررة لمثل هذه الحالة ولا يبقى هنالك وجه للمحاكمة عن المخالفة.
هذا التشريع الخاص هو – طبقًا للرأي الغالب - دليل على أن الأصل تحتيم تعاصر النية والفعل المادي وإلا ما أحتاج المشرع إلى تشريع يصدره بخصوص مسألة بعينها ما دام الحكم الذي يريده ثابتًا ومستفادًا من المبادئ العامة.
أي أن أصحاب الرأي الغالب يستنتجون من هذا الدكر يتو بمفهوم العكس A Contrario ما يؤيد نظريتهم [(3)].
بل ذهب الأستاذ جرانمولان إلى أبعد من ذلك فقال أن هذا المبدأ العام - وهو وجوب تعاصر النية والركن المادي - ظل محترمًا حتى في هذا الدكريتو فمن يعثر على شيء ضائع ثم تطرأ عليه بعد هذا العثور نية الاحتفاظ به لنفسه لا يرتُكب جنحة السرقة ولا جنحة مشبهة بها لأن الدكريتو المذكور لم يرد الخروج على القاعدة العامة وإنما أحال عليها، وسيأتي تفصيل رأيه.
رأي القضاء الفرنسي:
وليس في التشريع الفرنسي نص خاص بالعثور على شيء والاحتفاظ به فماذا كان موقف القضاء الفرنسي من هاذ الفعل؟ كان موقفه مؤيدًا للرأي الغالب لأنه فرق بين حالتين: الأولى وجود نية الغش عند العثور على الشيء، والثانية طروء هذه النية بعد العثور عليه، وفي الأولى قضى بالعقاب، وفي الثانية قضى بالبراءة.
وقد لخص الأستاذ جرانمولان هذا الموقف بقوله في كتاب (قانون العقوبات المصري - الجزء الثاني - ص (425) - فقرة (1670)) ما يأتي:
La jurisprudence francaise distingue si l’intention frauduleuse existait au moment ou la chose a été trouveé ou si elle n’est survenue que postérieurement.
Elle admet qu’il y a vol si l’intention de s’approprier l’objet est née au moment de la prise de possession car la soustraction fraudu leuse résulte de l’enelèvement de la chose trouvée avec l’intention de se l’approprier.
Dans la seconde hypothèse où la chose a été ramassée sans intention d’appropriation et où cette intention n’est survenue qu’ultérieurement, il n’y a pas vol. La loi exige, en effet, la soustration frauduleuse c’est - à - dire que l’intention criminelle existe au moment où la chose est appréhendée tandisque, dans l’espèce, elle ne s’est formée qu’après coup.
وترجمة ما تقدم:
(يميز القضاء الفرنسي بين حالة وجود نية الغش في اللحظة التي عثر فيها على الشيء، وحالة عدم وجود هذه النية إلا بعد العثور عليه، ويقرر القضاء وجود جريمة سرقة إذا كانت نية تملك الشيء قد ولدت في لحظة الحيازة لأن الاختلاس ينتج من حمل الشيء المعثور عليه حملاً مصحوبًا بنية تملكه.
أما في الفرض الثاني حيث يكون الشيء قد حمل بغير نية تملكه وحيث تكون هذه النية قد وجدت فيما بعد، فلا سرقة، أن القانون يشترط - في الواقع – (الأخذ بنية الغش) ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
وقد أشار الأستاذ جرانمولان في حاشية ص (425) المذكورة إلى أحكام قضائية فرنسية منها حكم النقض في 25 إبريل سنة 1884 وحكم النقض في 11 أغسطس سنة 1879 وحكم النقض في 16 مايو سنة 1903.
رأي الأستاذ جرانمولان:
والتأمل في الفقرات التي اقتبسناها يظهر أن الأستاذ جرانمولان يوافق على رأي القضاء في فرنسا، وتمت عبارة نود أن يقف عندها لما لها من أهمية في خصوص قضيتنا تلك هي قول الأستاذ:
(إن القانون يشترط في الواقع، الأخذ بنية الغش (la soustraction frauduleuse ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
رأي الأستاذ بالنسبة للقانون المصري:
وقد انتقل الأستاذ جرانمولان إلى القانون المصري ثم قال بغير تردد أن الحلول التي تقررت في فرنسا يجب الأخذ بها في مصر حيث النصوص والمبادئ متفقة مع ما يقابلها في فرنسا:
Les solutions de la jurisprudence francaise semblent devoir être admises en droit egyptien où les textes et les principes sont les mêmes.
(المرجع السابق ص (426) فقرة (1671)).
دكريتو 1899:
ولقد وصل الأستاذ، في تمسكه بهذا المبدأ المجمع عليه، إلى حيث خالف رأي لجنة المراقبة القضائية وارتأى أن دكريتو سنة 1899 ليس من شأنه التأثير فيه أي أن العثور على شيء بغير وجود نية تملكه ثم طروء هذه النية فيما بعد لا يعاقب عليه في مصر لأن هذا الدكريتو لم يفعل أكثر من الإحالة على قانون العقوبات وهذا القانون لا يقبل مطلقًا، لا بروحه ومبادئه العامة ولا بنصوصه، أن يعاقب على فعل جنائي لم يقترن بنية جنائية وإنما ولدت بعده. وهاكم نص قول الأستاذ في هذا الصدد:
Mais, quoiqu’ il parle de rétention frauduleuse, sans exiger que la soustraction elle même ait ete frauduleuse, ce texte se borne à renvoyer au code pénal; il ne parait pas qu’il ait entendu innover hi decider qu’il y a vol même dans le cas où l’intention de s’approprier l’object he prend naissance qu’après la mainmise sur l’objet perdu.
(المرجع السابق ص (427) – تابع الفقرة (1671)).
وأنه ليسترعي انتباهنا قول الأستاذ في الفقرة المتقدمة (ومع أنه – أي الدكريتو - يتكلم عن الاحتفاظ بنية التملك بغير اشتراط أن الأخذ عند العثور نفسه كان بنية التملك، فإن هذا النص يقنع بالإحالة على قانون العقوبات، ولا يبدو أنه أراد التجديد أو أراد تقرير وجود السرقة حتى في حالة عدم تولد نية التملك إلا بعد وضع اليد على الشيء الضائع).
وقد سنحت لمحكمة النقض في مصر فرصة قريبة لمعالجة هذه النقطة الفرعية فقضت بغير ما ارتآه جرانمولان.
قالت محكمة النقض:
(يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور على الأشياء الضائعة أن يتوافر لدى العاثر على الشيء الضائع نية امتلاكه سيان في ذلك إن كانت هذه النية مقارنة للعثور على الشيء أو لاحقة عليه [(4)].
وقد جاء هذا ردًا على طعن للمتهم لخصته محكمة النقض بقولها، (وحيث أن أوجه الطعن تتلخص في أن الطاعن لم تكن عنده نية اختلاس الأشياء الضائعة وقت أن عثر عليها مع أن توفر تلك النية وقت العثور على الشيء ضروري لتطبيق قانون الأشياء الضائعة الخ).
وظاهر مما تقدم أن المتهم بنى أول وجه للطعن على تلك المسألة القانونية وتمسك فيها بالقول الذي قال به جرانمولان ولكن محكمة النقض رفضت قبوله [(5)]
رأي القلة:
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النقطة الأساسية فنقول أن الرأي القائل بوجوب التعاصر هو الرأي السائد ولكنه ليس الرأي المجمع عليه.
وقد تصدى لانتقاده الأستاذ البرت شيرون A. Cheron في دروس ألقاها على طلبة الدكتوراه وطلبة المعهد الجنائي بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وقال، بالقياس إلى الحجج النظرية، أنه لا ينازع في وجوب توفر صلة jointure بين النية والفعل المادي وأن هذه الصلة هي في الأغلب صلة في الزمان يتوفر بها التعاصر المذكور، ولكن ليس من المحتم أن تكون هذه الصلة دائمًا صلة زمنية وإنما المحتم أن توجد بين الأمرين رابطة منطقية فإن وجدت فلا مانع، من الوجهة الاجتماعية ولا الوجهة الخلقية، تمنع العقاب ويضرب لرأيه مثلاً، رجلاً انتوى سرقة حافظة نقود موجودة في معطف رجل آخر ولكنه لم يرتكب السرقة خوفًا من أن يراه ثم حدث بعد ذلك أن أراد الأول (ولنسمه (1)) أن يرتدي معطفه فأخطأه وارتدى معطف صاحب الحافظة (ولنسمه ب) فلما فطن إلى خطئه انتفع من هذا الخطأ واختلس حافظة النقود، ثم يضرب مثلاً ثانيًا رجلاً عثر على مال في الطريق فاتجه صوب الشرطة لتسليمه ولكنه غير في الطريق نيته واحتفظ به لنفسه، في هذين المثلين لا توجد الصلة الزمنية التي نسميها التعاصر ولكن توجد الصلة المنطقية وهي، في رأي الأستاذ شيرون، كافية للإدانة.
ويستند الأستاذ أيضًا إلى ما أثبته علم النفس من وجود العقل الباطن ففي المثلين المتقدمين توجد رابطة لا شعورية بين العثور البريء والاحتفاظ غير البريء والسكران الذي ارتكب فاقدًا وعيه جريمة كان انتوى ارتكابها في وعيه قد تأثر في جريمته بعزيمته السابقة التي اختزنها عقله الباطن ولو أنها في الظاهر لم تكن موجودة وقت مقارفة الجرم.
أما النصوص التي ارتكن إليها أصحاب الرأي الغالب فلا يراها الأستاذ شيرون قاطعة، ذلك أنهم تمسكوا بما جاء فيها من عبارات مثل (مع علمه بذلك) الخ ولكن كل هذه الـ Adverbes لا تفيد أكثر من اشتراط النية ولكنها لا تفيد وجوب تعاصر النية مع الفعل.
وأما المادة الـ (57) التي تشير إلى وقت ارتكاب الفعل فهي في رأي الأستاذ حجة قوية تدعم رأي من يخالفهم ولكنه يرى أن في تلك المادة عينها ما يعزز رأيه هو ذلك أنها لا تعفى من العقوبة إلا من تناول الخمر (بغير علمه أو بغير رضاه) ومعنى هذا أن من يتناول الخمر عالمًا بتناولها ليتشجع على ارتكاب جريمة انتوى ارتكابها حالة صحوه، لا ينجو من العقوبة رغم أن النية لن تكون معاصرة للفعل، وقد أردف الأستاذ هذا بقوله أنه يعلم أن المحاكم تبرئ في هذا الفرض على أساس انعدام النية [(6)]
ولكنه ينتقد هذا القضاء لأنه يخالف النص الصريح الذي يشترط أن يكون تناول الخمر بغير علمه أو بغير رضائه ثم لأنه يتنافى مع المصلحة الاجتماعية لأن السكر مع سبق الإصرار لا يجوز اعتباره سببًا من أسباب عدم العقوبة في حين تعتبره المادة (92) من القانون الإيطالي ظرفًا مشددًا.
أما دكريتو مايو سنة 1898 فإن الأستاذ يتساءل لماذا لا نعتبره تقريرًا للقاعدة بدل أن نعتبره خروجًا على القاعدة، فهو يفسره على أساس مفهوم الموافقة في حين أن أصحاب الرأي السابق أخذوا بمفهوم المخالفة.
ونلاحظ نحن فوق ما تقدم أن من الممكن أن يقال - من وجهة نظر الأستاذ شيرون - أن المشرع الصمري في الدكريتو المذكور قصر همه على استحداث جريمة جديدة هي إهمال تسليم الشيء المعثور عليه في حين أن نية اختلاسه لم توجد مطلقًا لا عند العثور ولا بعد العثور وقد جعل هذه الجريمة المستحدثة مجرد مخالفة، ثم خشي أن يفهم من هذا خطأ رغبته في تخفيف واقعة أخذ الشيء أو الحيوان بنية - الاحتفاظ به أي اختلاسه يجعلها مخالفة وهي في الأصل جنحة فعمد إلى هذا التنبيه في الفقرة الأخيرة، فالجريمة المستحدثة إذن بهذا الدكريتو ليست هي العثور على شيء ثم طروء نية اختلاسه بعد العثور عليه لأن هذه الواقعة ليست في حاجة إلى تشريع خاص يجعلها جنحة، وإنما الجريمة المستحدثة بالدكريتو هي أخذ الشيء الضائع وإهمال تسليمه للسلطة المنصوص عليها في المادة المعين دون أن يقترن هذا الإهمال بنية اختلاسه.
ثم نلاحظ ثانيًا أن أصحاب هذا الرأي غير السائد كانوا يستطيعون أن يجدوا في موقف الأستاذ جرانمولان ثغرة ذلك أنه ارتأى إدانة من تناول المسكر أو المخدر عمدًا تشجعًا على ارتكاب جريمة ثم ارتكبها فاقد الوعي، فإن هذا الرأي يفهم من الأستاذ شيرون ولكنه يتسق بسهولة مع ما ذهب إليه الأستاذ جرانمولان في تفسير دكريتو 1898.
ثم نلاحظ ثالثًا أن فريقي الباحثين - في استهدائهم بالنصوص - لم يتكلموا عن النصوص الفرنسية والمصرية - الخاصة بحالة الاشتراك اللاحق للجريمة فقد (كان القانون الفرنسي، فوق معاقبة من يعتاد على إيواء المجرمين الذين يقطعون الطرق ويفسدون أمن الدولة باعتباره شريكًا لهم، تقضي بأن من يخفي أشياء مسلوبة أو مختلسة أو مأخوذة بطريق ارتكاب جناية أو جنحة مع علمه بذلك، يعامل معاملة الشريك ي هذه الجناية أو الجنحة (م 51 – 62)، وكان القانون المصري السابق على سنة 1904 يحتوي على أحكام مطابقة لهذه الأحكام الفرنسية ويجعل من إخفاء الأشياء المحصلة من طريق الجناية أو الجنحة اشتراكًا فيها بعد ارتكابها (م 68 – 69).
غير أن هذا النص الخاص بحالة الاشتراك بإخفاء الأشياء كان موضعًا لانتقاد الفقهاء في فرنسا لأنه يترتب عليه تحميل المخفي مسؤولية جريمة وقعت على غير علم منه، دون أن يتفق سلفًا على ارتكابها ودون أن يساهم فيها، ولأنه لا يتصور من الوجهة القانونية البحتة أن يشترك شخص في الجريمة بعد إتمام تنفيذها، لأن الاشتراك يتضمن اتفاقًا سابقًا على الجريمة وقصد التعاون على إحداثها، مع أن المخفي يعاقب كشريك ولو لم يتوفر عنده شيء من ذلك، فإن لم يكن بد من عقابه فلا يحاسب كأنه شريك في الجريمة التي وقعت بل على فعله كجريمة مستقلة، فلما عدل القانون المصري في سنة 1904 كان لهذه المطاعن أثرها عند المشرع فألغى الحكمين السابقين، وهما الاشتراك بالاعتياد على إيواء كبار المجرمين والاشتراك بإخفاء الأشياء المحصلة من طريق جناية أو جنحة، وبذلك قضى على حالة الاشتراك اللاحق للجريمة، وجعل من إخفاء الأشياء جريمة قائمة بذاتها، ولكنها مقصورة على ما جاء من طريق السرقة دون الجرائم الأخرى، (م 322 ع)، وكذلك فعل المشرع الفرنسي بقانون أصدره في 22 مايو سنة 1915 فألغى الاشتراك بإخفاء الأشياء، مع إبقائه النص الخاص بالاعتياد على إيواء المجرمين، واعتبر إخفاء الأشياء جريمة خاصة ولكنه جعلها عامة على الأشياء المحصلة بطريق أي جناية أو جنحة (م – 46 ع. ف) [(7)].
إذن فالقانون الفرنسي والمصري كانا، قبل تعديلهما، يعرفان حالة الاشتراك اللاحق في جريمة فيعتبران شريكًا فيها من لم تكن عنده نية الاشتراك قبل أو وقت ارتكابها ولكن النية الإجرامية ولنسميها تجوزًا نية الاشتراك - وجدت لاحقة على الفعل، ولكن القانونين لم يأخذا بهذا الاشتراك للاحق إلا في جرائم معينة، أفلا يمكن إذن أن نستنتج من هذا، بمفهوم العكس، أن القاعدة هو وجوب توفر نية الاشتراك مصاحبة للجريمة المشترك فيها؟ ثم أن القانونين عدلا من أحكامهما لاستثنائية المشار إليها تحت ضغط الانتقاد الفقهي الذي أومأنا إليه؛ ألا نرى أن هذا الانتقاد يصدر عن عين الأساس الذي يصدر عنه الرأي الغالب في أمر تعاصر النية مع الفعل المادي؟ وهذه الحلول الوضعية التي انتهى إليها القانونان في شأن إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة (أية جناية أو جنحة) في فرنسا وجريمة السرقة فقط في مصر) ألا تدل على أن المشرع عندما أراد تجريم هذا الفعل احتاج إلى نص خاص إذ لم تسعفه المبادئ العامة التي تحتم تعاصر النية والفعل المادي؟
هذا كله من وجهة نظر الرأي الغالب، فهل يستطيع الرأي الآخر أن يجد في هذه المسألة استنادًا له؟ لست أرى هذا إلا أن يفسرها على أساس مفهوم الموافقة Par analogie كما فعل عندما قابل دكريتو سنة 1898 الذي أسلفنا العرض له.
ختام
نرى من العرض المتقدم أن محكمة النقض عندنا لم تفصل في المسألة الرئيسية التي عالجناها ولكنها أتيح لها الفصل في نقطة فرعية حين قضت بأن الواقعة المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو واقعة معاقب عليها أي أن التعاصر غير مطلوب فيها ولو أنها أسست هذا العقاب على القواعد العامة لكان قضاؤها هذا فصلاً في المسألة الرئيسية، ولكن الظاهر أنها قضت بالعقوبة تطبيقًا للدكريتو أي لهذا النص الخاص الذي رأينا كيف تناقض الرأيان في تفسير دلالته بالقياس إلى مسألة التعاصر بوجه عام.
والواقع أن هذا الدكريتو مفتقر إلى تعديل في الصياغة وأن قوله (الجريمة الواردة في القانون) هو تعمية لا ندري مسوغًا لوجودها فهي أشبه بلغة الساسة منها بلغة المشرعين.
وقد آن الوقت أيضًا لكي يتساءل الباحثون هل ينصحون للمشرع بتحديد موقفه من هذه المسألة الكلية مسألة تعاصر النية تحديدًا واحدًا وواضحًا بالقياس أي جميع الجرائم العمدية.
