مجلة المحاماة – العددان التاسع والعاشر
السنة السابعة العشرون سنة 1947
المحاضرة
التي ألقاها حضرة صاحب العزة الأستاذ محمود شوقي بك الأمين العام لمصلحة الشهر العقاري (بنادي المحامين بمصر في خلال شهر إبريل سنة 1947)
(قانون الشهر العقاري من الناحية العملية)
القسم الأول
عندما اعتزمت إلقاء محاضرة في الشهر العقاري وكانت أول ما يلقي في هذا الصدد تناوبتنى عوامل عدة: هل أتحدث إلى حضراتكم عن القانون من الناحية التاريخية أو من الناحية الفنية القانونية أو من الناحية العملية، فلو أنني تكلمت عن الشهر العقاري في مختلف هذه النواحي لأخذ من الوقت ما إذا أضيف إلى جمود الموضوع وصلابته ما كان كفيلاً بألا يبقى قبل انتهاء هذه المحاضرة في الصالة إلا ملقيها.
ولذلك قد رأيت ألا أتحدث اليوم عن قانون الشهر العقاري إلا من الناحية العملية تاركًا النواحي الأخرى لفرص قادمة بإذن الله وذلك لأن هذه الناحية العملية هي صاحبة الأهمية الأولى لكل مشتغل بالقانون، لأنني أعتقد أنه لا غنى لمشتغل بالقانون سواء كان في القضاء أم في المحاماة عن الالتجاء إلى قانون الشهر في كثير مما يعرض عليه في اليوم الواحد، وأعتقد أن لشرح هذا الموضوع من الناحية العملية فيه راحة للجمهور وراحة لمن عهد إليهم تنفيذ النظام الجديد.
صدر قانون تنظيم الشهر العقاري محققًا لأمنيتين:
1 - إحاطة الملكية العقارية بسياج من الضمان الكفيل باستتباب المعاملات الخاصة بالحقوق العينية على أساس سليم.
2 - تركيز كافة أعمال الشهر في هيئة واحدة مستقلة تهيمن على شؤونها عناصر قانونية ولعل هذه الأمنية الأخيرة التي جاشت في الصدور منذ أواخر القرن الماضي وتعذر تحقيقها إذ ذاك لاعتراض ممثلي الدول على سلب جزء هام من اختصاص المحاكم المختلطة التي كانت تتولى عملية الشهر فيما يتعلق بحوالي 90 % من المحررات.
على أن ذلك التفكير ظل موجودًا واستمرت المحاولات نحو تحقيق هذا الغرض إلى أن تهيأت أخيرًا الفرصة بعد أن استردت الحكومة المصرية كامل حريتها في التشريع وبعد أن اقترب ميعاد انتهاء فترة الانتقال للمحاكم المختلطة.
فألفت لجنة برئاسة معالي كامل مرسي باشا قامت بوضع القانون الجديد الذي كان من المصادفات الطريفة أن تولي معاليه وزارة العدل وقد انتهت اللجنة من عملها فباشر معاليه باقي خطواته إلى أن صدر كتشريع من تشريعات الدولة يحوي إصلاحًا لعله من أهم الإصلاحات التي تمت في مصر في المدة الأخيرة.
أنشئت إذن هيئة مستقلة سماها القانون المكتب الرئيس للشهر تهيمن على مكاتب للشهر في مختلف عواصم المديريات عددها 15 ومأموريات في مراكز القطر عددها الآن 83 مأمورية وقد بلغ من الحرص في تحقيق استقلال هذه الهيئة فيما يختص بمباشرة عملها أنه كان قد اقترح في المشروع إعطاء رؤساء المحاكم حق تفتيش المكاتب الواقعة في دائرة اختصاص محاكمهم مرة كل ثلاثة شهور أو كل ما استدعى العمل ذلك إلا أن هذا النص وكان المادة الثامنة من المشروع حذف في البرلمان لما رآه من ضرورة إشاعة الثقة بين الجمهور في الإدارة الحكومية فضلاً عن أن تتبع هذه المكاتب للأمين العام ثم وضعها في نفس الوقت تحت تفتيش رؤساء المحاكم لا يستقيم مع طبيعة الأشياء.
وقد نص القانون على سلخ أعمال التسجيل من مختلف المحاكم ومنحها للمكاتب التي أصبح كل منها مختصًا دون سواه بشهر المحررات المتعلقة بعقارات أو بأجزاء من عقارات واقعة في دائرة اختصاصه ويستتبع ذلك أنه لا يكون لشهر محرر يحوي عقارات تقع في دائرة اختصاص أكثر من مكتب أثر إلا إذا شهر في كل من المكاتب المختصة – فإذا اقتصر صاحب الشأن على شهر محرر في مكتب معين فلا يكون لهذا الشهر قيمة إلا بالنسبة للعقارات التي تقع في دائرة اختصاص هذا المكتب فقط والذي يحدث عمليًا أن يقدم المحرر إلى مكتب الشهر الأول فتتم فيه جميع عملية الشهر ثم يعطي صاحب الشأن بناءً على طلبه صورة خطية طبق الأصل من المحرر على الورق الأزرق الخاص ليتولى تقديمها إلى المكتب الثاني لإجراء نفس العملية فيه.
وقد نص القانون الجديد على أن عملية الشهر تتم على مرحلتين:
أولاً: المرحلة الأولى ويصح أن نسميها المرحلة التمهيدية تتم في المأمورية.
ثانيًا: المرحلة الثانية وهي عملية الشهر ذاتها وتتم في المكتب.
وألقى عبء القيام بالمرحلتين على أصحاب الشأن دون سواهم أو من يقوم مقامهم وبذلك زال عن أقلام الكتاب عبء تسجيل بعض المحررات التي كان يقضي القانون بتكليفها بمباشرة عملية الشهر فيها كأحكام رسو المزاد وأحكام الشفعة وأوامر الاختصاص وتبدأ المرحلة الأولى في الشهر بتقديم طلب موقع عليه من صاحب الشأن من أصل على ورقة دمغة وثلاث صور على ورق عادي وهو المتصرف أو المتصرف إليه في العقود مثلاً أو لمن كان المحرر لصالحه في أوراق الإجراءات أو صحف الدعاوى أو الأحكام.
واشترط القانون وجوب اشتمال الطلب على بيانات معينة تبين بطريق التفصيل شخصية كل طرف في المحرر وبيان العقار بالدقة وبيان التكليف وأصل الملكية والحقوق العينية المقررة على العقار المتصرف فيه وخصوصًا ارتفاقات الري والصرف وأشار القانون أنه يجب أن يرفق بالطلب ما يؤيد البيانات الواردة فيه خاصة بالصفة والتكليف وأصل الملكية من مستندات.
وقد حدد القانون في المادة (23) المستندات التي تقبل في إثبات أصل الملكية والحق العيني المتصرف فيه وهي أربعة:
1 - المحررات التي سبق شهرها.
2 - المحررات الثابتة التاريخ قبل أول يناير سنة 1924 من غير وجود توقيع أو ختم لإنسان توفي وطبعًا هذا تنفيذًا لقانون سنة 1923 الذي اعتبر العقود الثابتة التاريخ قبل سنة 1924 في حكم العقود المسجلة والقانون رقم (30) سنة 1942 الذي استبعد وجود الختم أو توقيع لإنسان توفي كطريقة من طرق إثبات التاريخ فيما يختص بجواز شهر المحررات.
وهذا النص الحكيم استبعد ما كان يلجأ إليه بعض الأفراد من افتعال عقود ملكية وإعطائها تاريخًا سابقًا لسنة 1924 ووضع ختم أو توقيع لإنسان أو استحضاره شهادة إدارية أو شهادة بوفاة ذلك الشخص ومحاولة اعتبار هذا العقد في حكم العقود المسجلة تهربًا من تعذر إثبات ملكيتهم على الوجه الصحيح.
ويحضرني أنه أثناء رئاستي لمحكمة المنصورة المختلطة ضبط عند أحد وكلاء الأشغال أوراق بيضاء تحمل في ذيلها ختمًا لشخص توفي قبل سنة 1924 وكان يحتفظ بها لتسهيل مأمورية من يلجأ إليه من الأفراد فيملأ الورقة على اعتبار أن العقار الذي تصرف فيه بيع إليه من ذلك الشخص.
3 - الوصايا التي تمت قبل أول يناير سنة 1947 بتوفر شرطيها (الوفاة والقبول) والحكمة في هذا أن الوصية الوصية كطريق من طرق التمليك لم تكن خاضعة للشهر في ظل النظام القديم.
4- المحررات السابقة التاريخ على سنة 1924 إذا كان قد سبق أخذ بها في عقد شهر أو نقل التكليف بمقتضاه لمن صدر لصالحه والحكمة في هذا أن إنسانًا يحمل عقدًا سابق تاريخه على سنة 1924 بأي طريق ويملك به عقارًا معينًا فباع منه النصف بعقد مسجل قبل القانون الجديد ويريد الآن أن يتصرف في النصف الآخر من العقار فالقانون الجديد يبيح له حق التصرف استنادًا على هذا العقد أسوة بما اتبع في ظل القانون السابق.
5 - واعتبر القانون كذلك في المادة (55) (وهذا حكم وقتي) بطريق الاستثناء كمستند من مستندات الملكية العقود التي تحمل تاريخًا سابقًا على سنة 1924 إذا كانت قد اعتبرت سندًا للتمليك في عقد تم توثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وأصدر بشأنه حكم صحة التعاقد أو توقيع قبل أول يناير سنة 1947.
وبمجرد تلقي الطلب في المأمورية ودفع مبلغ 100 قرش بصفة كفالة تصادر بقوة القانون إذا لم يسجل المحرر في بحر سنة من تاريخ تقديم الطلب تقوم المأمورية بتدوينه في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية الطلبات وذلك حسب تاريخ وساعة تقديمه ثم تعطي إيصالاً لصاحب الشأن مبين به رقم أسبقيته في هذا الدفتر وما يرفق به من مستندات ثم تتولى المأمورية بحث الطلب من الناحيتين القانونية والهندسية فإذا ما وجد مستوفٍ أشر عليه بالقبول للشهر ورد إلى صاحب الشأن أما شخصيًا وأما بواسطة البريد في ظرف ثلاثة أيام من التأشير عليه بالقبول ويقوم صاحب الشأن بتجهيز مشروع المحرر من واقع الطلب المؤشر عليه بالقبول ثم يعاد إلى نفس المأمورية مرفقًا به أصل الطلب والمستندات وبمجرد تقديم مشروع المحرر تقوم المأموية بتدوينه حسب تاريخ وساعة وروده في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية مشروعات المحررات وتعطي بذلك إيصالاً لصاحب الشأن تبين به رقم أسبقيته في ذلك الدفتر فإذا ما وجد المشروع مطابقًا للبيانات الواردة في الطلب المؤشر عليه بالقبول تقوم المأمورية بالتأشير عليه بصلاحيته للشهر بختم مخصوص اسمه صالح للشهر.
تقوم كذلك بوضع هذا الختم على كافة المستندات والوثائق التي ستلحق بالعقد مثل التوكيل والمكلفة والإعلام الشرعي وقرارات المجالس الحسبية.
وما دام المشروع قد أصبح صالحًا للشهر فيصدق على التوقيعات فيه أو يوثق ثم يقدم لمكتب الشهر المختص لإجراء عملية الشهر نفسها.
ولعل نظام تدوين الطلبات ومشروعات المحررات في دفاتر خاصة هو من ضمن الأشياء الجديدة التي استحدثها القانون إذ أنشأ بذلك نظامًا للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات يظهر أثره في حالة تقديم طلبات متعارضة أو ممكن أن تتعارض فيها المصلحة، فمثلاً – شخص رهن عقار ثم باعه وقدم طلبان أحدهما للرهن والثاني للبيع أو شخص يملك عقارًا باع منه 15 قيراطًا ثم باع 12 قيراطًا من نفس العقار فيقضي القانون في هذه الحالة بإيقاف الفصل في الطلب اللاحق إلى أن تستوفي إجراءات الطلب الأول.
وفي حالة إعادة الطلب الأول مستوفي أو مشروع الطلب الأول مؤشرًا عليه بالصلاحية لا يعاد الطلب الثاني أو مشروع المحرر الثاني إلا بعد انقضاء فترة موازية للفترة الواقعة بين تقديم كل منهما على ألا يتجاوز سبعة أيام في الطلبات وخمسة أيام في مشروعات المحررات.
ولا شك أن نظام الأسبقية سيضع حدًا لعيوب القانون القديم ويحمي المشتري الجاد الذي يباشر إجراءات نقل الملكية - إنما هذه الحماية ليست مطلقة بالقانون يحميه طالما هو مستمر حثيثًا في إنهاء كافة العمليات إذ يمكن أن تنعكس الأسبقية الخاصة بالطلب في مشروع المحرر لو أن صاحب الطلب الأول أهمل في تقديم مشروع المحرر في الوقت المناسب إذ لا يمكن أن تستمر حماية القانون لصاحب الطلب الأول إلى ما لا نهاية.
فإذا فرضنا أن الطلب الأول غير مستوفي منح صاحبه مهلة خمسة عشر يومًا لاستيفاء البيانات الناقصة وأوقفت الطلبات اللاحقة دون أن تستوفي فهذه المدة ليست على سبيل التحديد فيمكن لأمين المكتب أن يمدها إذا اتضح له أن عدم الاستيفاء يرجع إلى سبب خارج عن إرادة الطالب، فإذا لم يستوفى الطلب إما لعجز وإما لتقصير فلا تزول الأسبقية إلا بقرار مسبب من أمين المكتب بعد عرض الأمر عليه كتابة بواسطة المأمورية.
وهذا القرار يعلن لصاحب الشأن الذي له في ظرف عشرة أيام وهذه نقطة هامة جدًا إذ يحدث في بعض الأحيان أن يلجأ صاحب الطلب الغير مستوفٍ إلى الإدارة العامة للشهر ولا يلجأ للحق الذي يمنحه إياه القانون، فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لمن طلب إليه استيفاء بيان لا يرى وجهًا لاستيفائه أو لمن تقرر سقوط أسبقيته بسبب نقص في البيانات أن يقوم في ظرف عشرة أيام بتجهيز مشروع المحرر وتوثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وسداد الرسم عنه ثم الالتجاء إلى أمين المكتب ويطلب منه إعطاء محررة رقم شهر مؤقت ويجب على أمين المكتب في هذه الحالة أن ينفذ هذه الرغبة وأن يقوم من جهته بعرض الموضوع بكافة نواحيه على قاضي الأمور الوقتية الواقع في دائرتها المكتب بعد أن يكون صاحب الشأن قد قام بسداد الكفالة وقدرها نصف في المائة من قيمة الالتزام على ألا تتجاوز عشرة جنيهات - فإحدى حالتين:
1- إما أن يرى القاضي أن الأوراق مستوفاة وتحققت بذلك الشروط الواجب توافرها للشهر فيأمر به وبذلك يصير الرقم الوقتي نهائيًا ويتأشر بذلك في الدفاتر وترد الكفالة لصاحبها.
2 - وإما أن يرى القاضي أن مكتب الشهر محق وأن الشروط غير متحققة فيما مر بإلغاء الرقم الوقتي الذي يصير إلغاؤه والتأشير بذلك في الدفاتر وتصادر الكفالة بقوة القانون (التأشير الهامشي مادة (37)).
هذه هي المرحلة التمهيدية التي يجب أن يمر بها أي محرر صالح للشهر سواء كان عقدًا أو أوراق إجراءات أو صحف دعاوى أو أحكام صحة تعاقد وفيما يختص بهذه الأخيرة فقد نص عليها القانون صراحة أي أن صدور حكم بصحة التعاقد لا يعفي من صدر لصالحه من المراجعة الأولية لنوع العقد الصادر الحكم بصحته.
بقيت مرحلة الشهر التي تتم بإحدى الطرق الثلاث: التسجيل أو القيد أو التأشير الهامشي وهي مرحلة قديمة معروفة ليس فيها جديد إلا أن الفهارس الأبجدية وهي أساس الشهادات العقارية أصبح يدرج فيها جميع أصحاب الشأن في المحرر بعد أن كان يكتفي بدرج اسم المتصرف فيها فقط.
لذلك اعتبارًا من أول يناير سنة 1947 يمكن أن يكون طلب الشهادة عن التصرفات الصادرة لصالح الشخص بعد أن كانت قاصرة على التصرفات الصادرة ضده فقط.
أما فيما يختص بالمحررات الواجبة الشهر فإنما ما يستخلص من القانون الجديد أن كل محرر خاص بحق عيني عقاري مهما كان نوعه سواء بين الأحياء أو تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت يخضع لنظام الشهر العقاري وبذلك أضاف القانون الوصية والوقف ومراسيم نزع الملكية للمنفعة العامة وقرارات توزيع طرح البحر ورتب القانون جزاءً صارمًا فيما يختص بالحقوق العينية الأصلية ونفس الجزاء المنصوص عليه في القانون القديم بأن الملكية لا تنشأ ولا تنتقل ولا تتغير ولا تتبدل إلا بالتسجيل، أما الحقوق العينية التبعية والتصرفات والأحكام النهائية المقررة لحق عيني عقاري حتى ولو كانت قسمة أموال موروثة فلا تسري على الغير إلا إذا تم شهرها.
وأخضع القانون للشهر الإيجارات والسندات التي ترد على منفعة العقار لأكثر من تسع سنوات والمخالصات والحوالات التي تزيد عن ثلاث سنوات مقدمًا ورتب جزاء أنها لا تسري قبل الغير إلا للمدد السابقة.
وأحدث ما في القانون هو شهر حق الإرث ويتم بشهر السند أو الحكم المثبت لحق الإرث مع قائمة بعقارات التركة وهذا الحق للوارث أو لكل صاحب مصلحة ورتب جزاءً على هذا يتلخص في عدم تمكين الوارث من التصرف إلا إذا كان حق إرثه التالي لسنة 1946 مسجلاً وهذا طبيعي إذ لم يكن في استطاعة الشارع أن يضع حدًا للقاعدة القانونية التي تقول - بانتقال الملكية بمجرد الوفاء ورغبته مع ذلك في إلزام الورثة بتسجيل حقوقهم لإظهار جميع التطورات في الملكية العقارية في البلاد فرأى أن يوفق بين الأمرين فالوارث يملك لا نزاع فيه ولكن نمنعه من التصرف إلا إذا قام بتسجيل حق الإرث ومن فوائد هذا النظام الجديد أن يظهر الديون العادية التي قد تكون للغير قبل التركة حماية للوارث وللمتعامل معه ولنفس الدائن ولذلك أجبر القانون كل صاحب دين عادي قبل التركة أن يقوم بشهر دينه بطريق التأشير الهامشي على هامش تسجيل حق الإرث فإذا تم التأشير في بحر السنة من تسجيل حق الإرث كان له أثر رجعي قبل التركة وإذا تسجل بعد سنة كانت له مرتبة من وقت إجرائه فقط ولذلك تسري قبله جميع تصرفات الوارث السابقة وللوارث أن يقصر الشهر على جزء معين من عقارات التركة ولكن في هذه الحالة نعتبر هذا الجزء وحده لا يمكن أن يتصرف فيها الوارث إلا في حدود نصيبه الشرعي في الميراث وآخر حدود الوحدة هي مكتب الشهر بدائرة المديرية.
أما فيما يختص بعرائض الدعاوى فقد نص القانون في المادة (15) على أن كل دعوى الغرض منها الطعن في التصرف وجودًا أو صحة أو نفاذًا وهذا تعريف شامل وذكر على سبيل المثال دعاوى البطلان والفسخ والإلغاء والرجوع يجب شهرها بطريق التأشير الهامشي فإذا لم يكن العقد المطعون فيه مسجلاً شهرت هذه الدعاوى بطريق التسجيل كذلك يجب تسجيل دعاوى استحقاق أي حق من الحقوق العينية أو دعاوى صحة التعاقد مما استبعد دعاوى صحة التوقيع.
وطريقة الشهر واحدة بالنسبة للمحررات وصحف الدعاوى أي أنها يجب أن تمر بالمرحلة التمهيدية قبل إعلانها وقيدها ولكن لا تتم عملية الشهر الحقيقية فيها إلا بعد قيدها بجدول المحكمة وذلك رغبة من الشارع في الاستيثاق من جدية الدعوى على أن قيدها في جدول المحكمة سيفصل فيها على أي الحالات.
ولا يجب أن يفهم أن نص القانون على وجوب تسجيل هذه الصحف معناه امتناع المحاكم عن نظر الدعاوى إذا لم تكن صحفها قد شهرت أو إيقاف نظر الدعاوى إلى أن يتم شهر صحائفها لأن القانون رتب جزاءً غير مباشر على إهمال تسجيل عرائض الدعاوى إذ قد نص على أنه إذا صدر حكم نهائي بشأن حق عيني عقاري وكانت صحيفة الدعوى مسجلة أو مؤشر بها ثم شهر الحكم وهذه الأحكام لا تشهر إلا بطريق التأشير الهامشي فإن حق صاحب الشأن يتقرر بأثر رجعي ابتداءً من تاريخ تسجيل عريضة الدعوى أي أنه بمعنى آخر إذا أهمل تسجيل العريضة وصدر له حكم ثم طلب شهرة فهنا يتطلب منه إجراءين:
1 - أن يسجل العريضة.
2 - ويؤشر بمنطوق الحكم على هامش العريضة.
ويمكن أن تتم هاتين العمليتين في نفس الوقت إنما حقه لا يتقرر إلا من تاريخ تسجيل العريضة وقد نص القانون على الالتجاء إلى قاضي الأمور المستعجلة في حالة التأشير بدين عادي على التركة أو بصحيفة الدعوى للنظر في إلغائه إذا كان سند الدين العادي المطعون فيه طعنًا جديًا أو كانت الدعوى ظاهرة الكيدية.
ومما استحدثه القانون أيضًا النص على وجوب شهر حق امتياز البائع منفصلاً عن تسجيل عقد البيع الوارد فيه ويتم ذلك الشهر بقائمة تحرر من واقع عقد البيع وموقع عليها من صاحب الشأن توقيعًا عاديًا وتقدم للمكتب المختص لإجراء شهرها وقد نص القانون على أن مرتبة امتياز البائع لا تترتب إلا من تاريخ إجراء ذلك القيد حتى ولو كان عقد البيع مسجلاً.
ولا يفوتني أن أذكر بهذه المناسبة أن جميع الحقوق العينية التبعية التي تشهر بطريق القيد أي بطريق قائمة تحرر من واقع العقد المرتب للحق العيني يجب أن تكون القائمة موقعًا عليها من طالب القيد توقيعًا عاديًا إلا إذا كان الحق المراد شهره لم يكن خاضعًا لإجراء القيد قبل القانون الجديد مثل رهن الحياز العقاري وامتياز البائع وامتياز المقتسم السابق على سنة 1947 فإن هذه الحقوق وقد خضعت للقيد وبالتالي للتجديد العشري يجب أن تتم إجراء قيدها من جديد قبل انتهاء عشرة سنوات على تاريخ العقد المسجل المرتب لها أو في بحر سنة 1947 أي المدتين أطول.
ففي هذه الحالة الأخيرة يجب أن تكون القائمة مصدقًا على التوقيع فيها كما يجب أو تمر بكافة إجراءات الشهر طبقًا للنظام الجديد.
هذا جزء من كثير كان بودى أن استوفى عرضه على حضراتكم ولكني سأقتصر على ذلك خوفًا من التشهير بالشهر.
وإني أشكر مجلس النقابة الذي هيأ لي هذه الفرصة كما أشكر حضراتكم لتفضلكم بالحضور والاستماع إلى وأرجو أن أوفق إلى فرصة أخرى لأوفى المسائل العديدة التي جاء بها القانون لاستيفاء حقها من البحث.
القسم الثاني
تحدثنا إلى حضراتكم في المحاضرة الماضية عن إجراءات الشهر بطريقة مبدئية وعما استحدثه القانون الجديد من نظام للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات لعله إن لم يمنع بطريقة قاطعة التصرف مرتين في عقار واحد سيوقف مثل هذه المعاملات ويقلل منها بدرجة تقطع الشكوى السابقة على القانون الجديد وتبث الطمأنينة في نفوس المتعاقدين مع صاحب عقار معين، وشرحنا ما يترتب على هذه الأسبقية من حق لصاحب الطلب الأول في حالة ما إذا تعارض معه طالب لاحق وبينا أن هذه الحماية حماية نسبية أي أن القانون يحمي صاحب الطلب الأول طالما يسير حثيثًا وبطريقة جدية في كافة إجراءات الشهر من تمهيدية إلى نهائية.
وقد بينا أيضًا ما أخضعه القانون لإجراءات الشهر من محررات جديدة لم تكن خاضعة له من قبل كما عددنا المحررات التي غير القانون طريقة الشهر فيها مثل رهن الحياز العقاري الذي أصبح يقيد بعد أن كان يسجل، ثم بينا لحضراتكم طريقة الطعن في تصرفات المكتب في حالة ما إذا كلف أصحاب الشأن استيفاء بيان لا يروا وجهًا لاستيفائه أو في حالة صدور قرار من الأمين لسقوط أسبقية الطلب الأول في حالة تعارض طلبين.
وسأقوم اليوم بتكملة ما لم يتسع الوقت في المحاضرة السالفة إلى شرحه وبيانه ومما يتصل اتصالاً وثيقًا بالناحية العملية في القانون.
قلنا لحضراتكم أن إجراءات الشهر تتم بثلاث طرق التسجيل والقيد والتأشير الهامشي وكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها يجب اتباعها فيما يختص بالإجراءين الأول وهما التسجيل والقيد فيما عدا فارق بسيط وهو أن التسجيل يتم بشهر المحرر نفسه، أما في حالة القيد فلا يشهر إلا ملخص للمحرر اصطلح على تسميته بالقائمة تحرر بمعرفة صاحب الشأن ويوقع عليها منه توقيعًا عاديًا وتقدم إلى مكتب الشهر العقاري مع المحرر المرتب للحق العيني التبعي وهذه القائمة المحررة على الورق الأزرق الخاص هي التي يصير شهرها ويحتفظ بالمحرر كمستند من مستندات إجراء الشهر.
ولقد قابلتنا صعوبة في حالة الرهن الرسمي وهو الرهن التأميني وفي حالة عقد البيع الرسمي الذي يحوي امتيازًا للبائع فإن إجراءات إعطاء صورة من هذين العقدين لشهر القائمة على أساسها قد تتطلب وقتًا وبذلك يتعذر على صاحب الشأن إجراء القيد في هذه الفترة مما قد يعرض حقه للتزاحم أو لضياع الأسبقية في الشهر إذا ما تم شهر حق عيني لآخر سواء كان أصليًا أو تبعيًا في بحر المدة التي تعطي فيها صورة المحرر الرسمي ولذلك وإلى أن يصدر قانون التوثيق المعروض الآن على مجلس الشيوخ موحدًا الهيئة التي تتولى الشهر والتوثيق قد رأينا مخاطبة رئاسة محكمة الاستئناف المختلطة التابع لها أقلام التوثيق الحالية أن تطلب إلى أصحاب الشأن تقديم نسختين من المحرر تعتبر إحداهما أصلاً والثانية صورة تسلم إلى صاحب الشأن في نفس اليوم حتى يمكن أن نبادر إلى شهر القائمة الخاصة به.
وبهذه المناسبة نقول إن مراجعة الموثق للأهلية أو الرضاء أو الصفة أو ما يؤيد ذلك من مستندات لا يعفي المسجل أي موظف الشهر من المسؤولية بحال فعليه أن يراجع هذه المستندات مراجعة دقيقة وأن يراجع العقد الذي تم توثيقه حتى يتأكد من أن إجراء القيد المرتب للحق العيني فعلاً قد تم طبقًا للقانون.
ولا يخفي على حضراتكم أن هذه المهمة الأخيرة أي مهمة القيد هي التي تعطي للعقد قوته وحجيته ويجب إذن أن تحاط بكافة ضمانات المراجعة اللازمة.
ويجب أن تشتمل القائمة أو ملخص العقد على اسم الدائن وصفته كاملة ومحل إقامة مختار في دائرة المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها العقار موضوع المحرر.
ورتب القانون جزاءً على عدم اختيار محل الإقامة أن كل إعلان إليه في قلم كتاب هذه المحكمة يكون صحيحًا وتترتب عليه كافة النتائج، ثم يذكر اسم المدين أو من رتب الحق العيني على عقاره أن كان غير مدين وتعريفه تعريفًا كافيًا، ثم تاريخ السند والجهة التي أصدرته ومصدر الدين المضمون كاملاً وتاريخ استحقاقه وبيان العقار بالدقة والإيجار للراهن إذا كان قد نص عليه في عقد رهن الحيازة العقاري.
ولو أن القانون نص على وجوب ذكر هذه البيانات كاملة إلا أنه نص في المادة (41) أنه لا يترتب على إغفال بيان من هذه البيانات بطلان إلا إذ نتج عن ذلك ضرر للغير بل أنه اشترط أيضًا أن لا يطلب البطلان إلا من وقع عليه الضرر فعلاً - وأعطى في هذه الحالة للمحكمة سلطة تقديرية، فلها أن تبطل القائمة أو أن تقصر من مداها تبعًا لطبيعة الضرر ومداه، على أنه فيما يختص بمقدار الدين فقد جاء صراحة في القانون أنه في حالة حصول خلاف بين العقد والقائمة فيما يختص بقيمة الدين فتقصر قيمة القائمة على أي المبلغين أقل في كل منهما.
وقد اشترط القانون أنه يجب تجديد القيد في خلال عشر سنوات وإلا سقط القيد وليس معنى هذا أن من سقط قيده لعدم تجديده في خلال العشر سنوات فقد كافة حقوقه فإن القانون منحه الحق في إجراء قيد جديد تكون له مرتبته من وقت إجرائه ولكن مع تحديد بسيط وهو أن يكون ذلك ممكنًا قانونًا أي أن يكون العقار ما زال في ذمة المدين فإذا كان العقار قد خرج من ذمة المدين لأي سبب من الأسباب امتنع مكتب الشهر عن إجراء القيد الجديد، ولا يكون لكل تجديد قوة إلا في خلال عشر سنوات من تاريخ إجرائه أي بمعنى آخر إذا جدد شخص قيدًا مضى عليه تسع سنوات ونصف فلا يسري لعشر سنين زائد النصف بل لعشر سنين فقط من تاريخ حصوله.