عبده حسن الزيات
المحامي
[(1)] المجلة: لم نقرأ في المعجمات كلمة تعاصر ولا معاصرة بهذا المعنى والأفضل أن يقال ملابسة النية للفعل المادي أو اقترانها به ونوجه النظر إلى أن الهوامش الآتية هي للأستاذ صاحب المقال.
[(2)] هذا عرض إجمالي كان يفتقر إلى مزيد من الدقة والبيان لو أن المقصود في هذا المقال تحديد الركن الأدبي وعناصره والنية الاحتمالية الخ:
ولكنا نرى – مع ذلك – أن نشير إلى المذهب الذي قال بأن المسؤولية الجنائية قد توجد في بعض الجرائم بغير وجود هذا العنصر الشخصي أي بغير وجود عمد وبغير وجود خطأ فهذه.
مسؤولية مادية موضوعية objective صيغة على غرار المسؤولية المادية المشهورة بالمسؤولية الشيئية في القانون المدني Respon. Réelle ومن القائلين بهذا الرأي برنس وقد شيده على أساس من بعض مواد قانون العقوبات أو اللوائح الأخرى التي تعاقب على أمور بغير اشتراط عمد أو خطأ من المتهم: مثل العثور في حقيبة المسافر على أشياء تستوجب رسومًا جمركية ولكن المسافر لم يقرر وجودها.
ولكن هذه النظرية قد قوبلت بالإنكار من مؤلفين كثيرين منهم جارو وجارسون وجرانمولان وشيرون فعندهم أن المسؤولية الجنائية لا تقوم بغير هذا العنصر الأدبي الشخصي فإذا ثبت - في المثل المتقدم - أن الأشياء دست على حقيبة المسافر بغير علمه نجا من المسؤولية الجنائية.
وقد أعود إلى هذه النقطة ببحث أوسع في عدد قادم.
[(3)] لم يفرد أحد لهذه المسألة، مسألة المعاصرة فصلاً خاصًا غير الأستاذ البرت شيرون في دروسه التي ألقاها على طلبة المعهد الجنائي وطلبة دبلوم القانون العام بقسم الدكتوراه بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول - فإذا قلنا الرأي الغالب وأصحابه فإنما نستند إلى أنهم لم يخرجوا على هذا الرأي تسليمًا به، كما نستند إلى أنهم عند الكلام على بعض الجرائم العمدية في القسم الخاص يشيرون إلى قاعدة التعاصر ويشترطونه (مثلاً الأستاذ أحمد بك أمين عند كلامه عن السرقة) ص (643) - والأستاذ زكي العرابي في كتابه عن القسم العام من قانون العقوبات ص (103) عند كلامه عن السكر كسبب لعدم المسؤولية فهو يقول تعليقًا على المادة (57) (أن السكر متى كان تامًا يترتب عليه فقد الشعور ولا يصح معاقبة الجاني في جرائم العمد إلا إذا وجد القصد الجنائي وقت ارتكاب الجريمة).
[(4)] 7 فبراير 1938 – الطعن رقم 589 سنة 8 ق - المحاماة (س 18 - ع 9 - ص 814).
[(5)] وبالتمعن في عبارات محكمة النقض نرى أنها قالت (يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور الخ) – فهل نفهم من هذا أنها تعتبر تلك الواقعة، من جهة التكييف القانوني، سرقة أو أنها تراها جنحة أخرى ليست بسرقة ولكن تطبق عليها مواد السرقة؟ هنا نواجه هذه النقطة الفرعية، نقطة التكييف القانوني للجريمة المذكورة في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو، فإن لجنة المراقبة القضائية قد اعتبرتها مشابهة للسرقة assimilé ولكن الأستاذ شيرون يقول أنه لا داعي لهذه التسوية assimilation لأن الواقعة في رأيه واقعة سرعة النية فيها غير متعاصرة مع الفعل المادي، وهذا نص قوله:
(Suivant mon opinion, il n’y a pas besoin d’assimilation; c’est un vol où l’intention n’est pas concomitante au fait matériel.
أما الأستاذ جرانمولان فهو يرى كما تقدم أن المشرع المصري لم يقصد اعتبار الواقعة سرقة ولا جنحة أخرى، وقد أشار إلى أن بعض القوانين الأجنبية جعلت الواقعة المذكورة جنحة ولكنها لم تجعلها في مرتبة السرقة ثم علق على ذلك بقوله أن هذه الواقعة تستحق العقاب ولكن بأخف من عقاب السرقة لأن السارق يدبر الجريمة أما من يعثر على شيء ثم تطرأ عليه نية الاحتفاظ به لنفسه فالمصادفة هي التي هيأت له الجريمة فهو أقل من السارق خطورة.
[(6)] هذا نص قول الأستاذ:
je sais bien que les tribunaux acquittent dans ce cas , pour défaut p’intcntion. Mais cette jurisprudence me paraît trés contestable.
ويبدو لي أن في قول الأستاذ أن المحاكم تبرئ في هذه الحالة كثيرًا من التعميم لأن بعض الأحكام حكمت بالإدانة وقررت أنه (يشترط لتطبيق المادة (57) من قانون العقوبات أن تكون الغيبوبة التي يستند إليها المتهم لطلب الحكم بأنه غير مسؤول جنائيًا ناشئة عن عقاقير مخدرة أخذها المتهم قهرًا عنه أو على غير علم منه بها) (النقض في 3 - 3 - 1924 - المحاماة (س 5 ص 1).
[(7)] الأستاذ علي بدوي - الأحكام العامة في القانون الجنائي - الجزء الأول ص (322) و (323) وحاشيتيها.
بحث حول جرائم التشرد والاشتباه
كتبهااحمد الجمل ، في 23 سبتمبر 2009 الساعة: 17:57 م
مجلة المحاماة – العدد الرابع
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
حول جرائم التشرد والاشتباه
للسيد الأستاذ فتحي عبد الصبور وكيل نيابة مركز بني سويف والأحداث
تثير جرائم التشرد والاشتباه في التطبيق العملي لكثرتها بعض الصعوبات رأينا أن نتناولها بالتعليق في كلمتين موجزتين حول سريان أحكام التشرد على الأحداث والنساء وحول جريمة العود للاشتباه.
أولاً: جريمة التشرد:
تنص المادة الأولى من المرسوم بقانون (98) سنة 1945 على أنه يعد متشردًا من لم تكن له وسيلة مشروعة للتعيش, وتنص المادة الرابعة منه على أن أحكام التشرد لا تسري على الأشخاص الذين تقل سنهم عن خمس عشرة سنة ميلادية ولا على النساء إلا إذا اتخذت للتعيش وسيلة غير مشروعة.
فالأحداث المشردون الذين تقل سنهم عن خمس عشرة سنة لا تسري عليهم أحكام التشرد وفقًا للمرسوم بقانون (98) سنة 1945, لأنه كان ينتظم حالهم القانون رقم (2) سنة 1908, ولما ألغي هذا القانون حل محله القانون رقم (124) سنة 1949 الخاص بالأحداث المشردين الذي صدر في 8 أغسطس سنة 1949 واعتبر حدثًا متشردًا كل ذكر أو أنثى لم يبلغ سنه ثماني عشرة سنة ميلادية إذا وجد متسولاً أو يمارس أعمال جمع السجائر أو أعمال الدعارة أو مخالطة المتشردين والمشتبه فيهم أو إذا كان سيئ السيرة والسلوك أو ليس له محل إقامة مستقر أو لم يكن له وسيلة مشروعة للتعيش (م (1) و (2) من ق (124) سنة 1949), فرفع القانون (124) سنة 1949, سن الحدث المتشرد إلى ثماني عشرة سنة فإذا بلغها سرت عليه أحكام قانون التشرد رقم (98) سنة 1945, ويكون نص المادة الأولى من ق (124) سنة 1949, قد ألغي نص المادة الرابعة من م ق (98) سنة 1945, فيما يختص بالسن التي يعد فيها الشخص حدثًا متشردًا وذلك لصدور ق (124) سنة 1949, لاحقًا لقانون التشرد ولما نصت عليه المادة (14) فقرة ثانية من القانون (124) سنة 1949, من أنه (يلغى كل نص في القوانين الأخرى يتعارض مع أحكام هذا القانون).
أما النساء فيخرجن من حكم قانون التشرد إذا لم يتخذن وسيلة مشروعة للتعيش لأن المرأة لها دائمًا من يعولها, وإنما يسري عليهن أحكام قانون التشرد إذا اتخذن بالفعل وسيلة غير مشروعة للتعيش (م (4) من ق 98 سنة 1945) بينما كان نص المادة (31) من قانون المتشردين والأشخاص المشتبه فيهم رقم (24) سنة 1923, مطلقًا في عدم سريان أحكام التشرد والاشتباه إطلاقًا على النساء, فلم يكن النسوة متشردات حتى لو اتخذن وسيلة غير مشروعة وفاقًا لأحكام القانون القديم بينما أصبحن متشردات في حكم المادة الرابعة من القانون الجديد رقم (98) سنة 1945, إذا اتخذن للتعيش وسيلة غير مشروعة على أن محكمة النقض قد قضت بتاريخ 17/ 2/ 1943 في القضية، (44) سنة 17 قضائية بأن إباحة المرأة نفسها لمن يطلبها مع قبح ذلك وبشاعته لا يجعلها متشردة في حكم المادة الرابعة من قانون التشرد على أساس أن هذا الفعل لا يعاقب عليه القانون, ولكن صدر بعد هذا الحكم القانون رقم (68) سنة 1951, لمكافحة الدعارة وقضى باعتبار التحريض على الفجور والدعارة واستخدام الأشخاص وإغوائهم بقصد ارتكاب الفجور والدعارة وإدارة محال الفجور والدعارة والمعاونة على ذلك بأية طريقة كانت جرائم معاقبًا عليها وكذلك نص فيه على عقاب كل من اعتاد ممارسة الفجور أو الدعارة وكل من يستغل بأية وسيلة بغاء شخص أو فجوره, ومؤدى نصوص هذا القانون أن البغاء والفجور غير مشروعين وأن اتخاذه وسيلة للتعيش يعد عملاً غير مشروع قانونًا وأصبحت المرأة التي تتعيش من البغاء والفجور وتتخذه وسيلة للتعيش متشردة وتخضع لأحكام قانون التشرد رقم (98) سنة 1945.
ثانيًا: جريمة العود للاشتباه:
ونصت المادتان (6) و (7) من م ق (98) سنة 1945, على أنه إذا عاد المشتبه فيه بعد سبق الحكم عليه بالمراقبة لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد على خمس سنين يعاقب بالحبس والوضع تحت مراقبة البوليس [(1)] مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنين, ويجوز للقاضي بدلاً من توقيع عقوبة المراقبة في جريمة الاشتباه أن يصدر حكمًا غير قابل للطعن بإنذار المشتبه فيه بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا فإذا وقع من المشتبه فيه بعد ذلك أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه فيه في خلال الثلاث السنوات التالية للحكم وجب الحكم عليه بعقوبة المراقبة لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد على خمس سنين.
ونريد أن نعالج هنا أمرين:
1 - الركن المادي لجريمة العود للاشتباه.
2 - هل جريمة العود للاشتباه وقتية أم مستمرة.
عن الأمر الأول: كانت المادة التاسعة من قانون الاشتباه القديم رقم (24) سنة 1923, تنص على أن جريمة العود للاشتباه تتوافر بعد إنذار الشخص من البوليس بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا إذا حدث أحد الأمور الآتية:
( أ ) حكم عليه مرة أخرى بالإدانة بعد سبق الحكم عليه أكثر من مرة في جرائم التهديد أو الخطف أو الحريق العمد أو تعطيل المواصلات أو السرقة أو النصب وتزييف النقود وإتلاف المزروعات وقتل المواشي وانتهاك حرمة المساكن أو سبق الحكم عليه في جريمة قتل عمد.
(ب) إذا قدم ضده بلاغ جديد عن ارتكاب جريمة من الجرائم سالفة الذكر أو شروع فيها بعد سبق تحقيق النيابة معه أكثر من مرة في هذه الجرائم وحفظ التحقيق.
(ج) أو إذا وجد بعد غروب الشمس وشروقها جالسًا أو مختبئًا في مكان لا يكون لوجوده فيه مبرر وذلك بعد إنذار من البوليس لوجوده أكثر من مرة في هذه الحالة.
(د) أو إذا كان لدى البوليس من الأسباب الجدية ما يؤيد ظنونه عن ميول المشتبه فيه وأعماله الجنائية وذلك بعد إنذاره من البوليس للاشتهار عنه الاعتياد على الاعتداء على النفس أو المال أو إعادة الأشخاص المخطوفين والأشياء المسروقة, ويكون الحكم في جريمة العود بالمراقبة فقط.
ولكن قانون الاشتباه الجديد رقم (98) سنة 1945, قد اشترط لتوافر جريمة العود للاشتباه أن يقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه بعد الحكم عليه بالإنذار بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا أو بالمراقبة في جريمة الاشتباه التي تتوافر بسبق الحكم على الشخص أكثر من مرة في جرائم الاعتداء على النفس أو المال أو التهديد بذلك أو الوساطة في إعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة أو تعطيل المواصلات ذات المنفعة العامة أو الاتجار في المخدرات أو تقديمها للغير أو تزييف النقود وتزوير أوراق النقد, واشترط أن يقع الفعل الذي يؤيد حالة الاشتباه في خلال الثلاث السنوات التالية للحكم بالإنذار وذلك في حالة الحكم بالإنذار في جريمة الاشتباه ولم يشترط ذلك في حالة الحكم بالمراقبة في جريمة الاشتباه ويكون الحكم في جريمة العود للاشتباه في القانون الجديد بالحبس والمراقبة معًا.
ويستفاد من هذا العرض لأحكام القانون القديم والجديد أن جريمة العود للاشتباه في القانون الجديد لا تتوافر إلا بوقوع أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه أي لا بد أن يأتي المشتبه فيه عملاً إيجابيًا فلا يشترط - كما كان الحال في القانون القديم – أن يصدر حكم على المشتبه فيه في جرائم الاعتداء على المال وما شابهها، وإنما يكفي - كما قضت بذلك محكمة النقض- أن يرتكب المشتبه فيه إحدى هذه الجرائم أو يتهم في ارتكابها اتهامًا جديًا لتوافر جريمة العود للاشتباه سواء بعد الحكم بالإنذار أو بالمراقبة وجاء في هذا الحكم أنه يبين من مقارنة نص المادتين (6) و (7) (من قانون الاشتباه رقم (98) سنة 1945) أن المراد بما ذكرته الفقرة الثانية من المادة السادسة من عبارة حالة العود لا يعني العود الوارد في المادة (49) عقوبات إذ القول بذلك يترتب عليه أنه إذا وجد شخص في حالة الاشتباه وحكم عليه بمقتضى الفقرة الأولى من هذه المادة فإنه لا يمكن اعتباره عائدًا إلا إذا توافرت جميع ظروف الاشتباه بوقائع جديدة وقعت بعد الحكم عليه في أول مرة حتى يتحقق معنى العود كما يعرفه قانون العقوبات، وإنما المراد هنا أن يقع من المشتبه فيه بعد الحكم عليه بالاشتباه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه السابق الحكم بها عليه وفقًا لما جاء في الفقرة الثانية من المادة السابقة إذ لا يوجد أي مبرر للقول باختلاف معنى العود في حالة سبق الحكم بالإنذار وحالة سبق الحكم بالمراقبة وإذن فلا يلزم في حالة الحكم بالعود أن تتوافر جريمة الاشتباه من جديد بناءً على وقائع أخرى لاحقة على الوقائع التي بنى عليها حكم الاشتباه الأول بل كل ما يلزم هو أن يقع من المتهم بعد الحكم عليه بالمراقبة للاشتباه أي فعل من شأنه تأييد حالة الاشتباه الثابتة بالحكم الأول في حقه.
(راجع نقض (7) مايو سنة 1949 محاماة س 30 ص (150)).
وقضت محكمة النقض في قضية أخرى أن قيد القضية ضد المتهم بمعرفة النيابة لا يفيد جدية الاتهام فقد تقيد قضية ضد متهم ثم تنتهي بالحفظ لعدم الصحة أو لعدم وجود جناية والقيد ليس إلا مجرد إجراء إداري لرصد القضايا في الجداول الخاصة لها والقانون يوجب للإدانة في جريمة العود للاشتباه أن يبين الحكم سنده الذي يبرر القول بأن المشتبه فيه قد وقع منه عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه (راجع نقض (7) مارس سنة 1949 محاماة س 30 ص (58)).
وعلى ذلك فلا تتكون جريمة العود للاشتباه لشخص حكم عليه بالإنذار أو المراقبة إذا لم يرتكب شيئًا من جرائم المادة الخامسة من قانون المتشردين والمشتبه فيهم أو يتهم اتهامًا جديًا في ارتكابها ويشهد رجال الحفظ بأن المشبوه سيئ السير والسلوك إذ لم يصدر من المشتبه فيه عمل يؤيد حالة الاشتباه ولم يعد كافيًا لتوافر جريمة العود للاشتباه قيام أسباب جدية تؤيد ظنون البوليس عن ميل المشبوه لارتكاب الجرائم إذ يجب أن يصدر من المشبوه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه بأن يتهم المشبوه اتهامًا جديًا في ارتكاب الجرائم المحددة بالمادة الخامسة من قانون الاشتباه.
وغني عن البيان أن قانون الاشتباه قد اشترط أن يقع الفعل الذي من شأنه تأييد حالة الاشتباه في خلال الثلاث السنوات التالية للحكم بالإنذار ولم يشترط ذلك في حالة الحكم على المشبوه بالمراقبة للاشتباه, وعلة ذلك أن المشرع أراد ألا يجعل الإنذار- وهو ليس عقوبة بالمعنى الحقيقي- سيفًا مسلطًا على المشتبه فيه إلى الأبد بل أراد أن يظل أثره قائمًا ثلاث سنوات فقط يزول بعدها, أما المراقبة فهي عقوبة كباقي العقوبات المقيدة للحرية وقد نصت المادة العاشرة من المرسوم بقانون (98) سنة 1945, على أن عقوبة الوضع تحت مراقبة البوليس المحكوم بها طبقًا لأحكام هذا المرسوم بقانون (قانون الاشتباه) مماثلة لعقوبة الحبس فيما يتعلق بتطبيق أحكام قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات أو أي قانون آخر, ولا يزول أثر الحكم بالمراقبة عند البحث في توافر جريمة العود للاشتباه إلا إذا رد اعتبار المحكوم بها عليه قضائيًا أو قانونًا [(2)] وفقًا للمادتين (537)، (550) من قانون الإجراءات الجنائية كأية عقوبة أخرى بالحبس.