وأوجب القانون التجديد حتى في أثناء سير إجراءات نزع الملكية وإلى أن ينقضي الحق أو يطهر العقار وبوجه خاص إذا بيع العقار قضاء وانقضى ميعاد زيادة العشر.
ولست أنا في معرض أن أبين لحضراتكم ما ترتب على هذا النص الأخير من نتائج قانونية إذ سنقتصر الآن ونبقى في نطاق الدائرة العملية، وما دمنا في صدد القيد فيحسن أن لا ننتقل إلى وضوع آخر قبل الكلام على المحو أو محو هذا القيد – فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لا يجوز محو القيد إلا بعقد رسمي أو بحكم نهائي فالأصل إذن أن يكون التقرير بالمحو موثقًا ولكن لما كان رهن الحيازة العقاري يتم بعقد عرفي مصدق على التوقيع فيه كان من التصعيب على المدين أن نلزمه بالحصول على إقرار موثق لمحو قيد بعقد عرفي ولذلك رأى الشارع أن يكتفي في هذه الحالة بتقرير عرفي صادر للدائن مصدق على التوقيع فيه أسوة بما يتم في الرهن الحيازي نفسه.
ويتم شهر عقد المحو أو الحكم النهائي بالمحو بطريق التأشير الهامشي وسيأتي الكلام عن هذه الطريقة فيما بعد فإذا ما ألغى المحو لسبب من الأسباب عادت للقيد مرتبته الأولى ومع ذلك فلا يكون لهذا القيد قيمة بالنسبة إلى من تلقى حقًا بحسن نية من المدين في الفترة بين إجراء المحو وإلغائه ولا أود هنا أيضًا أن استعرض ما أثاره هذا النص من تخريجات قانونية مبقيًا ذلك إلى فرصة أخرى إذا سمحت بذلك النقابة ولم أكن قد أثقلت عليكم بهذه المادة العقيمة ووددتم أن تشرفوني مرة أخرى للاستماع إلى).
ونظم القانون طريقة الشهر بطريق التأشير الهامشي وهي كما قلت لحضراتكم في المحاضرة الأولى تشهر بها دعاوى الطعن صحة ونفاذًا ووجودًا في عقود سبق شهرها أو الأحكام التي تصدر في هذه الدعاوى أو في دعاوى استحقاق الحقوق العينية أو في دعاوى صحة التعاقد ويشهر بها أيضًا حق الدائن العادي على التركة وأخيرًا محو القيد وإلغائه.
وتتلخص الإجراءات الخاصة بالتأشير الهامشي في تقديم طلب إلى مكتب الشهر المختص أي الذي شهر فيه المحرر المراد إجراء التأشير على هامشه ويكون هذا الطلب مشتملاً على اسم الطالب وتعريفه تعريفًا شاملاً وعلى بيان المحرر المراد التأشير على هامشه ورقم شهره والسند الذي يبيح التأشير سواء كان عقدًا أو إقرارًا أو حكمًا ومضمونه والجهة التي أصدرته وأسماء ذوي الشأن فيه ويرفق بالطلب كافة المستندات المؤيدة بما جاء به.
ويبحث هذا الطلب في مكتب الشهر المختص للتأكد من صحة ما جاء به من بيانات ومطابقتها للمستندات المرافقة له على أنه قد يحدث في بعض الأحيان أن يتم عقد على عقار كقيد مثلاً ثم يراد محو هذا القيد بعد مرور فترة معينة فسيبين بطبيعة الحال في عقد المحو بيان العقار المراد تطهيره بهذه الطريقة من الحق العيني وقد يحدث في مثل هذه الحالة أن تكون البيانات المساحية قد اختلفت فيما بين الفترتين أي فترة القيد وفترة إجراء المحو وقد يترتب على ذلك أن يتصور المكتب أن العقار المراد محو الحق العيني عنه هو بخلاف العقار الوارد في قائمة القيد وفي هذه الحالة قد صرح القانون للمكتب بإحالة الأوراق إلى المأمورية المختصة للتأكد من هذا الخلاف في بيانات لا شك جوهرية فإذا لم تكن هناك صعوبة قام المكتب بإجراء التأشير المطلوب في هامش المحرر المنوه عنه في الطلب وأمكن إعطاء صاحب الشأن شهادة بحصول ذلك وعلى المكتب أن يوافي المكتب الرئيسي للشهر شهريًا ببيان التأشيرات الهامشية التي تمت فيه حتى يصير التأشير بها في الصور الثواني للعقود أو المحفوظة لديه.
أما إذا تبين للمكتب أن طلب التأشير غير مستوفٍ فله أن يطلب من صاحب الشأن استيفاء البيانات الناقصة بكتاب موصي عليه في ميعاد لا يتجاوز شهرًا وأحد أمرين:
1 - إما أن تستوفى الأوراق ويتم التأشير كما سبق شرحه لحضراتكم.
2 - وإما لا يقوم صاحب الشأن باستيفاء البيانات رغم منحه مدة أخرى فإذا تحقق للمكتب أن التأخير راجع إلى سبب خارج عن إرادته فيحفظ أمين المكتب طلب التأشير الهامشي وهذا القرار (قرار الحفظ) يبلغ إلى صاحب الشأن بخطاب موصي عليه مصحوب بإخطار وصول لمن حفظ طلبه بالسبب المذكور أن يتظلم في ظرف عشرة أيام من تاريخ إبلاغه قرار الحفظ المسبب إليه إلى قاضي الأمور الوقتية إلى المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها المكتب ويصدر القاضي قراره في هذا الشأن على وجه السرعة تبعًا لتحقق أو تخلف الشروط التي يتطلبها القانون لإجراء التأشير.
فقد نص القانون على أنه لا يجوز الطعن في قرار القاضي بأي طريق ولم يفت الشارع أن يرتب ما قد يؤثر على حق طالب التأشير الأول إذا كانت هناك طلبات تأشير لاحقة تتعارض أو يمكن أن تتعارض فيها المصلحة مع طالب التأشير الأول فنص على أنه في هذه الحالة لا يتخذ المكتب أي إجراء في الطلب اللاحق إلا بعد انقضاء المواعيد التي سبق أن بينتها أي شهر للاستيفاء وعشرة أيام للطعن بعد إبلاغ قرار الحفظ لصاحب الشأن.
وقد نص القانون في حالة التأشير الهامشي للديون العادية على التركة في حالة شهر حق الإرث وفي حالة الدعاوى المؤشر بها في هامش عقد سبق شهره على أن لمن أشر ضده وله مصلحة أن يلتجئ إلى القضاء في هذه الحالة نص القانون على قاضي الأمور المستعجلة لا قاضي الأمور الوقتية وأن يطلب إلغاء التأشير بالدين العادي إذا كان السند الذي أجرى التأشير بمقتضاه مطعون فيه طعنًا جديًا أو إذا كانت الدعوى المؤشر بها ظاهرة الكيدية أي لم ترفع إلا لغرض كيدي محض والحكمة طبعًا في اختيار قاضي الأمور المستعجلة أن هنا يقتضي الأمر لنوع من التقاضي يختصم فيه صاحب الشأن من أجرى التأشير في مصلحته.
وقد تحدثت إلى حضراتكم في المحاضرة السابقة عن شهر حق الإرث عما يستتبع هذا الشهر من حق للمبدأ القائل (بألا تركه إلا بعد سداد الدين) وأشرح لحضراتكم الآن طريقة إجراء هذا الشهر، فالمفروض أولاً أن الشهر يخضع لكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها وتبدأ بتقديم طلب للمأمورية يبين فيه فضلاً عن اسم الوارث طالب الشهر أو من يقوم مقامه أو أي ذي شأن أو أي ذي مصلحة اسم المورث وتعريفه ومحل الوفاة والورثة وتعريفهم تعريفًا كاملاً وبيان العقار والحقوق العينية المترتبة عليه والتكليف وأصل ملكية المورث ويذكر في الطلب رسم الأيلولة على التركات المستحق وما دفع منه ويجب أن يقرن الطلب بالمستندات المؤيدة لما جاء فيه وهي السند أو الإشهاد أي الحكم المثبت لحق الإرث والمستند الذي يفيد الصفة إن وجد وكشف رسمي عن عقارات المورث وسندات ملكية المورث وفي حالة تعذر الحصول عليها وهذه هي الحالة الوحيدة التي تكلم فيها قانون الشهر العقاري عن وضع اليد يكتفي بأن يقدم طالب الشهر صورًا من المكلفة ابتداءً من سنة 1923 لغاية تاريخ الوفاة وتطبق على الطلب كافة الإجراءات التي سبق أن شرحناها في المحاضرة السابقة ثم تؤشر المأمورية على سند الإرث والقائمين المبين بها عقارات التركة بالصلاحية للشهر وذلك بعد التأكد من مطابقة البيانات الواردة في قائمة الجرد (التركة) للبيانات الواردة في الطلب ثم يقوم طالب الشهر بالتوقيع على قائمة الجرد والتصديق على توقيعه فيها وتسلم إلى المكتب ليصير شهرها دون رسم عنها عدا رسم التصوير والحفظ وهو مبلغ زهيد جدًا.
ولا يفوتني أن أذكر أن القانون نص على وجوب شهر حق الإرث التالي لسنة 1947 عند التصرف أما حق الإرث السابق لسنة 1947 فلا يشهر إلا اختياريًا.
ترون حضراتكم أن القانون الجديد وقد رسم الطريق لإجراءات الشهر رمى فيها إلى أن يضفي على عملية الشهر صفة قانونية وأن يحيطها منذ البداية بكافة الضمانات المؤيدة بالمستندات اللازمة حتى تصير المعاملات العقارية على أساس سليم وطيد فأصبح المتعاقد الآن مع شخص يضمن إلى حد بعيد أنه متعامل مع مالك كما أنه قطع بعض الإشكالات التي كانت تنتج في حالات معينة مثل الاختصاص مثلاً فقد كان أمر الاختصاص يعطي لطالبه دون تحري لملكية المدين للعقار وعلى مسؤولية المالك مما كان يعرِّض بعض الأشخاص لرؤية عقاراتهم مثقلة بحق الاختصاص بينما ليس بينهم وبين الدائن أية صلة، وصحيح أنه في حالة التجاء هؤلاء الأشخاص إلى المحاكم كان القضاء يلقي عبء الإثبات على عاتق الدائن أي أنه كان يطلب من الدائن إثبات ملكية العقار لمدينة فعلاً، ولا يخفي مع ذلك ما كان لهذا من مضايقة لأصحاب الشأن إذ ما حاجتهم - ولا صلة بينهم وبين الدائن - إلى الالتجاء إلى المحاكم حيث قد يعرضون لسوء دفاع يضيع عليهم حقوقهم وقد نص القانون الجديد على مثل هذه الحالة وأصبح لا يعطي أمر اختصاص إلا إذا تأشر على مشروعه بالصلاحية للشهر أي بعد أن يكون قد مر بجميع مراحل الشهر وبمعنى آخر أن يكون قد أثبت الدائن بالمستندات التي يتطلبها القانون أن مدينه مالك.
ترون حضراتكم من مجرد عرض الإجراءات التي رسمها قانون الشهر العقاري للتوصل بمقتضاها إلى شهر محرر معين اتجاه الشارع المصري نحو وضع أسس للشهر تقربه إلى حد كبير من نظام السجلات العينية، وسأبين لحضراتكم بطريقة عاجلة مبلغ هذا الاتجاه وما تحقق منه فعلاً، فكلنا يعرف أن لنظام السجل العيني مميزات أربع - المميز الأول أن الشهر فيه مطلق أي بمعنى آخر أن الشهر إجباري في نقل الملكية حتى بين المتعاقدين وهذا هو مضمون المادة التاسعة من القانون الجديد، والمميز الثاني أن الشهر عيني وخاص، عيني أي أنه ينسب إلى العقار لا إلى أشخاص المتعاملين، وخاص لأنه لكل وحدة معينة من العقار صفحة خاصة في سجل عام، والمميز الثالث أن لهذا النظام قوة وحجية تامة قبل الكافة وبمعنى آخر أنه بمجرد إدراج العملية فيه تصبح ولا يرقى إليها الطعن ويصبح من تعامل مع من قيد كمالك للعقار في حماية من كل دعوى غير ظاهرة في السجل وهذا يتطلب من ناحية أخرى أن يؤشر بالدعاوى التي ترفع ضد البيانات المدرجة في السجل لحماية رافعها من القرينة المطلقة التي تستمد من القيد في هذه السجلات، وقد رأيتم حضراتكم أن القانون الجديد قد أوجب شهر مثل هذه الدعاوى، والمميز الرابع والأخير لنظام السجلات العينية هو قانونية هذه الصفحات، ويستخلص من هذا أنه للمهيمنين على شؤون السجل العيني الحق في التأكد من صحة العقود المقدمة للشهر ومطابقتها للقانون بل إن هذه الرقابة تمتد إلى بحث أهلية المتعاقدين وصفاتهم مؤيدة بالمستندات وهذا التأكد هو من الإجراءات التي أخذ بها قانون الشهر العقاري فأصبح لا يفصلنا عن نظام السجلات العينية إلا أمران، أن يصبح الشهر عينيًا وخاصًا وأن تعطى للسجلات الحجية قبل الكافة.
وأشعر أنني قد أطلت على حضراتكم في موضوع أكرر أنه عقيم ولذلك أرجو أن تعذروني وأن تقبلوا شكري الخاص الموجه إلى مجلس النقابة وإلى حضراتكم لما هيأتموه لي من فرصتين سمحا لي بعرض سريع للإجراءات لعل أن يكون فيه مصلحة للجميع.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
في المسؤولية المدنية للأفراد
مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
في المسؤولية المدنية للأفراد
لمحتان
تاريخية وتشريعية
1 - لمحة تاريخية
نعلم أن القانون الفرنسي وُضع في سنة 1804 في وقت لم يعرف فيه العالم هذه النهضة الاقتصادية العامة التي ظهرت في عصر القرن التاسع عشر وعظم شأنها في القرن العشرين وعلى الأخص بعد الانتهاء من الحرب العالمية التي خُتمت بمعاهدة صلح فرساي سنة 1918 وكان القانون الفرنسي متشبعًا بالروح الفردية Individualiste ولم يقم للشؤون الاقتصادية على اختلاف أنواعها وزنًا إلا بقدر ما كان معروفًا في ذلك الزمن المنصرم، وقد تلقت الشعوب الأخرى القانون الفرنسي بصدور رحبة وعملت على الأخذ به لما كانت تشعر به من التعطش نحو التقنين من طريق التجميع ولما كانت تأنسه من وحدة الشبه من حيث الحالة الاقتصادية العامة، وقد أخذت مصرنا قوانينها في سنة 1875 وسنة 1883 مختلطًا وأهليًا بعد إدخال شيء من التعديل رجع فيه إما إلى ما قرره القضاء والفقه الفرنسيان بعد سنة 1804 وإما إلى ما أقرته التقاليد والعادات المصرية التي بنيت في كثير منها على الشريعة الإسلامية وعلى ما قرره العمل في هذا الجو المختلط بين المصريين والأجانب مختلفي الأجناس.
ولما كان عهد عصر ترقيها الصناعي والتجاري حديثًا لم يفكر شارعها المصري سنة 1875 وسنة 1883 في أن يضع قوانين تضمن لها ما يمكن أن تصل إليه فيما بعد من ازدياد في الرقي وتقدم في المدنية، لذا أصبحت القوانين المصرية هذه لا تلتئم مع ما قطعته من أشواط المدنية وأصبح من الضروري الحتمي الرجوع إلى ما قررته الشعوب الأخرى في عصرنا الحاضر من قوانين تشريعية وآراء قضائية ومذاهب فقهية وذلك عملاً بما قضى به القانون المصري من الأخذ بالعدالة والقانون الطبيعي فيما سكت فيه القانون عن التقنين في بعض المسائل، وهذا هو ما جرى عليه العرف القضائي المختلط والأهلي في مسائل عدة لم ترد لها نصوص خاصة بالقوانين المصرية.
ولقد كان لنظرية المسؤولية شأن يذكر في عالم القانون عند كل شعب متمدين وذلك لتقدم الصناعة ورواج التجارة في الأوقات الحاضرة، وكان من شأن التقدم التجاري العالمي أن اضطرت بعض الشعوب إلى تعديل شرائعها طبقًا لما اقتضته نواميس الرقي في التجارة والصناعة، فقررت من الوجهة التشريعية مبادئ قانونية ربما كانت لا تؤيدها النصوص القانونية القديمة في ظاهرها حتى تقطع بذلك ما يحوم من الشك والتردد حول مبادئ جديدة كونتها الظروف الاجتماعية الحديثة قسرًا وقهرًا.
وهذا ما فعلته فرنسا مثلاً سنة 1898 وغيرها من الشعوب الأخرى في تقرير قواعد قانونية من الوجهة التشريعية في نظرية المسؤولية تلتئم مع الضرورات الاجتماعية المدنية العصرية.
وأما المسائل الأخرى الخاصة بنظرية المسؤولية والتي لم يشرع لها تشريع خاص كما حصل سنة 1898 فيما يتعلق بالهلاك الصناعي risque professionel والمسؤولية الشيئية responsabilité objective فإنها قد تأثرت بهذا التشريع الجديد، ووجدت لها منه أكبر نصير في تقرير المبادئ الجديدة والعمل على تفسير النصوص القديمة تفسيرًا يضطرد مع الضرورات الاجتماعية الحديثة interprétation objective لا مجرد الجمود على نصوص قديمة لا تصلح أداة في الإلمام بما جد من طريق الوقوف على ما كان يريده الشارع إذ ذاك، لا على ما تريده الجماعات الحاضرة بتطوراتها الحالية interprétation subjective .
ولقد فاضت أبحاث المؤلفين والكاتبين في نظرية المسؤولية قبل سنة 1898 وبعدها ولم تترك مسألة من المسائل التفريعية إلا وأشبعتها بحثًا على ضوء الضرورات الاجتماعية الحاضرة.
ولكنا نأسف مع الآسفين لما نراه من بعض كبار المؤلفين العصريين مثل بلانيول وكابتان وكولين في إصرارهم وعنادهم المستمر على الأخذ في نظرية المسؤولية طبقًا للمواد الفرنسية الأولى من المادة (1804)، وإن كان أسفنا عظيمًا في هؤلاء العلماء إلا أن اغتباطنا كان أعظم عندما رأينا فريقًا كبيرًا من كبار المؤلفين وأصحاب النهضة العلمية القانونية في الوقت الحاضر قد خرجوا عن حد الوقوف على النصوص القديمة وقرروا مبادئ قانونية تتفق مع النمو العمراني العالمي الاقتصادي مثل Saleilles وجاهد بعضهم في تفسير هذه المبادئ الجديدة الخاصة بالمسؤولية بالرجوع إلى المواد (1382) - (1386) تفسيرًا دقيقًا وبمهارة علمية وجيهة كما فعل الأستاذ Josserand شيخ أستاذة القانون بمدينة ليون.
2 - اللمحة التشريعية
( أ ) التشريع المختلط:
وُضعت القوانين المختلطة سنة 1875 ووضعها المحامي الفرنسي المعروف Maunoury وقد عمل فيها على تقليد الشارع الفرنسي، ولكن جاء التقليد أبتر وممسوخًا، وملاحظاتنا في ذلك ما يأتي:
1 - وردت المواد الفرنسية (1382) – (1386) تحت عنوان (الجنح وأشباه الجنح) déltis et quasi - délits، ووردت المواد المختلطة الخاصة بالمسؤولية (211) - (215) تحت عنوان (الالتزامات الناشئة عن العمل) obligations résultant du fait إذ أدخل معها الشارع المختلط موادًا أخرى خاصة بأعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق. وربما قيل بأنه كان الأجدر فصل هذه الأنواع المختلفة عن بعضها البعض لأن الالتزام الناشئ عن المسؤولية هو غير الالتزام الناشئ عن أعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق.
ولكن نسارع إلى ملاحظة أنه ربما كان في هذا الوضع التشريعي المختلط ما يؤيد مذهبنا الذي سنقول به بعد فيما يتعلق بالمسؤولية الشيئية responsabilite objective (أي المسؤولية التي لا يشترط فيها إثبات التقصير faute بل المسؤولية المؤسسة على مجرد الضرر غير المشروع) أي الرجوع في هذه المسؤولية لا إلى مجرد الجنحة وشبه الجنحة بل إلى مجرد العمل fait.
2 - قررت المادة (211) المسؤولية بالتضامن بين المقصرين وقد فعلت خيرًا لأنها قلدت في ذلك ما كان قد قرره القضاء الفرنسي بعد أن سبق له الأخذ بنظرية عدم التجزئة indivisibilité وهذه المادة لا مثيل لها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1804.
3 - قررت المادة (212) مدني ما يأتي:
(كل عمل مخالف للقانون tout fait poursuivit par la loi يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان عدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).
والمفهوم من هذه المادة ومن عبارة (كل عمل مخالف للقانون) أنها تختص بالمؤاخذة sanction وتقرير الجزاء عن الجرائم الجنائية infractions ولم تتكلم مطلقًا عن الجرائم المدنية dêlits civils وأشباه الجرائم المدنية quasi - delits وقررت هذه المادة عدم مسؤولية من يحدث بالغير ضررًا وهو غير مدرك لما يفعله كالصبي غير المميز أو المجنون أو المعتوه والسكران فيما إذا لم يشرب الخمر بمحض رغبته.
هذه الفقرة من تلك المادة لا نظير لها بالقانون الفرنسي إنما قررها (مونوري) بناءً على ما قرره القضاء الفرنسي في هذا الشأن باعتبار أن التقصير faute لا بد فيه من شرط الإدراك لدى المقصر.
وقد قامت ضجة هائلة عند الشراح حول شرط الإدراك في التقصير إذ لاحظوا ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي لا بد فيها من الإدراك، والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد التعويض وضرورته (بلانيول ج 2 صـ 288 ف 879 هامش 3 الطبعة الثامنة سنة 1921).
وإذا كان القضاء الفرنسي يجري على قاعدة مسؤولية عديمي الأهلية فيما إذا أثروا على حساب الغير من طريق يشبه التعاقد quasi ex coutractu فلماذا لا يصبح هؤلاء مسؤولين أيضًا عندما يلحقون ضررًا بالغير؟ ولقد تأثر القضاء الفرنسي بهذه الضجة وأخذ بما نقول به بحكم واحد (دالوز الدورية سنة 67 رقم 2 صـ 3، ومجلة سيري الدورية سنة 66 رقم 2 صـ 259).
على أن رفع المسؤولية عن عديم الإدراك فيه مساس مزعج أحيانًا بالعدالة المطلقة، إذ ما ذنب رجل بائس يعيش في بيت له يضمه وأولاده ويكد ليله ونهاره في مواساتهم فيأتي له صبي غير مدرك قد ملك من الضياع ما لا عد له ولا حصر فيحرق له منزله ثم هو لا يُسأل عن ذلك، أليس من المزعج عدالة أن يتمتع الصغير غير المدرك بضياعه عند بلوغه بينما يتضور الرجل المحروق منزله ألمًا؟
أليس من العدالة أن ينظر في الأمر بعين نظرية ضرورة التعويض أولى من هذا التحكم في شرط الإدراك على غير جدوى؟
لذا عمل الشارع الألماني على معالجة هذا النقص، فبعد أن قرر بالمادة (827) ما قرره الشارع المختلط بالمادة (212) إذ قرر بالمادة (829) بأنه يجوز الحكم بتعويض عندما تقضي العدالة بذلك.
إن هذا التشريع الألماني معيب من الوجهة الفنية العلمية لأنه يجمع بين النقيضين لمبدأين متعارضين، وكان الواجب علميًا الأخذ بواحد دون الآخر، أما الأخذ بمبدأ التعويض فهو الأوجب لاتفاقه مع المبادئ القانونية الصحيحة من ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي يشترط فيها الإدراك والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد تعويض الضرر، ولأن ذلك ينادي بإجابة صوت العدالة.
أما شارعنا المختلط فقد التزم جانبًا دون الجانب الآخر ويكون قد فعل خيرًا لو كان أخذ على الأقل بما قرره القانون الألماني سنة 1900 لأن القضاء الفرنسي سبق له أن قرر هذا المبدأ الجديد سنة 1866 أي قبل وضع القوانين المختلطة سنة 1875 كما رأينا.
قلنا إن الشارع أراد بالمادة (212) تقرير المؤاخذة عن الجرائم الجنائية ولكن سارع الشارع المختلط إلى سن مادة أخرى ظن في وضعها أنها ترمي إلى تقرير الجزاء عن الجنح المدنية وأشباه الجنح وأراد بهذه المادة الأخرى، وهي المادة (213)، أن يقرر مسؤولية الشخص عن أعماله هو أي جنحة المدنية وأشباه جنحة وعن أعمال من هم تحت رعايته فوضع المادة (213) بالكيفية الآتية (كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم) فجاء هذا الوضع مشوهًا مبتورًا وعلى غاية من المسخ والاضطراب وذلك:
1 - لأن عبارة المادة تفيد أن الإنسان مسؤول عن أعمال من هم تحت رعايته، وأعمالهم هي التقصير faute والإهمال négligence وعدم الدقة والانتباه imprudence فهذه الأعمال المنسوبة للغير هي التي يُسأل عنها الشخص الموكل إليه حق رعاية المقصرين والمهملين والطائشين، وختمت المادة عبارتها بقولها (أو عن عدم ملاحظته إياهم) وهذا التعبير يشعر بأن الشخص مسؤول عن أعمال غيره أولاً وهي التقصير والإهمال والطيش وعن عمله هو ثانيًا وهو عدم الملاحظة، كأن التقصير والإهمال والطيش طائفة مستقلة عن عدم الملاحظة، على أن أصل المسؤولية هو عدم الملاحظة الذي يعتبر في ذاته تقصيرًا faute من جانب الموكول إليه أمر الرعاية، فإذا قصر الموكول إليه أمر الرعاية اعتُبر مسؤولاً عن أضرار الأشخاص الموضوعين تحت رقابته فيما إذا وقع منهم ضرر سببه أعمالهم الخاصة بهم وهي تقصيرهم وإهمالهم وطيشهم، أي أن المسؤولية موقوفة فقط على عدم الرقابة فإذا كانت الرقابة صحيحة فلا مسؤولية، وكان يجب وضع المادة بما يفيد أن المسؤولية واقعة في حالة عدم الرقابة، بمعنى أنه إذا ثبتت الرقابة وثبت أداؤها من جانب الرقيب فلا مسؤولية عليه مطلقًا عند وقوع الحادث، حتى ولو كان سبب وقوع الحادث الأعمال الخاصة بالغير تقصيرًا كان أو إهمالاً أو طيشًا وهذا هو ما قالته المادة (1384) الفرنسية في فقرتها الأخيرة حيث قررت بأن لا مسؤولية إذا أثبت الموكول إليهم الرعاية أنهم لم يستطيعوا منع وقوع الحادث الناشئ عن الضرر، بمعنى أنه لا مسؤولية عليهم حتى ولو قام البرهان على التقصير والإهمال والطيش من جانب من هم تحت رعايتهم إذا ثبتت صحة رقابتهم، وهذا على عكس ما تشير إليه المادة (213) مختلط لأن الفقرة الأولى منها تشعر بالمسؤولية من تقصير الغير وإهماله وطيشه مع ثبوت الرقابة، وهو ما لا يقبله لا الحق ولا العدالة، تلك العدالة équité التي اعتبرت دائمًا وأبدًا أساسًا لنظرية المسؤولية وعلى الأخص في العصر الحاضر الذي نفخت فيه الاشتراكية المعتدلة بروح من عندها.
(ب) ذكرت المادة (213) التقصير والإهمال والطيش وعدم الملاحظة، وهذه صور لشبه الجنحة (يراد بالجنحة المدنية، العمل غير المشروع الضار بالإنسان ويكون فاعله قد تعمد إحداثه، وشبه الجنحة هو نفس العمل غير المشروع والضار ولكنه لا عمد فيه) ولم تذكر مطلقًا الجنحة المدنية.
أو ليس من المعقول أن من يُسأل بسبب تقصير وإهمال وطيش من هم تحت رقابته، يُسأل أيضًا فيما إذا تعمدوا الإضرار بالغير؟
(جـ) لم يقرر الشارع بهذه المادة (213) مسؤولية نفس الشخص عن جنحه هو ولا عن أشبه جنحه هو أيضًا، وكان يجب على الشارع أنه ما دام قد قرر مسؤولية الفرد بالمادة (212) عن جرائمه الجنائية أن يقرر بالمادة (213) مسؤوليته عن جرائمه المدنية، أي الجنح المدنية وأشباه الجنح، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما خانه التعبير السقيم جدًا الذي جعله قالبًا للمادة (213)، لأنه يظهر أنه أراد تقرير ذلك ولكن جاءت العبارة الأخيرة من المادة، وهي (أو عدم ملاحظته إياهم) مذهبة بغرضه (يجب مراجعة النص الفرنسي لأنه أوضح في بيان غرض المشرع من النص العربي لأن هذا النص الأخير قد عالج من حيث الوضع والتركيب بعض الشوائب الشكلية للمادة (213) المذكورة)، وكان الأجدر بالشارع أن يقول بأن الإنسان يُسأل عن تقصيره هو وإهماله وطيشه ويُسأل أيضًا عن نتائج عدم ملاحظة من هم تحت رعايته، ولكنه لم يفعل بل ساق الجمل مع بعضها البعض بحيث تنصرف جميعها إلى أنه مسؤول فقط عن أعمال غيره، وأما أعماله هو فلا يُسأل فيها إلا عن عدم الملاحظة فقط، وهذا نقص معيب كما لا يخفى.
(د) بدأت المادة (213) بعبارة (وكذلك) وهي تشعر مع اتصالها بالمادة (212) المتقدمة عليها بأن لا مسؤولية مطلقًا على الشخص فيما إذا وقع الحادث بمعرفة من هم تحت رعايته وكانوا غير مدركين لما يفعلونه (راجع دي هلتس De Hults ج 4 صـ 10 ن 6) وهذا لا يقبله العقل، لأن الغرض من مسؤولية من وكل إليه أمر العناية بشخص هو تقرير جزاء عند عدم المراقبة على من فرض فيهم القانون نقصًا في الإدراك كالقصر والمجانين والمعتوهين وغيرهم ممن أشارت إليهم المادة (213)، والمفروض أن الحادث يقع بسبب عدم الإدراك أو ضعفه وبسبب عدم الرقابة، وما شرعت الرقابة إلا لأجل سد النقص في الإدراك القائم.
(هـ) هذه هي عيوب المادة (213) باعتبارها في ذاتها، وفي ربطها مع المادة (212) السابقة عليها نرى أن الشارع المختلط قد شوه المواد الفرنسية التي أراد أن يقلدها ويوجزها، فمسخها كل المسخ، أما المواد الفرنسية فقد جاءت في مجموعها جيدة، إذ قررت المادة الأولى منها وهي (1382) مسؤولية الشخص عن عمله باعتباره جنحة مدنية، ثم قررت المادة (1383) مسؤوليته عن شبه الجنحة، وجاءت المادة (1384) وقررت مسؤوليته عن أعمال من هم تحت رقابته أو الأشياء الموجودة تحت يده، ثم بينت من هم هؤلاء الأشخاص الملاحِظون والملاحَظون فقررت أن الملاحظين هم الأب، والأم عند وفاة الأب، والمخدومون Maitres وأصحاب الأعمال والأشغال Commettants والمربون Instituteurs وأرباب الصنائع Artisans وذكرت بأن الملاحَظين هم القصر Mineurs المقيمون مع آبائهم والمستخدمون Préposés وصبية المدارس éléves وصبية المصانع Apprentis.
فجاء الشارع المختلط ونظر إلى الثلاثة المواد المذكورة (1382) و(1383) و(1384) وأراد أن يدمجها كلها في مادة واحدة وهي المادة (213) فجاءت هذه المادة وهي تفيض بهذه الشوائب التي بيناها.
لذلك وجب بحق في تقرير نظرية المسؤولية ضرورة الرجوع إلى المواد الفرنسية فيما ذهب فيه القضاء والفقه الفرنسيان في تفسيرهما، باعتبار أن الشارع المصري لم يرد مخالفة الشارع الفرنسي في شيء، إنما رمى فقط إلى مخالفته في الوضع دون المعنى والجوهر (دي هلس ج 4 صـ 118 ن 8).
لذلك لما جاء الشارع الأهلي سنة 1883 لم يشأ البتة تقليد زميله المختلط في هذا الوضع المشوب بل خالفه بعض المخالفة فيه بما سنبينه بعد.
5 - قررت المادة (214) مسؤولية السيد أو المخدوم عن أفعال خدمته متى وقعت وهم يؤدون العمل له، أي متى كان الضرر واقعًا منهم في حالة تأدية وظائفهم.
ويلاحظ على هذه المادة أنها قد قطعت من المادة (1384) الفرنسية التي جاءت جامعة شاملة.
6 - ثم قررت المادة (215) وهي الأخيرة من مواد المسؤولية مسؤولية مالك الحيوان عن الضرر الناشئ عنه سواء كان في حيازته أو متسربًا، وقد أخذت هذه المادة من المادة (1385) الفرنسية التي جاءت أتم منها إذ قررت مسؤولية المالك حتى ولو كان الحيوان تحت حيازة الغير، وهو ما لم تقل به المادة المختلطة وكان يجب أن تقول به.
7 - قررت المادة الأخيرة (1386) الفرنسية مسؤولية المالك للمباني bâtiments إذا تسبب عنها ضرر ناشئ عن تهدمها ruine فيما إذا كان هذا التهدم آتيًا من عدم العناية بها défaut d’entretien أو من عيب بنفس العمارة vice de construction ولم نرَ أثرًا لهذه المادة بالتشريع المختلط، ولا نعرف الحكمة في عدم نقلها بالقانون المختلط، كما أننا لم نعرف الحكمة لهذا الشارع المتعب في كونه لم ينقل بتشريعه أيضًا هذه الجملة الأخيرة الواردة بالفقرة الأولى من المادة (1384) فرنسي، وهي الفقرة الخاصة بمسؤولية الشخص عن الأشياء الموجودة تحت يده des choses que l’on a sous sa garde ولهذه الفقرة أهمية كبرى وصلة عظيمة جدًا بالمادة (1386) فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية responsabilité objective لأن المادة (1384) قررت مسؤولية الحائز للأشياء بوجه عام ولم تبح حق إقامة الدليل على عدم إمكان منع الضرر، كما أباحت هذا الحق بالنسبة للآباء والمربين فقط، أي أنها لم تبح إقامة الدليل على انتفاء التقصير بالنسبة لمالكي الأشياء أو الحائزين لها وبالنسبة للمخدومين وأرباب الأشغال، وهذا موطن صالح جدًا لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية كما ذهب إليه الأستاذ جوسران Josserand وكذلك المادة (1386) فإنها قررت مسؤولية المالك للمباني عند التهدم الناشئ عن عدم الصيانة وعن عيب لاصق بنفس العمارة ولم تبح هي الأخرى إقامة الدليل على انتفاء التقصير في حالة العيب اللاصق بالعمارة (لأن المسؤولية في حالة عدم الصيانة لا يؤخذ بها إلا عند عدم الصيانة، فإذا ثبتت الصيانة فلا مسؤولية)، وهذه أيضًا بيئة أخرى صالحة لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية أو نظرية الضمان Risqne. وقد ذهب بعض الشارحين إلى القول بأن هذه المادة لم ترد على سبيل الحصر في تقرير المسؤولية بالنسبة للمباني بل جاءت على سبيل التمثيل بالنسبة لجميع الأشياء وذلك استنادًا إلى التعميم الوارد بالعبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من المادة (1384) الخاصة بالأشياء.
فإذا كانت المادة (1384) والمادة (1386) الفرنسيتان هما بتلك الأهمية الكبرى في عالم التشريع والتفسير القضائي والفقهي فكيف جاز حينئذٍ للشارع المختلط وهو المحامي الفرنسي المشهور (مونوري) أن يغفل ذكرهما بينما كان قد بدأ فعلاً المعلق الشهير على الأحكام (لابيه Labbé) الإفاضة في الكتابة على المسؤولية بمجلة سيري Sirey الدورية؟ كيف يغفل أمرهما ومكانهما كما رأينا في عالم القانون؟ كل ما نستطيع أن نقوله في هذا الشأن كما لاحظناه أكثر من مرة في التشريع المصري من سنة 1875 إلى سنة 1183 تقريبًا أن المشرع المصري يُعنَى بالتقليد إلى حد أن ينسى أصول التقليد وأبجدياته، لذا نعيد القول بأن دعامة الشرح في هذه النظرية ما أقامه أطواد القانون في الوقت الحاضر من صروح النقد الحار وإشباع المبادئ القانونية بروح لا تجمد على نص صامت بل تشاد فوق أصول لحمتها الضرورات الاجتماعية وسداها العدالة كما أشار إلى ذلك بحق دي هلس (ج 4 ص 8 ن 2).
(ب) التشريع الأهلي:
أما وقد انتهينا من التشريع المختلط فنأتي الآن على بيان موجز أيضًا لأمر التشريع الأهلي.
لقد عُني بوضع القوانين الأهلية القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo وقد نسخ القوانين المختلطة وعدل فيها بالرجوع إلى الملاحظات الآتية:
1 - أنه جعل المادة أحيانًا تشمل المادتين في القانون المختلط.
2 - لاحظ ما أنتجه العمل القضائي من سنة 1875 إلى سنة 1883 وهي سنة وضع القوانين الأهلية.
3 - أنه خالف في كثير من نصوصه القانون المختلط.
والذي يهمنا من ذلك كله هو ما جاء في المواد الخاصة بنظرية المسؤولية، وقد فعل خيرًا الشارع الأهلي في أنه لم يعمل كما عمل الشارع المختلط في وضع المادتين (212) و(213) ذلك لأنه أدرك أن عبارة هاتين المادتين جاءت مشوهة تشويهًا غريبًا ذهب بالأصول القانونية المرجوة، لذا أخذ الشارع الأهلي يعالجهما، وقد أحسن الاختيار في طريق العلاج حيث إنه نقل المادة (1382) الفرنسية نقلاً وجعلها الفقرة الأولى من المادة (151) من القانون المدني الأهلي ونصها ما يأتي كالأصل المصري الفرنسي العبارة
(Tout fait quelconque de l’homme, qui cause â autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé, â le réparer.)
ثم ورد هذا النص بالنسخة العربية المصرية الأهلية كما يأتي:
(كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر) ومن مقارنة النصين مع بعضهما البعض نرى أن بالنص العربي نقصًا يكاد يذهب بركن أساسي قديم معروف في عالم نظرية المسؤولية وهو ركن التقصير Faute الذي كان دائمًا وأبدًا حتى قبيل العهد الأخير الدعامة التي ترتكن إليها نظرية المسؤولية، لأن كلمة التقصير وردت بالنسخة الفرنسية فأغفلها المترجم إغفالاً جعل النص محلاً للأخذ والرد فيما يتعلق بنظرية استعمال الحق والاعتساف في استعمال الحق Abus du droit والمسؤولية الشيئية Responsabilité objective، وإذا أخذ النص العربي على ظاهره لكان هادمًا لأبسط المبادئ القانونية لأن ظاهره يقرر أن الإنسان مسؤول عن جميع الأضرار التي تصيب الغير بفعله هو، وأيًا كان فعله مشروعًا وغير مشروع، وهذا أمر مستحيل عملاً وعمرانًا، لأن الحياة هي دائمًا وأبدًا في كل عصر وفي كل بيئة عبارة عن مصارعة ومزاحمة بين الأشخاص: هي كسب لفريق وخسارة على فريق آخر، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل منفعة، ويستحيل أن يحصل تحصيل المنفعة دون إلحاق نقص بأموال الغير، والمعاملات بين الناس تشاد فيما بينهم في الأخذ بأكثر من الإعطاء، فإذا كان كذلك وأخذت المادة الأهلية العربية على ظاهرها لترتبت على ذلك استحالة مادية في عالم الحياة: وهذا ما لم يرده الشارع طبعًا، لذا وجب وضع النص العربي بطريقة تتفق تمامًا مع النسخة الفرنسية، بأن تضاف عبارة (بسبب تقصيره) بعد كلمة (فاعله)، وكان يحسن بالشارع الأهلي أن يضع مادة جديدة عقب المادة (151) هذه أو أن يدمجها بها ويكون مرمى المادة الإلمام بنظرية التمتع بالحقوق ومتى يعتبر مشروعًا ومتى يعتبر مصدرًا للتعويض كما فعل ذلك القانون الألماني بالمادة (220) حيث قررت هذه الأخيرة ما يأتي: (لا يباح التمتع بالحق إذا كان الغرض منه منصرفًا إلى إلحاق الضرر بالغير) وهذا المبدأ هو المقرر للنظرية الشهيرة جدًا المعروفة بنظرية الاعتساف في استعمال الحقوق Abus des droits وهي النظرية التي قررها القضاء المصري مختلطًا وأهليًا بأحكام عدة.
أما الفقرة الثانية من المادة (151) فهي نفس المادة (213) مدني مختلط حرفًا بحرف، وما ذكرناه بشأن العيوب الوضعية للمادة (213) مختلط يمكن أن يقال به هنا فلا حاجة لتكراره، وكان يجب على الشارع الأهلي إذا أراد أن يجعل فقرتي المادة (151) متماسكتين ومتلازمتين في تأدية معانٍ منسجمة أن يذكر بالفقرة الأولى ما يشير أيضًا إلى أشباه الجنح الخاصة بفعل الإنسان نفسه كالإهمال والطيش وهما المشار إليهما بالمادة (1383) الفرنسية، ولكن نسارع إلى ملاحظة أن الشراح لاحظوا أن المادة (1383) إنما جاءت تكرارًا للمادة (1382) باعتبار أن هذه المادة الأخيرة تؤدي المعنى الذي قالت به المادة (1383) باعتبار أن التقصير يكون إما إيجابيًا أو سلبيًا، ومع وجاهة هذه الملاحظة أيضًا فإن وضع المادة (151) بفقرتيها يعتبر مع ذلك غير وجيه، لأنه كان يجب ذكر عبارة (الإهمال والطيش) بالفقرة الأولى، وجعل عبارة (عدم الملاحظة) بالفقرة الثانية حتى تكون الفقرة الأولى شاملة للتقصير الإيجابي والسلبي من طريق التعيين، وحتى تكون الفقرة الثانية قاصرة فقط على عدم الملاحظة، مع الإحالة على الفقرة السابقة عليها، أو أن الشارع الأهلي يحذف عبارة الإهمال والطيش من المادة (151) باعتبار أن كلمة التقصير الواردة بالفقرة الأولى تنصرف إلى التقصير الإيجابي والسلبي معًا، لأنه عند عدم التعيين في التقصير ينصرف المعنى إلى التعميم.
هذا التشويه الذي وقع فيه الشارع الأهلي سببه التشريع المختلط الذي كان موضوعًا بين يديه.
وكان على الشارعين الأهلي والمختلط أن يلاحظا هما الآخران ما لاحظه شراح القانون الفرنسي على المادة (1382) فلا يقعان فيما وقع فيه الشارع الفرنسي سنة 1804 إذ لوحظ على المادة (1382) في قولهما Tout fait quelconque أن كلمة quelconque غير صحيحة بجانب كلمة التقصير Faute لأنه ليس كل عمل fait يعتبر ملزمًا بالتعويض، إنما هو العمل التقصيري fait fautif، هذا مع ملاحظته أيضًا أن أنصار نظرية المسؤولية الشيئية يرون في كلمة التقصير الواردة بالمادة (1382) الفرنسية أنها لم ترد من طريق التعيين والتحديد للعمل الضار في ذاته، إنما جاءت فقط من طريق الإيضاح والتفسير، باعتبار أن العمل الضار يعتبر في ذاته مصدرًا للالتزام بالمسؤولية بصرف النظر عما إذا كان قد شابه تقصير أم لا، ويكون المسوغ القانوني حينئذٍ للمسؤولية هو قاعدة الغرم بالغنم لا التقصير، مع ملاحظة أن ذلك لا يتعارض مع حق استغلال الحقوق والمزاحمة في مجال الحياة باعتبار أن للمسؤولية الشيئية مجالاً للعمل غير مجال الانتفاع بالحقوق وتصريفها في وجوهها المشروعة.
ولم يقرر الشارع الأهلي ما قررته المادة (212) مختلط من حيث عدم المسؤولية عند عدم إدراك المتسبب في الضرر، وبماذا يفسر هذا السكوت؟ هل أراد الشارع الأهلي مخالفة الشارع المختلط مخالفة ظاهرة، أي أنه أراد أن لا يأخذ بنظرية شرط الإدراك في المسؤولية المدنية، وأن التعويض حتمي ولو كان المقصر غير مدرك؟ أم أنه أراد أن يقلد الشارع الفرنسي في المادة (1382) التي قررت قاعدة المسؤولية بوجه عام تاركةً أمر التفصيل إلى ظروف الحال وما تمليه هذه على القضاء؟ أم أن الشارع الأهلي أراد بسكوته أن يجاري القضاء الفرنسي فيما ذهب إليه من ضرورة شرط الإدراك (مع ملاحظة أن القضاء الفرنسي حكم سنة 1866 كما بينّا بعدم شرط الإدراك)؟
أمام صمت الشارع الأهلي كان للشكوك والأخذ والرد مجال، وإذا كان الأمر كذلك وجب حينئذٍ تقرير نظرية تتفق مع الأصول القانونية والعدالة.
ولكن قبل تقرير هذه النظرية التي تتفق مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة، وهي النظرية القائلة بعدم توافر شرط الإدراك لما في ذلك من الخلط بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، كما بينّا ذلك في مكانه، نرى أولاً ضرورة معرفة ما هو الرأي الذي يمكن أن يكون قد اتخذه الشارع أمام هذا الصمت الهادئ؟
الذي نقول به بلا تردد أن الشارع الأهلي لو كان أراد أن يأخذ بما قررته المادة (212) المختلطة لكان نقلها حرفًا بحرف إلى تشريعه، وأما كونه لم ينقلها فهذا يقطع على أنه لم يرد الأخذ بها أو على الأقل يقطع في أنه لم يرد البت في هذه النظرية بل تركها لأمر القضاء والفقه.
وأما كونه رجع فيها إلى ما قرره القضاء الفرنسي في ضرورة شرط الإدراك فقد رأينا أن هذا القضاء قضى بعكس ذلك سنة 1866، والذي يهمنا من ذلك كله أن في سكوت الشارع ما يبرر للقضاء والفقه حق تقرير قاعدة قانونية تلتئم مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة.
ولذا نقول بحق بأنه أمام هذا الصمت الأهلي يجب الأخذ بنظرية ضرورة التعويض أي الأخذ بنظرية المسؤولية المدنية وعدم خلطها بنظرية المسؤولية الجنائية كما لاحظ ذلك بلانيول بحق، وكما فعل الشارع الألماني بالمادة (829) في معالجته للمادة (827).
وأما ما قرره القضاء المصري من ضرورة اشتراط الإدراك فهو لم يكن مقنعًا إلى حد التردد فيما تقرره (محكمة أجا الجزئية في 22 يناير سنة 1918، المجموعة الرسمية المجلد 19 صـ 133).
وقد نقل الشارع الأهلي المادتين (214) و(215) مدني مختلط حرفًا بحرف وصاغهما بالمادتين (152) و(153) مدني أهلي، وهاتان المادتان لا تكفيان لتقرير نظرية المسؤولية في باقي وجوهها الأخرى وهي الوحيدة التي أشار إليها الشارع الفرنسي بالمادة (1384) فقرة أولى فيما يتعلق بالمسؤولية الناشئة عن الأشياء الجامدة، وبالمادة (1386) الخاصة بالمسؤولية الناشئة عن تهدم المباني، ولهذا النقص في التشريع المصري مختلطًا وأهليًا مثار للقول فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية، وهي هذه النظرية التي احترقت لها أقلام الكاتبين قبل سنة 1898 والآن أيضًا، وعلى الأخص فيما يتعلق بمصرنا لأنه لم يتقرر للآن ببلادنا قوانين للعمال تقوية بنظرية الضمان الصناعي risque professionnel.
عبد السلام ذهني
مدرس بمدرسة الحقوق الملكية
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
في المسؤولية المدنية للأفراد
لمحتان
تاريخية وتشريعية
1 - لمحة تاريخية
نعلم أن القانون الفرنسي وُضع في سنة 1804 في وقت لم يعرف فيه العالم هذه النهضة الاقتصادية العامة التي ظهرت في عصر القرن التاسع عشر وعظم شأنها في القرن العشرين وعلى الأخص بعد الانتهاء من الحرب العالمية التي خُتمت بمعاهدة صلح فرساي سنة 1918 وكان القانون الفرنسي متشبعًا بالروح الفردية Individualiste ولم يقم للشؤون الاقتصادية على اختلاف أنواعها وزنًا إلا بقدر ما كان معروفًا في ذلك الزمن المنصرم، وقد تلقت الشعوب الأخرى القانون الفرنسي بصدور رحبة وعملت على الأخذ به لما كانت تشعر به من التعطش نحو التقنين من طريق التجميع ولما كانت تأنسه من وحدة الشبه من حيث الحالة الاقتصادية العامة، وقد أخذت مصرنا قوانينها في سنة 1875 وسنة 1883 مختلطًا وأهليًا بعد إدخال شيء من التعديل رجع فيه إما إلى ما قرره القضاء والفقه الفرنسيان بعد سنة 1804 وإما إلى ما أقرته التقاليد والعادات المصرية التي بنيت في كثير منها على الشريعة الإسلامية وعلى ما قرره العمل في هذا الجو المختلط بين المصريين والأجانب مختلفي الأجناس.
ولما كان عهد عصر ترقيها الصناعي والتجاري حديثًا لم يفكر شارعها المصري سنة 1875 وسنة 1883 في أن يضع قوانين تضمن لها ما يمكن أن تصل إليه فيما بعد من ازدياد في الرقي وتقدم في المدنية، لذا أصبحت القوانين المصرية هذه لا تلتئم مع ما قطعته من أشواط المدنية وأصبح من الضروري الحتمي الرجوع إلى ما قررته الشعوب الأخرى في عصرنا الحاضر من قوانين تشريعية وآراء قضائية ومذاهب فقهية وذلك عملاً بما قضى به القانون المصري من الأخذ بالعدالة والقانون الطبيعي فيما سكت فيه القانون عن التقنين في بعض المسائل، وهذا هو ما جرى عليه العرف القضائي المختلط والأهلي في مسائل عدة لم ترد لها نصوص خاصة بالقوانين المصرية.
ولقد كان لنظرية المسؤولية شأن يذكر في عالم القانون عند كل شعب متمدين وذلك لتقدم الصناعة ورواج التجارة في الأوقات الحاضرة، وكان من شأن التقدم التجاري العالمي أن اضطرت بعض الشعوب إلى تعديل شرائعها طبقًا لما اقتضته نواميس الرقي في التجارة والصناعة، فقررت من الوجهة التشريعية مبادئ قانونية ربما كانت لا تؤيدها النصوص القانونية القديمة في ظاهرها حتى تقطع بذلك ما يحوم من الشك والتردد حول مبادئ جديدة كونتها الظروف الاجتماعية الحديثة قسرًا وقهرًا.
وهذا ما فعلته فرنسا مثلاً سنة 1898 وغيرها من الشعوب الأخرى في تقرير قواعد قانونية من الوجهة التشريعية في نظرية المسؤولية تلتئم مع الضرورات الاجتماعية المدنية العصرية.
وأما المسائل الأخرى الخاصة بنظرية المسؤولية والتي لم يشرع لها تشريع خاص كما حصل سنة 1898 فيما يتعلق بالهلاك الصناعي risque professionel والمسؤولية الشيئية responsabilité objective فإنها قد تأثرت بهذا التشريع الجديد، ووجدت لها منه أكبر نصير في تقرير المبادئ الجديدة والعمل على تفسير النصوص القديمة تفسيرًا يضطرد مع الضرورات الاجتماعية الحديثة interprétation objective لا مجرد الجمود على نصوص قديمة لا تصلح أداة في الإلمام بما جد من طريق الوقوف على ما كان يريده الشارع إذ ذاك، لا على ما تريده الجماعات الحاضرة بتطوراتها الحالية interprétation subjective .
ولقد فاضت أبحاث المؤلفين والكاتبين في نظرية المسؤولية قبل سنة 1898 وبعدها ولم تترك مسألة من المسائل التفريعية إلا وأشبعتها بحثًا على ضوء الضرورات الاجتماعية الحاضرة.
ولكنا نأسف مع الآسفين لما نراه من بعض كبار المؤلفين العصريين مثل بلانيول وكابتان وكولين في إصرارهم وعنادهم المستمر على الأخذ في نظرية المسؤولية طبقًا للمواد الفرنسية الأولى من المادة (1804)، وإن كان أسفنا عظيمًا في هؤلاء العلماء إلا أن اغتباطنا كان أعظم عندما رأينا فريقًا كبيرًا من كبار المؤلفين وأصحاب النهضة العلمية القانونية في الوقت الحاضر قد خرجوا عن حد الوقوف على النصوص القديمة وقرروا مبادئ قانونية تتفق مع النمو العمراني العالمي الاقتصادي مثل Saleilles وجاهد بعضهم في تفسير هذه المبادئ الجديدة الخاصة بالمسؤولية بالرجوع إلى المواد (1382) - (1386) تفسيرًا دقيقًا وبمهارة علمية وجيهة كما فعل الأستاذ Josserand شيخ أستاذة القانون بمدينة ليون.
2 - اللمحة التشريعية
( أ ) التشريع المختلط:
وُضعت القوانين المختلطة سنة 1875 ووضعها المحامي الفرنسي المعروف Maunoury وقد عمل فيها على تقليد الشارع الفرنسي، ولكن جاء التقليد أبتر وممسوخًا، وملاحظاتنا في ذلك ما يأتي:
1 - وردت المواد الفرنسية (1382) – (1386) تحت عنوان (الجنح وأشباه الجنح) déltis et quasi - délits، ووردت المواد المختلطة الخاصة بالمسؤولية (211) - (215) تحت عنوان (الالتزامات الناشئة عن العمل) obligations résultant du fait إذ أدخل معها الشارع المختلط موادًا أخرى خاصة بأعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق. وربما قيل بأنه كان الأجدر فصل هذه الأنواع المختلفة عن بعضها البعض لأن الالتزام الناشئ عن المسؤولية هو غير الالتزام الناشئ عن أعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق.
ولكن نسارع إلى ملاحظة أنه ربما كان في هذا الوضع التشريعي المختلط ما يؤيد مذهبنا الذي سنقول به بعد فيما يتعلق بالمسؤولية الشيئية responsabilite objective (أي المسؤولية التي لا يشترط فيها إثبات التقصير faute بل المسؤولية المؤسسة على مجرد الضرر غير المشروع) أي الرجوع في هذه المسؤولية لا إلى مجرد الجنحة وشبه الجنحة بل إلى مجرد العمل fait.
2 - قررت المادة (211) المسؤولية بالتضامن بين المقصرين وقد فعلت خيرًا لأنها قلدت في ذلك ما كان قد قرره القضاء الفرنسي بعد أن سبق له الأخذ بنظرية عدم التجزئة indivisibilité وهذه المادة لا مثيل لها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1804.
3 - قررت المادة (212) مدني ما يأتي:
(كل عمل مخالف للقانون tout fait poursuivit par la loi يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان عدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).
والمفهوم من هذه المادة ومن عبارة (كل عمل مخالف للقانون) أنها تختص بالمؤاخذة sanction وتقرير الجزاء عن الجرائم الجنائية infractions ولم تتكلم مطلقًا عن الجرائم المدنية dêlits civils وأشباه الجرائم المدنية quasi - delits وقررت هذه المادة عدم مسؤولية من يحدث بالغير ضررًا وهو غير مدرك لما يفعله كالصبي غير المميز أو المجنون أو المعتوه والسكران فيما إذا لم يشرب الخمر بمحض رغبته.
هذه الفقرة من تلك المادة لا نظير لها بالقانون الفرنسي إنما قررها (مونوري) بناءً على ما قرره القضاء الفرنسي في هذا الشأن باعتبار أن التقصير faute لا بد فيه من شرط الإدراك لدى المقصر.
وقد قامت ضجة هائلة عند الشراح حول شرط الإدراك في التقصير إذ لاحظوا ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي لا بد فيها من الإدراك، والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد التعويض وضرورته (بلانيول ج 2 صـ 288 ف 879 هامش 3 الطبعة الثامنة سنة 1921).
وإذا كان القضاء الفرنسي يجري على قاعدة مسؤولية عديمي الأهلية فيما إذا أثروا على حساب الغير من طريق يشبه التعاقد quasi ex coutractu فلماذا لا يصبح هؤلاء مسؤولين أيضًا عندما يلحقون ضررًا بالغير؟ ولقد تأثر القضاء الفرنسي بهذه الضجة وأخذ بما نقول به بحكم واحد (دالوز الدورية سنة 67 رقم 2 صـ 3، ومجلة سيري الدورية سنة 66 رقم 2 صـ 259).
على أن رفع المسؤولية عن عديم الإدراك فيه مساس مزعج أحيانًا بالعدالة المطلقة، إذ ما ذنب رجل بائس يعيش في بيت له يضمه وأولاده ويكد ليله ونهاره في مواساتهم فيأتي له صبي غير مدرك قد ملك من الضياع ما لا عد له ولا حصر فيحرق له منزله ثم هو لا يُسأل عن ذلك، أليس من المزعج عدالة أن يتمتع الصغير غير المدرك بضياعه عند بلوغه بينما يتضور الرجل المحروق منزله ألمًا؟
أليس من العدالة أن ينظر في الأمر بعين نظرية ضرورة التعويض أولى من هذا التحكم في شرط الإدراك على غير جدوى؟
لذا عمل الشارع الألماني على معالجة هذا النقص، فبعد أن قرر بالمادة (827) ما قرره الشارع المختلط بالمادة (212) إذ قرر بالمادة (829) بأنه يجوز الحكم بتعويض عندما تقضي العدالة بذلك.
إن هذا التشريع الألماني معيب من الوجهة الفنية العلمية لأنه يجمع بين النقيضين لمبدأين متعارضين، وكان الواجب علميًا الأخذ بواحد دون الآخر، أما الأخذ بمبدأ التعويض فهو الأوجب لاتفاقه مع المبادئ القانونية الصحيحة من ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي يشترط فيها الإدراك والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد تعويض الضرر، ولأن ذلك ينادي بإجابة صوت العدالة.
أما شارعنا المختلط فقد التزم جانبًا دون الجانب الآخر ويكون قد فعل خيرًا لو كان أخذ على الأقل بما قرره القانون الألماني سنة 1900 لأن القضاء الفرنسي سبق له أن قرر هذا المبدأ الجديد سنة 1866 أي قبل وضع القوانين المختلطة سنة 1875 كما رأينا.