عن الأمر الثاني: أما وقد رأينا أن جريمة العود للاشتباه تتوافر بالعمل الذي يصدر من المشبوه مؤيدًا لحالة الاشتباه فإنه يتضح أن جريمة العود للاشتباه جريمة وقتية غير مستمرة تنشأ بالفعل الذي يؤيد حالة الاشتباه والذي يأتيه المشبوه وتنتهي بمجرد إتيانه وعلى ذلك إذا ارتكب المشتبه فيه جريمة سرقة أو اتهم فيها اتهامًا جديًا فجريمة العود تنشأ من تاريخ ارتكاب الجريمة واتهامه فيها اتهامًا جديًا لا من تاريخ الحكم عليه فيها, وقد قضت محكمة النقض بأنه (إذا لم تعن المحكمة ببيان تاريخ ارتكاب الجرائم التي قالت بقيام حالة العود معها فإن حكمها يكون قاصرًا ومعيبًا مما يستوجب
نقضه وذلك لأن العبرة في إثبات العود في حالة الاشتباه بناءً على أحكام الإدانة هي بتاريخ وقوع الجرائم لا بيوم الحكم فيها).
(نقض 18/ 5/ 1948 مج رسمية س 49 ع (9) ص (477)).
ويترتب على كون جريمة العود للاشتباه وقتية أن مدة سقوطها بالتقادم تبدأ من تاريخ وقوع العمل الذي يؤيد حالة الاشتباه أي بانقضاء ثلاث سنوات من تاريخ وقوع الفعل المؤيد لحالة الاشتباه تنقضي الدعوى الجنائية في جريمة العود للاشتباه ما لم تنقطع المدة بأحد أسباب الانقطاع.
ولسنا في حاجة إلى القول بأنه وإن كان إتيان المشتبه فيه لفعل يؤيد حالة الاشتباه تتوافر به جريمة العود للاشتباه ويكون جريمة أخرى أيضًا كجريمة السرقة أو النصب.. إلخ وقد يحاكم عنها المشتبه فيه عند توافر الأدلة قبله إلا أن جريمة العود للاشتباه جريمة مستقلة عن الجريمة الأخرى في أركانها ولا يجوز تطبيق المادة (32) عقوبات وقد قضت محكمة النقض بتاريخ 22 مايو سنة 1930, بالحكم الآتي (إنه وإن كان فعل السرقة قد دخل على نوع ما في تكوين أركان جريمة العود للاشتباه (طبقًا للمادتين الثانية والتاسعة من قانون المشتبه فيهم) إلا أن جريمة العود للاشتباه لا تزال في باقي أركانها مستقلة عن جريمة السرقة بحيث يتعذر اعتبارهما فعلاً واحدًا يمكن وصفه قانونًا بوصف قانوني واحد أو عدة أفعال تكون جميعها جريمة واحدة وعلى ذلك لا يجوز تطبيق المادة (32) عقوبات في حالة العائد للاشتباه الذي ارتكب جريمة أخرى).
(الفهرس العشري الرابع للمجموعة الرسمية بند (1245) ص (181))، كما يترتب على استقلال جريمة العود للاشتباه عن جريمة السرقة التي عاد لحالة الاشتباه بارتكابها أن المحكوم عليه في السرقة بمراقبة البوليس التبعية وفقًا للمادة (320) عقوبات يجوز محاكمته أيضًا عن جريمة العود للاشتباه بالمراقبة أو بالمراقبة والحبس حسب الأحوال إذ المراقبة في هذه الجريمة عقوبة رسمية رتبها القانون وأوجب تطبيقها (التشريع المصري للمتشردين والمشتبه فيهم للأستاذ حسن جاد الطبعة الأولى ص (193) وما بعدها).
[(1)] والوضع تحت مراقبة البوليس في جريمة الاشتباه وفي جريمة العود للاشتباه هو عقوبة أصلية لا تبعية.
[(2)] رد الاعتبار القانوني لغير العقوبة في جرائم السرقات والجرائم المماثلة يكون بمضي ست سنوات على تنفيذ العقوبة أو العفو عنها.
كتبهااحمد الجمل ، في 23 سبتمبر 2009 الساعة: 17:57 م
مجلة المحاماة – العدد الرابع
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
حول جرائم التشرد والاشتباه
للسيد الأستاذ فتحي عبد الصبور وكيل نيابة مركز بني سويف والأحداث
تثير جرائم التشرد والاشتباه في التطبيق العملي لكثرتها بعض الصعوبات رأينا أن نتناولها بالتعليق في كلمتين موجزتين حول سريان أحكام التشرد على الأحداث والنساء وحول جريمة العود للاشتباه.
أولاً: جريمة التشرد:
تنص المادة الأولى من المرسوم بقانون (98) سنة 1945 على أنه يعد متشردًا من لم تكن له وسيلة مشروعة للتعيش, وتنص المادة الرابعة منه على أن أحكام التشرد لا تسري على الأشخاص الذين تقل سنهم عن خمس عشرة سنة ميلادية ولا على النساء إلا إذا اتخذت للتعيش وسيلة غير مشروعة.
فالأحداث المشردون الذين تقل سنهم عن خمس عشرة سنة لا تسري عليهم أحكام التشرد وفقًا للمرسوم بقانون (98) سنة 1945, لأنه كان ينتظم حالهم القانون رقم (2) سنة 1908, ولما ألغي هذا القانون حل محله القانون رقم (124) سنة 1949 الخاص بالأحداث المشردين الذي صدر في 8 أغسطس سنة 1949 واعتبر حدثًا متشردًا كل ذكر أو أنثى لم يبلغ سنه ثماني عشرة سنة ميلادية إذا وجد متسولاً أو يمارس أعمال جمع السجائر أو أعمال الدعارة أو مخالطة المتشردين والمشتبه فيهم أو إذا كان سيئ السيرة والسلوك أو ليس له محل إقامة مستقر أو لم يكن له وسيلة مشروعة للتعيش (م (1) و (2) من ق (124) سنة 1949), فرفع القانون (124) سنة 1949, سن الحدث المتشرد إلى ثماني عشرة سنة فإذا بلغها سرت عليه أحكام قانون التشرد رقم (98) سنة 1945, ويكون نص المادة الأولى من ق (124) سنة 1949, قد ألغي نص المادة الرابعة من م ق (98) سنة 1945, فيما يختص بالسن التي يعد فيها الشخص حدثًا متشردًا وذلك لصدور ق (124) سنة 1949, لاحقًا لقانون التشرد ولما نصت عليه المادة (14) فقرة ثانية من القانون (124) سنة 1949, من أنه (يلغى كل نص في القوانين الأخرى يتعارض مع أحكام هذا القانون).
أما النساء فيخرجن من حكم قانون التشرد إذا لم يتخذن وسيلة مشروعة للتعيش لأن المرأة لها دائمًا من يعولها, وإنما يسري عليهن أحكام قانون التشرد إذا اتخذن بالفعل وسيلة غير مشروعة للتعيش (م (4) من ق 98 سنة 1945) بينما كان نص المادة (31) من قانون المتشردين والأشخاص المشتبه فيهم رقم (24) سنة 1923, مطلقًا في عدم سريان أحكام التشرد والاشتباه إطلاقًا على النساء, فلم يكن النسوة متشردات حتى لو اتخذن وسيلة غير مشروعة وفاقًا لأحكام القانون القديم بينما أصبحن متشردات في حكم المادة الرابعة من القانون الجديد رقم (98) سنة 1945, إذا اتخذن للتعيش وسيلة غير مشروعة على أن محكمة النقض قد قضت بتاريخ 17/ 2/ 1943 في القضية، (44) سنة 17 قضائية بأن إباحة المرأة نفسها لمن يطلبها مع قبح ذلك وبشاعته لا يجعلها متشردة في حكم المادة الرابعة من قانون التشرد على أساس أن هذا الفعل لا يعاقب عليه القانون, ولكن صدر بعد هذا الحكم القانون رقم (68) سنة 1951, لمكافحة الدعارة وقضى باعتبار التحريض على الفجور والدعارة واستخدام الأشخاص وإغوائهم بقصد ارتكاب الفجور والدعارة وإدارة محال الفجور والدعارة والمعاونة على ذلك بأية طريقة كانت جرائم معاقبًا عليها وكذلك نص فيه على عقاب كل من اعتاد ممارسة الفجور أو الدعارة وكل من يستغل بأية وسيلة بغاء شخص أو فجوره, ومؤدى نصوص هذا القانون أن البغاء والفجور غير مشروعين وأن اتخاذه وسيلة للتعيش يعد عملاً غير مشروع قانونًا وأصبحت المرأة التي تتعيش من البغاء والفجور وتتخذه وسيلة للتعيش متشردة وتخضع لأحكام قانون التشرد رقم (98) سنة 1945.
ثانيًا: جريمة العود للاشتباه:
ونصت المادتان (6) و (7) من م ق (98) سنة 1945, على أنه إذا عاد المشتبه فيه بعد سبق الحكم عليه بالمراقبة لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد على خمس سنين يعاقب بالحبس والوضع تحت مراقبة البوليس [(1)] مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنين, ويجوز للقاضي بدلاً من توقيع عقوبة المراقبة في جريمة الاشتباه أن يصدر حكمًا غير قابل للطعن بإنذار المشتبه فيه بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا فإذا وقع من المشتبه فيه بعد ذلك أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه فيه في خلال الثلاث السنوات التالية للحكم وجب الحكم عليه بعقوبة المراقبة لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد على خمس سنين.
ونريد أن نعالج هنا أمرين:
1 - الركن المادي لجريمة العود للاشتباه.
2 - هل جريمة العود للاشتباه وقتية أم مستمرة.
عن الأمر الأول: كانت المادة التاسعة من قانون الاشتباه القديم رقم (24) سنة 1923, تنص على أن جريمة العود للاشتباه تتوافر بعد إنذار الشخص من البوليس بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا إذا حدث أحد الأمور الآتية:
( أ ) حكم عليه مرة أخرى بالإدانة بعد سبق الحكم عليه أكثر من مرة في جرائم التهديد أو الخطف أو الحريق العمد أو تعطيل المواصلات أو السرقة أو النصب وتزييف النقود وإتلاف المزروعات وقتل المواشي وانتهاك حرمة المساكن أو سبق الحكم عليه في جريمة قتل عمد.
(ب) إذا قدم ضده بلاغ جديد عن ارتكاب جريمة من الجرائم سالفة الذكر أو شروع فيها بعد سبق تحقيق النيابة معه أكثر من مرة في هذه الجرائم وحفظ التحقيق.
(ج) أو إذا وجد بعد غروب الشمس وشروقها جالسًا أو مختبئًا في مكان لا يكون لوجوده فيه مبرر وذلك بعد إنذار من البوليس لوجوده أكثر من مرة في هذه الحالة.
(د) أو إذا كان لدى البوليس من الأسباب الجدية ما يؤيد ظنونه عن ميول المشتبه فيه وأعماله الجنائية وذلك بعد إنذاره من البوليس للاشتهار عنه الاعتياد على الاعتداء على النفس أو المال أو إعادة الأشخاص المخطوفين والأشياء المسروقة, ويكون الحكم في جريمة العود بالمراقبة فقط.
ولكن قانون الاشتباه الجديد رقم (98) سنة 1945, قد اشترط لتوافر جريمة العود للاشتباه أن يقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه بعد الحكم عليه بالإنذار بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا أو بالمراقبة في جريمة الاشتباه التي تتوافر بسبق الحكم على الشخص أكثر من مرة في جرائم الاعتداء على النفس أو المال أو التهديد بذلك أو الوساطة في إعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة أو تعطيل المواصلات ذات المنفعة العامة أو الاتجار في المخدرات أو تقديمها للغير أو تزييف النقود وتزوير أوراق النقد, واشترط أن يقع الفعل الذي يؤيد حالة الاشتباه في خلال الثلاث السنوات التالية للحكم بالإنذار وذلك في حالة الحكم بالإنذار في جريمة الاشتباه ولم يشترط ذلك في حالة الحكم بالمراقبة في جريمة الاشتباه ويكون الحكم في جريمة العود للاشتباه في القانون الجديد بالحبس والمراقبة معًا.
ويستفاد من هذا العرض لأحكام القانون القديم والجديد أن جريمة العود للاشتباه في القانون الجديد لا تتوافر إلا بوقوع أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه أي لا بد أن يأتي المشتبه فيه عملاً إيجابيًا فلا يشترط - كما كان الحال في القانون القديم – أن يصدر حكم على المشتبه فيه في جرائم الاعتداء على المال وما شابهها، وإنما يكفي - كما قضت بذلك محكمة النقض- أن يرتكب المشتبه فيه إحدى هذه الجرائم أو يتهم في ارتكابها اتهامًا جديًا لتوافر جريمة العود للاشتباه سواء بعد الحكم بالإنذار أو بالمراقبة وجاء في هذا الحكم أنه يبين من مقارنة نص المادتين (6) و (7) (من قانون الاشتباه رقم (98) سنة 1945) أن المراد بما ذكرته الفقرة الثانية من المادة السادسة من عبارة حالة العود لا يعني العود الوارد في المادة (49) عقوبات إذ القول بذلك يترتب عليه أنه إذا وجد شخص في حالة الاشتباه وحكم عليه بمقتضى الفقرة الأولى من هذه المادة فإنه لا يمكن اعتباره عائدًا إلا إذا توافرت جميع ظروف الاشتباه بوقائع جديدة وقعت بعد الحكم عليه في أول مرة حتى يتحقق معنى العود كما يعرفه قانون العقوبات، وإنما المراد هنا أن يقع من المشتبه فيه بعد الحكم عليه بالاشتباه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه السابق الحكم بها عليه وفقًا لما جاء في الفقرة الثانية من المادة السابقة إذ لا يوجد أي مبرر للقول باختلاف معنى العود في حالة سبق الحكم بالإنذار وحالة سبق الحكم بالمراقبة وإذن فلا يلزم في حالة الحكم بالعود أن تتوافر جريمة الاشتباه من جديد بناءً على وقائع أخرى لاحقة على الوقائع التي بنى عليها حكم الاشتباه الأول بل كل ما يلزم هو أن يقع من المتهم بعد الحكم عليه بالمراقبة للاشتباه أي فعل من شأنه تأييد حالة الاشتباه الثابتة بالحكم الأول في حقه.
(راجع نقض (7) مايو سنة 1949 محاماة س 30 ص (150)).
وقضت محكمة النقض في قضية أخرى أن قيد القضية ضد المتهم بمعرفة النيابة لا يفيد جدية الاتهام فقد تقيد قضية ضد متهم ثم تنتهي بالحفظ لعدم الصحة أو لعدم وجود جناية والقيد ليس إلا مجرد إجراء إداري لرصد القضايا في الجداول الخاصة لها والقانون يوجب للإدانة في جريمة العود للاشتباه أن يبين الحكم سنده الذي يبرر القول بأن المشتبه فيه قد وقع منه عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه (راجع نقض (7) مارس سنة 1949 محاماة س 30 ص (58)).
وعلى ذلك فلا تتكون جريمة العود للاشتباه لشخص حكم عليه بالإنذار أو المراقبة إذا لم يرتكب شيئًا من جرائم المادة الخامسة من قانون المتشردين والمشتبه فيهم أو يتهم اتهامًا جديًا في ارتكابها ويشهد رجال الحفظ بأن المشبوه سيئ السير والسلوك إذ لم يصدر من المشتبه فيه عمل يؤيد حالة الاشتباه ولم يعد كافيًا لتوافر جريمة العود للاشتباه قيام أسباب جدية تؤيد ظنون البوليس عن ميل المشبوه لارتكاب الجرائم إذ يجب أن يصدر من المشبوه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه بأن يتهم المشبوه اتهامًا جديًا في ارتكاب الجرائم المحددة بالمادة الخامسة من قانون الاشتباه.
وغني عن البيان أن قانون الاشتباه قد اشترط أن يقع الفعل الذي من شأنه تأييد حالة الاشتباه في خلال الثلاث السنوات التالية للحكم بالإنذار ولم يشترط ذلك في حالة الحكم على المشبوه بالمراقبة للاشتباه, وعلة ذلك أن المشرع أراد ألا يجعل الإنذار- وهو ليس عقوبة بالمعنى الحقيقي- سيفًا مسلطًا على المشتبه فيه إلى الأبد بل أراد أن يظل أثره قائمًا ثلاث سنوات فقط يزول بعدها, أما المراقبة فهي عقوبة كباقي العقوبات المقيدة للحرية وقد نصت المادة العاشرة من المرسوم بقانون (98) سنة 1945, على أن عقوبة الوضع تحت مراقبة البوليس المحكوم بها طبقًا لأحكام هذا المرسوم بقانون (قانون الاشتباه) مماثلة لعقوبة الحبس فيما يتعلق بتطبيق أحكام قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات أو أي قانون آخر, ولا يزول أثر الحكم بالمراقبة عند البحث في توافر جريمة العود للاشتباه إلا إذا رد اعتبار المحكوم بها عليه قضائيًا أو قانونًا [(2)] وفقًا للمادتين (537)، (550) من قانون الإجراءات الجنائية كأية عقوبة أخرى بالحبس.
عن الأمر الثاني: أما وقد رأينا أن جريمة العود للاشتباه تتوافر بالعمل الذي يصدر من المشبوه مؤيدًا لحالة الاشتباه فإنه يتضح أن جريمة العود للاشتباه جريمة وقتية غير مستمرة تنشأ بالفعل الذي يؤيد حالة الاشتباه والذي يأتيه المشبوه وتنتهي بمجرد إتيانه وعلى ذلك إذا ارتكب المشتبه فيه جريمة سرقة أو اتهم فيها اتهامًا جديًا فجريمة العود تنشأ من تاريخ ارتكاب الجريمة واتهامه فيها اتهامًا جديًا لا من تاريخ الحكم عليه فيها, وقد قضت محكمة النقض بأنه (إذا لم تعن المحكمة ببيان تاريخ ارتكاب الجرائم التي قالت بقيام حالة العود معها فإن حكمها يكون قاصرًا ومعيبًا مما يستوجب
نقضه وذلك لأن العبرة في إثبات العود في حالة الاشتباه بناءً على أحكام الإدانة هي بتاريخ وقوع الجرائم لا بيوم الحكم فيها).
(نقض 18/ 5/ 1948 مج رسمية س 49 ع (9) ص (477)).
ويترتب على كون جريمة العود للاشتباه وقتية أن مدة سقوطها بالتقادم تبدأ من تاريخ وقوع العمل الذي يؤيد حالة الاشتباه أي بانقضاء ثلاث سنوات من تاريخ وقوع الفعل المؤيد لحالة الاشتباه تنقضي الدعوى الجنائية في جريمة العود للاشتباه ما لم تنقطع المدة بأحد أسباب الانقطاع.