قلنا إن الشارع أراد بالمادة (212) تقرير المؤاخذة عن الجرائم الجنائية ولكن سارع الشارع المختلط إلى سن مادة أخرى ظن في وضعها أنها ترمي إلى تقرير الجزاء عن الجنح المدنية وأشباه الجنح وأراد بهذه المادة الأخرى، وهي المادة (213)، أن يقرر مسؤولية الشخص عن أعماله هو أي جنحة المدنية وأشباه جنحة وعن أعمال من هم تحت رعايته فوضع المادة (213) بالكيفية الآتية (كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم) فجاء هذا الوضع مشوهًا مبتورًا وعلى غاية من المسخ والاضطراب وذلك:
1 - لأن عبارة المادة تفيد أن الإنسان مسؤول عن أعمال من هم تحت رعايته، وأعمالهم هي التقصير faute والإهمال négligence وعدم الدقة والانتباه imprudence فهذه الأعمال المنسوبة للغير هي التي يُسأل عنها الشخص الموكل إليه حق رعاية المقصرين والمهملين والطائشين، وختمت المادة عبارتها بقولها (أو عن عدم ملاحظته إياهم) وهذا التعبير يشعر بأن الشخص مسؤول عن أعمال غيره أولاً وهي التقصير والإهمال والطيش وعن عمله هو ثانيًا وهو عدم الملاحظة، كأن التقصير والإهمال والطيش طائفة مستقلة عن عدم الملاحظة، على أن أصل المسؤولية هو عدم الملاحظة الذي يعتبر في ذاته تقصيرًا faute من جانب الموكول إليه أمر الرعاية، فإذا قصر الموكول إليه أمر الرعاية اعتُبر مسؤولاً عن أضرار الأشخاص الموضوعين تحت رقابته فيما إذا وقع منهم ضرر سببه أعمالهم الخاصة بهم وهي تقصيرهم وإهمالهم وطيشهم، أي أن المسؤولية موقوفة فقط على عدم الرقابة فإذا كانت الرقابة صحيحة فلا مسؤولية، وكان يجب وضع المادة بما يفيد أن المسؤولية واقعة في حالة عدم الرقابة، بمعنى أنه إذا ثبتت الرقابة وثبت أداؤها من جانب الرقيب فلا مسؤولية عليه مطلقًا عند وقوع الحادث، حتى ولو كان سبب وقوع الحادث الأعمال الخاصة بالغير تقصيرًا كان أو إهمالاً أو طيشًا وهذا هو ما قالته المادة (1384) الفرنسية في فقرتها الأخيرة حيث قررت بأن لا مسؤولية إذا أثبت الموكول إليهم الرعاية أنهم لم يستطيعوا منع وقوع الحادث الناشئ عن الضرر، بمعنى أنه لا مسؤولية عليهم حتى ولو قام البرهان على التقصير والإهمال والطيش من جانب من هم تحت رعايتهم إذا ثبتت صحة رقابتهم، وهذا على عكس ما تشير إليه المادة (213) مختلط لأن الفقرة الأولى منها تشعر بالمسؤولية من تقصير الغير وإهماله وطيشه مع ثبوت الرقابة، وهو ما لا يقبله لا الحق ولا العدالة، تلك العدالة équité التي اعتبرت دائمًا وأبدًا أساسًا لنظرية المسؤولية وعلى الأخص في العصر الحاضر الذي نفخت فيه الاشتراكية المعتدلة بروح من عندها.
(ب) ذكرت المادة (213) التقصير والإهمال والطيش وعدم الملاحظة، وهذه صور لشبه الجنحة (يراد بالجنحة المدنية، العمل غير المشروع الضار بالإنسان ويكون فاعله قد تعمد إحداثه، وشبه الجنحة هو نفس العمل غير المشروع والضار ولكنه لا عمد فيه) ولم تذكر مطلقًا الجنحة المدنية.
أو ليس من المعقول أن من يُسأل بسبب تقصير وإهمال وطيش من هم تحت رقابته، يُسأل أيضًا فيما إذا تعمدوا الإضرار بالغير؟
(جـ) لم يقرر الشارع بهذه المادة (213) مسؤولية نفس الشخص عن جنحه هو ولا عن أشبه جنحه هو أيضًا، وكان يجب على الشارع أنه ما دام قد قرر مسؤولية الفرد بالمادة (212) عن جرائمه الجنائية أن يقرر بالمادة (213) مسؤوليته عن جرائمه المدنية، أي الجنح المدنية وأشباه الجنح، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما خانه التعبير السقيم جدًا الذي جعله قالبًا للمادة (213)، لأنه يظهر أنه أراد تقرير ذلك ولكن جاءت العبارة الأخيرة من المادة، وهي (أو عدم ملاحظته إياهم) مذهبة بغرضه (يجب مراجعة النص الفرنسي لأنه أوضح في بيان غرض المشرع من النص العربي لأن هذا النص الأخير قد عالج من حيث الوضع والتركيب بعض الشوائب الشكلية للمادة (213) المذكورة)، وكان الأجدر بالشارع أن يقول بأن الإنسان يُسأل عن تقصيره هو وإهماله وطيشه ويُسأل أيضًا عن نتائج عدم ملاحظة من هم تحت رعايته، ولكنه لم يفعل بل ساق الجمل مع بعضها البعض بحيث تنصرف جميعها إلى أنه مسؤول فقط عن أعمال غيره، وأما أعماله هو فلا يُسأل فيها إلا عن عدم الملاحظة فقط، وهذا نقص معيب كما لا يخفى.
(د) بدأت المادة (213) بعبارة (وكذلك) وهي تشعر مع اتصالها بالمادة (212) المتقدمة عليها بأن لا مسؤولية مطلقًا على الشخص فيما إذا وقع الحادث بمعرفة من هم تحت رعايته وكانوا غير مدركين لما يفعلونه (راجع دي هلتس De Hults ج 4 صـ 10 ن 6) وهذا لا يقبله العقل، لأن الغرض من مسؤولية من وكل إليه أمر العناية بشخص هو تقرير جزاء عند عدم المراقبة على من فرض فيهم القانون نقصًا في الإدراك كالقصر والمجانين والمعتوهين وغيرهم ممن أشارت إليهم المادة (213)، والمفروض أن الحادث يقع بسبب عدم الإدراك أو ضعفه وبسبب عدم الرقابة، وما شرعت الرقابة إلا لأجل سد النقص في الإدراك القائم.
(هـ) هذه هي عيوب المادة (213) باعتبارها في ذاتها، وفي ربطها مع المادة (212) السابقة عليها نرى أن الشارع المختلط قد شوه المواد الفرنسية التي أراد أن يقلدها ويوجزها، فمسخها كل المسخ، أما المواد الفرنسية فقد جاءت في مجموعها جيدة، إذ قررت المادة الأولى منها وهي (1382) مسؤولية الشخص عن عمله باعتباره جنحة مدنية، ثم قررت المادة (1383) مسؤوليته عن شبه الجنحة، وجاءت المادة (1384) وقررت مسؤوليته عن أعمال من هم تحت رقابته أو الأشياء الموجودة تحت يده، ثم بينت من هم هؤلاء الأشخاص الملاحِظون والملاحَظون فقررت أن الملاحظين هم الأب، والأم عند وفاة الأب، والمخدومون Maitres وأصحاب الأعمال والأشغال Commettants والمربون Instituteurs وأرباب الصنائع Artisans وذكرت بأن الملاحَظين هم القصر Mineurs المقيمون مع آبائهم والمستخدمون Préposés وصبية المدارس éléves وصبية المصانع Apprentis.
فجاء الشارع المختلط ونظر إلى الثلاثة المواد المذكورة (1382) و(1383) و(1384) وأراد أن يدمجها كلها في مادة واحدة وهي المادة (213) فجاءت هذه المادة وهي تفيض بهذه الشوائب التي بيناها.
لذلك وجب بحق في تقرير نظرية المسؤولية ضرورة الرجوع إلى المواد الفرنسية فيما ذهب فيه القضاء والفقه الفرنسيان في تفسيرهما، باعتبار أن الشارع المصري لم يرد مخالفة الشارع الفرنسي في شيء، إنما رمى فقط إلى مخالفته في الوضع دون المعنى والجوهر (دي هلس ج 4 صـ 118 ن 8).
لذلك لما جاء الشارع الأهلي سنة 1883 لم يشأ البتة تقليد زميله المختلط في هذا الوضع المشوب بل خالفه بعض المخالفة فيه بما سنبينه بعد.
5 - قررت المادة (214) مسؤولية السيد أو المخدوم عن أفعال خدمته متى وقعت وهم يؤدون العمل له، أي متى كان الضرر واقعًا منهم في حالة تأدية وظائفهم.
ويلاحظ على هذه المادة أنها قد قطعت من المادة (1384) الفرنسية التي جاءت جامعة شاملة.
6 - ثم قررت المادة (215) وهي الأخيرة من مواد المسؤولية مسؤولية مالك الحيوان عن الضرر الناشئ عنه سواء كان في حيازته أو متسربًا، وقد أخذت هذه المادة من المادة (1385) الفرنسية التي جاءت أتم منها إذ قررت مسؤولية المالك حتى ولو كان الحيوان تحت حيازة الغير، وهو ما لم تقل به المادة المختلطة وكان يجب أن تقول به.
7 - قررت المادة الأخيرة (1386) الفرنسية مسؤولية المالك للمباني bâtiments إذا تسبب عنها ضرر ناشئ عن تهدمها ruine فيما إذا كان هذا التهدم آتيًا من عدم العناية بها défaut d’entretien أو من عيب بنفس العمارة vice de construction ولم نرَ أثرًا لهذه المادة بالتشريع المختلط، ولا نعرف الحكمة في عدم نقلها بالقانون المختلط، كما أننا لم نعرف الحكمة لهذا الشارع المتعب في كونه لم ينقل بتشريعه أيضًا هذه الجملة الأخيرة الواردة بالفقرة الأولى من المادة (1384) فرنسي، وهي الفقرة الخاصة بمسؤولية الشخص عن الأشياء الموجودة تحت يده des choses que l’on a sous sa garde ولهذه الفقرة أهمية كبرى وصلة عظيمة جدًا بالمادة (1386) فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية responsabilité objective لأن المادة (1384) قررت مسؤولية الحائز للأشياء بوجه عام ولم تبح حق إقامة الدليل على عدم إمكان منع الضرر، كما أباحت هذا الحق بالنسبة للآباء والمربين فقط، أي أنها لم تبح إقامة الدليل على انتفاء التقصير بالنسبة لمالكي الأشياء أو الحائزين لها وبالنسبة للمخدومين وأرباب الأشغال، وهذا موطن صالح جدًا لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية كما ذهب إليه الأستاذ جوسران Josserand وكذلك المادة (1386) فإنها قررت مسؤولية المالك للمباني عند التهدم الناشئ عن عدم الصيانة وعن عيب لاصق بنفس العمارة ولم تبح هي الأخرى إقامة الدليل على انتفاء التقصير في حالة العيب اللاصق بالعمارة (لأن المسؤولية في حالة عدم الصيانة لا يؤخذ بها إلا عند عدم الصيانة، فإذا ثبتت الصيانة فلا مسؤولية)، وهذه أيضًا بيئة أخرى صالحة لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية أو نظرية الضمان Risqne. وقد ذهب بعض الشارحين إلى القول بأن هذه المادة لم ترد على سبيل الحصر في تقرير المسؤولية بالنسبة للمباني بل جاءت على سبيل التمثيل بالنسبة لجميع الأشياء وذلك استنادًا إلى التعميم الوارد بالعبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من المادة (1384) الخاصة بالأشياء.
فإذا كانت المادة (1384) والمادة (1386) الفرنسيتان هما بتلك الأهمية الكبرى في عالم التشريع والتفسير القضائي والفقهي فكيف جاز حينئذٍ للشارع المختلط وهو المحامي الفرنسي المشهور (مونوري) أن يغفل ذكرهما بينما كان قد بدأ فعلاً المعلق الشهير على الأحكام (لابيه Labbé) الإفاضة في الكتابة على المسؤولية بمجلة سيري Sirey الدورية؟ كيف يغفل أمرهما ومكانهما كما رأينا في عالم القانون؟ كل ما نستطيع أن نقوله في هذا الشأن كما لاحظناه أكثر من مرة في التشريع المصري من سنة 1875 إلى سنة 1183 تقريبًا أن المشرع المصري يُعنَى بالتقليد إلى حد أن ينسى أصول التقليد وأبجدياته، لذا نعيد القول بأن دعامة الشرح في هذه النظرية ما أقامه أطواد القانون في الوقت الحاضر من صروح النقد الحار وإشباع المبادئ القانونية بروح لا تجمد على نص صامت بل تشاد فوق أصول لحمتها الضرورات الاجتماعية وسداها العدالة كما أشار إلى ذلك بحق دي هلس (ج 4 ص 8 ن 2).
(ب) التشريع الأهلي:
أما وقد انتهينا من التشريع المختلط فنأتي الآن على بيان موجز أيضًا لأمر التشريع الأهلي.
لقد عُني بوضع القوانين الأهلية القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo وقد نسخ القوانين المختلطة وعدل فيها بالرجوع إلى الملاحظات الآتية:
1 - أنه جعل المادة أحيانًا تشمل المادتين في القانون المختلط.
2 - لاحظ ما أنتجه العمل القضائي من سنة 1875 إلى سنة 1883 وهي سنة وضع القوانين الأهلية.
3 - أنه خالف في كثير من نصوصه القانون المختلط.
والذي يهمنا من ذلك كله هو ما جاء في المواد الخاصة بنظرية المسؤولية، وقد فعل خيرًا الشارع الأهلي في أنه لم يعمل كما عمل الشارع المختلط في وضع المادتين (212) و(213) ذلك لأنه أدرك أن عبارة هاتين المادتين جاءت مشوهة تشويهًا غريبًا ذهب بالأصول القانونية المرجوة، لذا أخذ الشارع الأهلي يعالجهما، وقد أحسن الاختيار في طريق العلاج حيث إنه نقل المادة (1382) الفرنسية نقلاً وجعلها الفقرة الأولى من المادة (151) من القانون المدني الأهلي ونصها ما يأتي كالأصل المصري الفرنسي العبارة
(Tout fait quelconque de l’homme, qui cause â autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé, â le réparer.)
ثم ورد هذا النص بالنسخة العربية المصرية الأهلية كما يأتي:
(كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر) ومن مقارنة النصين مع بعضهما البعض نرى أن بالنص العربي نقصًا يكاد يذهب بركن أساسي قديم معروف في عالم نظرية المسؤولية وهو ركن التقصير Faute الذي كان دائمًا وأبدًا حتى قبيل العهد الأخير الدعامة التي ترتكن إليها نظرية المسؤولية، لأن كلمة التقصير وردت بالنسخة الفرنسية فأغفلها المترجم إغفالاً جعل النص محلاً للأخذ والرد فيما يتعلق بنظرية استعمال الحق والاعتساف في استعمال الحق Abus du droit والمسؤولية الشيئية Responsabilité objective، وإذا أخذ النص العربي على ظاهره لكان هادمًا لأبسط المبادئ القانونية لأن ظاهره يقرر أن الإنسان مسؤول عن جميع الأضرار التي تصيب الغير بفعله هو، وأيًا كان فعله مشروعًا وغير مشروع، وهذا أمر مستحيل عملاً وعمرانًا، لأن الحياة هي دائمًا وأبدًا في كل عصر وفي كل بيئة عبارة عن مصارعة ومزاحمة بين الأشخاص: هي كسب لفريق وخسارة على فريق آخر، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل منفعة، ويستحيل أن يحصل تحصيل المنفعة دون إلحاق نقص بأموال الغير، والمعاملات بين الناس تشاد فيما بينهم في الأخذ بأكثر من الإعطاء، فإذا كان كذلك وأخذت المادة الأهلية العربية على ظاهرها لترتبت على ذلك استحالة مادية في عالم الحياة: وهذا ما لم يرده الشارع طبعًا، لذا وجب وضع النص العربي بطريقة تتفق تمامًا مع النسخة الفرنسية، بأن تضاف عبارة (بسبب تقصيره) بعد كلمة (فاعله)، وكان يحسن بالشارع الأهلي أن يضع مادة جديدة عقب المادة (151) هذه أو أن يدمجها بها ويكون مرمى المادة الإلمام بنظرية التمتع بالحقوق ومتى يعتبر مشروعًا ومتى يعتبر مصدرًا للتعويض كما فعل ذلك القانون الألماني بالمادة (220) حيث قررت هذه الأخيرة ما يأتي: (لا يباح التمتع بالحق إذا كان الغرض منه منصرفًا إلى إلحاق الضرر بالغير) وهذا المبدأ هو المقرر للنظرية الشهيرة جدًا المعروفة بنظرية الاعتساف في استعمال الحقوق Abus des droits وهي النظرية التي قررها القضاء المصري مختلطًا وأهليًا بأحكام عدة.
أما الفقرة الثانية من المادة (151) فهي نفس المادة (213) مدني مختلط حرفًا بحرف، وما ذكرناه بشأن العيوب الوضعية للمادة (213) مختلط يمكن أن يقال به هنا فلا حاجة لتكراره، وكان يجب على الشارع الأهلي إذا أراد أن يجعل فقرتي المادة (151) متماسكتين ومتلازمتين في تأدية معانٍ منسجمة أن يذكر بالفقرة الأولى ما يشير أيضًا إلى أشباه الجنح الخاصة بفعل الإنسان نفسه كالإهمال والطيش وهما المشار إليهما بالمادة (1383) الفرنسية، ولكن نسارع إلى ملاحظة أن الشراح لاحظوا أن المادة (1383) إنما جاءت تكرارًا للمادة (1382) باعتبار أن هذه المادة الأخيرة تؤدي المعنى الذي قالت به المادة (1383) باعتبار أن التقصير يكون إما إيجابيًا أو سلبيًا، ومع وجاهة هذه الملاحظة أيضًا فإن وضع المادة (151) بفقرتيها يعتبر مع ذلك غير وجيه، لأنه كان يجب ذكر عبارة (الإهمال والطيش) بالفقرة الأولى، وجعل عبارة (عدم الملاحظة) بالفقرة الثانية حتى تكون الفقرة الأولى شاملة للتقصير الإيجابي والسلبي من طريق التعيين، وحتى تكون الفقرة الثانية قاصرة فقط على عدم الملاحظة، مع الإحالة على الفقرة السابقة عليها، أو أن الشارع الأهلي يحذف عبارة الإهمال والطيش من المادة (151) باعتبار أن كلمة التقصير الواردة بالفقرة الأولى تنصرف إلى التقصير الإيجابي والسلبي معًا، لأنه عند عدم التعيين في التقصير ينصرف المعنى إلى التعميم.
هذا التشويه الذي وقع فيه الشارع الأهلي سببه التشريع المختلط الذي كان موضوعًا بين يديه.
وكان على الشارعين الأهلي والمختلط أن يلاحظا هما الآخران ما لاحظه شراح القانون الفرنسي على المادة (1382) فلا يقعان فيما وقع فيه الشارع الفرنسي سنة 1804 إذ لوحظ على المادة (1382) في قولهما Tout fait quelconque أن كلمة quelconque غير صحيحة بجانب كلمة التقصير Faute لأنه ليس كل عمل fait يعتبر ملزمًا بالتعويض، إنما هو العمل التقصيري fait fautif، هذا مع ملاحظته أيضًا أن أنصار نظرية المسؤولية الشيئية يرون في كلمة التقصير الواردة بالمادة (1382) الفرنسية أنها لم ترد من طريق التعيين والتحديد للعمل الضار في ذاته، إنما جاءت فقط من طريق الإيضاح والتفسير، باعتبار أن العمل الضار يعتبر في ذاته مصدرًا للالتزام بالمسؤولية بصرف النظر عما إذا كان قد شابه تقصير أم لا، ويكون المسوغ القانوني حينئذٍ للمسؤولية هو قاعدة الغرم بالغنم لا التقصير، مع ملاحظة أن ذلك لا يتعارض مع حق استغلال الحقوق والمزاحمة في مجال الحياة باعتبار أن للمسؤولية الشيئية مجالاً للعمل غير مجال الانتفاع بالحقوق وتصريفها في وجوهها المشروعة.
ولم يقرر الشارع الأهلي ما قررته المادة (212) مختلط من حيث عدم المسؤولية عند عدم إدراك المتسبب في الضرر، وبماذا يفسر هذا السكوت؟ هل أراد الشارع الأهلي مخالفة الشارع المختلط مخالفة ظاهرة، أي أنه أراد أن لا يأخذ بنظرية شرط الإدراك في المسؤولية المدنية، وأن التعويض حتمي ولو كان المقصر غير مدرك؟ أم أنه أراد أن يقلد الشارع الفرنسي في المادة (1382) التي قررت قاعدة المسؤولية بوجه عام تاركةً أمر التفصيل إلى ظروف الحال وما تمليه هذه على القضاء؟ أم أن الشارع الأهلي أراد بسكوته أن يجاري القضاء الفرنسي فيما ذهب إليه من ضرورة شرط الإدراك (مع ملاحظة أن القضاء الفرنسي حكم سنة 1866 كما بينّا بعدم شرط الإدراك)؟
أمام صمت الشارع الأهلي كان للشكوك والأخذ والرد مجال، وإذا كان الأمر كذلك وجب حينئذٍ تقرير نظرية تتفق مع الأصول القانونية والعدالة.
ولكن قبل تقرير هذه النظرية التي تتفق مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة، وهي النظرية القائلة بعدم توافر شرط الإدراك لما في ذلك من الخلط بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، كما بينّا ذلك في مكانه، نرى أولاً ضرورة معرفة ما هو الرأي الذي يمكن أن يكون قد اتخذه الشارع أمام هذا الصمت الهادئ؟
الذي نقول به بلا تردد أن الشارع الأهلي لو كان أراد أن يأخذ بما قررته المادة (212) المختلطة لكان نقلها حرفًا بحرف إلى تشريعه، وأما كونه لم ينقلها فهذا يقطع على أنه لم يرد الأخذ بها أو على الأقل يقطع في أنه لم يرد البت في هذه النظرية بل تركها لأمر القضاء والفقه.
وأما كونه رجع فيها إلى ما قرره القضاء الفرنسي في ضرورة شرط الإدراك فقد رأينا أن هذا القضاء قضى بعكس ذلك سنة 1866، والذي يهمنا من ذلك كله أن في سكوت الشارع ما يبرر للقضاء والفقه حق تقرير قاعدة قانونية تلتئم مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة.
ولذا نقول بحق بأنه أمام هذا الصمت الأهلي يجب الأخذ بنظرية ضرورة التعويض أي الأخذ بنظرية المسؤولية المدنية وعدم خلطها بنظرية المسؤولية الجنائية كما لاحظ ذلك بلانيول بحق، وكما فعل الشارع الألماني بالمادة (829) في معالجته للمادة (827).
وأما ما قرره القضاء المصري من ضرورة اشتراط الإدراك فهو لم يكن مقنعًا إلى حد التردد فيما تقرره (محكمة أجا الجزئية في 22 يناير سنة 1918، المجموعة الرسمية المجلد 19 صـ 133).
وقد نقل الشارع الأهلي المادتين (214) و(215) مدني مختلط حرفًا بحرف وصاغهما بالمادتين (152) و(153) مدني أهلي، وهاتان المادتان لا تكفيان لتقرير نظرية المسؤولية في باقي وجوهها الأخرى وهي الوحيدة التي أشار إليها الشارع الفرنسي بالمادة (1384) فقرة أولى فيما يتعلق بالمسؤولية الناشئة عن الأشياء الجامدة، وبالمادة (1386) الخاصة بالمسؤولية الناشئة عن تهدم المباني، ولهذا النقص في التشريع المصري مختلطًا وأهليًا مثار للقول فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية، وهي هذه النظرية التي احترقت لها أقلام الكاتبين قبل سنة 1898 والآن أيضًا، وعلى الأخص فيما يتعلق بمصرنا لأنه لم يتقرر للآن ببلادنا قوانين للعمال تقوية بنظرية الضمان الصناعي risque professionnel.
عبد السلام ذهني
مدرس بمدرسة الحقوق الملكية
أثر حكم البراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد على دعوى التعويض
مجلة المحاماة – العدد الخامس
السنة التاسعة عشرة سنة 1939
بحث
أثر حكم البراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد على دعوى التعويض أمام المحكمة المدنية إذا بنى الحكم على نفي الخطأ
(لصاحب العزة زكي بك خير الأبوتيجى رئيس النيابة لدى محكمة النقض الدائرة المدنية)
1 - أثر القضاء الجنائي على المدني وحكمته وأساسه القانوني:
قد يبدو غريبًا أن يقال إن الحكم الجنائي يحوز قوة الشيء المحكوم به أمام المحكمة المدنية في موضوع مدني بحت مع اختلاف الموضوع والسبب والأخصام في كلتا الدعويين الجنائية والمدنية ففي الأولى يكون الموضوع والسبب هو الفعل الجنائي أو الجريمة المسندة إلى المتهم وخصمه النيابة العمومية وليس الأمر كذلك في الدعوى المدنية وعلى الأخص في دعوى مطالبة المجني عليه وورثته بالتعويضات المدنية من المتهم.
ولهذا لا يمكن الاستناد إلى نص المادة (232) من القانون المدني التي تنص على حجية الأحكام وقوتها على شرط اتحاد الموضوع والخصوم والسبب.
ولكن مصلحة اجتماعية هامة تقضي بأن يحترم القاضي المدني ما يحكم به القاضي الجنائي حتى لا تتضارب الأحكام المدنية مع الجنائية وحتى لا يخامر الجمهور الشك في عدالة الأحكام الجنائية التي ترمي إلى توطيد الأمن والطمأنينة بين الناس وكما يقول ميرلان أنه مما يبعث على الاضطراب وهياج الأهالي أن تقضي المحكمة برفض دعوى التعويض استنادًا إلى أن من نسب إليه التهمة لم يرتكب جريمة القتل بعد أن صدر الحكم من محكمة الجنايات بإعدامه وبعد أن نفذ الحكم فعلاً.
لذلك تحتم الضرورة الاجتماعية على القاضي المدني أن يحترم الأساس الذي قام عليه الحكم الجنائي (انظر كتاب كولان وكابتان طبعة أخيرة جزء (2) بند (493) صفحة (459)).
أما الأساس القانوني فإن الشارع الفرنسي نص في الفقرة الثانية من المادة الثالثة من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي على أن نظر الدعوى جنائيًا يوقف سير الدعوى المدنية وبنى الشراح على هذا الأساس وجوب احترام الحكم الجنائي حتى لا يتخاذل معه الحكم المدني ولا ينفي ما أقره.
ولو أن القانون المصري لم ينقل نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي إلا أنه قد أصبح هذا المبدأ أوليًا في القضاء المصري الحديث (تراجع الأحكام العديدة الصادرة من محكمة النقض في المواد الجنائية ومحكمة الاستئناف التي تقرر هذا المبدأ في كتاب مرجع القضاء في القانون المدني تحت رقم (5825) وما بعده).
وهذا بعد أن ترددت المحاكم المصرية في الأخذ بهذا المبدأ (انظر حكم محكمة الاستئناف الصادر في 31 أكتوبر سنة 1901 الذي يقول بإنه لا يوجد نص في القانون يقضي بأن ترتبط المحاكم المدنية بالأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية وانظر عكس ذلك حكم محكمة النقض الصادر في أول يونيو سنة 1926 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 7 صفحة (355)).
ويقول دوهلس في كتابه شرح القانون المدني المصري جزء أول صفحة (305) بند (130) تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به) أن هذه القاعدة يجب العمل بها في مصر طالما أن هذا هو روح التشريع الفرنسي الذي يعتبر التشريع المصري وليده ولأنه لم يرد أي نص في القوانين المصرية يناقض هذا المبدأ (انظر عكس هذا الرأي في مقالة الأستاذ مرقص بك فهمي الواردة في مجلة المحاماة سنة 3 صفحة (315)).
هذا وقد سنحت الفرصة أخيرًا للشارع المصري ليفصح عن هذا المبدأ فورد النص في القانون رقم (57) سنة 1937 الخاص بإصدار قانون تحقيق الجنايات المختلط في المادة (19) ما يأتي:
(إذا استلزم الفصل في دعوى مرفوعة أمام محكمة مدنية أو تجارية معرفة ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتكبت أو إذا كانت قد وقعت من شخص معين يجب على تلك المحكمة أن تفصل في المنازعات المتعلقة بذلك طبقًا لما قضى به نهائيًا من المحكمة الجنائية التي فصلت في الدعوى ولو كانت قد طبقت قواعد الإثبات الخاصة بالمواد الجنائية - ويوقف الفصل في الدعوى المدنية إذا رفعت الدعوى الجنائية قبل الفصل فيها نهائيًا).
ويلاحظ أن البحث في هذا المقام مقصور على نوع واحد من الأحكام الجنائية وفي موضوع مخصص وهي أحكام البراءة الصادرة من المحاكم الجنائية في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد استنادًا إلى أن المتهم لم يرتكب خطأ أو إهمالاً وأثرها على دعاوى التعويض التي يرفعها المجني عليه أمام المحكمة المدنية لذلك يجب أن تضيق دائرة بحثنا في نطاق هذه الدائرة فلا يتناول غير ذلك من الأحكام الجنائية كأحكام الإدانة أو أحكام البراءة لعدم ثبوت التهمة أو لأن الفعل لا يعد جريمة أو غير ذلك فهي تخرج عن هذا البحث.
2 - رأي الفقه في فرنسا وبلجيكا:
قد ذهب المؤلفون في فرنسا في هذا الموضوع إلى رأيين فالرأي الأول الذي قال به معظم الأقدمين وبعض المحدثين من الشراح - مؤداه أن حكم البراءة إذا بنى على نفي الخطأ عن المتهم فلا يقيد القاضي المدني في الفصل في دعوى التعويض الناشئ عن هذا الفعل ويعللون ذلك بأن وظيفة المحكمة الجنائية البحث في الجريمة فقط فإذا قضت بالبراءة فتكون قد استبعدت الخطأ الجنائي دون سواه وليس لها أن تتعرض إلى الخطأ المدني لأنه ليس من اختصاصها ثم إن كل فعل إذا تجرد من الخطأ الجنائي يبقى فيه بقية من الخطأ المدني لأن الخطأ الجنائي فاحش وجسيم والثاني قد يكون تافهًا ويسيرًا ويقول أوبرى ورو تأييدًا لهذا الرأي أن الإهمال في حوادث القتل خطأ يجوز أن يكون كافيًا لاعتبار خطأ مدنيًا وأساسًا للحكم بالتعويض المدني ومع ذلك يجوز أن لا يعتبر خطأ جنائيًا ولا يستأهل هذا الخطأ اليسير عقابًا.
ومن أنصار هذا الرأي أوبري ورو في كتابهما جزء (2) صفحة (470) بند (769) مكرر ومرلان تحت عنوان تعويض مدني بند (2) ودورانتون جزء (8) بند (486) وما بعده وماتيجان تحت عنوان دعوى عمومية جزء (2) بند (423) وما بعده ولارومبير جزء (5) تعليقات على المادة (351) بند (177) وأيضًا جريو لييه في تعليقه على دالوز سنة 1869 جزء أول صفحة (170) وانظر تعليق ربير في دالوز سنة 1925 جزء أول ص (6) وشوفو تحقيق جنايات صفحة (947) وديمولومب جزء (30) بند (427) وهيك جزء (8) بند (340) وانظر أيضًا لاكوست بند 1124.