ولسنا في حاجة إلى القول بأنه وإن كان إتيان المشتبه فيه لفعل يؤيد حالة الاشتباه تتوافر به جريمة العود للاشتباه ويكون جريمة أخرى أيضًا كجريمة السرقة أو النصب.. إلخ وقد يحاكم عنها المشتبه فيه عند توافر الأدلة قبله إلا أن جريمة العود للاشتباه جريمة مستقلة عن الجريمة الأخرى في أركانها ولا يجوز تطبيق المادة (32) عقوبات وقد قضت محكمة النقض بتاريخ 22 مايو سنة 1930, بالحكم الآتي (إنه وإن كان فعل السرقة قد دخل على نوع ما في تكوين أركان جريمة العود للاشتباه (طبقًا للمادتين الثانية والتاسعة من قانون المشتبه فيهم) إلا أن جريمة العود للاشتباه لا تزال في باقي أركانها مستقلة عن جريمة السرقة بحيث يتعذر اعتبارهما فعلاً واحدًا يمكن وصفه قانونًا بوصف قانوني واحد أو عدة أفعال تكون جميعها جريمة واحدة وعلى ذلك لا يجوز تطبيق المادة (32) عقوبات في حالة العائد للاشتباه الذي ارتكب جريمة أخرى).
(الفهرس العشري الرابع للمجموعة الرسمية بند (1245) ص (181))، كما يترتب على استقلال جريمة العود للاشتباه عن جريمة السرقة التي عاد لحالة الاشتباه بارتكابها أن المحكوم عليه في السرقة بمراقبة البوليس التبعية وفقًا للمادة (320) عقوبات يجوز محاكمته أيضًا عن جريمة العود للاشتباه بالمراقبة أو بالمراقبة والحبس حسب الأحوال إذ المراقبة في هذه الجريمة عقوبة رسمية رتبها القانون وأوجب تطبيقها (التشريع المصري للمتشردين والمشتبه فيهم للأستاذ حسن جاد الطبعة الأولى ص (193) وما بعدها).
[(1)] والوضع تحت مراقبة البوليس في جريمة الاشتباه وفي جريمة العود للاشتباه هو عقوبة أصلية لا تبعية.
[(2)] رد الاعتبار القانوني لغير العقوبة في جرائم السرقات والجرائم المماثلة يكون بمضي ست سنوات على تنفيذ العقوبة أو العفو عنها.
بحث مدى أحقية التاجر في الامتناع عن بيع سلعة مسعرة
مجلة المحاماة - العدد الرابع
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
مدى أحقية التاجر في الامتناع
عن بيع سلعة مسعرة
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
1 - تمهيد:
من المعروف في علم الاقتصاد السياسي (نظرية الأثمان) أن الاقتصاديين الأحرار يرون أن ثمن السلعة يتحدد طبقًا لقانون العرض والطلب، ومن ثم فللتاجر أن يبيع بضاعته لأي شخص أراد وبأي ثمن شاء لا يرد على حريته قيد في هذا السبيل إلا أن الدولة - جريًا على فكرة التدخل في السياسة الاقتصادية - تعمل على شل تطبيق هذا القانون في بعض الأحوال لاعتبارات تقدرها، فحماية لبعض المستهلكين من عسف التجار ومغالاتهم في رفع الأسعار لسلعهم بغية الحصول على أكبر ربح ممكن رأى الشارع تسعير بعض المواد وبخاصة في السلع الضرورية للفرد فحدد لها ثمنًا لا يجوز للبائع أن يتعداه عند بيعه لها وهو ما يعبر عنه بالتسعير الجبري.
2 - موضوع البحث:
ولقد صدر في 4 أكتوبر سنة 1945 المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 الخاص بشؤون التسعيرة الجبري فنص في مادته السابعة (المعدلة بالقانون رقم 132 سنة 1948) على عقاب كل من باع سلعة مسعرة أو محددة الربح في تجارتها أو عرضها للبيع بسعر أو ربح يزيد على السعر أو الربح المحدد أو امتنع عن بيعها بهذا السعر أو الربح.
ولما أُلغي هذا المرسوم بقانون واستبدل به المرسوم بقانون رقم (163) سنة 1950 الصادر في 3 سبتمبر سنة 1950 ورد في مادته التاسعة النص على عقاب كل من باع سلعة مسعرة أو معينة الربح أو عرضها للبيع بسعر أو ربح يزيد عن السعر أو الربح المعين أو امتنع عن بيعها بهذا السعر أو الربح أو فُرض على المشتري شراء سلعة أخرى معها أو علق البيع على أي شرط آخر يكون مخالفًا للعرف التجاري.
وظاهر أن النص الجديد يغاير النص القديم مما دعانا إلى البحث في مدى أحقية التاجر في الامتناع عن بيع سلعة مسعرة وهل يجوز له ذلك إبان تطبيق المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 أو في ظل المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 المعمول به الآن أم لا ؟
3 - المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945:
أما المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 فلقد وردت صياغة مادته السابعة مطلقة من كل قيد مؤكدة عقاب كل تاجر يمتنع عن بيع سلعة مسعرة بسعرها الرسمي، ومن ثم فلا يسوغ له أن يمتنع عن بيعها لأي سبب كان، ولقد جاء في تفسير هذه المادة حكم من أحكام محكمة النقض والإبرام في القضية رقم (238) سنة 18 قضائية بتاريخ 23 فبراير سنة 1948 (متى كانت السلعة محددة السعر وعرض المشتري الثمن المحدد على البائع وجب على هذا الأخير أن يبيعها ولا يحتمل النص أن يباح للبائع أن يتعلل في الامتناع عن البيع بأية علة ثم يقول إن هذه العلة هي سبب امتناعه - ذلك لأن القانون أراد أن يخرج على الأصل في حرية التجارة لتدبير وسائل العيش الضرورية للناس فحدد أثمان بعض الحاجيات وأرغم التجار أن يبيعوها بهذا السعر وألا يحق لهم الامتناع عن البيع به…) [(1)]
4 - المرسوم بقانون رقم (163) سنة 1950:
ويبدو من المادة التاسعة من المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 أن المشرع ينص على أن كل من يمتنع عن بيع سلعة مسعرة بسعرها الرسمي أو يفرض على المشتري شراء سلعة أخرى معها أو يعلق البيع على أي شرط آخر يكون مخالفًا للعرف التجاري فإنه يقع تحت طائلة العقاب.
وبمطالعة المذكرة الإيضاحية note explicative المؤرخة 23 أغسطس سنة 1950 التي أجرتها وزارة التجارة والصناعة ورفعتها إلى مجلس الوزراء في شأن هذا التشريع - لم يرد فيها للأسف الشديد أية إشارة لهذا النص الجديد أو السبب الذي دعا إلى صياغة المادة التاسعة على النحو السابق.
وبالبحث في ثنايا أحكام محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية لم نعثر على حكم متعلق بتفسير هذه المادة.
وإذا كان المشرع المصري قد سن هذه المادة ولم يبين الغرض المقصود منها في المذكرة الإيضاحية، وإذا كان قضاء محكمتنا العليا لم يتعرض بعد لهذه المادة لاستيعاب مضمونها فقد وقع العبء كله على رجال الفقه المصري للتعليق على هذه المادة يفسرها ويوضح أوجه تطبيقها.
ويلوح لي من تلاوة هذه المادة أن المشرع خلص بطريق العلم أن النص القديم قد أوجد صعوبات في العمل إذ شُل يد التاجر كليةً عن حقه في التصرف في بضاعته فأراد أن يخفف من غلواء هذا النص الذي وضع خارجًا على حرية التجارة مخالفًا قانونًا اقتصاديًا في نظرية الأثمان مما حدا به إلى النص في المرسوم بقانون (163) سنة 1950 على عقاب كل بائع يعلق بيع سلعة مسعرة على أي شرط يكون مخالفًا للعرف التجاري ومضمون ذلك بمفهوم المخالفة á contrario أنه يجوز للبائع أن يعلق البيع على أي شرط يكون متفقًا مع العرف التجاري ومن ثم فيباح له الامتناع عن البيع للسلعة المسعرة إذا لم يقبل المشتري تنفيذ شرط وضعه البائع متفق مع العرف التجاري.
ويجب الرجوع إلى فقه القانون التجاري في تفسير العرف التجاري L’usage cemmercial الذي يكون الشرط الذي يضعه البائع ويعلق عليه بيع سلعته مسعرة متفقًا معه وبالتالي لا تثريب عليه إذا امتنع عن البيع لعدم قبول المشتري تنفيذ هذا الشرط.
والعرف التجاري ويسمى أيضًا بالضمير العام للسوق la concieuse générale de la place من أهم مصادر القانون التجاري وهو ناشئ منذ اللحظة التي تتحول فيها الشروط الصريحة المكتوبة إلى شروط ضمنية وتصير بفضل اتباعها بوجه عام منفصلة عن الاتفاق الصريح وقائمة باعتبارها نصًا موضوعيًا ضمنيًا.
ويقسم الأستاذ (جان اسكارا) أستاذ القانون التجاري بجامعة باريس في مؤلفه Mamuel de droit commercial العرف التجاري إلى قسمين:
( أ ) عرف واقعي أو اتفاقي ueage de fait ou conventionnel وهو شرط حقيقي ضمني مفهوم دون حاجة إلى النص عليه في الاتفاق veritable clause sous entendue ومثاله التقليدي طريقة حزم أو وزن أو تسليم البضاعة ومسموح الوزن، وهو شرط واجب التنفيذ ما لم يرد في الاتفاق المبرم نص يخالفه.
(ب) عرف قانوني ueage de droit وله قوة القاعدة القانونية الملزمة يكونه التوافق العام للمجتمع التجاري دون حاجة إلى النص عليه في الاتفاق مثل اعتبار التضامن مفروضًا في المواد التجارية.
ويمكن الاستئناس بآراء الغرف التجارية المختلفة chambre de commerce لمعرفة ما إذا كان الشرط الذي يفرضه التاجر على المشتري ويعلق بيع سلعة مسعرة عليه متفقًا مع العرف التجاري أم مخالفًا له إذ أن هذه الغرف تدرك أولاً بأول ما تعارف عليه التجار.
5 - خاتمة:
وفي الختام يمكننا أن نؤكد في هذا الصدد أنه لا لوم على التاجر إذا أراد أن يعلق بيع سلعة مسعرة على شرط يكون متفقًا مع العرف التجاري، كما أنه لا جريمة إن امتنع عن بيع تلك السلعة المسعرة إذا لم يقبل المشتري تنفيذ الشرط الذي وضعه التاجر متفقًا مع العرف التجاري.
[(1)] مجموعة القواعد القانونية المواد الجنائية الجزء السابع رقم 547 صـ 506.
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
مدى أحقية التاجر في الامتناع
عن بيع سلعة مسعرة
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
1 - تمهيد:
من المعروف في علم الاقتصاد السياسي (نظرية الأثمان) أن الاقتصاديين الأحرار يرون أن ثمن السلعة يتحدد طبقًا لقانون العرض والطلب، ومن ثم فللتاجر أن يبيع بضاعته لأي شخص أراد وبأي ثمن شاء لا يرد على حريته قيد في هذا السبيل إلا أن الدولة - جريًا على فكرة التدخل في السياسة الاقتصادية - تعمل على شل تطبيق هذا القانون في بعض الأحوال لاعتبارات تقدرها، فحماية لبعض المستهلكين من عسف التجار ومغالاتهم في رفع الأسعار لسلعهم بغية الحصول على أكبر ربح ممكن رأى الشارع تسعير بعض المواد وبخاصة في السلع الضرورية للفرد فحدد لها ثمنًا لا يجوز للبائع أن يتعداه عند بيعه لها وهو ما يعبر عنه بالتسعير الجبري.
2 - موضوع البحث:
ولقد صدر في 4 أكتوبر سنة 1945 المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 الخاص بشؤون التسعيرة الجبري فنص في مادته السابعة (المعدلة بالقانون رقم 132 سنة 1948) على عقاب كل من باع سلعة مسعرة أو محددة الربح في تجارتها أو عرضها للبيع بسعر أو ربح يزيد على السعر أو الربح المحدد أو امتنع عن بيعها بهذا السعر أو الربح.
ولما أُلغي هذا المرسوم بقانون واستبدل به المرسوم بقانون رقم (163) سنة 1950 الصادر في 3 سبتمبر سنة 1950 ورد في مادته التاسعة النص على عقاب كل من باع سلعة مسعرة أو معينة الربح أو عرضها للبيع بسعر أو ربح يزيد عن السعر أو الربح المعين أو امتنع عن بيعها بهذا السعر أو الربح أو فُرض على المشتري شراء سلعة أخرى معها أو علق البيع على أي شرط آخر يكون مخالفًا للعرف التجاري.
وظاهر أن النص الجديد يغاير النص القديم مما دعانا إلى البحث في مدى أحقية التاجر في الامتناع عن بيع سلعة مسعرة وهل يجوز له ذلك إبان تطبيق المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 أو في ظل المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 المعمول به الآن أم لا ؟
3 - المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945:
أما المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 فلقد وردت صياغة مادته السابعة مطلقة من كل قيد مؤكدة عقاب كل تاجر يمتنع عن بيع سلعة مسعرة بسعرها الرسمي، ومن ثم فلا يسوغ له أن يمتنع عن بيعها لأي سبب كان، ولقد جاء في تفسير هذه المادة حكم من أحكام محكمة النقض والإبرام في القضية رقم (238) سنة 18 قضائية بتاريخ 23 فبراير سنة 1948 (متى كانت السلعة محددة السعر وعرض المشتري الثمن المحدد على البائع وجب على هذا الأخير أن يبيعها ولا يحتمل النص أن يباح للبائع أن يتعلل في الامتناع عن البيع بأية علة ثم يقول إن هذه العلة هي سبب امتناعه - ذلك لأن القانون أراد أن يخرج على الأصل في حرية التجارة لتدبير وسائل العيش الضرورية للناس فحدد أثمان بعض الحاجيات وأرغم التجار أن يبيعوها بهذا السعر وألا يحق لهم الامتناع عن البيع به…) [(1)]
4 - المرسوم بقانون رقم (163) سنة 1950:
ويبدو من المادة التاسعة من المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 أن المشرع ينص على أن كل من يمتنع عن بيع سلعة مسعرة بسعرها الرسمي أو يفرض على المشتري شراء سلعة أخرى معها أو يعلق البيع على أي شرط آخر يكون مخالفًا للعرف التجاري فإنه يقع تحت طائلة العقاب.
وبمطالعة المذكرة الإيضاحية note explicative المؤرخة 23 أغسطس سنة 1950 التي أجرتها وزارة التجارة والصناعة ورفعتها إلى مجلس الوزراء في شأن هذا التشريع - لم يرد فيها للأسف الشديد أية إشارة لهذا النص الجديد أو السبب الذي دعا إلى صياغة المادة التاسعة على النحو السابق.
وبالبحث في ثنايا أحكام محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية لم نعثر على حكم متعلق بتفسير هذه المادة.
وإذا كان المشرع المصري قد سن هذه المادة ولم يبين الغرض المقصود منها في المذكرة الإيضاحية، وإذا كان قضاء محكمتنا العليا لم يتعرض بعد لهذه المادة لاستيعاب مضمونها فقد وقع العبء كله على رجال الفقه المصري للتعليق على هذه المادة يفسرها ويوضح أوجه تطبيقها.
ويلوح لي من تلاوة هذه المادة أن المشرع خلص بطريق العلم أن النص القديم قد أوجد صعوبات في العمل إذ شُل يد التاجر كليةً عن حقه في التصرف في بضاعته فأراد أن يخفف من غلواء هذا النص الذي وضع خارجًا على حرية التجارة مخالفًا قانونًا اقتصاديًا في نظرية الأثمان مما حدا به إلى النص في المرسوم بقانون (163) سنة 1950 على عقاب كل بائع يعلق بيع سلعة مسعرة على أي شرط يكون مخالفًا للعرف التجاري ومضمون ذلك بمفهوم المخالفة á contrario أنه يجوز للبائع أن يعلق البيع على أي شرط يكون متفقًا مع العرف التجاري ومن ثم فيباح له الامتناع عن البيع للسلعة المسعرة إذا لم يقبل المشتري تنفيذ شرط وضعه البائع متفق مع العرف التجاري.
ويجب الرجوع إلى فقه القانون التجاري في تفسير العرف التجاري L’usage cemmercial الذي يكون الشرط الذي يضعه البائع ويعلق عليه بيع سلعته مسعرة متفقًا معه وبالتالي لا تثريب عليه إذا امتنع عن البيع لعدم قبول المشتري تنفيذ هذا الشرط.
والعرف التجاري ويسمى أيضًا بالضمير العام للسوق la concieuse générale de la place من أهم مصادر القانون التجاري وهو ناشئ منذ اللحظة التي تتحول فيها الشروط الصريحة المكتوبة إلى شروط ضمنية وتصير بفضل اتباعها بوجه عام منفصلة عن الاتفاق الصريح وقائمة باعتبارها نصًا موضوعيًا ضمنيًا.
ويقسم الأستاذ (جان اسكارا) أستاذ القانون التجاري بجامعة باريس في مؤلفه Mamuel de droit commercial العرف التجاري إلى قسمين:
( أ ) عرف واقعي أو اتفاقي ueage de fait ou conventionnel وهو شرط حقيقي ضمني مفهوم دون حاجة إلى النص عليه في الاتفاق veritable clause sous entendue ومثاله التقليدي طريقة حزم أو وزن أو تسليم البضاعة ومسموح الوزن، وهو شرط واجب التنفيذ ما لم يرد في الاتفاق المبرم نص يخالفه.
(ب) عرف قانوني ueage de droit وله قوة القاعدة القانونية الملزمة يكونه التوافق العام للمجتمع التجاري دون حاجة إلى النص عليه في الاتفاق مثل اعتبار التضامن مفروضًا في المواد التجارية.
ويمكن الاستئناس بآراء الغرف التجارية المختلفة chambre de commerce لمعرفة ما إذا كان الشرط الذي يفرضه التاجر على المشتري ويعلق بيع سلعة مسعرة عليه متفقًا مع العرف التجاري أم مخالفًا له إذ أن هذه الغرف تدرك أولاً بأول ما تعارف عليه التجار.
5 - خاتمة:
وفي الختام يمكننا أن نؤكد في هذا الصدد أنه لا لوم على التاجر إذا أراد أن يعلق بيع سلعة مسعرة على شرط يكون متفقًا مع العرف التجاري، كما أنه لا جريمة إن امتنع عن بيع تلك السلعة المسعرة إذا لم يقبل المشتري تنفيذ الشرط الذي وضعه التاجر متفقًا مع العرف التجاري.