3 - الرأي الثاني:
مؤداه أن الحكم الذي يصدر من محكمة الجنح ببراءة المتهم في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بنى على أنه لا إهمال ولا رعونة من جانب المتهم في الفعل المسند إليه فإنه مانع من سماع دعوى التعويض المدني التي تقام على أساس هذا الفعل بالذات ويعلل كولان وكابيتان هذا الرأي في كتابهما القانون المدني جزء (2) طبعة أخيرة صفحة (460) بند (496) بأن جميع صور الخطأ والإهمال مندرجة في عموم النص الوارد في قانون العقوبات مادة (319) في فرنسا ومادتي (202) و (208) قانون عقوبات أهلي قديم ومادة (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد فإذا قال القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب إهمالاً ما فلا يسوغ للقاضي المدني أن يحكم بالتعويض على أساس أنه ارتكب خطأ وإلا فإنه يكون متناقضًا مع حكم المحكمة الجنائية الذي يجب احترامه والأخذ بما حكم به.
ويقول هنري وليون مازو في كتابهما المسؤولية المدنية جزء (2) صفحة (625) بند (1823) وبند 1856 أن النص الوارد في المادتين (319) و (320) عقوبات فرنسي المقابلتين للمادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الأهلي الجديد شامل لكل أنواع الخطأ فالإهمال الجنائي يجب كل صورة من صور الإهمال أو الخطأ المدني مهما كان يسيرًا englobe toute faute personnelle ونص قانون العقوبات عام بحيث لا يدع مجالاً لافتراض أي إهمال آخر ولو كان يسيرًا فإذا نفاه الحكم الجنائي فلا يسوغ للمحكمة المدنية أن تسمع دعوى التعويض على أساس الإهمال الذي كان موضوع التهمة - ويقول سافاتييه في مجلة دالوز سنة 1930 جزء (51) صفحة 40 أن اندماج الخطأ المدني في الخطأ الجنائي الذي هو أساس جريمة القتل أو الجرح بلا تعمد أصبح الآن مبدأ مستقرًا ومضطردًا ويقول جارسون في شرح المادتين (319) و (320) من قانون العقوبات الفرنسي بند (16) بأن نص هاتين المادتين عام وشامل بحيث لا يوجد أي نوع من أنواع الإهمال أو الخطأ لا يستطيع القاضي أن يدمجه فيه وأن الشارع لم يدع مجالاً لأن يستثني من النص سوى حوادث العوارض فقط.
(انظر هذا الرأي في كتاب بلانيول وربير واسمين بند (679) وبند (673) وفي تعليق اسمين في سيرى سنة 1930 جزء أول صفحة (177) - وجارو شرح قانون العقوبات طبعة ثالثة جزء (6) صفحة 346 بند (2350) - وجارسون تعليق على المادتين (319) و (320) بند (16) وانظر أيضًا جلاسون وتسييه مرافعات عدد (3) بند (777)).
وجاء في الموسوعات البلجيكية تحت عنوان قوة الشيء المحكوم به بند (319) أن الرأي المجمع عليه تقريبًا في الفقه والقضاء هو أنه لا يمكن تصور أي فارق في درجة الجسامة بين الإهمال الذي هو عنصر لجريمة القتل أو الجرح خطأ والإهمال الذي يتكون منه الخطأ المدني.
4 - أحكام محكمة النقض الفرنسية وترددها بين الرأيين والمبدأ الذي استقرت عليه أخيرًا:
ليس هناك مسألة قانونية تناقضت فيها أحكام محكمة النقض الفرنسية مثل تناقضها في هذا الموضوع ويمكن بيان الأطوار التي عرجت فيها تلك المحكمة بين الرأيين المشار إليهما آنفًا كما يأتي:
أولاً: قضت محكمة النقض الفرنسية في بعض أحكامها القديمة بأنه لا يمكن قيام أية مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة جنائيًا وهذا المبدأ وارد في الحكم الصادر في 7 مارس سنة 1857 والمنشور في دالوز سنة 1855 جزء أول صفحة (81).
ثانيًا: وفي حكمها الصادر في 17 مارس سنة 1874 والمنشور في دالوز سنة 1874 جزء أول صفحة (399) قالت محكمة النقض الفرنسية بأنه يجوز أن يتخلف خطأ يسير يترتب عليه مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة وبعد أن تنفي المحكمة الجنائية الخطأ عن المتهم.
وهذا المبدأ ورد أيضًا في الحكمين الصادرين من دائرة العرائض في 31 مايو سنة 1892 والمنشور في دالوز سنة 1892 جزء أول صفحة (381) والصادر في 7 نوفمبر سنة 1894 والمنشور في سيرى سنة 1895 جزء أول صفحة (46).
ثالثًا: ومنذ سنة 1912 عدلت محكمة النقض الفرنسية عن ذلك المبدأ وقالت بأنه لا محل لافتراض أي خطأ مدني بعد أن تقضي المحكمة الجنائية بالبراءة إذا استند حكم البراءة إلى أن المتهم لم يرتكب أي إهمال - وجاء في حكمها الصادر في 18 ديسمبر سنة 1912 والمنشور في دالوز سنة 1915 جزء أول صفحة (17) الأسباب الآتية:
Attendu que les arts/ 319 & 320 Code Pénal puinissent de peines correctionnelles qui conque, par maladresse, imprudence, inattention, negligence ou inobservation des reglements, a commis involontairement un homicide ou causé des blessures sans que la legerté de ta laule commis, puisse avoir d’autre effet que d’attenuer la peine incourue.
وجاء أيضًا في الحكم الصادر من تلك المحكمة في 10 يونيو سنة 1914 والمنشور في سيرى سنة 1915 جزء أول صفحة 70 ما يأتي:
Attendu que les arts, 319 et 320 Code Penal punissent de peines correctionnelles (qui - conque) par maladresse, imprudence, inattention, negligence, inobservation des reglements, a causé involontairement des blessures, sans distinguer suivant la gravité de la faute commise; d ‘où il suit que lorsque la juridiction correctionnelle a acquitté un prevenu de blessures involontaires, le juge civil ne peut, sans contredire la chose jugée, le condamner à des dommages - intèrêt envers la partie qui prétend lésée si celle - ei ne relève contre lui en dehors de l’imprudence et de l’inobservation des reglements aucune autre circonstance de nature à engager sa responsabilité.
وهذا المبدأ قد ورد أيضًا في الأحكام الصادرة من محكمة النقض الفرنسية الآتي بيانها:
- حكم محكمة النقض في 28 مارس سنة 1916 والمنشور في دالوز سنة 1920 جزء أول صفحة (25).
- حكم دائرة العرائض في 12 يناير ستة 1917 والمنشور في دالوز سنة 1922 جزء أول صفحة (52).
- حكم دائرة العرائض في 12 يوليو سنة 1917 والمنشور في سيرى سنة 1918 جزء أول صفحة (212).
- حكم محكمة النقض في 10 يونيو سنة 1918 والمنشور في سيرى سنة 1922 جزء أول صفحة (52) حكم محكمة النقض في 20 نوفمبر سنة 1920 والمنشور في دالوز سنة 1924.
رابعًا: حادت محكمة النقض الفرنسية عن هذا المبدأ في بعض الأحكام في حوادث اصطدام السفن إذ جاء في الحكم الصادر في مايو سنة 1924 والمنشور في دالوز سنة 1925 جزء أول صفحة (12) أن الحكم الصادر من المحكمة التجارية بالبراءة في تهمة الاصطدام لانتفاء الخطأ لا يمنع من أن تحقق المحكمة المدنية في شبه الجنحة المدنية التي يترتب عليها المسؤولية المدنية.
وكذلك في الأحكام الصادرة من مجلس الجيش بفرنسا ببراءة بعض رجال الجيش من تهمة القتل خطأ قضت محكمة النقض في حكمها الصادر في 29 يوليو سنة 1922 والمنشور في سيرى سنة 1925 جزء أول صفحة (321) بجواز سماع الدعوى المدنية بالتعويض رغمًا عن هذه الأحكام (انظر أيضًا الحكم الصادر في 14 يناير سنة 1925 والمنشور في دالوز سنة 1926 جزء أول صفحة (189) والحكم الصادر في 8 فبراير سنة 1926 والمنشور في الجازيت سنة 1926 جزء ول صفحة (628)).
ولكن يظهر أن الذي حمل محكمة النقض الفرنسية على الشذوذ عن القاعدة العامة هو أن هذه الأحكام لم تشتمل على أسباب البراءة وبعضها اقتصر على ذكر عبارة أن المتهم غير مذنب فقط فلم تتبين المحكمة السبب الذي بنى عليه حكم البراءة لذلك أجازت للمحكمة المدنية أن تحقق وقائع الإهمال من جديد.
خامسًا: أخيرًا استقر قضاء محكمة النقض الفرنسية على المبدأ الثاني القائل بأن لا يمكن تصور أي خطأ مدني بعد نفي الخطأ الجنائي عن المتهم ولذلك لا يجوز سماع الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة إذا بنى الحكم على أنه لم يكن هناك خطأ أو إهمال في الفعل المسند إلي المتهم.
وهذا المبدأ اضطرد في الأحكام الآتية:
- حكم النقض الصادر في 16 يوليو سنة 1928 والمنشور في دالوز سنة 1929 جزء أول صفحة (33).
- حكم النقض الصادر في 15 يناير سنة 1929 دالوز أسبوعي سنة 1929 صفحة (116).
- حكم النقض الصادر في أول ديسمبر سنة 1930 جازيت المحاكم سنة 1931 جزء أول صفحة (80).
- حكم النقض الصادر في 17 إبريل سنة 1931 جازيت المحاكم سنة 1921 صفحة (37).
- حكم النقض الصادر في 10 مايو سنة 1932 دالوز أسبوعي سنة 1932 صفحة (380).
- حكم دائرة العرائض في 24 أكتوبر سنة 1932 جازيت المحاكم سنة 1932 جزء (2) صفحة (936).
- حكم دائرة العرائض في 14 نوفمبر سنة 1933 جازيت المحاكم سنة 1934 جزء أول صفحة (176) وجاء في بعض هذه الأحكام العبارة الآتية:
La faute pènale des articles 319 et 320 du Code pènal contient tous les elements de la faute civile.
ويقول هنري وليون مازو في صفحة (625) من المرجع المشار إليه آنفًا إن هذا المبدأ قد ساد في القضاء الفرنسي بعد أن ترددت المحاكم فيه ردحًا من الزمن.
5 - مذهب القضاء البلجيكي:
أما الرأي الذي ساد في الأحكام البلجيكية فهو ما استقرت عليه محكمة النقض الفرنسية أي عدم جواز سماع دعوى التعويض بعد الحكم ببراءة المتهم بالقتل أو الجرح بغير عمد إذا كان الحكم الجنائي قد نفى وقوع الخطأ
(انظر حكم محكمة بروكسل الصادر في 27 فبراير سنة 1932 والمنشور في سيري سنة 1932 جزء (4) صفحة (210) وكذلك الأحكام العديدة الواردة في الموسوعة البلجيكية تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به).
وانظر أيضًا حكم محكمة بروكسل الصادر في 12 إبريل سنة 1929 - المنشور في البازكريزى سنة 1930 جزء (3) صفحة (76).
والحكم الصادر في 18 يونيو سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (13).
والحكم الصادر في 16 أكتوبر سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (52).
والحكم الصادر في 11 إبريل سنة 1933 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1933 جزء (3) صفحة (197).
وجاء في هذه الأحكام أن الحكم بالبراءة في حوادث الإصابة بغير عمد يمنع من رفع الدعوى المدنية عن هذه الحوادث لأن الخطأ الجنائي المنصوص عليه في المادتين (418) و (426) من قانون العقوبات البلجيكي يجب كل خطأ آخر.
6 - رأي الشارحين للقانون المصري:
يقول جرانمولان في كتاب تحقيق الجنايات المصري جزء (2) صفحة (279) بند (1044) أن الحكم الصادر بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد لا يحول دون سماع دعوى المجني عليه التي يرفعها أمام المحكمة المدنية مطالبًا بالتعويض الذي نشأ عن الأفعال التي كانت موضوع الاتهام ذلك لأنه إذا كان الإهمال غير كافٍ لتكوين الجريمة وتوقيع العقاب على المتهم إلا أنه يجوز أن يكفي لترتب مسؤوليته المدنية.
وجاء في رسالة الإثبات لأحمد بك نشأت صفحة (347) بند (594) أنه إذا حكم بالبراءة لعدم وجود خطأ جنائي بالمرة كالمبين في المواد (202) و (208) و (315) عقوبات فإن هذا الحكم يمنع من وقوع خطأ مدني مما نص عليه في المواد (151) و (152) و (153) مدني الخ.
وورد رأي يخالف هذا الرأي في كتاب الالتزامات لعبد السلام بك ذهني جزء (2) صفحة (474) ومؤداه ما يأتي:
أنه إذا قضى الحكم الجنائي ببراءة متهم منسوب إليه القتل خطأ واستند الحكم إلى أنه لم يثبت إهمال أو خطأ من المتهم فلا يجوز رفع دعوى تعويض عليه فيما بعد بشأن هذا الوصف الذي فصل فيه الحكم الجنائي (انظر مقال الأستاذ سامي مازن في مجلة القانون والاقتصاد جزء (2) صفحة (330)).
7 - رأي القضاء المصري:
أخذت المحاكم المصرية تعرج بين المذهبين فالبعض قضى بأحد الرأيين والبعض الآخر بالمذهب الثاني كما يأتي مع ملاحظة أنه لا يمكن القول بأن المحاكم اتخذت مبدأ ثابتًا مستقرًا في هذه المسألة.
أولاً: قضت محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 23 ديسمبر سنة 1930 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 32 عدد (192) صفحة (394) أن الحكم الصادر من محكمة الجنح بالبراءة في حوادث القتل الخطأ لا يمنع المحكمة المدنية من البحث في المسؤولية إلا إذا كان حكم البراءة مبنيًا على انتفاء الإهمال وعدم وجود مسؤولية جنائية.
وفي الحكم الصادر من تلك المحكمة في 17 نوفمبر سنة 1931 المنشور في المجموعة الرسمية سنة 33 عدد (116) صفحة (222) تقول محكمة الاستئناف أن المحاكم المدنية مقيدة بالأحكام الجنائية النهائية فيما ورد بها خاصًا بترتيب المسؤولية قبل المتهم فلا يقبل منه المناقشة فيها إذا ما رفعت عليه دعوى التعويض.
ثانيًا: وصدرت أحكام أخرى قائلة بالرأي المخالف ومن هذا:
الحكم الصادر من محكمة استئناف مصر بتاريخ 10 إبريل سنة 1927 – والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (59) صفحة (95) والذي جاء فيه أنه لا يكفي للسائق أن يبين أنه لم يقع منه خطأ مطلقًا أو أن سبب الحادثة بقى مجهولاً للتخلي عن المسؤولية المدنية بل تبقى مسؤوليته قائمة في الحالتين حتى ولو قضى جنائيًا بالبراءة لعدم قيام الدليل على وجود خطأ معين أو إهمال.
وفي الحكم الصادر من محكمة طنطا الابتدائية في تاريخ 13 يناير سنة 1926 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (11) صفحة (14).
ورد أن للمحكمة المدنية أن تبحث فيما إذا كانت الوقائع المنسوبة للمتهم تعتبر شبه جنحة يترتب عليها مسؤولية مدنية بالرغم من حكم البراءة.
وورد في الحكم الصادر في 14 ديسمبر سنة 1929 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 10 صفحة (598) أن حكم البراءة لا يرتبط به القاضي المدني إذا حكم في جريمة قتل خطأ أو المتهم لم يرتكب إهمالاً أو خطأ لاختلاف ماهية الخطأ أو الإهمال من الوجهة الجنائية عنها من الوجهة المدنية في حالة القتل خطأ.
أما المحاكم المختلطة فإنها لم تسلم بحجية الأحكام الجنائية الصادرة من المحاكم القنصلية أو المحاكم الأهلية إطلاقًا لاختلاف ولاية القضاء.
(حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 4 مايو سنة 1921 مجموعة مختلطة سنة 33 صفحة (305)) لذلك لم تتح الفرصة لتلك المحاكم لإبداء رأيها في هذا الموضوع.
رأينا في هذا الموضوع
من القواعد الأولية أن الأحكام الجنائية تصدر ضد الكافة erge omnes بمعنى أن لها الحجية المطلقة على المتهم ولدى جميع الناس وقبل المجني عليه أيضًا حتى ولو لم يعلن أو لم يتدخل في الدعوى العمومية.
ووجه هذا ظاهر لأن الجرائم ماسة بالنظام والأمن في الدولة فاحترام الملأ للأحكام الصادرة فيها تقتضيه المصلحة العامة حتى تكون رادعة وعبرة للغير وفضلاً عن ذلك فإن النيابة العمومية التي يتحتم حضورها في الجلسة تمثل الهيئة الاجتماعية وتمثل جميع الحقوق على السواء سواء حضر المتهم والمجني عليه أو لم يحضرا وناهيكم عن أنه من المستحيل عقلاً ومادة إدخال كافة الناس في الدعوى العمومية لتكون الأحكام حجة على الجميع.
ومتى بان هذا كان الحكم الجنائي واجب الاحترام من القاضي المدني إذا ما رفعت الدعوى المدنية إما من المتهم أو المجني عليه أو ورثتهما وتكون حجة على الخصوم وله قوة الشيء المحكوم به بحيث لا يسوغ إصدار حكم مدني يتناقض معه وإلا أهدرت حجته.
وإذا كان بعض أئمة القانون في فرنسا يسندون هذه الحجية إلى نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الذي ينص على أن الدعوى الجنائية توقف سير الدعوى المدنية - هذا النص الذي لم ينقله الشارع المصري فإنه يكفي لتبرير هذه الحجية ويعللها في مصر أن تنهض على الأساس الذي أوضحناه أي أن الأحكام الجنائية أحكام ضد الكافة ولها حجة مطلقة لا نسبية وعلى القاضي المدني احترامها لهذا السبب.
ويتفرع على هذه الكلية الجزئيات الآتية:
أولاً: أن المنطق السليم يقضي بأن حجية أية مبدأ أو مسألة تتناول حتمًا الأساس الذي تنهض عليه فإذا كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام فيجب قانونًا وعقلاً احترام الأساس الذي بنيت عليه وتفريعًا على هذا إذا صدر الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح العمد استنادًا إلي أن المتهم لا يمكن أن يعزي إليه إهمال في الواقعة المسندة إليه بالذات فيكون سند الحكم هذا واجب الاحترام حتمًا وعلى القاضي المدني أن يتخذه قضية مسلمة لا تقبل فيه النقاش وعلى هذا يجب أن يمتنع عن سماع الدعوى المدنية إذا أقامها المجني عليه على ما يهدر هذا الأساس.
ولو أن العبرة في الحجية لمنطوق الأحكام إلا أن الأسباب التي تتصل بالمنطوق صلة المقدمة بالنتيجة والسبب بالمسبب تحوز أيضًا قوة الشيء المحكوم به فلا حرج إذن في تلمس سند حكم البراءة من أسبابه.
ثانيًا: يجب أن يضع القاضي المدني نفسه موضع القاضي الجنائي نفسه عند بيان مدى احترام الأحكام الجنائية والاستمساك بحجيتها لأنه ليس من الطبيعي أن يكون القاضي الجنائي أقل احترامًا لقضائه من القاضي المدني ولذلك لا يطلب من القاضي المدني أن يغالي في الاحترام حتى يفوق في ذلك من أصدر هذه الأحكام ويتفرع على هذا أن ما يلتزم القاضي الجنائي باحترامه يلزم القاضي المدني به عند نظر الدعوى المدنية وإلا فلا.
ومن الأوليات القانونية أن قوة الشيء المحكوم به في الأحكام الجنائية لا تتعدى الأفعال المسندة إلى المتهم والواردة في وصف التهمة والتي طرحت أمام المحكمة والتي أتيح للمتهم حق الدفاع عن نفسه فيها - أما الأفعال والوقائع الأخرى فتخرج عن هذه الحجية بمعنى أنه يجوز رفع الدعوى العمومية مرة أخرى على أساس هذه الأفعال الجديدة (انظر هذا المبدأ الذي اضطرد في قضاء محكمة النقض والإبرام المصرية الدائرة الجنائية في قضية الطعن رقم (894) سنة 4 قضائية في الحكم الصادر في 29 أكتوبر سنة 1934 وفي الحكم الصادر في قضية الطعن رقم (1625) سنة 4 قضائية بتاريخ 28 يناير سنة 1935 الذي قرر مبدأ جواز رفع دعوى إخفاء أشياء مسروقة بعد الحكم بالبراءة من تهمة السرقة في نفس الحادثة).
ومتى ثبت هذا ساغ للقاضي المدني أن يسمع دعوى التعويض عن حادثة الجرح أو القتل خطأ بعد الحكم بالبراءة إذا كان الخطأ الذي يسنده المجني عليه للمتهم يقوم على وقائع أخرى غير التي وردت وفي وصف التهمة أو غير التي قضى الحكم الجنائي بانتفاء الخطأ عن المتهم في فعلها.
ثالثًا: قد نص قانون تحقيق الجنايات في المادتين (147) و (172) وفي المادة (50) من قانون تشكيل محكمة الجنايات أنه إذا كانت الواقعة غير ثابتة أولاً يعاقب عليها القانون أو سقط الحق في إقامة الدعوى فيها بمضي المدة يحكم القاضي الجنائي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض.
وهذه النصوص تميط اللثام عن رأي الشارع المصري وهو أنه يجوز الحكم بالتعويضات المدنية بالرغم من حكم البراءة إنما هذه الأحوال واردة على سبيل الحصر في هذه النصوص أما الحكم بالتعويض في حالة عدم ثبوت التهمة فالمراد منه أن المتهم هو الذي يطلب الحكم بالتضمينات ضد المجني عليه لأنه لا يقبل عقلاً أن يحكم القاضي بالتضمينات للمجني عليه مع عدم ثبوت الفعل الذي يدعي به ولذلك ورد في النص عبارة (التعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض).
وإذا حدثت الواقعة ضررًا للمجني عليه ولكن عناصر الجريمة لم تتوفر فيها كانعدام توفير الطرق الاحتيالية في جريمة النصب فإن الحكم بالبراءة لا يمنع من الحكم بالتعويض وكذلك إذا سقط الحق في إقامة الدعوى العمومية فيجوز الحكم بالتعويضات المدنية مع مراعاة القيد الوارد في المادة (282) من قانون تحقيق الجنايات.
هذه هي الأحوال التي أباح فيها القانون للقاضي الجنائي أن يحكم بالتعويض مع الحكم بالبراءة ولذلك لا حرج على القاضي المدني أن يسمع الدعوى المدنية بالتعويض في هذه الصور أو في جميع الأحوال التي لا يكون فيها تقادم أو تناقض ما مع الحكم الجنائي وما قضى به في منطوقه أو في أسبابه المرتبطة بالمنطوق.
ولكن الشارع لم ينص على حالة الحكم بالبراءة استنادًا على أنه لم يقع الخطأ إطلاقًا من جانب المتهم ويستفاد من عدم النص على هذه الصورة عدم إباحتها ولهذا يحرم على القاضي الجنائي أو المدني سماع دعوى التعويض بعد الحكم بالبراءة الذي يقوم على هذا الأساس.
والعقل والمنطق يقضيان بهذا التفسير وإلا كان القاضي الجنائي متناقضًا ومتخاذلاً مع نفسه إذا قضى من ناحية بالبراءة استنادًا على أنه لا إهمال ولا خطأ من جانب المتهم في الفعل المسند إليه وحكم من ناحية أخرى بالتعويض لهذا الفعل.
ولما كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام على الكافة وكان محتمًا على القاضي المدني أن لا يعدو حجيتها ولا يتعارض حكمه معها لذلك أصبح لزامًا على القاضي المدني أن يمتنع عن سماع دعوى التعويض التي تقوم على أساس الفعل الذي قال عنه القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب أي خطأ أو إهمال فيه.
رابعًا: بقيت نقطة واحدة وهي هل يشتمل الخطأ الذي هو ركن لجريمة القتل أو الجرح خطأ والمنصوص عليهما في المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد المقابلتين للمادتين (202) و (208) من القانون القديم هل يشتمل على عناصر الخطأ المدني المنصوص علي في المادة (151) من القانون المدني.
جاء في النص الوارد في هاتين المادتين أن القتل أو الجرح يجب أن يكون ناشئًا (عن رعونة أو عدم احتياط وتحرز أو عن إهمال وتفريط أو عن عدم انتباه وتوق أو عن عدم مراعاة واتباع اللوائح).
والواقع أن هذه العبارات تشمل كل فرض أو صورة من صور الخطأ بحيث إنه يصعب تصور أن هناك أي نوع من الخطأ غير مندرج في هذا النص.
ولا شك أن هناك فرقًا بين الخطأ الجنائي والخطأ المدني فالأول يستلزم عناصر لا بد من توفرها لتكوين الجريمة كالقصد الجنائي أو سوء النية أو نية الإضرار إلى غير ذلك أما الخطأ المدني فلا يشترط فيه شيء من هذا بل مناطه الضرر والإهمال مهما تضاءلت جسامته.
وإذا كان هذا هو الحال في الجرائم الأخرى إلا أنه لا ينطبق على جريمة القتل أو الجرح بلا عمد لأن الشارع المصري الذي سار وراء الشارع الفرنسي والبلجيكي احتاط أشد الاحتياط للأمر فسرد جميع أنواع الخطأ من إهمال ورعونة وعدم تحرز أو توق إلى غير ذلك حتى لا يفلت من العقاب أي شخص لا يسلك مسلك المتيقظ أو الساهر على سلامة الناس من أفعاله فالخطأ المنصوص عليه في المادة (151) مدني مندرج لا محالة في العبارات الشاملة التي جاءت في نص المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد.
ويتفرع على هذا أنه إذا وجب على القاضي المدني احترام الحكم الجنائي كما سبق البيان فيتحتم عليه إذن أن يقضي بعدم جواز سماع دعوى التعويض إذا رفعها المجني عليه أمامه مستندًا إلى نفس الفعل الذي قال الحكم الجنائي عنه بأنه لا خطأ فيه من جانب المتهم لأن نفي الخطأ جنائيًا معناه انتفاء كل إهمال وتفريط أو رعونة وعدم تحرز أو عدم توق الخ.. وبالتالي يبعد كل خطأ مهما كان نوعه أو مهما بلغت درجته.
والخلاصة: أنه لا محل لافتراض الجنحة المدنية أو شبهها بعد الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بني الحكم على أساس نفي الخطأ عن المتهم إنما مناط هذا أن حجية الأحكام الصادرة بالبراءة مقصورة على الوقائع الواردة في وصف التهمة بحيث يجوز أن تترتب المسؤولية المدنية على وقائع أو أفعال أخرى.
السنة التاسعة عشرة سنة 1939
بحث
أثر حكم البراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد على دعوى التعويض أمام المحكمة المدنية إذا بنى الحكم على نفي الخطأ
(لصاحب العزة زكي بك خير الأبوتيجى رئيس النيابة لدى محكمة النقض الدائرة المدنية)
1 - أثر القضاء الجنائي على المدني وحكمته وأساسه القانوني:
قد يبدو غريبًا أن يقال إن الحكم الجنائي يحوز قوة الشيء المحكوم به أمام المحكمة المدنية في موضوع مدني بحت مع اختلاف الموضوع والسبب والأخصام في كلتا الدعويين الجنائية والمدنية ففي الأولى يكون الموضوع والسبب هو الفعل الجنائي أو الجريمة المسندة إلى المتهم وخصمه النيابة العمومية وليس الأمر كذلك في الدعوى المدنية وعلى الأخص في دعوى مطالبة المجني عليه وورثته بالتعويضات المدنية من المتهم.
ولهذا لا يمكن الاستناد إلى نص المادة (232) من القانون المدني التي تنص على حجية الأحكام وقوتها على شرط اتحاد الموضوع والخصوم والسبب.
ولكن مصلحة اجتماعية هامة تقضي بأن يحترم القاضي المدني ما يحكم به القاضي الجنائي حتى لا تتضارب الأحكام المدنية مع الجنائية وحتى لا يخامر الجمهور الشك في عدالة الأحكام الجنائية التي ترمي إلى توطيد الأمن والطمأنينة بين الناس وكما يقول ميرلان أنه مما يبعث على الاضطراب وهياج الأهالي أن تقضي المحكمة برفض دعوى التعويض استنادًا إلى أن من نسب إليه التهمة لم يرتكب جريمة القتل بعد أن صدر الحكم من محكمة الجنايات بإعدامه وبعد أن نفذ الحكم فعلاً.
لذلك تحتم الضرورة الاجتماعية على القاضي المدني أن يحترم الأساس الذي قام عليه الحكم الجنائي (انظر كتاب كولان وكابتان طبعة أخيرة جزء (2) بند (493) صفحة (459)).
أما الأساس القانوني فإن الشارع الفرنسي نص في الفقرة الثانية من المادة الثالثة من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي على أن نظر الدعوى جنائيًا يوقف سير الدعوى المدنية وبنى الشراح على هذا الأساس وجوب احترام الحكم الجنائي حتى لا يتخاذل معه الحكم المدني ولا ينفي ما أقره.
ولو أن القانون المصري لم ينقل نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي إلا أنه قد أصبح هذا المبدأ أوليًا في القضاء المصري الحديث (تراجع الأحكام العديدة الصادرة من محكمة النقض في المواد الجنائية ومحكمة الاستئناف التي تقرر هذا المبدأ في كتاب مرجع القضاء في القانون المدني تحت رقم (5825) وما بعده).
وهذا بعد أن ترددت المحاكم المصرية في الأخذ بهذا المبدأ (انظر حكم محكمة الاستئناف الصادر في 31 أكتوبر سنة 1901 الذي يقول بإنه لا يوجد نص في القانون يقضي بأن ترتبط المحاكم المدنية بالأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية وانظر عكس ذلك حكم محكمة النقض الصادر في أول يونيو سنة 1926 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 7 صفحة (355)).
ويقول دوهلس في كتابه شرح القانون المدني المصري جزء أول صفحة (305) بند (130) تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به) أن هذه القاعدة يجب العمل بها في مصر طالما أن هذا هو روح التشريع الفرنسي الذي يعتبر التشريع المصري وليده ولأنه لم يرد أي نص في القوانين المصرية يناقض هذا المبدأ (انظر عكس هذا الرأي في مقالة الأستاذ مرقص بك فهمي الواردة في مجلة المحاماة سنة 3 صفحة (315)).