[(1)] مجموعة القواعد القانونية المواد الجنائية الجزء السابع رقم 547 صـ 506.
بحث سوء النية في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد
مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
سوء النية في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد
للسيد الأستاذ صلاح الدين عبد الوهاب وكيل نيابة الدرب الأحمر
القصد الجنائي:
إن مناط التجريم هو توافر القصد الجنائي لدى الجاني وذلك في الجرائم جميعًا على السواء - والقصد الجنائي قد يكون عامًا أي أن يتعمد الجاني ارتكاب الفعل المكون للركن المادي للجريمة عالمًا أن القانون يحرمه - وهذا النوع من القصد هو القدر اللازم في أغلب الجرائم العمدية حيث يكتفي القانون بمجرد ارتكاب الفعل مع الإرادة وقد يكون القصد الجنائي خاصًا فلا يكتفي القانون في جرائم معينة بمجرد ارتكاب الفعل المادي عن إرادة كاملة بل يستلزم فوق ذلك أن يكون ارتكاب الفعل لغرض خاص.
ففي هذه الحالات لا يتوافر القصد الجنائي إلا إذا كان ارتكاب الفعل تحقيقًا لهذا الغرض الخاص وبذلك قد يدخل الباعث في تكوين القصد الجنائي ويؤثر في الجريمة وجودًا وعدمًا.
ولا يُفهم من ذلك أن فكرة القصد الخاص dol speciale قاصرة على الحالة التي يمتزج فيها القصد بباعث من لون خاص هو نية الإضرار intention de nuire وإنما يكون القصد خاصًا كلما تطلب المشرع لتحقق ركن العمد أن تتوفر لدى الجاني النية أو الرغبة في تحقيق نتيجة معينة هي ضارة في ذاتها - بغض النظر عن تقدير الجاني لها واعتباره الشخصي إياها - وهنا لا قيام للمسؤولية الجنائية على أساس العمد إلا بتوافر القصد الخاص الذي نص عليه المشرع أي أنه يمكن القول إن التجريم يكون منصبًا على النتيجة الضارة التي تحوط المشرع لها بالنص على العقاب عند توافرها.
والمشرع قد يفصح عن استلزام القصد الجنائي ممتزجًا بالباعث الخبيث أي نية الإضرار (مثال ذلك) في جريمة البلاغ الكاذب (م 305 ع) وجريمة الإتلاف (م 361 ع) وجريمة إعطاء شيك لا يقابله رصيد قائم (م 337 ع) حيث يشترط في الأولى سوء القصد وفي الثانية قصد الإساءة وفي الثالثة سوء النية أو ممتزجًا بالرغبة في تحقق النتيجة الضارة المعينة كما في جريمة تعذيب متهم (م 126 ع) وجريمة النصب (م 336 ع) حيث يشترط في الأولى أن يكون التعذيب بقصد حمل المتهم على الاعتراف وفي الثانية أن يكون الاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها.
فإذا لم يكن اشتراط القصد الخاص منصوصًا عليه صراحةً كما في الأمثلة السابقة فإن طبيعة الجريمة قد توحي بالقول باستلزام هذا القصد كما في السرقة وجرائم القتل العمد والتزوير حيث يلزم أن يقترن القصد الجنائي بالنتيجة الضارة بل إن مناط التجريم في هذه الأنواع من الجرائم هو حدوث هذه النتيجة الضارة بذاتها.
القصد الجنائي في جريمة النصب:
تنص المادة (336) من قانون العقوبات على أنه (يعاقب بالحبس وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا مصريًا أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أي متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها أما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بخصوص ربح وهمي أو تسديد المبلغ الذي أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور - وأما بالتصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكًا له ولا له حق التصرف فيه وأما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة.
وهذه المادة على الوجه المتقدم إنما تبين بجلاء أن القصد الجنائي الذي استلزم المشرع توافره في جريمة النصب إنما هو قصد خاص - فلا يكتفي مجرد علم الجاني بأن الادعاءات التي يدعيها كاذبة بل يجب أن تتصرف نيته إلى الاستيلاء على جزء من ثروة الغير [(1)].
فالقصد الجنائي في جريمة النصب مركب من عنصرين:
الأول: العلم بالاحتيال.
والثاني: نية الاستيلاء على ثروة الغير.
أما عن العنصر الأول - وهو العلم بالاحتيال - فيجب أن يأتي الجاني الفعل وهو عالم بأنه كاذب ومضلل - فإذا كان الجاني يعتقد صحة ما يفعله أو يدعيه فلا عقاب ولو كان اعتقاده خاطئًا، وتذهب بعض الأحكام إلى أن استعمال الطرق السحرية ينهض بذاته دليلاً على سوء القصد في جريمة النصب ولكن يجب البحث دائمًا عن حقيقة اعتقاد الجاني وعليه هو إثبات حسن نيته ومتى ثبتت يتعين البراءة [(2)] والرجوع إلى اعتقاد الجاني يستشفه قاضي الموضوع من بين ثنايا التحقيق وأقوال المتهم.
أما عن العنصر الثاني وهو قصد الاستيلاء على جزء من ثروة الغير - فيفهم منه أنه يجب أن يقصد الجاني من طرق الاحتيال التي يستعملها أن ينتزع جزءًا من ثروة الغير وأن يستولى عليه ويضيفه إلى ملكه دون حق - وتطبيقًا لذلك حكم بأن المادة (336) لا تنطبق على من ينتحل صفة ليست له بقصد حمل بائع على تقسيط ثمن شيء مبيع دفع بعضه معجلاً ثم قام بسداد باقي الأقساط ولكنه عجز في النهاية عن دفع باقيها لأن اتخاذ الصفة الكاذبة لم يقصد به في هذه الحالة سلب مال المجني عليه وإنما قصد به أخذ رضاء البائع بالبيع بثمن بعضه مقسط وبعضه حال، وتكون العلاقة بين البائع والمشتري علاقة مدنية بحتة وليس فيها عمل جنائي [(3)] ومن هذا يظهر لنا أن القصد الجنائي في جريمة النصب وهو قصد خاص بمعنى أنه يجب أن يقصد الجاني الاستيلاء على جزء من ثروة المجني عليه - فإن هذا القصد لا يتوافر والجريمة لا تقوم متى تخلف عنصره الثاني ولو كان المتهم عالمًا بأنه يستعمل أساليب احتيالية للاستيلاء على الشيء كما لو كان يقصد الاستيلاء على شيء معين مزاحًا - وتقدير قصد المتهم أمر تعنى به محكمة الموضوع ويجب أن تستدل على وجوده من ظروف الجريمة وملابساتها جميعًا.
القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها في المادة (337) عقوبات:
تنص المادة (337 ع) على أنه يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى بسوء نية شيكًا لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب أو كان الرصيد أقل من قيمة الشيك أو سحب بعد إعطاء الشيك كل الرصيد أو بعضه بحيث يصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه الشيك بعدم الدفع.
وقبل أن نتكلم عن القصد الجنائي في هذه الجريمة بما يندرج تحته حتمًا الكلام عن معنى عبارة (سوء النية) الواردة بالمادة (337) المذكورة - يحسن أن نفسر معنى كلمة الشيك.
أولاً: ما تنص عليه المادة (193) تجاري:
تنص المادة (193) من القانون التجاري على أنه (إذا أثبت من حرر الحوالة الواجبة الدفع بمجرد الاطلاع عليها أو من حرر الورقة المتضمنة أمرًا بالدفع أن مقابل وفائها كان موجودًا ولم يستعمل في منفعته فحاملها الذي تأخر في تقديمها تضيع حقوقه التي على محررها المذكور.
والحوالة الواجبة الدفع بمجرد الدفع بمجرد الاطلاع عليها كما نصت المادة (193) تجاري إن هي إلا الشيك باعتباره أداة وفاء تقوم مقام النقود - ومعنى كونه أداة وفاء أن حامله ملزم بحسب الأصل أن يتوجه لصرف قيمته في يوم استحقاقه الذي هو يوم سحبه أيضًا.
فإذا تأخر المستفيد عن ذلك اليوم وتوجه للبنك المسحوب عليه فلم يجد له مقابل وفاء فقد أباح القانون التجاري لمحرر الشيك أن يثبت أن مقابل الوفاء كان موجودًا في وقت تحريره وأنه لم يستعمل في منفعته - وإذا استطاع إثبات ذلك فإن المسحوب له الشيك يتحمل مغبة إهماله في صرف قيمته وتأخره في ذلك.
ويلاحظ أن المادة (171) تجاري قضت بوجوب تقديمه للدفع في ظرف خمسة أيام محسوبًا منها اليوم المؤرخ فيه إذا كان مسحوبًا من البلدة التي يكون الدفع فيها - وأما إذا كان مسحوبًا في بلدة أخرى وجب تقديمه في ظرف ثمانية أيام محسوب منها اليوم المؤرخ فيه خلاف مدة المسافة.
وسبب تقصير هذه المواعيد هو رغبة المشرع في أن لا يلزم الساحب بالمحافظة على مقابل الوفاء لدى المسحوب عليه إلى ما لا نهاية حتى لا تتعرض بنوك الودائع لدفع مبالغ جسيمة في أوقات الأزمات أو الذعر المالي فتقدم إليها شيكات مسحوبة منذ عدة أسابيع أو شهور [(4)].
ثانيًا: الشيك في حكم المادة (337 ع):
وإذ أن المادة (337 ع) نصت على عقوبة إعطاء شيك بدون رصيد فإنه يجب تفسير (كلمة الشيك) بحيث تتسق مع تفسير القانون التجاري لها - وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه متى كان الحكم قد أثبت أن الشيك قد استوفى الشكل الذي يتطلعه القانون لكي تجري الورقة مجرى النقود - فإنه يعد شيكًا بالمعنى المقصود في حكم المادة (337 ع) ولا يؤثر في ذلك أن يكون تاريخه قد أثبت على غير الواقع ما دام أنه هو بذاته يدل على أنه مستحق الأداء بمجرد الاطلاع عليه - ذلك بأن المشرع إنما أراد أن يكون الشيك ورقة مطلقة للتداول وفي حمايتها حماية للجمهور والمعاملات [(5)].
والشيك الذي لا يطابق تاريخ إصداره التاريخ الحقيقي الذي حصل فيه الإصدار يسمى الشيك ذو التاريخ المقدم chéque postdaté - وقد ذهبت معظم الأحكام الفرنسية أن تقديم التاريخ أي ذكر تاريخ الإصدار على خلاف الواقع لا يرفع عن المحرر صفة الشيك وتسري على الساحب المادة (337) عقوبات متى ثبت سوء نيته [(6)] ومن هذا نرى أن القضاء الجنائي المصري والفرنسي لا يتقيد في تفسير لفظ الشيك بكونه مستكملاً كافة شرائط صحته أو غير مستكمل ما دام أن الشيك بحسب ظاهره يفيد أن الدفع بمجرد الاطلاع - فإذا كان للشيك تاريخان تاريخ إصدار وتاريخ استحقاق وثبت كلا التاريخين عليه فإن هذه الورقة بحسب ظاهرها تنتفي عنها صفة الشيك ولا تعدو أن تكون ورقة ائتمان كالكمبيالة فيها ذاتها ما يحول دون التعامل بها بغير صفتها هذه [(7)] ولنا على هذا النظر تعليق وهو أنه إذا ثبت من أي طريق أن الشيك صدر من الساحب في تاريخ سابق على التاريخ الثابت عليه كتاريخ للإصدار أي إذا ظهر حقيقة أن الشيك مقدم التاريخ فنرى أن هذا الوضع لا شك يؤثر في مسؤولية الساحب عندما يتبين أن لا رصيد له تحقيقًا أو إسقاطًا بحسب الظروف والأحوال.
فإذا كانت محكمة النقض المصرية قد قضت أن سوء النية المطلوب في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد قابل للسحب يتحقق بمجرد علم صاحب الشيك أنه وقد تم تحريره ليس له مقابل وفاء [(8)] فإن معنى ذلك أن علم الساحب بعدم وجود مقابل وفاء له وقت إصداره الشيك ينهض دليلاً على توافر سوء النية لديه ومن ثم تنطبق عليه المادة (337 ع) - إذا كان هو نظر محكمتنا العليا فلا شك أنه في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم يكون من صالح المتهم أن يثبت أنه وقت إصداره الشيك في التاريخ الحقيقي الذي لم يذكر في الشيك كتاريخ للإصدار بل ذكر تاريخ لاحق له - من صالحه أن يثبت أن في ذلك التاريخ كان مقابل الوفاء المستكمل للشروط موجودًا لحساب الساحب ولكننا للأسف نرى أن محكمة النقض ترى أنه لا يُجدي المتهم (ساحب الشيك) أن يثبت أن تحريره إنما كان في تاريخ سابق فطلبه تحقيق ذلك لا يكون مستأهلاً ردًا صريحًا [(9)].
ثالثًا: الأعمال التحضيرية للمادة (337 ع):
كانت المادة (337 ع) بحسب نصها في المشروع تقضي بأنه (يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى شيكًا (مع علمه) بأنه لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب.
وبجلسة 26 يوليو سنة 1937 طرحت هذه المادة بنصها السابق على مجلس النواب فقام النائب عبد المجيد الرمالي واقترح إضافة عبارة (بسوء نية) إلى نص المادة وعلق على ذلك بقوله إنه جرت العادة في الوقت الحاضر تأثرًا بظروف الأزمة على التعامل بالشيكات فتكتب لآجال معينة على أن تدفع في مواعيد الاستحقاق وقد يحل الموعد ويتعذر صرف الشيك لعسر التاجر - مع أنه كان حسن النية وقت تحريره فهل من الإنصاف أن توقع عليه عقوبة الحبس) وقد وافق وزير المالية وقتئذٍ على هذا الاقتراح بإضافة عبارة (بسوء النية) لكن مع حذف عبارة (مع علمه) لأن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم.
وقد قام النائب الأستاذ كامل صدقي وقال إنه لا يستطيع التفرقة بين سوء النية وبين العلم - وأضاف أنه لا يفهم أن شخصًا يجهل مقدار رصيده في البنك ثم هو مع هذا الجهل يعطي شيكًا ويفترض فيه بعد ذلك حسن النية - وهل يمكن التفريق في هذه الحالة بين سوء النية والعلم.
فقام وزير المالية وقال - أضرب مثلاً لما تساءل عنه حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي فمن الجائز أن يحرر شخص شيكًا وهو يعلم أنه ليس له رصيد في البنك ولكنه ينتظر أن يكون له رصيد في موعد الدفع يفي بصرف قيمة الشيك - فليس في هذا جريمة وإن كان فيه إهمال ظاهر - فلا نكن ملكيين أكثر من الملك فنصدر قانونًا أشد حكمًا من القانون الفرنسي الذي اقتبسنا منه حكم هذه المادة، وفي ظني أن حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي يسلم معي بأنه قد يكون هناك علم ولا يكون سوء نية فيحسن إلا نأخذ الأمور طفرة وأن نترك التقدير للقاضي فإذا اتضح له سوء النية أصدر حكمه بالعقوبة.
وقد وافق جميع النواب على المادة بتعديلها المذكور مع التفسير الذي أراده وزير المالية - موافقة إجماعية.
ومما تقدم يتبين أن استبدال عبارة (بسوء نية) بعبارة (مع علمه) التي كانت تتضمنها هذه المادة في مشروع القانون إنما يعني اختلاف العبارتين معنى ومبنى فالعلم لا ينهض دائمًا دليلاً قاطعًا على سوء النية كما يظهر من المناقشات التي ذكرناها آنفًا - ويجب إذن أن نتقيد بالمعنى الذي ذهبت إليه السلطة التشريعية عند إقرارها للنص من أن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم - ولكن العلم قاصر وحده عن إثبات توافر سوء النية الذي استلزم النص توافره كما يبدو.
رابعًا: تفسير سوء النية:
وإذا استقام كل ما تقدم وكان هذا هو ما ذهبت إليه مناقشات مجلس النواب وانتهى إليه قرار النص على الوجه الحالي على معنى اختلاف سوء النية عن العلم - فإنه يبدو أن محكمة النقض المصرية لا ترى هذا الرأي إذ أنها حكمت أن الجريمة المنصوص عليها في المادة (337 ع) تتحقق متى أصدر الساحب الشيك وهو يعلم وقت تحريره بأنه ليس له مقابل وفاء قابل للسحب وقد قصد المشرع بالعقاب على هذه الجريمة حماية الشيك باعتباره أداة وفاء تجري مجرى النقود في المعاملات فهو مستحق الأداء لدى الاطلاع دائمًا - ولهذا فلا يؤثر في قيام الجريمة بالنسبة إلى الساحب أن يكون المسحوب له على علم بحقيقة الواقع - فإذا قضت المحكمة ببراءة المتهم استنادًا إلى أنه كان يأمل لأسباب مقبولة في وجود هذا الرصيد عند تقديم الشيك لصرفه وأن المجني عليها كانت تعلم وقت قبولها الشيك بأنه لا يقابله رصيد مما تنتفي به الجريمة إذ لا يكون محتالاً عليها - فإنه يكون قد أخطأ [(10)].
ونرى أنه إذا كان هذا النظر يستقيم في حالة من حالات سحب الشيك فإنه قطعًا لا يستقيم في حالات أخرى إذ أن كون الشيك بحسب الأصل ورقة واجبة الدفع بمجرد الاطلاع وتقوم مقام النقود في المعاملات فإنه يحدث أحيانًا في الحياة العملية بل وكثيرًا وفي الغالب أن لا تكون هذه الورقة مستحقة الدفع لدى الاطلاع كما في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم - ولا شك أننا من ناحية القانون إن لم نرَ في هذا الشيك ما يعيبه بوصفه شيكًا يدخل في حدود نص المادة (337 ع) - فلا أقل من أن نسمح للساحب (المتهم) أن يثبت أنه وقت سحب هذا الشيك كان لديه رصيد (مقابل وفاء) مستكمل للشروط وأنه لم يسحب هذا الرصيد كله أو بعضه بعد ذلك وإلا كان مستحقًا العقاب أيضًا بنص المادة وإنما أصبح هذا الرصيد غير قابل للصرف بسبب لا دخل لإرادته فيه كالحجز عليه مثلاً من دائني الساحب وهذا ما تشير إليه المادة (193) تجاري التي سردنا نصها آنفًا وإذا استطاع الساحب إثبات ذلك وجب أن تنقضي الجريمة - هذا التفسير هو ما تقتضيه العدالة والذوق القانوني السليم وهو تفسير لا يترك مجالاً للقول بوجود فارق بين روح القانون التجاري والجنائي - هذا الأخير الذي يعني في المادة (337) الشيك بمعناه الوارد بالمادة (193) تجاري.
الصورة الأولى: حالة الشيك ذو التاريخ الصحيح:
أي أن يكون التاريخ الثابت على الشيك هو نفس التاريخ الذي أعطي فيه الشيك فعلاً وفي هذه الحالة الأصل أن مجرد العلم بعدم وجود رصيد كافٍ يتضمن سوء النية - إذ أن الشيك وقد حرر في التاريخ الثابت عليه فإن (الحامل) أو المسحوب له في حل من التوجه لصرف قيمته في الحال - فإذا تبين أن ليس للساحب مقابل وفاء أو أن مقابل الوفاء غير كافٍ لتغطية قيمة الشيك فإن علم الساحب بذلك يعتبر دليلاً على سوء نيته.
وإنما أيضًا يحق للساحب إثبات حسن نيته بأنه كان يجهل عدم استكمال مقابل الوفاء للشروط
اللازمة لصرفه وأن جهله كان مبنيًا على أسباب معقولة ومستساغة - إذ أن القاضي الجنائي وهو يحكم باقتناعه يجب أن تترك له حرية استخلاص سوء النية وبالتالي وجود القصد الجنائي أو عدم وجوده من ظروف وملابسات الواقعة المعروضة عليه - فإن رأى توافر هذا القصد حكم بالعقاب وإلا فيحكم بالبراءة - وقد يعتبر أحيانًا الإهمال الفاحش في هذا السبيل قرينة على سوء النية [(11)].
الصورة الثانية: حالة الشيك ذي التاريخ المقدم chéque postdaté:
أما في حالة تأخير التاريخ عن اليوم الذي أعطي فيه الشيك فعلاً فإنه مجال إثبات حسن النية والدفع به كبير في هذه الصورة وهذا هو ما يُستنتج من سياق المناقشة التي دارت بمجلس النواب عن المادة (337 ع) والتي سردنا جانبًا منها قبل ذلك - فإذا استبان القاضي أن الساحب عند إصداره الشيك في التاريخ الذي أعطي فيه فعلاً ولو كان سابقًا على تاريخ الاستحقاق انصرفت نيته إلى عدم دفع قيمة الشيك وتضييع حق المسحوب له حكم بالعقاب لتوافر عنصر سوء النية - وإن استنتج من وقائع الدعوى وظروفها أن عدم صرف قيمة الشيك إنما جاء بناءً على أمر خارج عن إرادة الساحب فإنه ولو كان قد أخطأ وكان خطأه مؤسسًا على اعتقاد حسن ونية سليمة منه فإن العقاب غير واجب.
وهاتان الصورتان إنما نتكلم عنها في حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته - أما في حالة سحب الرصيد وحالة الأمر بعدم الدفع فإن في نفس العمل الذي يتضمن كل منهما دليل على توافر سوء النية - واستخلاص ذلك سهل ميسور لقاضي الموضوع ولا تثير الإشكال الذي تثيره الحالة الأولى وهي حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته.
خامسًا: نص المادة (337 ع) صورة من صور النصب:
ونرى أن إلحاق نص المادة (337 ع) بنص المادة (336 ع) التي تتكلم عن جريمة النصب والتي سبق أن أبنا القصد الجنائي فيها وأنه يتكون من عنصرين - نرى أن إلحاق المادة الأولى بالثانية في حكم العقاب اعتبار من المشرع أن جريمة إعطاء شيك بدون رصيد صورة من صور جريمة النصب أو تطبيق لها في ناحية خاصة هي ناحية التعامل بالشيك والتي رأى المشرع حمايتها.
لذا كان واجب أن يكون تفسير القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها بالمادة (337 ع) تفسيرًا يتسق مع القصد الجنائي في جريمة النصب، أي يجب القول باعتباره قصدًا خاصًا لا يتوافر إلا بظهور عنصر سوء النية الذي هو الباعث الخبيث أي نية الإضرار بالمسحوب له وتضييع حقه في مقابل الوفاء - وهذا القصد الخاص إنما هو صورة من صور القصد الخاص في جريمة النصب وهو نية الاستيلاء على ثروة الغير كلها أو بعضها - فلا تتم الجريمة إلا بتوافر هذا القصد الخاص فإذا انتفى فإنما يسقط ركنها المعنوي الذي لا تقوم بدونه.
كل هذا يدعونا إليه ما يظهر في العمل من حالات تسحب فيها شيكات ولا يتضمن سحبها سوء نية من أصدرها ومع ذلك يقدم الساحب للمحكمة ويكون من الغبن العقاب في مثل هذه الحالات، فإذا سحب موظف شيكًا على بنك مرتبه محول عليه - في يوم 25 من الشهر وهو يعتقد بناءً على ما علمه من الصحف أو غيرها - أن مرتبات الموظفين ستصرف في ذلك اليوم لمناسبة معينة وكانت الحقيقة أن المرتبات لا تصرف إلا يوم 27 فإنه يجب عدم عقابه على إصدار شيك بدون رصيد - ولو أنه وقت تحرير الشيك لم يكن لديه رصيد وهو يعلم ذلك ولكنه كان حسن النية واعتقد بناءً على أسباب معينة مقبولة أن في تاريخ استحقاق الشيك سيكون لديه رصيد كافٍ لورود راتبه - فتبين أن الشيك لم يصرف في يوم استحقاقه لعدم وجود الرصيد - فإن من العدالة القول إن سوء النية لا يتوافر البتة في هذا الخصوص - ويكون تقدير الظروف التي تبين حسن نية الساحب من خصائص قاضي الموضوع.
كل هذا علاوة على أنه في المجال الجنائي يجب أن لا تترك للأوراق فرصة السيطرة على القضاء بالعقاب على الناس إذا استطاع هؤلاء إثبات حسن النية (مادة 300 إجراءات).
سادسًا: حُسن النية La bonne foi:
والدفع بحُسن النية يجب أن تسمح المحكمة الجنائية للساحب (المتهم) بإثباته بكافة الطرق إذ هو يرادف انتفاء القصد الجنائي وعدم توافر سوء النية وليس الأمر كما تقول محكمة النقض إنه لا يُجدي المتهم طلب إثبات وتحقيق أن تحرير الشيك كان في تاريخ سابق على التاريخ الثابت به - إذ أن حسن النية يطلق بصفة عامة على اعتقاد مشروعية الفعل اعتقادًا مبنيًا على أسباب تبرره ويخضع تقديرها للقاضي وبذلك قضت محكمة النقض في حكم لها قالت فيه (إن حسن النية المؤثر في المسؤولية عن الجريمة رغم توافر أركانها هو من كليات القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض وهو معنى لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم ويكفي أن يكون الشارع قد ضبطه وأرشد إلى عناصره في نص معين أو مناسبة معينة ليستفيد القاضي من ذلك القاعدة العامة الواجبة الاتباع وحسن النية ليس معنى باطنيًا بقدر ما هو موقف أو حالة يوجد فيها الشخص نتيجة ظروف تشوه حكمه على الأمور رغم تقديره لها تقديرًا كافيًا واعتماده في تصرفه على أسباب معقولة [(12)].
هذا هو حُسن النية عرفته محكمة النقض المصرية بأنه من كليات القانون لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم فأي حالة يحق فيها للمتهم إثبات حسن نيته أنسب من محاكمته عن جريمة يشترط فيها القانون توافر سوء النية - ونرى أن السماح للمتهم بإثبات حسن نيته أو أن يدفع به ويدلل عليه لا يستلزم حتمًا إثبات عدم العلم فإن العلم إن كان قرينة في بعض الصور دون الأخرى على توافر سوء النية كما قلنا فإنها قرينة تقبل دائمًا إثبات الدليل العكسي من المتهم علاوة على أن العلم قد لا يعتبر في بعض الحالات متضمنًا سوء النية - وكل هذا يخضع لتقدير القاضي الجنائي ويدخل في تكوين اقتناعه بوجوب العقاب أو عدمه.
هذا هو رأينا في القصد الجنائي في جريمة إعطاء الشيك بدون رصيد - قصد خاص يقوم على سوء النية وقصد الإضرار بالمجني عليه والعلم ما هو إلا قرينة بسيطة على توافر هذا القصد يسمح دائمًا للمتهم بإثبات عكسها والدفع بحسن النية يجد مجاله الحيوي في هذه الجريمة قبل غيرها.
[(1)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 231.
[(2)] المرحوم أحمد بك أمين صـ 750.
[(3)] نقض 23/ 4/ 1934 مجموعة النقض جزء (3) صـ 310 رقم (233).
[(4)] الأوراق التجارية للدكتور صالح طبعة 1950 صـ 409.
[(5)] نقض 30/ 12/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الرابعة عدد 1 صـ 288 رقم (112).
[(6)] نقض فرنسي الدائرة الجنائية 31/ 6/ 1936 Caz. Pal. 15 - 16.
[(7)] نقض 10/ 11/ 1941 القضية 1910 سنة 11 ق.
[(8)] نقض جنائي 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.
[(9)] نقض 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.
[(10)] نقض جنائي 11/ 3/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الثالثة العدد الثاني صـ 548 رقم 206.
[(11)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 263.
[(12)] نقض جنائي 11 نوفمبر سنة 1946 مجموعة القواعد القانونية جزء 7 رقم 220 صـ 199 وما بعدها.
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
سوء النية في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد
للسيد الأستاذ صلاح الدين عبد الوهاب وكيل نيابة الدرب الأحمر
القصد الجنائي:
إن مناط التجريم هو توافر القصد الجنائي لدى الجاني وذلك في الجرائم جميعًا على السواء - والقصد الجنائي قد يكون عامًا أي أن يتعمد الجاني ارتكاب الفعل المكون للركن المادي للجريمة عالمًا أن القانون يحرمه - وهذا النوع من القصد هو القدر اللازم في أغلب الجرائم العمدية حيث يكتفي القانون بمجرد ارتكاب الفعل مع الإرادة وقد يكون القصد الجنائي خاصًا فلا يكتفي القانون في جرائم معينة بمجرد ارتكاب الفعل المادي عن إرادة كاملة بل يستلزم فوق ذلك أن يكون ارتكاب الفعل لغرض خاص.
ففي هذه الحالات لا يتوافر القصد الجنائي إلا إذا كان ارتكاب الفعل تحقيقًا لهذا الغرض الخاص وبذلك قد يدخل الباعث في تكوين القصد الجنائي ويؤثر في الجريمة وجودًا وعدمًا.
ولا يُفهم من ذلك أن فكرة القصد الخاص dol speciale قاصرة على الحالة التي يمتزج فيها القصد بباعث من لون خاص هو نية الإضرار intention de nuire وإنما يكون القصد خاصًا كلما تطلب المشرع لتحقق ركن العمد أن تتوفر لدى الجاني النية أو الرغبة في تحقيق نتيجة معينة هي ضارة في ذاتها - بغض النظر عن تقدير الجاني لها واعتباره الشخصي إياها - وهنا لا قيام للمسؤولية الجنائية على أساس العمد إلا بتوافر القصد الخاص الذي نص عليه المشرع أي أنه يمكن القول إن التجريم يكون منصبًا على النتيجة الضارة التي تحوط المشرع لها بالنص على العقاب عند توافرها.
والمشرع قد يفصح عن استلزام القصد الجنائي ممتزجًا بالباعث الخبيث أي نية الإضرار (مثال ذلك) في جريمة البلاغ الكاذب (م 305 ع) وجريمة الإتلاف (م 361 ع) وجريمة إعطاء شيك لا يقابله رصيد قائم (م 337 ع) حيث يشترط في الأولى سوء القصد وفي الثانية قصد الإساءة وفي الثالثة سوء النية أو ممتزجًا بالرغبة في تحقق النتيجة الضارة المعينة كما في جريمة تعذيب متهم (م 126 ع) وجريمة النصب (م 336 ع) حيث يشترط في الأولى أن يكون التعذيب بقصد حمل المتهم على الاعتراف وفي الثانية أن يكون الاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها.
فإذا لم يكن اشتراط القصد الخاص منصوصًا عليه صراحةً كما في الأمثلة السابقة فإن طبيعة الجريمة قد توحي بالقول باستلزام هذا القصد كما في السرقة وجرائم القتل العمد والتزوير حيث يلزم أن يقترن القصد الجنائي بالنتيجة الضارة بل إن مناط التجريم في هذه الأنواع من الجرائم هو حدوث هذه النتيجة الضارة بذاتها.
القصد الجنائي في جريمة النصب:
تنص المادة (336) من قانون العقوبات على أنه (يعاقب بالحبس وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا مصريًا أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أي متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها أما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بخصوص ربح وهمي أو تسديد المبلغ الذي أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور - وأما بالتصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكًا له ولا له حق التصرف فيه وأما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة.
وهذه المادة على الوجه المتقدم إنما تبين بجلاء أن القصد الجنائي الذي استلزم المشرع توافره في جريمة النصب إنما هو قصد خاص - فلا يكتفي مجرد علم الجاني بأن الادعاءات التي يدعيها كاذبة بل يجب أن تتصرف نيته إلى الاستيلاء على جزء من ثروة الغير [(1)].
فالقصد الجنائي في جريمة النصب مركب من عنصرين:
الأول: العلم بالاحتيال.
والثاني: نية الاستيلاء على ثروة الغير.
أما عن العنصر الأول - وهو العلم بالاحتيال - فيجب أن يأتي الجاني الفعل وهو عالم بأنه كاذب ومضلل - فإذا كان الجاني يعتقد صحة ما يفعله أو يدعيه فلا عقاب ولو كان اعتقاده خاطئًا، وتذهب بعض الأحكام إلى أن استعمال الطرق السحرية ينهض بذاته دليلاً على سوء القصد في جريمة النصب ولكن يجب البحث دائمًا عن حقيقة اعتقاد الجاني وعليه هو إثبات حسن نيته ومتى ثبتت يتعين البراءة [(2)] والرجوع إلى اعتقاد الجاني يستشفه قاضي الموضوع من بين ثنايا التحقيق وأقوال المتهم.
أما عن العنصر الثاني وهو قصد الاستيلاء على جزء من ثروة الغير - فيفهم منه أنه يجب أن يقصد الجاني من طرق الاحتيال التي يستعملها أن ينتزع جزءًا من ثروة الغير وأن يستولى عليه ويضيفه إلى ملكه دون حق - وتطبيقًا لذلك حكم بأن المادة (336) لا تنطبق على من ينتحل صفة ليست له بقصد حمل بائع على تقسيط ثمن شيء مبيع دفع بعضه معجلاً ثم قام بسداد باقي الأقساط ولكنه عجز في النهاية عن دفع باقيها لأن اتخاذ الصفة الكاذبة لم يقصد به في هذه الحالة سلب مال المجني عليه وإنما قصد به أخذ رضاء البائع بالبيع بثمن بعضه مقسط وبعضه حال، وتكون العلاقة بين البائع والمشتري علاقة مدنية بحتة وليس فيها عمل جنائي [(3)] ومن هذا يظهر لنا أن القصد الجنائي في جريمة النصب وهو قصد خاص بمعنى أنه يجب أن يقصد الجاني الاستيلاء على جزء من ثروة المجني عليه - فإن هذا القصد لا يتوافر والجريمة لا تقوم متى تخلف عنصره الثاني ولو كان المتهم عالمًا بأنه يستعمل أساليب احتيالية للاستيلاء على الشيء كما لو كان يقصد الاستيلاء على شيء معين مزاحًا - وتقدير قصد المتهم أمر تعنى به محكمة الموضوع ويجب أن تستدل على وجوده من ظروف الجريمة وملابساتها جميعًا.
القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها في المادة (337) عقوبات:
تنص المادة (337 ع) على أنه يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى بسوء نية شيكًا لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب أو كان الرصيد أقل من قيمة الشيك أو سحب بعد إعطاء الشيك كل الرصيد أو بعضه بحيث يصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه الشيك بعدم الدفع.
وقبل أن نتكلم عن القصد الجنائي في هذه الجريمة بما يندرج تحته حتمًا الكلام عن معنى عبارة (سوء النية) الواردة بالمادة (337) المذكورة - يحسن أن نفسر معنى كلمة الشيك.
أولاً: ما تنص عليه المادة (193) تجاري:
تنص المادة (193) من القانون التجاري على أنه (إذا أثبت من حرر الحوالة الواجبة الدفع بمجرد الاطلاع عليها أو من حرر الورقة المتضمنة أمرًا بالدفع أن مقابل وفائها كان موجودًا ولم يستعمل في منفعته فحاملها الذي تأخر في تقديمها تضيع حقوقه التي على محررها المذكور.
والحوالة الواجبة الدفع بمجرد الدفع بمجرد الاطلاع عليها كما نصت المادة (193) تجاري إن هي إلا الشيك باعتباره أداة وفاء تقوم مقام النقود - ومعنى كونه أداة وفاء أن حامله ملزم بحسب الأصل أن يتوجه لصرف قيمته في يوم استحقاقه الذي هو يوم سحبه أيضًا.
فإذا تأخر المستفيد عن ذلك اليوم وتوجه للبنك المسحوب عليه فلم يجد له مقابل وفاء فقد أباح القانون التجاري لمحرر الشيك أن يثبت أن مقابل الوفاء كان موجودًا في وقت تحريره وأنه لم يستعمل في منفعته - وإذا استطاع إثبات ذلك فإن المسحوب له الشيك يتحمل مغبة إهماله في صرف قيمته وتأخره في ذلك.
ويلاحظ أن المادة (171) تجاري قضت بوجوب تقديمه للدفع في ظرف خمسة أيام محسوبًا منها اليوم المؤرخ فيه إذا كان مسحوبًا من البلدة التي يكون الدفع فيها - وأما إذا كان مسحوبًا في بلدة أخرى وجب تقديمه في ظرف ثمانية أيام محسوب منها اليوم المؤرخ فيه خلاف مدة المسافة.
وسبب تقصير هذه المواعيد هو رغبة المشرع في أن لا يلزم الساحب بالمحافظة على مقابل الوفاء لدى المسحوب عليه إلى ما لا نهاية حتى لا تتعرض بنوك الودائع لدفع مبالغ جسيمة في أوقات الأزمات أو الذعر المالي فتقدم إليها شيكات مسحوبة منذ عدة أسابيع أو شهور [(4)].