هذا وقد سنحت الفرصة أخيرًا للشارع المصري ليفصح عن هذا المبدأ فورد النص في القانون رقم (57) سنة 1937 الخاص بإصدار قانون تحقيق الجنايات المختلط في المادة (19) ما يأتي:
(إذا استلزم الفصل في دعوى مرفوعة أمام محكمة مدنية أو تجارية معرفة ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتكبت أو إذا كانت قد وقعت من شخص معين يجب على تلك المحكمة أن تفصل في المنازعات المتعلقة بذلك طبقًا لما قضى به نهائيًا من المحكمة الجنائية التي فصلت في الدعوى ولو كانت قد طبقت قواعد الإثبات الخاصة بالمواد الجنائية - ويوقف الفصل في الدعوى المدنية إذا رفعت الدعوى الجنائية قبل الفصل فيها نهائيًا).
ويلاحظ أن البحث في هذا المقام مقصور على نوع واحد من الأحكام الجنائية وفي موضوع مخصص وهي أحكام البراءة الصادرة من المحاكم الجنائية في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد استنادًا إلى أن المتهم لم يرتكب خطأ أو إهمالاً وأثرها على دعاوى التعويض التي يرفعها المجني عليه أمام المحكمة المدنية لذلك يجب أن تضيق دائرة بحثنا في نطاق هذه الدائرة فلا يتناول غير ذلك من الأحكام الجنائية كأحكام الإدانة أو أحكام البراءة لعدم ثبوت التهمة أو لأن الفعل لا يعد جريمة أو غير ذلك فهي تخرج عن هذا البحث.
2 - رأي الفقه في فرنسا وبلجيكا:
قد ذهب المؤلفون في فرنسا في هذا الموضوع إلى رأيين فالرأي الأول الذي قال به معظم الأقدمين وبعض المحدثين من الشراح - مؤداه أن حكم البراءة إذا بنى على نفي الخطأ عن المتهم فلا يقيد القاضي المدني في الفصل في دعوى التعويض الناشئ عن هذا الفعل ويعللون ذلك بأن وظيفة المحكمة الجنائية البحث في الجريمة فقط فإذا قضت بالبراءة فتكون قد استبعدت الخطأ الجنائي دون سواه وليس لها أن تتعرض إلى الخطأ المدني لأنه ليس من اختصاصها ثم إن كل فعل إذا تجرد من الخطأ الجنائي يبقى فيه بقية من الخطأ المدني لأن الخطأ الجنائي فاحش وجسيم والثاني قد يكون تافهًا ويسيرًا ويقول أوبرى ورو تأييدًا لهذا الرأي أن الإهمال في حوادث القتل خطأ يجوز أن يكون كافيًا لاعتبار خطأ مدنيًا وأساسًا للحكم بالتعويض المدني ومع ذلك يجوز أن لا يعتبر خطأ جنائيًا ولا يستأهل هذا الخطأ اليسير عقابًا.
ومن أنصار هذا الرأي أوبري ورو في كتابهما جزء (2) صفحة (470) بند (769) مكرر ومرلان تحت عنوان تعويض مدني بند (2) ودورانتون جزء (8) بند (486) وما بعده وماتيجان تحت عنوان دعوى عمومية جزء (2) بند (423) وما بعده ولارومبير جزء (5) تعليقات على المادة (351) بند (177) وأيضًا جريو لييه في تعليقه على دالوز سنة 1869 جزء أول صفحة (170) وانظر تعليق ربير في دالوز سنة 1925 جزء أول ص (6) وشوفو تحقيق جنايات صفحة (947) وديمولومب جزء (30) بند (427) وهيك جزء (8) بند (340) وانظر أيضًا لاكوست بند 1124.
3 - الرأي الثاني:
مؤداه أن الحكم الذي يصدر من محكمة الجنح ببراءة المتهم في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بنى على أنه لا إهمال ولا رعونة من جانب المتهم في الفعل المسند إليه فإنه مانع من سماع دعوى التعويض المدني التي تقام على أساس هذا الفعل بالذات ويعلل كولان وكابيتان هذا الرأي في كتابهما القانون المدني جزء (2) طبعة أخيرة صفحة (460) بند (496) بأن جميع صور الخطأ والإهمال مندرجة في عموم النص الوارد في قانون العقوبات مادة (319) في فرنسا ومادتي (202) و (208) قانون عقوبات أهلي قديم ومادة (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد فإذا قال القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب إهمالاً ما فلا يسوغ للقاضي المدني أن يحكم بالتعويض على أساس أنه ارتكب خطأ وإلا فإنه يكون متناقضًا مع حكم المحكمة الجنائية الذي يجب احترامه والأخذ بما حكم به.
ويقول هنري وليون مازو في كتابهما المسؤولية المدنية جزء (2) صفحة (625) بند (1823) وبند 1856 أن النص الوارد في المادتين (319) و (320) عقوبات فرنسي المقابلتين للمادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الأهلي الجديد شامل لكل أنواع الخطأ فالإهمال الجنائي يجب كل صورة من صور الإهمال أو الخطأ المدني مهما كان يسيرًا englobe toute faute personnelle ونص قانون العقوبات عام بحيث لا يدع مجالاً لافتراض أي إهمال آخر ولو كان يسيرًا فإذا نفاه الحكم الجنائي فلا يسوغ للمحكمة المدنية أن تسمع دعوى التعويض على أساس الإهمال الذي كان موضوع التهمة - ويقول سافاتييه في مجلة دالوز سنة 1930 جزء (51) صفحة 40 أن اندماج الخطأ المدني في الخطأ الجنائي الذي هو أساس جريمة القتل أو الجرح بلا تعمد أصبح الآن مبدأ مستقرًا ومضطردًا ويقول جارسون في شرح المادتين (319) و (320) من قانون العقوبات الفرنسي بند (16) بأن نص هاتين المادتين عام وشامل بحيث لا يوجد أي نوع من أنواع الإهمال أو الخطأ لا يستطيع القاضي أن يدمجه فيه وأن الشارع لم يدع مجالاً لأن يستثني من النص سوى حوادث العوارض فقط.
(انظر هذا الرأي في كتاب بلانيول وربير واسمين بند (679) وبند (673) وفي تعليق اسمين في سيرى سنة 1930 جزء أول صفحة (177) - وجارو شرح قانون العقوبات طبعة ثالثة جزء (6) صفحة 346 بند (2350) - وجارسون تعليق على المادتين (319) و (320) بند (16) وانظر أيضًا جلاسون وتسييه مرافعات عدد (3) بند (777)).
وجاء في الموسوعات البلجيكية تحت عنوان قوة الشيء المحكوم به بند (319) أن الرأي المجمع عليه تقريبًا في الفقه والقضاء هو أنه لا يمكن تصور أي فارق في درجة الجسامة بين الإهمال الذي هو عنصر لجريمة القتل أو الجرح خطأ والإهمال الذي يتكون منه الخطأ المدني.
4 - أحكام محكمة النقض الفرنسية وترددها بين الرأيين والمبدأ الذي استقرت عليه أخيرًا:
ليس هناك مسألة قانونية تناقضت فيها أحكام محكمة النقض الفرنسية مثل تناقضها في هذا الموضوع ويمكن بيان الأطوار التي عرجت فيها تلك المحكمة بين الرأيين المشار إليهما آنفًا كما يأتي:
أولاً: قضت محكمة النقض الفرنسية في بعض أحكامها القديمة بأنه لا يمكن قيام أية مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة جنائيًا وهذا المبدأ وارد في الحكم الصادر في 7 مارس سنة 1857 والمنشور في دالوز سنة 1855 جزء أول صفحة (81).
ثانيًا: وفي حكمها الصادر في 17 مارس سنة 1874 والمنشور في دالوز سنة 1874 جزء أول صفحة (399) قالت محكمة النقض الفرنسية بأنه يجوز أن يتخلف خطأ يسير يترتب عليه مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة وبعد أن تنفي المحكمة الجنائية الخطأ عن المتهم.
وهذا المبدأ ورد أيضًا في الحكمين الصادرين من دائرة العرائض في 31 مايو سنة 1892 والمنشور في دالوز سنة 1892 جزء أول صفحة (381) والصادر في 7 نوفمبر سنة 1894 والمنشور في سيرى سنة 1895 جزء أول صفحة (46).
ثالثًا: ومنذ سنة 1912 عدلت محكمة النقض الفرنسية عن ذلك المبدأ وقالت بأنه لا محل لافتراض أي خطأ مدني بعد أن تقضي المحكمة الجنائية بالبراءة إذا استند حكم البراءة إلى أن المتهم لم يرتكب أي إهمال - وجاء في حكمها الصادر في 18 ديسمبر سنة 1912 والمنشور في دالوز سنة 1915 جزء أول صفحة (17) الأسباب الآتية:
Attendu que les arts/ 319 & 320 Code Pénal puinissent de peines correctionnelles qui conque, par maladresse, imprudence, inattention, negligence ou inobservation des reglements, a commis involontairement un homicide ou causé des blessures sans que la legerté de ta laule commis, puisse avoir d’autre effet que d’attenuer la peine incourue.
وجاء أيضًا في الحكم الصادر من تلك المحكمة في 10 يونيو سنة 1914 والمنشور في سيرى سنة 1915 جزء أول صفحة 70 ما يأتي:
Attendu que les arts, 319 et 320 Code Penal punissent de peines correctionnelles (qui - conque) par maladresse, imprudence, inattention, negligence, inobservation des reglements, a causé involontairement des blessures, sans distinguer suivant la gravité de la faute commise; d ‘où il suit que lorsque la juridiction correctionnelle a acquitté un prevenu de blessures involontaires, le juge civil ne peut, sans contredire la chose jugée, le condamner à des dommages - intèrêt envers la partie qui prétend lésée si celle - ei ne relève contre lui en dehors de l’imprudence et de l’inobservation des reglements aucune autre circonstance de nature à engager sa responsabilité.
وهذا المبدأ قد ورد أيضًا في الأحكام الصادرة من محكمة النقض الفرنسية الآتي بيانها:
- حكم محكمة النقض في 28 مارس سنة 1916 والمنشور في دالوز سنة 1920 جزء أول صفحة (25).
- حكم دائرة العرائض في 12 يناير ستة 1917 والمنشور في دالوز سنة 1922 جزء أول صفحة (52).
- حكم دائرة العرائض في 12 يوليو سنة 1917 والمنشور في سيرى سنة 1918 جزء أول صفحة (212).
- حكم محكمة النقض في 10 يونيو سنة 1918 والمنشور في سيرى سنة 1922 جزء أول صفحة (52) حكم محكمة النقض في 20 نوفمبر سنة 1920 والمنشور في دالوز سنة 1924.
رابعًا: حادت محكمة النقض الفرنسية عن هذا المبدأ في بعض الأحكام في حوادث اصطدام السفن إذ جاء في الحكم الصادر في مايو سنة 1924 والمنشور في دالوز سنة 1925 جزء أول صفحة (12) أن الحكم الصادر من المحكمة التجارية بالبراءة في تهمة الاصطدام لانتفاء الخطأ لا يمنع من أن تحقق المحكمة المدنية في شبه الجنحة المدنية التي يترتب عليها المسؤولية المدنية.
وكذلك في الأحكام الصادرة من مجلس الجيش بفرنسا ببراءة بعض رجال الجيش من تهمة القتل خطأ قضت محكمة النقض في حكمها الصادر في 29 يوليو سنة 1922 والمنشور في سيرى سنة 1925 جزء أول صفحة (321) بجواز سماع الدعوى المدنية بالتعويض رغمًا عن هذه الأحكام (انظر أيضًا الحكم الصادر في 14 يناير سنة 1925 والمنشور في دالوز سنة 1926 جزء أول صفحة (189) والحكم الصادر في 8 فبراير سنة 1926 والمنشور في الجازيت سنة 1926 جزء ول صفحة (628)).
ولكن يظهر أن الذي حمل محكمة النقض الفرنسية على الشذوذ عن القاعدة العامة هو أن هذه الأحكام لم تشتمل على أسباب البراءة وبعضها اقتصر على ذكر عبارة أن المتهم غير مذنب فقط فلم تتبين المحكمة السبب الذي بنى عليه حكم البراءة لذلك أجازت للمحكمة المدنية أن تحقق وقائع الإهمال من جديد.
خامسًا: أخيرًا استقر قضاء محكمة النقض الفرنسية على المبدأ الثاني القائل بأن لا يمكن تصور أي خطأ مدني بعد نفي الخطأ الجنائي عن المتهم ولذلك لا يجوز سماع الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة إذا بنى الحكم على أنه لم يكن هناك خطأ أو إهمال في الفعل المسند إلي المتهم.
وهذا المبدأ اضطرد في الأحكام الآتية:
- حكم النقض الصادر في 16 يوليو سنة 1928 والمنشور في دالوز سنة 1929 جزء أول صفحة (33).
- حكم النقض الصادر في 15 يناير سنة 1929 دالوز أسبوعي سنة 1929 صفحة (116).
- حكم النقض الصادر في أول ديسمبر سنة 1930 جازيت المحاكم سنة 1931 جزء أول صفحة (80).
- حكم النقض الصادر في 17 إبريل سنة 1931 جازيت المحاكم سنة 1921 صفحة (37).
- حكم النقض الصادر في 10 مايو سنة 1932 دالوز أسبوعي سنة 1932 صفحة (380).
- حكم دائرة العرائض في 24 أكتوبر سنة 1932 جازيت المحاكم سنة 1932 جزء (2) صفحة (936).
- حكم دائرة العرائض في 14 نوفمبر سنة 1933 جازيت المحاكم سنة 1934 جزء أول صفحة (176) وجاء في بعض هذه الأحكام العبارة الآتية:
La faute pènale des articles 319 et 320 du Code pènal contient tous les elements de la faute civile.
ويقول هنري وليون مازو في صفحة (625) من المرجع المشار إليه آنفًا إن هذا المبدأ قد ساد في القضاء الفرنسي بعد أن ترددت المحاكم فيه ردحًا من الزمن.
5 - مذهب القضاء البلجيكي:
أما الرأي الذي ساد في الأحكام البلجيكية فهو ما استقرت عليه محكمة النقض الفرنسية أي عدم جواز سماع دعوى التعويض بعد الحكم ببراءة المتهم بالقتل أو الجرح بغير عمد إذا كان الحكم الجنائي قد نفى وقوع الخطأ
(انظر حكم محكمة بروكسل الصادر في 27 فبراير سنة 1932 والمنشور في سيري سنة 1932 جزء (4) صفحة (210) وكذلك الأحكام العديدة الواردة في الموسوعة البلجيكية تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به).
وانظر أيضًا حكم محكمة بروكسل الصادر في 12 إبريل سنة 1929 - المنشور في البازكريزى سنة 1930 جزء (3) صفحة (76).
والحكم الصادر في 18 يونيو سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (13).
والحكم الصادر في 16 أكتوبر سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (52).
والحكم الصادر في 11 إبريل سنة 1933 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1933 جزء (3) صفحة (197).
وجاء في هذه الأحكام أن الحكم بالبراءة في حوادث الإصابة بغير عمد يمنع من رفع الدعوى المدنية عن هذه الحوادث لأن الخطأ الجنائي المنصوص عليه في المادتين (418) و (426) من قانون العقوبات البلجيكي يجب كل خطأ آخر.
6 - رأي الشارحين للقانون المصري:
يقول جرانمولان في كتاب تحقيق الجنايات المصري جزء (2) صفحة (279) بند (1044) أن الحكم الصادر بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد لا يحول دون سماع دعوى المجني عليه التي يرفعها أمام المحكمة المدنية مطالبًا بالتعويض الذي نشأ عن الأفعال التي كانت موضوع الاتهام ذلك لأنه إذا كان الإهمال غير كافٍ لتكوين الجريمة وتوقيع العقاب على المتهم إلا أنه يجوز أن يكفي لترتب مسؤوليته المدنية.
وجاء في رسالة الإثبات لأحمد بك نشأت صفحة (347) بند (594) أنه إذا حكم بالبراءة لعدم وجود خطأ جنائي بالمرة كالمبين في المواد (202) و (208) و (315) عقوبات فإن هذا الحكم يمنع من وقوع خطأ مدني مما نص عليه في المواد (151) و (152) و (153) مدني الخ.
وورد رأي يخالف هذا الرأي في كتاب الالتزامات لعبد السلام بك ذهني جزء (2) صفحة (474) ومؤداه ما يأتي:
أنه إذا قضى الحكم الجنائي ببراءة متهم منسوب إليه القتل خطأ واستند الحكم إلى أنه لم يثبت إهمال أو خطأ من المتهم فلا يجوز رفع دعوى تعويض عليه فيما بعد بشأن هذا الوصف الذي فصل فيه الحكم الجنائي (انظر مقال الأستاذ سامي مازن في مجلة القانون والاقتصاد جزء (2) صفحة (330)).
7 - رأي القضاء المصري:
أخذت المحاكم المصرية تعرج بين المذهبين فالبعض قضى بأحد الرأيين والبعض الآخر بالمذهب الثاني كما يأتي مع ملاحظة أنه لا يمكن القول بأن المحاكم اتخذت مبدأ ثابتًا مستقرًا في هذه المسألة.
أولاً: قضت محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 23 ديسمبر سنة 1930 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 32 عدد (192) صفحة (394) أن الحكم الصادر من محكمة الجنح بالبراءة في حوادث القتل الخطأ لا يمنع المحكمة المدنية من البحث في المسؤولية إلا إذا كان حكم البراءة مبنيًا على انتفاء الإهمال وعدم وجود مسؤولية جنائية.
وفي الحكم الصادر من تلك المحكمة في 17 نوفمبر سنة 1931 المنشور في المجموعة الرسمية سنة 33 عدد (116) صفحة (222) تقول محكمة الاستئناف أن المحاكم المدنية مقيدة بالأحكام الجنائية النهائية فيما ورد بها خاصًا بترتيب المسؤولية قبل المتهم فلا يقبل منه المناقشة فيها إذا ما رفعت عليه دعوى التعويض.
ثانيًا: وصدرت أحكام أخرى قائلة بالرأي المخالف ومن هذا:
الحكم الصادر من محكمة استئناف مصر بتاريخ 10 إبريل سنة 1927 – والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (59) صفحة (95) والذي جاء فيه أنه لا يكفي للسائق أن يبين أنه لم يقع منه خطأ مطلقًا أو أن سبب الحادثة بقى مجهولاً للتخلي عن المسؤولية المدنية بل تبقى مسؤوليته قائمة في الحالتين حتى ولو قضى جنائيًا بالبراءة لعدم قيام الدليل على وجود خطأ معين أو إهمال.
وفي الحكم الصادر من محكمة طنطا الابتدائية في تاريخ 13 يناير سنة 1926 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (11) صفحة (14).
ورد أن للمحكمة المدنية أن تبحث فيما إذا كانت الوقائع المنسوبة للمتهم تعتبر شبه جنحة يترتب عليها مسؤولية مدنية بالرغم من حكم البراءة.
وورد في الحكم الصادر في 14 ديسمبر سنة 1929 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 10 صفحة (598) أن حكم البراءة لا يرتبط به القاضي المدني إذا حكم في جريمة قتل خطأ أو المتهم لم يرتكب إهمالاً أو خطأ لاختلاف ماهية الخطأ أو الإهمال من الوجهة الجنائية عنها من الوجهة المدنية في حالة القتل خطأ.
أما المحاكم المختلطة فإنها لم تسلم بحجية الأحكام الجنائية الصادرة من المحاكم القنصلية أو المحاكم الأهلية إطلاقًا لاختلاف ولاية القضاء.
(حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 4 مايو سنة 1921 مجموعة مختلطة سنة 33 صفحة (305)) لذلك لم تتح الفرصة لتلك المحاكم لإبداء رأيها في هذا الموضوع.
رأينا في هذا الموضوع
من القواعد الأولية أن الأحكام الجنائية تصدر ضد الكافة erge omnes بمعنى أن لها الحجية المطلقة على المتهم ولدى جميع الناس وقبل المجني عليه أيضًا حتى ولو لم يعلن أو لم يتدخل في الدعوى العمومية.
ووجه هذا ظاهر لأن الجرائم ماسة بالنظام والأمن في الدولة فاحترام الملأ للأحكام الصادرة فيها تقتضيه المصلحة العامة حتى تكون رادعة وعبرة للغير وفضلاً عن ذلك فإن النيابة العمومية التي يتحتم حضورها في الجلسة تمثل الهيئة الاجتماعية وتمثل جميع الحقوق على السواء سواء حضر المتهم والمجني عليه أو لم يحضرا وناهيكم عن أنه من المستحيل عقلاً ومادة إدخال كافة الناس في الدعوى العمومية لتكون الأحكام حجة على الجميع.
ومتى بان هذا كان الحكم الجنائي واجب الاحترام من القاضي المدني إذا ما رفعت الدعوى المدنية إما من المتهم أو المجني عليه أو ورثتهما وتكون حجة على الخصوم وله قوة الشيء المحكوم به بحيث لا يسوغ إصدار حكم مدني يتناقض معه وإلا أهدرت حجته.
وإذا كان بعض أئمة القانون في فرنسا يسندون هذه الحجية إلى نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الذي ينص على أن الدعوى الجنائية توقف سير الدعوى المدنية - هذا النص الذي لم ينقله الشارع المصري فإنه يكفي لتبرير هذه الحجية ويعللها في مصر أن تنهض على الأساس الذي أوضحناه أي أن الأحكام الجنائية أحكام ضد الكافة ولها حجة مطلقة لا نسبية وعلى القاضي المدني احترامها لهذا السبب.
ويتفرع على هذه الكلية الجزئيات الآتية:
أولاً: أن المنطق السليم يقضي بأن حجية أية مبدأ أو مسألة تتناول حتمًا الأساس الذي تنهض عليه فإذا كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام فيجب قانونًا وعقلاً احترام الأساس الذي بنيت عليه وتفريعًا على هذا إذا صدر الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح العمد استنادًا إلي أن المتهم لا يمكن أن يعزي إليه إهمال في الواقعة المسندة إليه بالذات فيكون سند الحكم هذا واجب الاحترام حتمًا وعلى القاضي المدني أن يتخذه قضية مسلمة لا تقبل فيه النقاش وعلى هذا يجب أن يمتنع عن سماع الدعوى المدنية إذا أقامها المجني عليه على ما يهدر هذا الأساس.
ولو أن العبرة في الحجية لمنطوق الأحكام إلا أن الأسباب التي تتصل بالمنطوق صلة المقدمة بالنتيجة والسبب بالمسبب تحوز أيضًا قوة الشيء المحكوم به فلا حرج إذن في تلمس سند حكم البراءة من أسبابه.
ثانيًا: يجب أن يضع القاضي المدني نفسه موضع القاضي الجنائي نفسه عند بيان مدى احترام الأحكام الجنائية والاستمساك بحجيتها لأنه ليس من الطبيعي أن يكون القاضي الجنائي أقل احترامًا لقضائه من القاضي المدني ولذلك لا يطلب من القاضي المدني أن يغالي في الاحترام حتى يفوق في ذلك من أصدر هذه الأحكام ويتفرع على هذا أن ما يلتزم القاضي الجنائي باحترامه يلزم القاضي المدني به عند نظر الدعوى المدنية وإلا فلا.
ومن الأوليات القانونية أن قوة الشيء المحكوم به في الأحكام الجنائية لا تتعدى الأفعال المسندة إلى المتهم والواردة في وصف التهمة والتي طرحت أمام المحكمة والتي أتيح للمتهم حق الدفاع عن نفسه فيها - أما الأفعال والوقائع الأخرى فتخرج عن هذه الحجية بمعنى أنه يجوز رفع الدعوى العمومية مرة أخرى على أساس هذه الأفعال الجديدة (انظر هذا المبدأ الذي اضطرد في قضاء محكمة النقض والإبرام المصرية الدائرة الجنائية في قضية الطعن رقم (894) سنة 4 قضائية في الحكم الصادر في 29 أكتوبر سنة 1934 وفي الحكم الصادر في قضية الطعن رقم (1625) سنة 4 قضائية بتاريخ 28 يناير سنة 1935 الذي قرر مبدأ جواز رفع دعوى إخفاء أشياء مسروقة بعد الحكم بالبراءة من تهمة السرقة في نفس الحادثة).
ومتى ثبت هذا ساغ للقاضي المدني أن يسمع دعوى التعويض عن حادثة الجرح أو القتل خطأ بعد الحكم بالبراءة إذا كان الخطأ الذي يسنده المجني عليه للمتهم يقوم على وقائع أخرى غير التي وردت وفي وصف التهمة أو غير التي قضى الحكم الجنائي بانتفاء الخطأ عن المتهم في فعلها.
ثالثًا: قد نص قانون تحقيق الجنايات في المادتين (147) و (172) وفي المادة (50) من قانون تشكيل محكمة الجنايات أنه إذا كانت الواقعة غير ثابتة أولاً يعاقب عليها القانون أو سقط الحق في إقامة الدعوى فيها بمضي المدة يحكم القاضي الجنائي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض.
وهذه النصوص تميط اللثام عن رأي الشارع المصري وهو أنه يجوز الحكم بالتعويضات المدنية بالرغم من حكم البراءة إنما هذه الأحوال واردة على سبيل الحصر في هذه النصوص أما الحكم بالتعويض في حالة عدم ثبوت التهمة فالمراد منه أن المتهم هو الذي يطلب الحكم بالتضمينات ضد المجني عليه لأنه لا يقبل عقلاً أن يحكم القاضي بالتضمينات للمجني عليه مع عدم ثبوت الفعل الذي يدعي به ولذلك ورد في النص عبارة (التعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض).
وإذا حدثت الواقعة ضررًا للمجني عليه ولكن عناصر الجريمة لم تتوفر فيها كانعدام توفير الطرق الاحتيالية في جريمة النصب فإن الحكم بالبراءة لا يمنع من الحكم بالتعويض وكذلك إذا سقط الحق في إقامة الدعوى العمومية فيجوز الحكم بالتعويضات المدنية مع مراعاة القيد الوارد في المادة (282) من قانون تحقيق الجنايات.
هذه هي الأحوال التي أباح فيها القانون للقاضي الجنائي أن يحكم بالتعويض مع الحكم بالبراءة ولذلك لا حرج على القاضي المدني أن يسمع الدعوى المدنية بالتعويض في هذه الصور أو في جميع الأحوال التي لا يكون فيها تقادم أو تناقض ما مع الحكم الجنائي وما قضى به في منطوقه أو في أسبابه المرتبطة بالمنطوق.
ولكن الشارع لم ينص على حالة الحكم بالبراءة استنادًا على أنه لم يقع الخطأ إطلاقًا من جانب المتهم ويستفاد من عدم النص على هذه الصورة عدم إباحتها ولهذا يحرم على القاضي الجنائي أو المدني سماع دعوى التعويض بعد الحكم بالبراءة الذي يقوم على هذا الأساس.
والعقل والمنطق يقضيان بهذا التفسير وإلا كان القاضي الجنائي متناقضًا ومتخاذلاً مع نفسه إذا قضى من ناحية بالبراءة استنادًا على أنه لا إهمال ولا خطأ من جانب المتهم في الفعل المسند إليه وحكم من ناحية أخرى بالتعويض لهذا الفعل.
ولما كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام على الكافة وكان محتمًا على القاضي المدني أن لا يعدو حجيتها ولا يتعارض حكمه معها لذلك أصبح لزامًا على القاضي المدني أن يمتنع عن سماع دعوى التعويض التي تقوم على أساس الفعل الذي قال عنه القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب أي خطأ أو إهمال فيه.
رابعًا: بقيت نقطة واحدة وهي هل يشتمل الخطأ الذي هو ركن لجريمة القتل أو الجرح خطأ والمنصوص عليهما في المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد المقابلتين للمادتين (202) و (208) من القانون القديم هل يشتمل على عناصر الخطأ المدني المنصوص علي في المادة (151) من القانون المدني.
جاء في النص الوارد في هاتين المادتين أن القتل أو الجرح يجب أن يكون ناشئًا (عن رعونة أو عدم احتياط وتحرز أو عن إهمال وتفريط أو عن عدم انتباه وتوق أو عن عدم مراعاة واتباع اللوائح).
والواقع أن هذه العبارات تشمل كل فرض أو صورة من صور الخطأ بحيث إنه يصعب تصور أن هناك أي نوع من الخطأ غير مندرج في هذا النص.
ولا شك أن هناك فرقًا بين الخطأ الجنائي والخطأ المدني فالأول يستلزم عناصر لا بد من توفرها لتكوين الجريمة كالقصد الجنائي أو سوء النية أو نية الإضرار إلى غير ذلك أما الخطأ المدني فلا يشترط فيه شيء من هذا بل مناطه الضرر والإهمال مهما تضاءلت جسامته.
وإذا كان هذا هو الحال في الجرائم الأخرى إلا أنه لا ينطبق على جريمة القتل أو الجرح بلا عمد لأن الشارع المصري الذي سار وراء الشارع الفرنسي والبلجيكي احتاط أشد الاحتياط للأمر فسرد جميع أنواع الخطأ من إهمال ورعونة وعدم تحرز أو توق إلى غير ذلك حتى لا يفلت من العقاب أي شخص لا يسلك مسلك المتيقظ أو الساهر على سلامة الناس من أفعاله فالخطأ المنصوص عليه في المادة (151) مدني مندرج لا محالة في العبارات الشاملة التي جاءت في نص المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد.
ويتفرع على هذا أنه إذا وجب على القاضي المدني احترام الحكم الجنائي كما سبق البيان فيتحتم عليه إذن أن يقضي بعدم جواز سماع دعوى التعويض إذا رفعها المجني عليه أمامه مستندًا إلى نفس الفعل الذي قال الحكم الجنائي عنه بأنه لا خطأ فيه من جانب المتهم لأن نفي الخطأ جنائيًا معناه انتفاء كل إهمال وتفريط أو رعونة وعدم تحرز أو عدم توق الخ.. وبالتالي يبعد كل خطأ مهما كان نوعه أو مهما بلغت درجته.
والخلاصة: أنه لا محل لافتراض الجنحة المدنية أو شبهها بعد الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بني الحكم على أساس نفي الخطأ عن المتهم إنما مناط هذا أن حجية الأحكام الصادرة بالبراءة مقصورة على الوقائع الواردة في وصف التهمة بحيث يجوز أن تترتب المسؤولية المدنية على وقائع أو أفعال أخرى.