ثانيًا: الشيك في حكم المادة (337 ع):
وإذ أن المادة (337 ع) نصت على عقوبة إعطاء شيك بدون رصيد فإنه يجب تفسير (كلمة الشيك) بحيث تتسق مع تفسير القانون التجاري لها - وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه متى كان الحكم قد أثبت أن الشيك قد استوفى الشكل الذي يتطلعه القانون لكي تجري الورقة مجرى النقود - فإنه يعد شيكًا بالمعنى المقصود في حكم المادة (337 ع) ولا يؤثر في ذلك أن يكون تاريخه قد أثبت على غير الواقع ما دام أنه هو بذاته يدل على أنه مستحق الأداء بمجرد الاطلاع عليه - ذلك بأن المشرع إنما أراد أن يكون الشيك ورقة مطلقة للتداول وفي حمايتها حماية للجمهور والمعاملات [(5)].
والشيك الذي لا يطابق تاريخ إصداره التاريخ الحقيقي الذي حصل فيه الإصدار يسمى الشيك ذو التاريخ المقدم chéque postdaté - وقد ذهبت معظم الأحكام الفرنسية أن تقديم التاريخ أي ذكر تاريخ الإصدار على خلاف الواقع لا يرفع عن المحرر صفة الشيك وتسري على الساحب المادة (337) عقوبات متى ثبت سوء نيته [(6)] ومن هذا نرى أن القضاء الجنائي المصري والفرنسي لا يتقيد في تفسير لفظ الشيك بكونه مستكملاً كافة شرائط صحته أو غير مستكمل ما دام أن الشيك بحسب ظاهره يفيد أن الدفع بمجرد الاطلاع - فإذا كان للشيك تاريخان تاريخ إصدار وتاريخ استحقاق وثبت كلا التاريخين عليه فإن هذه الورقة بحسب ظاهرها تنتفي عنها صفة الشيك ولا تعدو أن تكون ورقة ائتمان كالكمبيالة فيها ذاتها ما يحول دون التعامل بها بغير صفتها هذه [(7)] ولنا على هذا النظر تعليق وهو أنه إذا ثبت من أي طريق أن الشيك صدر من الساحب في تاريخ سابق على التاريخ الثابت عليه كتاريخ للإصدار أي إذا ظهر حقيقة أن الشيك مقدم التاريخ فنرى أن هذا الوضع لا شك يؤثر في مسؤولية الساحب عندما يتبين أن لا رصيد له تحقيقًا أو إسقاطًا بحسب الظروف والأحوال.
فإذا كانت محكمة النقض المصرية قد قضت أن سوء النية المطلوب في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد قابل للسحب يتحقق بمجرد علم صاحب الشيك أنه وقد تم تحريره ليس له مقابل وفاء [(8)] فإن معنى ذلك أن علم الساحب بعدم وجود مقابل وفاء له وقت إصداره الشيك ينهض دليلاً على توافر سوء النية لديه ومن ثم تنطبق عليه المادة (337 ع) - إذا كان هو نظر محكمتنا العليا فلا شك أنه في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم يكون من صالح المتهم أن يثبت أنه وقت إصداره الشيك في التاريخ الحقيقي الذي لم يذكر في الشيك كتاريخ للإصدار بل ذكر تاريخ لاحق له - من صالحه أن يثبت أن في ذلك التاريخ كان مقابل الوفاء المستكمل للشروط موجودًا لحساب الساحب ولكننا للأسف نرى أن محكمة النقض ترى أنه لا يُجدي المتهم (ساحب الشيك) أن يثبت أن تحريره إنما كان في تاريخ سابق فطلبه تحقيق ذلك لا يكون مستأهلاً ردًا صريحًا [(9)].
ثالثًا: الأعمال التحضيرية للمادة (337 ع):
كانت المادة (337 ع) بحسب نصها في المشروع تقضي بأنه (يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى شيكًا (مع علمه) بأنه لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب.
وبجلسة 26 يوليو سنة 1937 طرحت هذه المادة بنصها السابق على مجلس النواب فقام النائب عبد المجيد الرمالي واقترح إضافة عبارة (بسوء نية) إلى نص المادة وعلق على ذلك بقوله إنه جرت العادة في الوقت الحاضر تأثرًا بظروف الأزمة على التعامل بالشيكات فتكتب لآجال معينة على أن تدفع في مواعيد الاستحقاق وقد يحل الموعد ويتعذر صرف الشيك لعسر التاجر - مع أنه كان حسن النية وقت تحريره فهل من الإنصاف أن توقع عليه عقوبة الحبس) وقد وافق وزير المالية وقتئذٍ على هذا الاقتراح بإضافة عبارة (بسوء النية) لكن مع حذف عبارة (مع علمه) لأن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم.
وقد قام النائب الأستاذ كامل صدقي وقال إنه لا يستطيع التفرقة بين سوء النية وبين العلم - وأضاف أنه لا يفهم أن شخصًا يجهل مقدار رصيده في البنك ثم هو مع هذا الجهل يعطي شيكًا ويفترض فيه بعد ذلك حسن النية - وهل يمكن التفريق في هذه الحالة بين سوء النية والعلم.
فقام وزير المالية وقال - أضرب مثلاً لما تساءل عنه حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي فمن الجائز أن يحرر شخص شيكًا وهو يعلم أنه ليس له رصيد في البنك ولكنه ينتظر أن يكون له رصيد في موعد الدفع يفي بصرف قيمة الشيك - فليس في هذا جريمة وإن كان فيه إهمال ظاهر - فلا نكن ملكيين أكثر من الملك فنصدر قانونًا أشد حكمًا من القانون الفرنسي الذي اقتبسنا منه حكم هذه المادة، وفي ظني أن حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي يسلم معي بأنه قد يكون هناك علم ولا يكون سوء نية فيحسن إلا نأخذ الأمور طفرة وأن نترك التقدير للقاضي فإذا اتضح له سوء النية أصدر حكمه بالعقوبة.
وقد وافق جميع النواب على المادة بتعديلها المذكور مع التفسير الذي أراده وزير المالية - موافقة إجماعية.
ومما تقدم يتبين أن استبدال عبارة (بسوء نية) بعبارة (مع علمه) التي كانت تتضمنها هذه المادة في مشروع القانون إنما يعني اختلاف العبارتين معنى ومبنى فالعلم لا ينهض دائمًا دليلاً قاطعًا على سوء النية كما يظهر من المناقشات التي ذكرناها آنفًا - ويجب إذن أن نتقيد بالمعنى الذي ذهبت إليه السلطة التشريعية عند إقرارها للنص من أن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم - ولكن العلم قاصر وحده عن إثبات توافر سوء النية الذي استلزم النص توافره كما يبدو.
رابعًا: تفسير سوء النية:
وإذا استقام كل ما تقدم وكان هذا هو ما ذهبت إليه مناقشات مجلس النواب وانتهى إليه قرار النص على الوجه الحالي على معنى اختلاف سوء النية عن العلم - فإنه يبدو أن محكمة النقض المصرية لا ترى هذا الرأي إذ أنها حكمت أن الجريمة المنصوص عليها في المادة (337 ع) تتحقق متى أصدر الساحب الشيك وهو يعلم وقت تحريره بأنه ليس له مقابل وفاء قابل للسحب وقد قصد المشرع بالعقاب على هذه الجريمة حماية الشيك باعتباره أداة وفاء تجري مجرى النقود في المعاملات فهو مستحق الأداء لدى الاطلاع دائمًا - ولهذا فلا يؤثر في قيام الجريمة بالنسبة إلى الساحب أن يكون المسحوب له على علم بحقيقة الواقع - فإذا قضت المحكمة ببراءة المتهم استنادًا إلى أنه كان يأمل لأسباب مقبولة في وجود هذا الرصيد عند تقديم الشيك لصرفه وأن المجني عليها كانت تعلم وقت قبولها الشيك بأنه لا يقابله رصيد مما تنتفي به الجريمة إذ لا يكون محتالاً عليها - فإنه يكون قد أخطأ [(10)].
ونرى أنه إذا كان هذا النظر يستقيم في حالة من حالات سحب الشيك فإنه قطعًا لا يستقيم في حالات أخرى إذ أن كون الشيك بحسب الأصل ورقة واجبة الدفع بمجرد الاطلاع وتقوم مقام النقود في المعاملات فإنه يحدث أحيانًا في الحياة العملية بل وكثيرًا وفي الغالب أن لا تكون هذه الورقة مستحقة الدفع لدى الاطلاع كما في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم - ولا شك أننا من ناحية القانون إن لم نرَ في هذا الشيك ما يعيبه بوصفه شيكًا يدخل في حدود نص المادة (337 ع) - فلا أقل من أن نسمح للساحب (المتهم) أن يثبت أنه وقت سحب هذا الشيك كان لديه رصيد (مقابل وفاء) مستكمل للشروط وأنه لم يسحب هذا الرصيد كله أو بعضه بعد ذلك وإلا كان مستحقًا العقاب أيضًا بنص المادة وإنما أصبح هذا الرصيد غير قابل للصرف بسبب لا دخل لإرادته فيه كالحجز عليه مثلاً من دائني الساحب وهذا ما تشير إليه المادة (193) تجاري التي سردنا نصها آنفًا وإذا استطاع الساحب إثبات ذلك وجب أن تنقضي الجريمة - هذا التفسير هو ما تقتضيه العدالة والذوق القانوني السليم وهو تفسير لا يترك مجالاً للقول بوجود فارق بين روح القانون التجاري والجنائي - هذا الأخير الذي يعني في المادة (337) الشيك بمعناه الوارد بالمادة (193) تجاري.
الصورة الأولى: حالة الشيك ذو التاريخ الصحيح:
أي أن يكون التاريخ الثابت على الشيك هو نفس التاريخ الذي أعطي فيه الشيك فعلاً وفي هذه الحالة الأصل أن مجرد العلم بعدم وجود رصيد كافٍ يتضمن سوء النية - إذ أن الشيك وقد حرر في التاريخ الثابت عليه فإن (الحامل) أو المسحوب له في حل من التوجه لصرف قيمته في الحال - فإذا تبين أن ليس للساحب مقابل وفاء أو أن مقابل الوفاء غير كافٍ لتغطية قيمة الشيك فإن علم الساحب بذلك يعتبر دليلاً على سوء نيته.
وإنما أيضًا يحق للساحب إثبات حسن نيته بأنه كان يجهل عدم استكمال مقابل الوفاء للشروط
اللازمة لصرفه وأن جهله كان مبنيًا على أسباب معقولة ومستساغة - إذ أن القاضي الجنائي وهو يحكم باقتناعه يجب أن تترك له حرية استخلاص سوء النية وبالتالي وجود القصد الجنائي أو عدم وجوده من ظروف وملابسات الواقعة المعروضة عليه - فإن رأى توافر هذا القصد حكم بالعقاب وإلا فيحكم بالبراءة - وقد يعتبر أحيانًا الإهمال الفاحش في هذا السبيل قرينة على سوء النية [(11)].
الصورة الثانية: حالة الشيك ذي التاريخ المقدم chéque postdaté:
أما في حالة تأخير التاريخ عن اليوم الذي أعطي فيه الشيك فعلاً فإنه مجال إثبات حسن النية والدفع به كبير في هذه الصورة وهذا هو ما يُستنتج من سياق المناقشة التي دارت بمجلس النواب عن المادة (337 ع) والتي سردنا جانبًا منها قبل ذلك - فإذا استبان القاضي أن الساحب عند إصداره الشيك في التاريخ الذي أعطي فيه فعلاً ولو كان سابقًا على تاريخ الاستحقاق انصرفت نيته إلى عدم دفع قيمة الشيك وتضييع حق المسحوب له حكم بالعقاب لتوافر عنصر سوء النية - وإن استنتج من وقائع الدعوى وظروفها أن عدم صرف قيمة الشيك إنما جاء بناءً على أمر خارج عن إرادة الساحب فإنه ولو كان قد أخطأ وكان خطأه مؤسسًا على اعتقاد حسن ونية سليمة منه فإن العقاب غير واجب.
وهاتان الصورتان إنما نتكلم عنها في حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته - أما في حالة سحب الرصيد وحالة الأمر بعدم الدفع فإن في نفس العمل الذي يتضمن كل منهما دليل على توافر سوء النية - واستخلاص ذلك سهل ميسور لقاضي الموضوع ولا تثير الإشكال الذي تثيره الحالة الأولى وهي حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته.
خامسًا: نص المادة (337 ع) صورة من صور النصب:
ونرى أن إلحاق نص المادة (337 ع) بنص المادة (336 ع) التي تتكلم عن جريمة النصب والتي سبق أن أبنا القصد الجنائي فيها وأنه يتكون من عنصرين - نرى أن إلحاق المادة الأولى بالثانية في حكم العقاب اعتبار من المشرع أن جريمة إعطاء شيك بدون رصيد صورة من صور جريمة النصب أو تطبيق لها في ناحية خاصة هي ناحية التعامل بالشيك والتي رأى المشرع حمايتها.
لذا كان واجب أن يكون تفسير القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها بالمادة (337 ع) تفسيرًا يتسق مع القصد الجنائي في جريمة النصب، أي يجب القول باعتباره قصدًا خاصًا لا يتوافر إلا بظهور عنصر سوء النية الذي هو الباعث الخبيث أي نية الإضرار بالمسحوب له وتضييع حقه في مقابل الوفاء - وهذا القصد الخاص إنما هو صورة من صور القصد الخاص في جريمة النصب وهو نية الاستيلاء على ثروة الغير كلها أو بعضها - فلا تتم الجريمة إلا بتوافر هذا القصد الخاص فإذا انتفى فإنما يسقط ركنها المعنوي الذي لا تقوم بدونه.
كل هذا يدعونا إليه ما يظهر في العمل من حالات تسحب فيها شيكات ولا يتضمن سحبها سوء نية من أصدرها ومع ذلك يقدم الساحب للمحكمة ويكون من الغبن العقاب في مثل هذه الحالات، فإذا سحب موظف شيكًا على بنك مرتبه محول عليه - في يوم 25 من الشهر وهو يعتقد بناءً على ما علمه من الصحف أو غيرها - أن مرتبات الموظفين ستصرف في ذلك اليوم لمناسبة معينة وكانت الحقيقة أن المرتبات لا تصرف إلا يوم 27 فإنه يجب عدم عقابه على إصدار شيك بدون رصيد - ولو أنه وقت تحرير الشيك لم يكن لديه رصيد وهو يعلم ذلك ولكنه كان حسن النية واعتقد بناءً على أسباب معينة مقبولة أن في تاريخ استحقاق الشيك سيكون لديه رصيد كافٍ لورود راتبه - فتبين أن الشيك لم يصرف في يوم استحقاقه لعدم وجود الرصيد - فإن من العدالة القول إن سوء النية لا يتوافر البتة في هذا الخصوص - ويكون تقدير الظروف التي تبين حسن نية الساحب من خصائص قاضي الموضوع.
كل هذا علاوة على أنه في المجال الجنائي يجب أن لا تترك للأوراق فرصة السيطرة على القضاء بالعقاب على الناس إذا استطاع هؤلاء إثبات حسن النية (مادة 300 إجراءات).
سادسًا: حُسن النية La bonne foi:
والدفع بحُسن النية يجب أن تسمح المحكمة الجنائية للساحب (المتهم) بإثباته بكافة الطرق إذ هو يرادف انتفاء القصد الجنائي وعدم توافر سوء النية وليس الأمر كما تقول محكمة النقض إنه لا يُجدي المتهم طلب إثبات وتحقيق أن تحرير الشيك كان في تاريخ سابق على التاريخ الثابت به - إذ أن حسن النية يطلق بصفة عامة على اعتقاد مشروعية الفعل اعتقادًا مبنيًا على أسباب تبرره ويخضع تقديرها للقاضي وبذلك قضت محكمة النقض في حكم لها قالت فيه (إن حسن النية المؤثر في المسؤولية عن الجريمة رغم توافر أركانها هو من كليات القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض وهو معنى لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم ويكفي أن يكون الشارع قد ضبطه وأرشد إلى عناصره في نص معين أو مناسبة معينة ليستفيد القاضي من ذلك القاعدة العامة الواجبة الاتباع وحسن النية ليس معنى باطنيًا بقدر ما هو موقف أو حالة يوجد فيها الشخص نتيجة ظروف تشوه حكمه على الأمور رغم تقديره لها تقديرًا كافيًا واعتماده في تصرفه على أسباب معقولة [(12)].
هذا هو حُسن النية عرفته محكمة النقض المصرية بأنه من كليات القانون لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم فأي حالة يحق فيها للمتهم إثبات حسن نيته أنسب من محاكمته عن جريمة يشترط فيها القانون توافر سوء النية - ونرى أن السماح للمتهم بإثبات حسن نيته أو أن يدفع به ويدلل عليه لا يستلزم حتمًا إثبات عدم العلم فإن العلم إن كان قرينة في بعض الصور دون الأخرى على توافر سوء النية كما قلنا فإنها قرينة تقبل دائمًا إثبات الدليل العكسي من المتهم علاوة على أن العلم قد لا يعتبر في بعض الحالات متضمنًا سوء النية - وكل هذا يخضع لتقدير القاضي الجنائي ويدخل في تكوين اقتناعه بوجوب العقاب أو عدمه.
هذا هو رأينا في القصد الجنائي في جريمة إعطاء الشيك بدون رصيد - قصد خاص يقوم على سوء النية وقصد الإضرار بالمجني عليه والعلم ما هو إلا قرينة بسيطة على توافر هذا القصد يسمح دائمًا للمتهم بإثبات عكسها والدفع بحسن النية يجد مجاله الحيوي في هذه الجريمة قبل غيرها.
[(1)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 231.
[(2)] المرحوم أحمد بك أمين صـ 750.
[(3)] نقض 23/ 4/ 1934 مجموعة النقض جزء (3) صـ 310 رقم (233).
[(4)] الأوراق التجارية للدكتور صالح طبعة 1950 صـ 409.
[(5)] نقض 30/ 12/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الرابعة عدد 1 صـ 288 رقم (112).
[(6)] نقض فرنسي الدائرة الجنائية 31/ 6/ 1936 Caz. Pal. 15 - 16.
[(7)] نقض 10/ 11/ 1941 القضية 1910 سنة 11 ق.
[(8)] نقض جنائي 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.
[(9)] نقض 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.
[(10)] نقض جنائي 11/ 3/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الثالثة العدد الثاني صـ 548 رقم 206.
[(11)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 263.
[(12)] نقض جنائي 11 نوفمبر سنة 1946 مجموعة القواعد القانونية جزء 7 رقم 220 صـ 199 وما بعدها.