استثمار أموال القصر والمحجور عليهم وودائع المحاكم الأهلية والشرعية
مجلة المحاماة - العدد الرابع
السنة الخامسة - يناير سنة 1925
استثمار أموال القصر والمحجور عليهم
وودائع المحاكم الأهلية والشرعية
اقتراح
مقدم لوزارتي الحقانية والمالية
من مبادئ الرقي العصري في السياسة المالية وجوب استثمار الأموال المدخرة وعدم جمودها في الخزائن.
وإذا حسن ذلك في أموال من كان مطلق التصرف فأحرى أن يراعى في أموال عديم الأهلية.
لذلك فإنا نشكر لإدارة المجالس الحسبية سعيها في حمل الأوصياء والقوام على استثمار أموال محجوريهم بشراء سندات مالية للحكومة ذات فائدة مضمونة أو بشراء عقارات ذات إيراد أو بتسليفها بالفائدة القانونية بتأمين عقاري صحيح.
على أنه من المحقق أنه يصعب على بعض الأوصياء والقوام سلوك هذا السبيل بسبب عقبات أو موانع شخصية أو مركزية فيترتب على ذلك جمود المال الكثير بدون ثمرة لأصحابه زمنًا طويلاً.
وقد تحقق لي أن متوسط مجموع المبالغ الجامدة في خزائن المجالس الحسبية يبلغ سنويًا نحو أربعمائة ألف جنيه، ومتوسط ما في أيدي الأوصياء والقوام يبلغ حوالي مائتي ألف جنيه فتكون الجملة ستمائة ألف جنيه ليس من حسن السياسة تركها عديمة الثمرة.
وقد طرأ على فكري اقتراح في معالجة هذه الحالة عرضته منذ شهر مارس الماضي على وزارة الحقانية وآثرت نشره ليبحثه رجال القانون ورجال المالية من الوجهتين الحقوقية والاقتصادية عسى أن يخرج من بحثه ممحصًا ذا فائدة للمصلحة العامة.
أما العلاج الذي أقترحه فهو أن تشتري الحكومة بقيمة متوسط المبالغ المودعة لديها ولدى الأوصياء الذين يلزمون بتسليمها ما لديهم، أعني بقيمة الستمائة ألف جنيه سندات مالية من سندات الدين المصري الموحد أو الدين الممتاز ذات فائدة تبلغ الآن حوالي خمسة ونصف بالماية أو ما يقرب من هذه النسبة، وتحفظ الحكومة هذه السندات لديها على ذمة أصحاب الودائع من عديمي الأهلية بحيث تكون هذه السندات مملوكة في الواقع لأصحاب الودائع التي دفعت في ثمنها، ويعتبر أصحاب الودائع شركاء في شركة محاصة مدنية رأس مالها الستمائة ألف جنيه التي اشتريت بها السندات، ويحق لهم اقتسام أرباحها التي تبلغ بواقع 5.5 بالماية 33000 جنيهًا فإذا توزعت هذه الأرباح على رأس المال أصاب كل مائة غرش من رأس المال خمسة غروش ونصف وهي غلة قل أن تعطيها أفضل الأطيان.
على أني أرى أن لا يعطى صاحب الوديعة ربحًا يزيد عن أربعة في الماية من قيمة ماله وأن تحفظ الحكومة ما يزيد من ريع السندات نظير مصاريف إدارتها لهذا العمل وأن لا يحاسب صاحب الوديعة على نصيبه من الربح إلا منذ بدء الشهر التالي لإيداعه أمواله وحتى نهاية الشهر السابق لتاريخ سحبه الوديعة على مثال ما هو جارٍ في ودائع صندوق التوفير بالبوستة.
وأرى في الأربعة بالمائة فائدة جليلة تفضل ما يُعطَى من الفائدة من السندات إذا اشتراها وكيل صاحب الوديعة مباشرةً لأن المشتري يضيع عليه زمن لحين الشراء ويبذل مصاريف كثيرة في الشراء والبيع ويخاطر في تحمل بعض الخسارة إذا نزلت قيمة السندات وقت البيع أما الحكومة فإنها إذا اشترت السندات فهي تدين ذاتها وهي لا تضطر لبيعها في وقت من الأوقات، هذا فضلاً عن أنه لا يصح أن تتوقع الحكومة هبوط أسعار سنداتها وإلا كانت عديمة الثقة بمكانتها المالية.
وليس في إعطاء الفائدة غبن على الحكومة لأن المادة (493) من القانون الأهلي المدني أوجبت على حافظ الوديعة أن يرد محصولها وفوائدها، فدفع الفائدة لأصحاب الودائع حق شرعي لهم في ذمتها لأنها هي تتقاضى فائدة عن تلك الودائع من البنك الأهلي حيث مودعة جميع أموالها الجامدة.
وقد يصح تطبيق هذا الاقتراح ليس فقط على أموال القصر المحجور عليهم، بل أيضًا على الأموال المودعة في خزائن المحاكم الأهلية حيث تبقى الشهور بل السنين الطويلة بدون أن يستفيد منها أصحابها بينما تأخذ عنها الحكومة رسم إيداع قدره واحد بالماية وتتقاضى الحكومة فائدة تذكر عن إيداعها بالبنك الأهلي [(1)].
ويصح أيضًا تطبيق هذه القاعدة في ودائع المحاكم الشرعية حيث يوجد عشرات بل مئات الآلاف الجنيهات محفوظة لذمة شراء عقارات لأوقاف أهلية فتبقى جامدة عاطلة الزمن الطويل لما يعترض قبول البدل من العقبات الكثيرة.
وأرى أخيرًا أنه إذا لم ترضَ الحكومة القيام بهذه العملية فيصح أن يوكل بها لبنك مصر الذي لا يرفضها لما فيها من الفائدة الأكيدة فضلاً عما فيها من الخدمة الوطنية التي أنشئ من أجلها ذلك المصرف الوطني.
وأرجو أن لا يقوم على الطريقة المقترحة اعتراض شرعي يحول دون إمكان تنفيذ الاقتراح بحجة تحريم الشرع الإسلامي التعامل بالفوائد فإن الأمر محلل شرعًا بشركة المحاصة التي ذكرتها آنفًا فضلاً عن أن هناك فتاوى مشهورة تجعل الأمر ميسورًا شرعًا ولا تعتبر فائدة السندات من الربا المحرم.
وفي سائر الأحوال فإننا اليوم في عصر جديد يقضي بضرورة استثمار الأموال المخزونة فإذا ما جارينا الرقي الغربي في ذلك كان جمودنًا سببًا في ثبوت تغلب الغرب علينا في مضمار التجارة والصناعة الذي يحركهما المال غير الجامد، ولا نجني من نهضتنا السياسية فائدة تذكر إذ نرى أنفسنا مثقلين بالدين المطلوب للغرب فتذهب فيه ثروة بلادنا وثمرة جهودنا.
إذًا يخلق بنا أن نتنبه فنسير إلى الأمام في تلك النهضة المباركة التي تقدمنا فيها رجال بنك مصر بالأعمال المالية والتجارية والصناعية فكانوا لنا قدوة حسنة وأظهروا للغربيين مثلاً صالحًا لما يرجى أن يأتيه الشرقيون من العمل النافع.
إميل بولاد
المحامي
[(1)] إن المحاكم المختلطة تتناول على ودائعها بالبنك الأهلي فائدة سنوية قدرها ثلاثة بالماية تعطي اثنين منها لأرباب الودائع.
السنة الخامسة - يناير سنة 1925
استثمار أموال القصر والمحجور عليهم
وودائع المحاكم الأهلية والشرعية
اقتراح
مقدم لوزارتي الحقانية والمالية
من مبادئ الرقي العصري في السياسة المالية وجوب استثمار الأموال المدخرة وعدم جمودها في الخزائن.
وإذا حسن ذلك في أموال من كان مطلق التصرف فأحرى أن يراعى في أموال عديم الأهلية.
لذلك فإنا نشكر لإدارة المجالس الحسبية سعيها في حمل الأوصياء والقوام على استثمار أموال محجوريهم بشراء سندات مالية للحكومة ذات فائدة مضمونة أو بشراء عقارات ذات إيراد أو بتسليفها بالفائدة القانونية بتأمين عقاري صحيح.
على أنه من المحقق أنه يصعب على بعض الأوصياء والقوام سلوك هذا السبيل بسبب عقبات أو موانع شخصية أو مركزية فيترتب على ذلك جمود المال الكثير بدون ثمرة لأصحابه زمنًا طويلاً.
وقد تحقق لي أن متوسط مجموع المبالغ الجامدة في خزائن المجالس الحسبية يبلغ سنويًا نحو أربعمائة ألف جنيه، ومتوسط ما في أيدي الأوصياء والقوام يبلغ حوالي مائتي ألف جنيه فتكون الجملة ستمائة ألف جنيه ليس من حسن السياسة تركها عديمة الثمرة.
وقد طرأ على فكري اقتراح في معالجة هذه الحالة عرضته منذ شهر مارس الماضي على وزارة الحقانية وآثرت نشره ليبحثه رجال القانون ورجال المالية من الوجهتين الحقوقية والاقتصادية عسى أن يخرج من بحثه ممحصًا ذا فائدة للمصلحة العامة.
أما العلاج الذي أقترحه فهو أن تشتري الحكومة بقيمة متوسط المبالغ المودعة لديها ولدى الأوصياء الذين يلزمون بتسليمها ما لديهم، أعني بقيمة الستمائة ألف جنيه سندات مالية من سندات الدين المصري الموحد أو الدين الممتاز ذات فائدة تبلغ الآن حوالي خمسة ونصف بالماية أو ما يقرب من هذه النسبة، وتحفظ الحكومة هذه السندات لديها على ذمة أصحاب الودائع من عديمي الأهلية بحيث تكون هذه السندات مملوكة في الواقع لأصحاب الودائع التي دفعت في ثمنها، ويعتبر أصحاب الودائع شركاء في شركة محاصة مدنية رأس مالها الستمائة ألف جنيه التي اشتريت بها السندات، ويحق لهم اقتسام أرباحها التي تبلغ بواقع 5.5 بالماية 33000 جنيهًا فإذا توزعت هذه الأرباح على رأس المال أصاب كل مائة غرش من رأس المال خمسة غروش ونصف وهي غلة قل أن تعطيها أفضل الأطيان.
على أني أرى أن لا يعطى صاحب الوديعة ربحًا يزيد عن أربعة في الماية من قيمة ماله وأن تحفظ الحكومة ما يزيد من ريع السندات نظير مصاريف إدارتها لهذا العمل وأن لا يحاسب صاحب الوديعة على نصيبه من الربح إلا منذ بدء الشهر التالي لإيداعه أمواله وحتى نهاية الشهر السابق لتاريخ سحبه الوديعة على مثال ما هو جارٍ في ودائع صندوق التوفير بالبوستة.
وأرى في الأربعة بالمائة فائدة جليلة تفضل ما يُعطَى من الفائدة من السندات إذا اشتراها وكيل صاحب الوديعة مباشرةً لأن المشتري يضيع عليه زمن لحين الشراء ويبذل مصاريف كثيرة في الشراء والبيع ويخاطر في تحمل بعض الخسارة إذا نزلت قيمة السندات وقت البيع أما الحكومة فإنها إذا اشترت السندات فهي تدين ذاتها وهي لا تضطر لبيعها في وقت من الأوقات، هذا فضلاً عن أنه لا يصح أن تتوقع الحكومة هبوط أسعار سنداتها وإلا كانت عديمة الثقة بمكانتها المالية.
وليس في إعطاء الفائدة غبن على الحكومة لأن المادة (493) من القانون الأهلي المدني أوجبت على حافظ الوديعة أن يرد محصولها وفوائدها، فدفع الفائدة لأصحاب الودائع حق شرعي لهم في ذمتها لأنها هي تتقاضى فائدة عن تلك الودائع من البنك الأهلي حيث مودعة جميع أموالها الجامدة.
وقد يصح تطبيق هذا الاقتراح ليس فقط على أموال القصر المحجور عليهم، بل أيضًا على الأموال المودعة في خزائن المحاكم الأهلية حيث تبقى الشهور بل السنين الطويلة بدون أن يستفيد منها أصحابها بينما تأخذ عنها الحكومة رسم إيداع قدره واحد بالماية وتتقاضى الحكومة فائدة تذكر عن إيداعها بالبنك الأهلي [(1)].
ويصح أيضًا تطبيق هذه القاعدة في ودائع المحاكم الشرعية حيث يوجد عشرات بل مئات الآلاف الجنيهات محفوظة لذمة شراء عقارات لأوقاف أهلية فتبقى جامدة عاطلة الزمن الطويل لما يعترض قبول البدل من العقبات الكثيرة.
وأرى أخيرًا أنه إذا لم ترضَ الحكومة القيام بهذه العملية فيصح أن يوكل بها لبنك مصر الذي لا يرفضها لما فيها من الفائدة الأكيدة فضلاً عما فيها من الخدمة الوطنية التي أنشئ من أجلها ذلك المصرف الوطني.
وأرجو أن لا يقوم على الطريقة المقترحة اعتراض شرعي يحول دون إمكان تنفيذ الاقتراح بحجة تحريم الشرع الإسلامي التعامل بالفوائد فإن الأمر محلل شرعًا بشركة المحاصة التي ذكرتها آنفًا فضلاً عن أن هناك فتاوى مشهورة تجعل الأمر ميسورًا شرعًا ولا تعتبر فائدة السندات من الربا المحرم.
وفي سائر الأحوال فإننا اليوم في عصر جديد يقضي بضرورة استثمار الأموال المخزونة فإذا ما جارينا الرقي الغربي في ذلك كان جمودنًا سببًا في ثبوت تغلب الغرب علينا في مضمار التجارة والصناعة الذي يحركهما المال غير الجامد، ولا نجني من نهضتنا السياسية فائدة تذكر إذ نرى أنفسنا مثقلين بالدين المطلوب للغرب فتذهب فيه ثروة بلادنا وثمرة جهودنا.
إذًا يخلق بنا أن نتنبه فنسير إلى الأمام في تلك النهضة المباركة التي تقدمنا فيها رجال بنك مصر بالأعمال المالية والتجارية والصناعية فكانوا لنا قدوة حسنة وأظهروا للغربيين مثلاً صالحًا لما يرجى أن يأتيه الشرقيون من العمل النافع.
إميل بولاد
المحامي
[(1)] إن المحاكم المختلطة تتناول على ودائعها بالبنك الأهلي فائدة سنوية قدرها ثلاثة بالماية تعطي اثنين منها لأرباب الودائع.
السبب الصحيح في التقادم الخمسي والأوضاع الشكلية في التسجيل الجديد
مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة السابعة – مارس سنة 1927
السبب الصحيح في التقادم الخمسي
والأوضاع الشكلية في التسجيل الجديد
للدكتور عبد السلام ذهني بك القاضي بمحكمة مصر الكلية الأهلية
والأستاذ السابق للقانون المدني والتجاري بكلية الحقوق بالجامعة المصرية
السبب الصحيح عند الرومان:
1 - الأوضاع الشكلية في العهد الأول.
2 - القاضي الروماني وصحيفة النزاع والملكية الحيازية.
3 - ما يرمي إليه القاضي الروماني من منشوراته السنوية.
السبب الصحيح والقانون الفرنسي:
1 - أركان السبب الصحيح من الوجهة القانونية البحتة.
2 - السبب الصحيح والعقود الباطلة بأنواعها الثلاثة.
3 - السبب الصحيح والأوضاع الشكلية للعقود الشكلية.
السبب الصحيح في القانون المصري:
1 - القانون المصري والفرنسي واحد.
2 - المذهب القائل باعتبار المالك من طبقة الغير.
3 - أركان التقادم الخمسي ثلاثة: التعاقد والمدة والنية.
4 - في التقادم الخمسي والتقادم الطويل وأثر السبب الصحيح في الأول.
5 - اختلاف وجهة النظر في تقرير السبب الصحيح عند الرومان وفي القوانين المصرية والفرنسية الحاضرة.
6 - السبب الصحيح والتقادم الخمسي شرط مصادفة المجلس الحسبي ونظرية علم الأفراد بقيود القانون.
السبب الصحيح وقانون التسجيل الجديد:
1 - الالتزامات الشخصية بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد.
2 - الأوضاع الشكلية وانتقال الملكية وارتباطها بالالتزامات الشخصية.
3 - العقد غير المسجل والبطلان المطلق.
قررنا بكتابنا في الأموال (صـ 571 - 575 ن 398 - 399) وبمقالنا المنشور بمجلة المحاماة (المجلد (6) صـ 597 - 629) وبرسالتنا في التسجيل وحماية المتعاقدين والغير (صـ 22 ن 21) أن نظرية التقادم الخمسي قد تأثرت بقانون التسجيل الجديد، وأنه لا بد في العقد لأجل أن يكون سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني الصحيح أن يكون مسجلاً، وأنه في حالة عدم تسجيله لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بمضي خمس سنوات، وأنه لا بد من مضي مدة 15 سنة للتملك، أي لا بد من التقادم الطويل، وقد أوضحنا ذلك على الأخص بكتابنا في الأموال وأتينا بالعلل القانونية من جميع وجوهها، بما أوجزناه بمقالنا بالمحاماة.
ولقد قرأنا أخيرًا للأستاذ حامد بك فهمي المحامي بحثًا قيمًا بمجلة المحاماة (المجلد (7) صـ 97 - 103) أفاض فيه القول بنقض رأينا وذهب فيه غير ما ذهبنا، وقال بصحة السبب الصحيح إذا لم يكن مسجلاً، وأن التقادم الخمسي جائز برغم عدم تسجيل العقد الحاصل بين البائع غير المالك والمشتري، ورجع في تأييد رأيه إلى القانون الروماني وإلى أصول التسجيل الفرنسي الموضوع سنة 1855، وإلى ما قرره قضاؤه وفقهه، وإلى القانون المصري وقضائه وفقهه، وإلى أن قانون التسجيل الجديد لم يمس التقادم الخمسي في شيء ما، ثم ختم بحثه بأن (اشتراط تسجيل السبب الصحيح لإفادة الملك، من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه الفقيه).
وإنا وإن كنا نعلم أن هذا البحث لا يُعرض على القضاء المصري إلا ابتداءً من أول يناير سنة 1928، لأنه لا بد من مضي خمس سنوات على الأقل حتى يكون للبحث محل أمام القضاء، وحتى يمكن للمشتري أن يدعي الملكية بالتقادم الخمسي في ظل قانون التسجيل الجديد، فإنا لا نرى مندوحة مع ذلك من بحث الموضوع قبل حلول أوأن الفصل فيه قضائيًا، لأن من شأن القائمين بالحركة الفقهية، أن يتلمسوا مواطن الأخذ والرد في القانون، حتى يستطيع أصحاب الشؤون في المعاملات أن يأخذوا عدتهم للطوارئ المقبلة من حيث الاختلاف في الآراء، وحتى ينضج الرأي بين أيدي المختلفين بما يدلون به من وجهات النظر المختلفة.
وإنا نرى البدء أولاً بالنظرية الرومانية وكيف عالج القاضي الروماني préteur قوة القيود التشريعية القديمة في عصر الطفولة للرومان، وعمل على التوفيق بينها باعتبارها رمزًا للصيغة الرومانية البحتة، وبين تطور الحالات الاجتماعية عندهم، بل كان يذيعه سنويًا على الكافة بمنشوره السنوي edictum من الأصول القانونية القيمة حتى يعلم جماهير الناس بما سيقضي به القاضي فيما إذا تخاصم إليه المتنازعون، ثم نعرج بعد ذلك على بيان نظرية التسجيل الحاضر، وأن القانون الفرنسي الصادر في 23 مارس سنة 1855 وهو مصدر التسجيل المصري المختلط الموضوع سنة 1875 والأهلي سنة 1883، لم يأخذ مطلقًا بمذهب القاضي الروماني وما أذاعه بمنشوره، وأن الفقه والقضاء الفرنسيين سارا في طريق السبب الصحيح والتقادم القصير بغير الطريقة الرومانية، على العكس مما جاء بمقال الناقد حامد بك ثم نعود بعد ذلك إلى قانون التسجيل الجديد الصادر في 26 يونيو سنة 1923 وبيان ما أحدثه من مبدأ جديد في تقرير التسجيل وفي جعله من الأوضاع الشكلية من حيث نقل الملكية فقط، برغم ما للعقد في ذاته من الأثر القانوني في تقرير التزامات شخصية بين عاقديه، وفي هذا الإيضاح تبرز الفروق البينة بين السبب الصحيح الروماني والسبب الصحيح الفرنسي، والمصري في عهد القانون المدني، والسبب الصحيح في عهد قانون التسجيل الجديد، وسنبين في أي طائفة من طوائف البطلان الثلاثي أو الثنائي يقع عقد البيع غير المسجل وقد أصبح التسجيل من الأوضاع الشكلية، وما هو أثر ذلك مع قيام الالتزامات الشخصية، وما رتبناه على هذه الأخيرة من أصول وأحكام من حيث المطالبة بالتسليم وما إلى ذلك.
القانون الروماني والسبب الصحيح:
رأينا أن نثبت بكتابنا في الأموال (صـ 1002 - 27 1 ن 681 - 693) بابًا خاصًا في إثبات الملكية وكيفية الدفاع عنها وتطور أداة الدفاع عن الملكية في العصور الرومانية والعصور الوسطى وفي عهد القانون الفرنسي الحاضر وقضائه وفقهه، وأخيرًا في عهد القانون المصري وقضائه، وبينّا بكتابنا أطوار الملكية عند الرومان وما قرروه من الملكية الحيازية، أي الملكية الناقصة propriété bonitaire بجانب الملكية الرومانية البحتة propriété quiritaire التي كانت وقفًا على جماعة الرومان أنفسهم، والتي كانت لا تنتقل إلا بأوضاع شكلية خاصة، أهمها البيع العلني أو الإفراغ العلني mancipatio للأشياء النفيسة res mancipi (وكلمة mancipatio أو mancipium مكونة من كلمتين: manus بمعنى اليد وcapio بمعنى مسك: إشارة إلى أن المشتري يضع يده على المبيع ويدعي ملكيته له في حضرة البائع الذي لا ينازع (انظر في ذلك مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء ص 39 - 42)، وإذا حصل التبايع في هذه الأشياء النفيسة بغير طريقة الإفراغ العلني وحصل بالمناولة اليدوية traditio، فلا يكتسب المشتري الملكية الرومانية البحتة المحمية بدعوى إثبات الملكية rei vindicatio، إنما يكتسب فقط الملكية الحيازية، وهذه الملكية النافعة كما يسميها حامد بك (المحاماة (7) صـ 99 العامود الأول في منتصفه) وإن كانت لا ترتفع إلى مستوى الملكية الرومانية البحتة ولا تستفيد من دعوى إثبات الملكية، إلا أن القاضي الروماني بوبليسيوس publicius قرر لها دعوى خاصة صورية لحمايتها سُميت باسمه la publicienne يستعين بها صاحبها في حمايتها ضد الغير، وكان يعمل القاضي المحضر، الذي يحرر صحيفة النزاع formule ويرفعها إلى القاضي الذي يفصل فيها، في أن يفترض في تلك الصحيفة فرضًا صوريًا أن المشتري قد تملك بالتقادم مع أنه في الحقيقة لم تمضِ مدة التقادم.
ولقد أتينا بهذه اللمحة الرومانية السريعة برسالتنا في التسجيل، وكنا نرمي بها إلى بيان وجه الشبه بين الملكية الناقصة عند الرومان، وما يتقرر للمشتري في وقتنا الحاضر، في ظل قانون التسجيل الجديد من الحقوق بشأن العقار المبيع له، وضرورة حماية هذه الحقوق ضد البائع وضد الغير أيضًا (انظر رسالتنا في التسجيل صـ 8 - 10 ن 13 - 14) وقصدنا من ذلك أن نعمل على رفع الغرابة التي يمكن أن تلاحظ على ما قررناه بشأن العقد غير المسجل من ضرورة حماية صاحبه ضد كل من يعتدي على حقوقه بشأن العقار المبيع، إذ قررنا للمشتري الحق في مقاضاة البائع بتسليمه العقار المبيع، والعمل على احترام الالتزامات القانونية الناشئة عن البيع غير المسجل، وما إلى ذلك من الحقوق الأخرى.
قلنا بأن القاضي الروماني préteur وقد قرر بمنشوره السنوي الذي يذيعه كل عام على الأفراد قبل البت شكليًا فيما يُرفع إليه من الأقضية، قرر الملكية النافعة أو الملكية الناقصة أو الملكية بحكم القاضي propriété prétorienne، لمن اشترى شيئًا نفيسًا بغير الأوضاع الشكلية وقرر أيضًا هذه الملكية الحيازية habere in bonis لمن اشترى من غير مالك بسبب صحيح وحسن نية (انظر جاستون مي G May في القانون الروماني، الطبعة الرابعة عشرة سنة 1922 صـ 268)، وأصبح بذلك لدى الرومان نوعان من الملكية: الرومانية البحتة والملكية الناقصة، ثم تطور هذان النوعان مع تطور إجراءات المرافعات عندهم، وعلى الأخص عندما زال العمل بصحيفة الدعوى التي كان يجهزها القاضي المحرر لها، بما يشبه عندنا اليوم قاضي التحضير المصري، واندمجت الملكيتان معًا، أي توحدت الملكية، وارتفعت عنها القيود الشكلية القديمة والأوضاع المعقدة التي أصبحت لا تلتئم مع رقي المدنية عند الرومان وما أصابوه من وفرة في المرافق الحيوية.
وقد عول الرومان في تقريرهم لأداة الحماية لدى صاحب الملكية النافعةpossesseur bonitaire على السبب الصحيح jnsta causa وحسن النية، ويرون، كما نرى نحن في العصور الحاضرة، بالسبب الصحيح العملية القانونية Acte juridique التي تحصل بين البائع والمشتري، أي البيع، ويترتب عليها تقرير التزامات في ذمة كل واحد من الطرفين (جاستون مي صـ 328 ن 88 - انظر أيضًا جيرار Girardفي القانون الروماني الطبعة السابعة سنة 1924 صـ 319 - وانظر مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء صـ 138 وما بعدها) والمراد بالسبب الصحيح وبالعملية القانونية، أن يتراضى العاقدان على نقل الملكية من يد أحدهما إلى يد الآخر، كما يقول جيرار، أو أن يكون السبب الصحيح دالاً بنفسه على رغبة المتعاقدين في الإفراغ والكسب، كما يقول حامد بك نقلاً عن المؤلف (ديد ييه) الذي رجع إليه (المحاماة 7 صـ 99 العامود 2 في وسطه).
وهنا قرر حامد بك (صـ 99 العامود 2 في وسطه) ما يأتي (ولذا لم يشترطوا في السبب الصحيح الوارد على مال منسيبي (يريد الشيء النفيس res mancipi) أن يقع بالأوضاع الشكلية الواجب اتباعها في نقل الملكية الرومانية) ثم عقب حضرته ذلك بما يأتي: (وإلى مثل هذه النتيجة بلغ الفقهاء والشارحون للقانونين الفرنسي والمصري).
ثم أورد حضرة الناقد بعد ذلك ما قرره فقهاء العصور الحاضرة ابتداءً من بوتييه في تعريف السبب الصحيح، وما قرره بودري ودي هلس، وعلى الأخص هذا الأخير (ج 3 صـ 352 ن 118) في أنه لا يشترط في السبب الصحيح أن يكون قد نقل الملكية فعلاً، بل السبب الصحيح هو العقد الذي يرمي بطبيعته إلى نقل الملكية، لولا أنه قد عابه عيب واحد وهو صدوره من غير مالك.
ومن هذا البيان لحضرة الناقد نرى أنه يريد القول بصحة السبب الصحيح وجعله ذا أثر في التقادم الخمسي، ما دام قد انصرف هذا السبب الصحيح إلى مجرد النية لدى العاقدين في نقل الملكية، وأنه لا عبرة مطلقًا بالقيود الشكلية والأوضاع المرعية القانونية التي تكون مقررة لصحة السبب الصحيح في ذاته، والتي لا تنتقل الملكية إلا بها وبتوافرها، أي أن حضرة الناقد قصر السبب الصحيح على مجرد النية في نقل الملكية، وأن هذه النية هي المعول عليها دون الأوضاع الشكلية، فإذا وقعت ولم تحصل الأوضاع الشكلية، اعتبر بأن هناك سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحجة حضرة الناقد في ذلك، القانون الروماني، وما أجازه الرومان في تقرير الملكية النافعة أي الملكية الحيازية أو الناقصة، لمن تملك شيئًا نفيسًا من غير طريقة الإفراغ العلني بالأوضاع الشكلية المعروفة عندهم، وما قرره بوتييه في أن المراد بالسبب الصحيح أن يكون صالحًا للاطمئنان به عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر.
وهذه القاعدة التي يقررها حضرة الناقد، في أن فقهاء الفرنسيس والمصريين أخذوا بالقاعدة الرومانية، قاعدة لا نقره عليها، وكذلك طريقة التدليل في تقريرها طريقة لا نقره عليها أيضًا.
أما بشأن القاعدة في ذاتها وبأن علماء العصر الحاضر من فرنسيين ومصريين لم يأخذوا بالنظرية الرومانية القضائية البحتة، فالأمر في ذلك يرجع إلى ما قرره حقًا حضرة الناقد في قوله: (ورأيتهم لا يعتبرون العقود غير المنعقدة أو الباطلة بطلانًا مطلقًا أصليًا سببًا صحيحًا، ويعتبرون العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا كبيع القاصر والمكره) فكيف يقال حينئذٍ بأن الحاضرين أخذوا بنظرية الغابرين، في الوقت الذي لم يأخذوا فيه بها؟ ولقد سبق لنا أن بينّا بكتابنا في الالتزامات النظرية العامة (صـ 235 - 247 ن 253 - 264) أقام البطلان الثلاثي، البطلان المعدم للعقد، والبطلان المطلق، والبطلان النسبي، وأقسام البطلان الثنائي وهو البطلان المطلق بوجه عام والبطلان النسبي، ورأينا أن البطلان المطلق يجعل العقد كأنه لم يكن، سواء أكان ينقص العقد ركن من أركان تكوينه كالمبيع في البيع، أم ينقصه شرط شكلي من الأوضاع العلنية المقررة لتكوين العقد بالذات، كشرط الرسمية في عقد الهبة مثلاً، إذ العقد في الحالتين يعتبر غير موجود، لا تلحقه إجازة تصححه وترفع شائبته، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي، فلا هبة، لأن رضاء العاقدين وحده لا يكفي لإنشاء عقد الهبة، بل لا بد من ركن الرسمية، وبدونه لا أثر للهبة من الوجهة القانونية، وهذا الركن في الوضع الشكلي للعقد الرسمي، أي ركن الشكلية للعقد الشكلي acte solennel، لازم لوجود العقد من الناحية القانونية، فإذا وجد العقد شكلي الأصل دون أن يتوافر فيه ركن الشكلية، فلا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي (انظر كتابنا في الأموال صـ 571 ن 398 وما بعدهما).