بحث قصور التشريع الجنائي عن حماية الحيازة في العقار
مجلة المحاماة – العدد العاشر
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث
قصور التشريع الجنائي عن حماية الحيازة في العقار
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
مفارقات:
من يختلس منقولاً مملوكًا للغير يعد سارقًا ويعاقب بالحبس، ولو كان المسروق رغيفًا من الخبز وكان الباعث على السرقة الجوع…
أما من يختلس عقارًا مملوكًا للغير فلا يعد سارقًا ولا يعاقب، ولو كانت قيمة العقار ألوف الجنيهات وكان الباعث على الاختلاس الرغبة في سلب مال الغير، ولا عقاب عليه حتى لو استولى من ثمار العقار المغتصب على ما يقدر بمئات أو ألوف الجنيهات قبل أن يتمكن صاحب العقار من استرداده…
حقًا إن المشرع أضاف إلى قانون العقوبات في سنة 1904, بابًا خاصًا بانتهاك حرمة ملك الغير [(1)]، ولكنه لسوء الحظ اشترط للعقاب على الجرائم الواردة في هذا الباب شروطًا تركت ثغرة واسعة يفلت بواسطتها مرتكبو تلك الجرائم من العقاب.
وآية ذلك أن القانون لا يعاقب من اغتصب عقارًا ولا من دخل عقارًا في حيازة آخر إلا إذا كان ذلك (بقصد منع حيازته بالقوة) أو (بقصد ارتكاب جريمة فيه) !! وهذا هو القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عليها في المواد (369) و (370) عقوبات, فإذا لم يثبت أن المتهم كان يقصد استعمال القوة بعد دخوله العقار فلا عقاب، ومن وضع يده على عقار في غياب صاحبه لا يعاقب [(2)].
ومن ذلك يبين أن من يغتصب عقارًا خلسةً من صاحبه لا يقع تحت طائلة قانون العقوبات، وكذلك من يغتصب عقارًا بالحيلة أو بواسطة إجراءات صورية يتخذها في غير مواجهة المالك أو الحائز، فهؤلاء لا حيلة للقانون الجنائي فيهم !!
وعلى مالك العقار أو حائزه أن يلجأ إلى القضاء المدني برفع دعوى الملكية أو دعوى منع التعرض أو استرداد الحيازة – إذا توافرت شروطهما - فإذا حالف التوفيق المالك أو الحائز الحقيقي، بعد وقت طويل وجهد كبير ونفقات طائلة، فلن يظفر في النهاية إلا باسترداد عقاره بعد أن يكون الغاصب قد احتله عدة سنوات، وبعد أن يكون قد استولى من ثماره على مئات أو ألوف من الجنيهات.
وإذا كان الغاصب معسرًا أو معدمًا - وغالبًا ما يكون - فلن يجد المالك أو الحائز ما يرجع به عليه فتضيع عليه الثمار كما تضيع عليه نفقات التقاضي.
ومن الغريب أن القانون الجنائي يعاقب مختلس المنقول بالحبس الذي قد يبلغ في السرقات البسيطة ثلاث سنوات (مادة (317) و (318) عقوبات) فإذا اقترنت السرقة بالإكراه كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة (مادة (314) عقوبات) بينما لا يعاقب مختلس العقار أصلاً إذا دخل العقار دون أن يقصد منع حيازة صاحبه بالقوة أو بقصد ارتكاب جريمة فيه! وحتى إذا دخل العقار بقصد منع حيازة صاحبه بالقوة أو يقصد ارتكاب جريمة فيه فعاقبه الحبس مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر أو غرامة لا تتجاوز عشرين جنيهًا (مادة (369) عقوبات)!
أرأيت هذه التفرقة الصارخة التي لا مبرر لها مطلقًا والتي لا يسيغها منطق ولا عدالة، بل التي تغري الكثيرين على استغلال هذا النقص في التشريع الجنائي للسطو على أملاك الناس وهم في مأمن من العقاب!
من صور السطو على العقار التي لا يعاقب عليها القانون:
ومن صور هذا السطو الذي شهدته ساحات المحاكم أخيرًا ما اقترفه ويقترفه مغامر أفاق احترف السطو على الأراضي والعقارات في غفلة من أصحابها، وطريقته في ذلك أن يحرر عقد إيجار صوري بينه وبين أحد أعوانه عن العقار الذي يريد اغتصابه، ثم يرفع دعوى ضد المستأجر المزعوم بطلب مبلغ يدعي أنه متأخر إيجار مع طلب إخلاء العقار وتسليمه إليه! وما أن يحصل على حكم بطلباته حتى يتقدم به للتنفيذ فيفاجأ صاحب العقار بأحد المحضرين يسلم ملكه إلى المؤجر المزعوم!
فإذا اتفق أن كان المالك أو الحائز حاضرًا - وكثيرًا ما لا يكون - وطلب الاستشكال في تنفيذ الحكم الذي لم يصدر في مواجهته فإن الإشكال لا يقبل غالبًا لعدم وجود المستندات الدالة على الملكية ووضع اليد وقت التنفيذ، فلا يسع المحضر القائم بالتنفيذ إلا أن يحرر محضر التسليم وينصرف.
وإذا لجأ مالك العقار أو حائزه إلى البوليس فكثيرًا ما يقف البوليس حائرًا أمام الحكم الصوري ومحضر التسليم الذي بنى عليه، ومن ثم يكلف الشاكي بمباشرة دعواه مدنيًا…
وإذا ما أراد المالك أو الحائز رفع إشكال بعريضة إلى القضاء المستعجل فلا يقبل دعواه بحجة أن التنفيذ قد تم، وإذا طلب من القضاء المستعجل إلغاء محضر التسليم قضى بعدم الاختصاص لمساس الفصل في الدعوى بأصل الحق ولأن تحقيق وضع اليد من اختصاص قضاء الموضوع..
فلا يجد المالك أو الحائز المجني عليه طريقًا إلا رفع دعوى عادية بطلب إلغاء محضر التسليم وإعادة وضع يده على العقار، وغني عن البيان أنه يشترط لقبول هذه الدعوى أن ترفع في ظرف سنة من تاريخ حصول التعرض وأن يثبت المدعي وضع يده على العقار وضعًا هادئًا ظاهرًا مستمرًا لا لبس فيه ولا غموض سنة كاملة على الأقل قبل حصول التعرض (مادة (961) مدني).
فإذا ما قدر للمالك النجاح في هذه الدعوى كان عليه أن ينتظر الفصل في الاستئناف قبل أن يسترد عقاره من غاصبه…
وهذه الإجراءات تستغرق عادةً سنة أو سنوات، وتكبد صاحبها الكثير من الجهد والنفقات ولا سبيل له إلى الحصول على شيء من تلك النفقات ما دام الغاصب معدمًا لا يملك من حطام الدنيا شيئًا.
ولقد راعنا أن تتكرر هذه المأساة من نفس الشخص مع عشرات من الضحايا الذين يرميهم القدر في طريقه، كما هالنا أنه في إحدى المغامرات دخل المنزل الذي أراد اغتصابه بطريق التسور ليلاً - على أثر إخلائه من ساكنيه - ليدعي وضع يده عليه!
ومع إنه صدرت عدة أحكام نهائية دفعت ذلك المغامر الجريء باحتراف السطو على أملاك الناس، فإنه لا زال حرًا طليقًا يعيث في الأرض فسادًا، ويرتكب كل يوم سطوًا جديدًا، ما دامت يد العدالة قاصرة عن أن تنزل به عقوبة رادعة له وزاجرة لأمثاله…
دفع اعتراض:
قد يقال إن الغصب في بعض تلك الصور يكون وليد إجراءات مدنية، وأن تحقيق صورية تلك الإجراءات وتحقيق وضع اليد يجب أن يترك للقواعد المدنية والقضاء المدني، وهذا القول مردود بأن كثيرًا من جرائم الأموال يستلزم تعرض سلطة التحقيق والقضاء الجنائي لمسائل مدنية وتطبيق أحكام القانون المدني كجرائم خيانة الأمانة والتزوير، ولم يكن ذلك حائلاً دون تجريم الفعل فيها وعقاب الفاعل.
وفي رأيي أن غصب العقار وسلب الحيازة - وإن تم تحت ستار إجراءات مدنية - إلا أنه جريمة ضد المجتمع أخطر من جرائم السرقة والنصف وخيانة الأمانة والتزوير وأولى منها بالعقاب متى ثبت في حق مرتكبها سوء النية وقصد الغصب.
وجوب تجريم غصب العقار:
لقد كثر هذا النوع من السطو كثرة أقلقت الملاك وشغلت المحاكم بحيث أصبح الأمر يستلزم تدخل المشرع لحماية الحيازة في العقار من طريق تجريم غصب العقار وسلب الحيازة - ولو لم يكون الغصب ملحوظًا فيه استعمال القوة أو مقصودًا منه ارتكاب جريمة - كالسرقة العادية في المنقول، ومن طريق تشديد عقوبة سلب الحيازة بالقوة بجعلها عقوبة الجناية أسوةً بالسرقة بإكراه، لعل في ذلك ما يحمي الحيازة في العقار حماية كافية ويردع المغامرين من السطو على أملاك الناس الآمنين.
[(1)] أضيف هذا الباب بناءً على طلب مجلس شورى القوانين، واقتبست أحكامه من المواد (441) وما بعدها من قانون العقوبات الهندي والمواد (352) وما بعدها من قانون العقوبات السوداني.
[(2)] العقوبات لأحمد بك أمين القسم الخاص طبعة أولى ص (814).
والموسوعة الجنائية لجندي بك عبد الملك الجزء الثاني ص (87) رقم (21) – (23).
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث
قصور التشريع الجنائي عن حماية الحيازة في العقار
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
مفارقات:
من يختلس منقولاً مملوكًا للغير يعد سارقًا ويعاقب بالحبس، ولو كان المسروق رغيفًا من الخبز وكان الباعث على السرقة الجوع…
أما من يختلس عقارًا مملوكًا للغير فلا يعد سارقًا ولا يعاقب، ولو كانت قيمة العقار ألوف الجنيهات وكان الباعث على الاختلاس الرغبة في سلب مال الغير، ولا عقاب عليه حتى لو استولى من ثمار العقار المغتصب على ما يقدر بمئات أو ألوف الجنيهات قبل أن يتمكن صاحب العقار من استرداده…
حقًا إن المشرع أضاف إلى قانون العقوبات في سنة 1904, بابًا خاصًا بانتهاك حرمة ملك الغير [(1)]، ولكنه لسوء الحظ اشترط للعقاب على الجرائم الواردة في هذا الباب شروطًا تركت ثغرة واسعة يفلت بواسطتها مرتكبو تلك الجرائم من العقاب.
وآية ذلك أن القانون لا يعاقب من اغتصب عقارًا ولا من دخل عقارًا في حيازة آخر إلا إذا كان ذلك (بقصد منع حيازته بالقوة) أو (بقصد ارتكاب جريمة فيه) !! وهذا هو القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عليها في المواد (369) و (370) عقوبات, فإذا لم يثبت أن المتهم كان يقصد استعمال القوة بعد دخوله العقار فلا عقاب، ومن وضع يده على عقار في غياب صاحبه لا يعاقب [(2)].
ومن ذلك يبين أن من يغتصب عقارًا خلسةً من صاحبه لا يقع تحت طائلة قانون العقوبات، وكذلك من يغتصب عقارًا بالحيلة أو بواسطة إجراءات صورية يتخذها في غير مواجهة المالك أو الحائز، فهؤلاء لا حيلة للقانون الجنائي فيهم !!
وعلى مالك العقار أو حائزه أن يلجأ إلى القضاء المدني برفع دعوى الملكية أو دعوى منع التعرض أو استرداد الحيازة – إذا توافرت شروطهما - فإذا حالف التوفيق المالك أو الحائز الحقيقي، بعد وقت طويل وجهد كبير ونفقات طائلة، فلن يظفر في النهاية إلا باسترداد عقاره بعد أن يكون الغاصب قد احتله عدة سنوات، وبعد أن يكون قد استولى من ثماره على مئات أو ألوف من الجنيهات.
وإذا كان الغاصب معسرًا أو معدمًا - وغالبًا ما يكون - فلن يجد المالك أو الحائز ما يرجع به عليه فتضيع عليه الثمار كما تضيع عليه نفقات التقاضي.
ومن الغريب أن القانون الجنائي يعاقب مختلس المنقول بالحبس الذي قد يبلغ في السرقات البسيطة ثلاث سنوات (مادة (317) و (318) عقوبات) فإذا اقترنت السرقة بالإكراه كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة (مادة (314) عقوبات) بينما لا يعاقب مختلس العقار أصلاً إذا دخل العقار دون أن يقصد منع حيازة صاحبه بالقوة أو بقصد ارتكاب جريمة فيه! وحتى إذا دخل العقار بقصد منع حيازة صاحبه بالقوة أو يقصد ارتكاب جريمة فيه فعاقبه الحبس مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر أو غرامة لا تتجاوز عشرين جنيهًا (مادة (369) عقوبات)!
أرأيت هذه التفرقة الصارخة التي لا مبرر لها مطلقًا والتي لا يسيغها منطق ولا عدالة، بل التي تغري الكثيرين على استغلال هذا النقص في التشريع الجنائي للسطو على أملاك الناس وهم في مأمن من العقاب!
من صور السطو على العقار التي لا يعاقب عليها القانون:
ومن صور هذا السطو الذي شهدته ساحات المحاكم أخيرًا ما اقترفه ويقترفه مغامر أفاق احترف السطو على الأراضي والعقارات في غفلة من أصحابها، وطريقته في ذلك أن يحرر عقد إيجار صوري بينه وبين أحد أعوانه عن العقار الذي يريد اغتصابه، ثم يرفع دعوى ضد المستأجر المزعوم بطلب مبلغ يدعي أنه متأخر إيجار مع طلب إخلاء العقار وتسليمه إليه! وما أن يحصل على حكم بطلباته حتى يتقدم به للتنفيذ فيفاجأ صاحب العقار بأحد المحضرين يسلم ملكه إلى المؤجر المزعوم!
فإذا اتفق أن كان المالك أو الحائز حاضرًا - وكثيرًا ما لا يكون - وطلب الاستشكال في تنفيذ الحكم الذي لم يصدر في مواجهته فإن الإشكال لا يقبل غالبًا لعدم وجود المستندات الدالة على الملكية ووضع اليد وقت التنفيذ، فلا يسع المحضر القائم بالتنفيذ إلا أن يحرر محضر التسليم وينصرف.
وإذا لجأ مالك العقار أو حائزه إلى البوليس فكثيرًا ما يقف البوليس حائرًا أمام الحكم الصوري ومحضر التسليم الذي بنى عليه، ومن ثم يكلف الشاكي بمباشرة دعواه مدنيًا…
وإذا ما أراد المالك أو الحائز رفع إشكال بعريضة إلى القضاء المستعجل فلا يقبل دعواه بحجة أن التنفيذ قد تم، وإذا طلب من القضاء المستعجل إلغاء محضر التسليم قضى بعدم الاختصاص لمساس الفصل في الدعوى بأصل الحق ولأن تحقيق وضع اليد من اختصاص قضاء الموضوع..
فلا يجد المالك أو الحائز المجني عليه طريقًا إلا رفع دعوى عادية بطلب إلغاء محضر التسليم وإعادة وضع يده على العقار، وغني عن البيان أنه يشترط لقبول هذه الدعوى أن ترفع في ظرف سنة من تاريخ حصول التعرض وأن يثبت المدعي وضع يده على العقار وضعًا هادئًا ظاهرًا مستمرًا لا لبس فيه ولا غموض سنة كاملة على الأقل قبل حصول التعرض (مادة (961) مدني).
فإذا ما قدر للمالك النجاح في هذه الدعوى كان عليه أن ينتظر الفصل في الاستئناف قبل أن يسترد عقاره من غاصبه…
وهذه الإجراءات تستغرق عادةً سنة أو سنوات، وتكبد صاحبها الكثير من الجهد والنفقات ولا سبيل له إلى الحصول على شيء من تلك النفقات ما دام الغاصب معدمًا لا يملك من حطام الدنيا شيئًا.
ولقد راعنا أن تتكرر هذه المأساة من نفس الشخص مع عشرات من الضحايا الذين يرميهم القدر في طريقه، كما هالنا أنه في إحدى المغامرات دخل المنزل الذي أراد اغتصابه بطريق التسور ليلاً - على أثر إخلائه من ساكنيه - ليدعي وضع يده عليه!
ومع إنه صدرت عدة أحكام نهائية دفعت ذلك المغامر الجريء باحتراف السطو على أملاك الناس، فإنه لا زال حرًا طليقًا يعيث في الأرض فسادًا، ويرتكب كل يوم سطوًا جديدًا، ما دامت يد العدالة قاصرة عن أن تنزل به عقوبة رادعة له وزاجرة لأمثاله…
دفع اعتراض:
قد يقال إن الغصب في بعض تلك الصور يكون وليد إجراءات مدنية، وأن تحقيق صورية تلك الإجراءات وتحقيق وضع اليد يجب أن يترك للقواعد المدنية والقضاء المدني، وهذا القول مردود بأن كثيرًا من جرائم الأموال يستلزم تعرض سلطة التحقيق والقضاء الجنائي لمسائل مدنية وتطبيق أحكام القانون المدني كجرائم خيانة الأمانة والتزوير، ولم يكن ذلك حائلاً دون تجريم الفعل فيها وعقاب الفاعل.
وفي رأيي أن غصب العقار وسلب الحيازة - وإن تم تحت ستار إجراءات مدنية - إلا أنه جريمة ضد المجتمع أخطر من جرائم السرقة والنصف وخيانة الأمانة والتزوير وأولى منها بالعقاب متى ثبت في حق مرتكبها سوء النية وقصد الغصب.
وجوب تجريم غصب العقار:
لقد كثر هذا النوع من السطو كثرة أقلقت الملاك وشغلت المحاكم بحيث أصبح الأمر يستلزم تدخل المشرع لحماية الحيازة في العقار من طريق تجريم غصب العقار وسلب الحيازة - ولو لم يكون الغصب ملحوظًا فيه استعمال القوة أو مقصودًا منه ارتكاب جريمة - كالسرقة العادية في المنقول، ومن طريق تشديد عقوبة سلب الحيازة بالقوة بجعلها عقوبة الجناية أسوةً بالسرقة بإكراه، لعل في ذلك ما يحمي الحيازة في العقار حماية كافية ويردع المغامرين من السطو على أملاك الناس الآمنين.
[(1)] أضيف هذا الباب بناءً على طلب مجلس شورى القوانين، واقتبست أحكامه من المواد (441) وما بعدها من قانون العقوبات الهندي والمواد (352) وما بعدها من قانون العقوبات السوداني.
[(2)] العقوبات لأحمد بك أمين القسم الخاص طبعة أولى ص (814).
والموسوعة الجنائية لجندي بك عبد الملك الجزء الثاني ص (87) رقم (21) – (23).
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)