والإفراغ العلني عند الرومان mancipatio أي البيع بالميزان في حضرة الشهود الخمسة وما إلى ذلك، هو عقد شكلي، بحيث لا تنتقل الملكية عندهم إلا به، وقبل حصول البيع العلني، يحصل الإنفاق البسيط pactum بين المتعاقدين على البيع، فإذا تمت العلانية انقلب الإنفاق المجرد من كل أثر قانوني، إلى عقد ملزم منشئ لحقوق ومقرر لواجبات، وإذا لم تحصل العلانية، فلا ينتج التعاقد البسيط أثرًا قانونيًا ما.
ولكن لما كان القاضي الروماني المحضر للدعوى والمحرر لصحيفة النزاع لا يفصل في النزاع في ذاته ولكنه يحدد بصحيفته موضوع النزاع، وكان يذيع على الكافة منشوره edictum السنوي بما سينويه من العمل بالمبادئ القانونية التي يقررها هو قبل العمل بها - لما كان ذلك القاضي préteur يعمل على التخفيف من شدة الأوضاع الشكلية للقانون الروماني القديم البحت، فإنه كان يجري في ذلك مع سنة الرقي، ويصرف همه في أن يجعل المبادئ القانونية من المرونة بحيث يجب أن تتفق مع ما يقطعه الشعب الروماني كل يوم من أشواط المدنية في مجالات الرقي، لذا أباح الملكية الناقصة، أي الملكية القضائية، وقرر لها أداة لحمايتها كما رأينا، واستند في تقريرها إلى اعتبار المشتري للشيء بغير الأوضاع الرومانية البحتة، مالكًا بالتقادم، وهذا الاعتبار صوري مجازي لا حقيقة له، إذ افترض القاضي بأن المشتري قد ظل واضعًا يده المدة المكسبة بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم يضع يده هذه المدة، وقد فعل ذلك، القاضي الروماني واستعان بالمجاز والصورية ليصيب غرضين:
أولاً: احترام القيود الشكلية الرومانية البحتة.
ثانيًا: جعل هذه القيود الشكلية بحيث لا تعيق سير الأمور الحيوية الخاضعة لنواميس الرقي الطبيعي.
وقد انتهت الملكية بنوعيها، الملكية الرومانية البحتة، والملكية القضائية، إلى نوع واحد، وتوحدت الملكية لما هجر الرومان أوضاعهم الشكلية الأولى التي كانت تلتئم مع طبائعهم عندما كانوا شعبًا صغيرًا، وقبل أن تدخل إليهم المدنية، وقبل أن يتوسعوا في معاملاتهم التجارية مع الغير.
ومن هنا نتبين أن القاضي الروماني préteur في تقريره للملكية الحيازية وحمايته للحائز الذي لم يملك بالطرق والأوضاع الشكلية المعروفة، وتعويله على مجرد حصول العملية القانونية acte jiridique بين الطرفين وانصرافهما إلى نية تمليك الواحد منهما للآخر، أو كما يقول بوتييه كما نقله عنه الأستاذ حامد بك، أن المراد من السبب الصحيح (أن يكون صالحًا للاطمئنان عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر) - هذا القاضي الروماني وقد أراد بالسبب الصحيح العملية القانونية التي تنم وحدها عن نية التمليك، لا عن نقل الملكية بالذات، لم يعمل ذلك ولم يجزه ويقره بمنشوره السنوي، إلا لأنه كان يرمي إلى معالجة شؤون رومانية بحتة، وأنه كان يريد التوفيق بين احترام الأوضاع الشكلية الرومانية القديمة، وبين عدم تعطيل حركة النمو الاجتماعي القسري الذي يسوق الشعب الروماني في تيار الرقي الجارف.
ولما جاءت القوانين الفرنسية وقررت العقود الشكلية ومن بينها الهبة، فإنها قررت تقريرًا صريحًا بأن (العقد الباطل شكلاً لا يصلح سببًا للتملك بمضي المدة من عشر سنوات إلى عشرين سنة) (المادة (2227) من قانون نابليون) وهذا الحكم خاص بما يقابل عندنا التقادم الخمسي، وهو ما جرى عليه الفقه والقضاء الفرنسي، أي أن العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص ركن الشكلية فيه، لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، بل لا بد للتملك من مضي 15 سنة.
وعلى هذا يكون القول من حضرة الناقد بأن فقهاء العصر أخذوا بالقاعدة الرومانية قولاً لم يصب مكانه من الصحة، كما أن طريقة التدليل في تقرير هذه القاعدة، طريقة لم تصادف مكانها من الصحة أيضًا، لأن العلة عند الرومان في تقرير القاعدة لديهم لم تكن هي العلة عندنا في عصورنا الحاضرة.
عقد البيع غير المسجل وقانون التسجيل الجديد:
إذا علمنا ما تقدم فلننظر الآن فيما إذا كان عقد البيع في ظل قانون التسجيل الجديد، وفي حالة عدم تسجيله، عقدًا ناقلاً للملكية، أم هو غير ناقل لها، وبعبارة أخرى هل هذا العقد غير المسجل عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط (بصرف النظر عن كونه في ذاته عقدًا منشئًا لالتزامات ومقررًا لحقوق) أم هو عقد باطل بطلانًا نسبيًا تلحقه الإجازة؟ وفي الحالة الأولى لا يعتبر سببًا صحيحًا، وفي الحالة الثانية يعتبر كذلك.
ونحن نقول بأن عقد البيع غير المسجل في ظل قانون التسجيل الجديد، عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط، وعلى هذا الاعتبار لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحضرة الناقد حامد بك يقول العكس.
وأدلة حضرته نوجزها فيما يأتي:
1 - أن عقد البيع غير المسجل، ما دام أنه منشئ لحقوق والتزامات، فهو إذن (صالح لأن يطمئن به المشتري في تلقي العين ممن هي تحت يده، لتضمنه الالتزام بنقل ملكيتها إليه، وإن لم ينقلها بالفعل).
2 - أن الفقه الفرنسي، ما عدا القليل منه، والقضاء الفرنسي، وكذلك الفقه والقضاء بمصر، كل ذلك يرى أن لا محل لتسجيل السبب الصحيح حتى يحتج به ضد المالك الحقيقي (كلمة (المشتري) الواردة بمقال الناقد صـ 101 العامود الثاني السطر 6 في آخره، حقيقتها (المالك الحقيقي)).
3 - أن المادة (76) مدني الخاصة بالسبب الصحيح لم ترد بالمواد الملغاة بقانون التسجيل الجديد المصري، ولا يمكن على كل حال أن يمسها هذا القانون بشيء ما.
4 - أن المادة (264) مدني المقررة لبطلان عقد البيع الصادر من غير المالك الحقيقي، لا يلحقها أيضًا قانون التسجيل الجديد الذي انصرف إلى تقرير ضرورة تسجيل العقد الصادر من المالك الحقيقي لا إلى تقرير تسجيل العقد الصادر من غير المالك الحقيقي.
5 - أن المالك الحقيقي لا يمكن اعتباره داخلاً ضمن طائفة الغير الذين تلقوا الملكية عن مالك واحد وحفظوها بالتسجيل، وليس من الغير أيضًا الدائن العادي ولا من تلقى الملكية عن غير المالك الحقيقي.
6 - أن العقد الذي يصدر من غير المالك الحقيقي، لا ينقل الملكية حتى ولو تسجل فإن هذا العقد ولا تسجيله ينقلان الملكية، إنما الذي يُكسب الملكية للمشتري من غير مالك هو في الواقع وضع اليد مدة خمس سنوات.
هذه هي أدلة حضرة الناقد، ونرى الآن أن ندلي بأدلتنا نحن في تقرير رأينا الذي قلنا به، وننقد أدلته في طريق إقامتنا الحجة على صحة رأينا.
قلنا في مواطن عدة مما نشرناه مقالات وتأليفًا، وأقرنا عليه القضاء الأهلي والمختلط أخيرًا وأقرنا عليه الأستاذ حامد بك بمقاله الأخير والسابق عليه، إن عقد البيع لم يصبح في ظل قانون التسجيل الجديد عقدًا شكليًا Acte solennel، بل ظل كما كان من قبل عقدًا رضائيًا acte consensuel ينعقد بتمام حصول الرضاء والقبول من الطرفين، ويترتب على انعقاد العقد صحته وتقرير حقوق وواجبات ترجع لطبيعة العقد، وهو ما يسمى بالالتزامات الشخصية الواردة بالمادة الأولى من قانون التسجيل، ورجعنا في تقرير هذه القاعدة وفي التدليل عليها إلى المادة (873) من القانون الألماني الصادر سنة 1872 وإلى الأعمال التحضيرية لمشروعي توحيد أقلام التسجيل بمصر والسجلات العقارية الموضوعين بمعرفة اللجنة الدولية المختلطة سنة 1904 وإلى مناقشات اللجنة التي وضعت قانون التسجيل الجديد وإلى مذكرته الإيضاحية (ورجع القضاء المختلط إلى تقرير اللجنة البلجيكية: انظر حكم محكمة مصر المختلطة الصادر في 21 يناير سنة 1926 وتعليقنا عليه بمجلة المحاماة 6 صـ 827) ومن شأن هذه الحقوق والواجبات أن تبيح لكل عاقد الحق في المطالبة بها والخضوع لها قبل تسجيل العقد، فللبائع حق مطالبة المشتري بالوفاء بالثمن، وللمشتري حق مطالبة البائع بالتسليم، وإذا امتنع البائع عن العمل على المصادقة على توقيعه طبقًا للمادة (6) من قانون التسجيل، جاز للمشتري رفع الدعوى إما بطلب الحكم بصحة التوقيع، أو بطلب الحكم بصحة التعاقد ثم تسجيل الحكم في الحالتين مع العقد، فتنتقل الملكية، ولا تنتقل الملكية إلا بالتسجيل، والتسجيل هنا مظهر من الأوضاع الشكلية solennel لازم لنقل الملكية، وبدونه لا يمكن ويستحيل نقل الملكية، والقاضي نفسه لا يملك أن يصدر حكمه ليحل محل الوضع الشكلي وهو التسجيل، وكل ما له الحكم بصحة التعاقد، فإذا تسجل الحكم مع العقد انتقلت الملكية، وإلا فلا تنتقل مطلقًا بدونه، وهذا الوضع الشكلي للتسجيل في نقل الملكية هو ككل وضع من الأوضاع الشكلية للعقود الشكلية actes solennels لا يتقرر الحق بدونه، وهو يحكي تمامًا الوضع الشكلي لعقد الرهن العقاري غير الحيازي، أي العقد التأميني hypothéque، فإذا تعاقد دائن ومدين على أن يرهن هذا الأخير للأول عقارًا له رهنًا رسميًا ولم يفِ بوعده فلا يملك الدائن ولا القاضي حق إكراه المدين على الرهن، وكل ما للقاضي الحكم بتعويض للدائن، كل ذلك لأن الرهن عقد شكلي لا ينعقد إلا بتمام الوضع الشكلي والإجراءات الشكلية، ولا يستطيع القاضي أن يحل فيها بحكم محل القيود المقررة بالقانون (انظر كتاب التأمينات لنا صـ 133 ن 125).
إذا تقرر ذلك، ولا شبهة فيه، أصبح عقد البيع في ذاته عقدًا صحيحًا ونافذًا من حيث تقرير التزامات وحقوق ناشئة عن طبيعة البيع، ولا يمكن أن يكون نافذًا للملكية إلا بتسجيله، ومن غير التسجيل يستحيل استحالة مطلقة نقل الملكية إلى المشتري، وعقد البيع على هذا الاعتبار عقد رضائي وشكلي في آنٍ واحد، فهو رضائي لأنه ملزم لطرفيه بالتراضي والاتفاق عليه، وشكلي لأن الملكية لا تنتقل فيه إلا بأوضاع شكلية حتمها القانون، ولا محل لاحتمال القول بالغرابة في أن يكون العقد الواحد في ذاته رضائيًا وشكليًا، ذلك لأن الجمع بين رضائية وشكلية العقد الواحد هو من وضع الشارع المصري الذي أراد أن يكون العقد غير المسجل ملزمًا وغير ناقل للملكية في آن واحد، وفعل الشارع المصري الأخير ذلك على خلاف ما قرره مشروع السجلات العقارية سنة 1904 في أن يكون عقد البيع رسميًا ومسجلاً، بحيث إذا انعقد عرفيًا فيصبح باطلاً بطلانًا مطلقًا لا يترتب عليه أي أثر ما، أي لا ينتج الالتزامات الشخصية المقررة بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد (انظر كتابنا في الأموال صـ 869 ن 593 وما بعدهما) والتعاقد على البيع لعقد غير المسجل يشبه التعاقد على الرهن الرسمي دون حصول الرهن، إذ التعاقد فيهما صحيح من حيث تقرير حقوق، وليس التعاقد هذا وفي ذاته باطل، إنما القيود الشكلية فيها تجعل التعاقد عليها تعاقدًا لا بد في نفاذه من عقد شكلي خاضع لإجراءات شكلية قررها الشارع بالذات للنظام العام، والأوضاع الشكلية في الرهن الرسمي هي حضور المدين الراهن أمام الموثق مع شهوده وما إلى ذلك، ولا يملك القاضي إلزام المدين بتنفيذ هذا الالتزام، والأوضاع الشكلية في التسجيل هي وضع العقد في ملف على حدة طبقًا لقانون التسجيل الجديد، وبنظام خاص لتسهيل العلانية لدى الكافة، لا حاجة فيها إلى حضور البائع شخصيًا، ولذا إذا أمر القاضي بتسجيل العقد، صح تنفيذ أمره لبعده عما له مساس بالحرية الشخصية للبائع.
إذا علم ما تقدم، ففي أي طائفة من العقود الباطلة يمكن وضع عقد البيع غير المسجل فيها؟ فهل يوضع في طائفة العقود الباطلة بطلانًا مطلقًا، أو في طائفة العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا؟ فإن قيل بالبطلان النسبي، وجب اعتبار عقد البيع غير المسجل سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وإن قلنا بالبطلان المطلق وجب عدم اعتباره سببًا صحيحًا، ولزم على ذلك، التقادم الطويل بمدة 15 سنة.
والعقد الباطل بطلانًا نسبيًا عقد صحيح في ذاته شابته شائبة ترجع لشخص أحد العاقدين وهو المجني عليه، فإذا لزمته الشائبة بطل مفعول العقد، وإذا زالت برغبة المجني عليه ولفعله هو نفذ العقد.
فإذا وقع العقد تحت سلطان الإكراه فسد العقد وزال مفعوله، ولكن يجوز للعاقد الذي وقع الإكراه عليه أن يتنازل عن حقه في تمسكه بسبب الإكراه، وبذا يصح العقد، وكذلك القول فيما إذا عاب العقد عيب الغلط أو الغش، وإذا عاب العقد فقد الأهلية لدى أحد العاقدين بأن كان قاصرًا جاز للقاصر وحده الطعن في العقد بالبطلان، ويجوز له السكوت عن الطعن بعد بلوغه، وبذا يصح العقد وينفذ.
ومن هنا نرى أن البطلان النسبي يرجع لعمل الفرد وحقه الشخصي، فإن شاء التمسك به، فيبطل العقد، وإن شاء التنازل عنه فيصح العقد، دون أن يكون هناك دخل في الحالتين للنظام العام، والبطلان النسبي على هذا الاعتبار بطلان شخصي خاص لا عام (راجع كتابنا في الالتزامات النظرية العامة صـ 243 ن 262).
والعقد الباطل بطلانًا مطلقًا عقد شابه عيب يتصل بالنظام العام اتصالاً محكمًا ولا يتعلق برغبة العاقدين وحرية رضائهما فيه، بل لا بد من الخضوع للأوضاع الشكلية التي قررها القانون، كالرسمية في الرهن التأميني أو في الهبة، ويجوز لكل من العاقدين وللغير أيضًا التمسك بالبطلان، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي جاز للواهب نفسه طلب بطلان العقد، كما يجوز للقاضي أن يقضي به من تلقاء نفسه، لأن البطلان متعلق بالنظام العام، لا بالمصلحة الشخصية البحتة للأشخاص، وهذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يقبل التصحيح، أي لا يملك العاقدان تصحيحه بإرادتهما دون الخضوع للأوضاع الشكلية (الالتزامات لنا في النظرية العامة صـ 239 - 241 ن 256 - 258).
هذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأنه وإن كان قد شملته رغبة الطرفين في التمليك، في حالة الهبة مثلاً، واطمأن فيه الموهوب إليه، إلا أن الرغبة المحضة للطرفين لا تكفي لنقل الملكية، بل لا بد لركن الشكلية، وهذا الحق في المطالبة بالبطلان لا يسقط عن الواهب بالتقادم الطويل فيما إذا كان مدعيًا، كما لا يسقط حق الدفع بالبطلان إذا كان الواهب مدعى عليه (المادة (2262) مدني فرنسي والمادة 208/ 272 مدني مصري - الالتزامات لنا النظرية العامة صـ 241 - 242 ن 259 - 260. إنما يرى القضاء الفرنسي، في أنه إذا صح عدم جواز زوال حق طلب البطلان بالتقادم، أي عدم جواز اكتساب العقد الباطل بطلانًا مطلقًا قوة قانونية بفعل الزمن وهو التقادم، فإنه يرى من طريق آخر أن التقادم يحدث أثره وينصب على الشيء محل عقد الهبة فيكتسب الموهوب له ملكيته له بالتقادم: انظر الهامش (1) من صفحة 241 من كتابنا في الالتزامات. وانظر كتابنا في الأموال صـ 572 ن 399 والهامش (3)، وفي عدم جواز سقوط الدفع بالبطلان المطلق مهما طال الزمن فذلك يرجع للقاعدة المعروفة القائلة بأن الدعاوى معقودة بزمن وأما الدفوع exceptions فهي دائمة خالدة: انظر في ذلك كتابنا في القانون التجاري صـ 329 ن 252).
وإذا علم الآن البطلان النسبي والبطلان المطلق ففي أيهما يدخل عقد البيع غير المسجل؟ قلنا إنه يدخل في طائفة البطلان المطلق، لأن التسجيل هنا شرط لازم لصحة العقد في نقله للملكية، ولا يقبل تصحيحًا ولا تأييدًا بغير التسجيل، وهذا العقد لا يعتبر سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني العصري، لا بالمعنى الروماني القضائي، لأن العقد الذي يعتبر في عصورنا الحاضرة سببًا صحيحًا هو العقد الذي يملك بطبيعته وكيانه القانوني فيما إذا صدر من المالك الحقيقي verus dominus فإذا فرض وصدر العقد من هذا المالك الحقيقي دون مراعاة الأوضاع الشكلية فيه فإنه لا يملك، وإذا صدر من غير المالك فلا يملك أيضًا بالتقادم الخمسي، لأنه لا يعتبر سببًا صحيحًا قد توافرت فيه أركان الصحة القانونية اللازمة للعقود الشكلية.
ولا يعتبر العقد سببًا صحيحًا ليس فقط إلا عند توافر شروط الأوضاع الشكلية فيه إذا كان من العقود الشكلية actes solennels، بل لا يعتبر سببًا صحيحًا أيضًا إلا إذا حاز الشروط القانونية التي يقررها القانون بالذات في سبيل حماية البائع حماية شخصية، ويقع ذلك فيما إذا بيع عقار القاصر لمشترٍ دون مراعاة أخذ مصادقة المجلس الحسبي، إذ في هذه الحالة لا يجوز للمشتري اعتبار عقده سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي بل لا بد له من التقادم الطويل مدة 15 سنة (استئناف أهلي في 20 مارس سنة 1906م ر 1، 8 صـ 57 عدد 029 - ح 21 صـ 0257 - مرجع القضاء ص 382 ن 01377 - ح 22 ص 083 - مرجع القضاء صـ 381 ن 01375 - د، 907، 1، 0406 - كتابنا في الأموال صـ 572 والهامش (5) وصـ 574 والهامش 02 - ومرسى المزاد الذي يحصل على جهة الإدارة عقب إجراءات نزع الملكية إن جاءت مخالفة للقوانين والأوامر لا يعتبر سببًا صحيحًا لتمليكها العين بوضع اليد خمس سنوات: انظر في ذلك زقازيق حكم استئنافي 14 فبراير سنة 1906 ح 22 صـ 0169 - مرجع القضاء صـ 382 ن 1383) وألا يرى في ذلك بأن الحكم بعدم اعتبار عقد البيع الصادر من الوصي دون مراعاة قيد مصادقة المجلس الحسبي سببًا صحيحًا هو حكم أبلغ في عدم اعتبار العقد الذي ينقصه ركن شكلي من الأوضاع الشكلية سببًا صحيحًا؟ إن العقد الذي ينقصه وضع شكلي لازم لإنشائه، والعقد الذي ينقصه شرط لازم لصحته كمصادقة المجلس الحسبي، هو عقد لا يمكن اعتباره سببًا صحيحًا، والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن القيد القانوني بالوضع الشكلي إن كان العقد رسميًا، أو القيد القانوني بالمصادقة، هذا القيد من الشروط التي قررها القانون بالذات لصحة العقد، ويستحيل قانونًا وبداهةً أن يكون العقد الخالي عن هذا القيد الشكلي أو التصادقي سببًا صحيحًا، لأن السبب الصحيح هو العمل القانونيacte juridique المملك في ذاته فيما لو صدر من المالك الحقيقي، وكل ما ينقص العقد هو صدوره من غير المالك فقط، أي أن العذر الذي جعل الشارع يغتفر فيه للمشتري خطأه إنما هو العذر الخاص بجهل المشتري بعدم ملكية البائع له، واعتقاد هذا المشتري في أنه اشترى من المالك الحقيقي، والخطأ هنا واقع، وواقع فقط، على خطأ موضوعي لا قانوني، وأما إذا وقع الخطأ على أمر قانوني واشترى المشتري دون مراعاة القيد الشكلي أو التصادقي، فإن الشارع لا يغتفر للمشتري خطأه، لأنه من المفروض على كل فرد كائنًا من كان أن يعرف القانون وقيوده (المادة (29) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية).
وإذا كان العقد الذي تنقصه مصادقة المجلس الحسبي لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم، وهو ليس بالعقد الشكلي الخاضع لأوضاع شكلية، ألا يكون من باب أولى عقد البيع غير المسجل الذي يعتبر عقدًا شكليًا فيما يتعلق، ويتعلق فقط، بنقل الملكية؟ إن التسجيل كشرط لازم لنقل الملكية، قيد وضعي قانوني لا يستطيع معه المشتري أن يقول باعتبار عقد البيع سببًا صحيحًا، لأنه وإن كان البيع عملية قانونية يطمئن إليها المشتري عند التعاقد في نقل الملكية إليه، فإنه يجب أن يلاحظ أن هذا الاطمئنان ليس بصحيح قانونًا إلا إذا قام المشتري من جانبه بما يقضي عليه به القانون من شروط لازمة لصحة العقد، بحيث إذا أهمل المشتري في مراعاة الشروط القانونية التي يجب على المشتري أن يعلمها ويعرفها تمام المعرفة، فلا يصح مطلقًا اعتبار العقد في هذه الحالة سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأن التقادم الخمسي لا يصح الأخذ به واعتباره وسيلة في التملك إلا إذا كان المشتري حسن النية، ومعنى حسن النية ليس فيما يتعلق بالشروط القانونية لصحة العقد، بل ينصرف حسن النية فقط إلى جهل المشتري بملكية المبيع لشخص آخر غير البائع له، ولا يمكن أن ينصرف حسن النية إلى جهل المشتري للشروط القانونية، ولا ينفذ التقادم الخمسي إلا إذا اصطحب حسن النية بالسبب الصحيح، والسبب الصحيح هو العملية القانونية التي اطمأن إليها المشتري واعتبرها أداة لنقل الملك إليه، ولا يصح اطمئنان المشتري ويؤخذ باطمئنانه قانونًا إلا إذا عمل من جانبه ما يحتمه عليه القانون، ولا يمكن أن يعتبر في جهله حسن النية، وفي هذه الحالة لا يستفيد مطلقًا من التقادم الخمسي، وحسن النية الذي يبيح التملك بالتقادم الخمسي هو اعتقاد المشتري أن البائع له مالك، أي الخطأ الموضوعي erreur de fait، وأما الخطأ القانوني erreur de droit فلا يمكن اعتباره حسن نية مملك بالتقادم (إلا في حالة وضع اليد وتملك الثمار فإن الخطأ القانوني يعتبر بمثابة حسن نية يجيز تملك الثمار لواضع اليد: بلانيول ج (1) الطبعة الثامنة سنة 1920 صـ 703 ن 2293).
هذا ولا يقف السبب الصحيح في أن يطمئن فيه مكتسب الملكية إلى تملك العقار، بل يجب في ذاته أن يكون صالحًا لنقل الملكية، أي منشئًا لها، وعلى ذلك فلا يعتبر سببًا صحيحًا الوفاء بوجه عام والإرث والقسمة والأحكام والصلح والعقد المعلق على شرط (راجع في تفصيل ذلك كتابنا في الأموال صـ 566 - 570 ن 396 - 397).
ومما مر يتبين أن السبب الصحيح ليس هو بوجه عام كل عملية قانونية acte juridique يطمئن إليها المشتري بوجه عام في نقل الملكية إليه، وأنه لا عبرة في التقادم الخمسي بالعملية القانونية التي تنصرف إلى مجرد إظهار النية في نقل الملكية، وأن العبرة فيه إنما هو وضع اليد - إنما السبب الصحيح من الوجهة القانونية الصحيحة في عصورنا القانونية الحاضرة وطبقًا للأصول القانونية الواقعة droit positif، هو العملية القانونية المنشئة للملكية بحيث تقع صحيحة في ذاتها وطبقًا للقيود القانونية سواء كانت هذه القيود قد وردت لحماية النظام العام بوجه عام، أو وردت لحماية بعض المصالح الفردية الجديرة بحماية القانون، كضرورة مصادقة بعض الهيئات العامة على تصرفات أولي الأمر، فإذا جاءت العملية القانونية وشابها نقص في القيود القانونية العامة أو الخاصة فلا يجوز اعتبارها سببًا صحيحًا، بل يجب اعتبارها سببًا غير صحيح، ولا عبرة مطلقًا بمجرد رغبة العاقدين في نقل الملكية، ما دام أن هذه الرغبة قد تقيدت بقيود قانونية عامة (في حالة العقود الشكلية) أو خاصة (في حالة العقود الخاضعة لمصادقة بعض الهيئات).
وأما القول من جانب حضرة الناقد حامد بك فهمي في أن الشرائع الحاضرة والفقهاء الحاضرين قد أخذوا بالنظرية الرومانية القضائية القديمة فهو قول لا نقره عليه كما قلنا لأن عمل القاضي الروماني في تقرير أداة حماية للمشتري بغير الأوضاع الشكلية العتيقة إنما كان يرمي به إلى الإفلات من قوة القيود الرومانية القديمة، وإلى جعل الحقوق طليقة في طريق التطور الاجتماعي، مع المحافظة بقدر الإمكان على احترام القيود القانونية القديمة، ولذا استعان القاضي الروماني كما قلنا بالمجاز والصورية في تقريره أداة الحماية للمشتري، بأن افترض فيه مجازًا بأنه تملك بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم تمضِ عليه مدة التقادم المملكة.
ولا يمكن بحال تشبيه التشريع العصري وعمل القضاء العصري بما كان عليه الرومان وعلى الأخص في عهدهم الأول عهد الطفولة والقيود الجافة الشاذة بما كان يلتئم مع حالتهم شبه البدوية، وأكبر دليل على ذلك أن العقد الحاضر، وهو الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص الوضع الشكلي فيه، لا يصلح سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي كما رأينا
السنة السابعة – مارس سنة 1927
السبب الصحيح في التقادم الخمسي
والأوضاع الشكلية في التسجيل الجديد
للدكتور عبد السلام ذهني بك القاضي بمحكمة مصر الكلية الأهلية
والأستاذ السابق للقانون المدني والتجاري بكلية الحقوق بالجامعة المصرية
السبب الصحيح عند الرومان:
1 - الأوضاع الشكلية في العهد الأول.
2 - القاضي الروماني وصحيفة النزاع والملكية الحيازية.
3 - ما يرمي إليه القاضي الروماني من منشوراته السنوية.
السبب الصحيح والقانون الفرنسي:
1 - أركان السبب الصحيح من الوجهة القانونية البحتة.
2 - السبب الصحيح والعقود الباطلة بأنواعها الثلاثة.
3 - السبب الصحيح والأوضاع الشكلية للعقود الشكلية.
السبب الصحيح في القانون المصري:
1 - القانون المصري والفرنسي واحد.
2 - المذهب القائل باعتبار المالك من طبقة الغير.
3 - أركان التقادم الخمسي ثلاثة: التعاقد والمدة والنية.
4 - في التقادم الخمسي والتقادم الطويل وأثر السبب الصحيح في الأول.
5 - اختلاف وجهة النظر في تقرير السبب الصحيح عند الرومان وفي القوانين المصرية والفرنسية الحاضرة.
6 - السبب الصحيح والتقادم الخمسي شرط مصادفة المجلس الحسبي ونظرية علم الأفراد بقيود القانون.
السبب الصحيح وقانون التسجيل الجديد:
1 - الالتزامات الشخصية بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد.
2 - الأوضاع الشكلية وانتقال الملكية وارتباطها بالالتزامات الشخصية.
3 - العقد غير المسجل والبطلان المطلق.
قررنا بكتابنا في الأموال (صـ 571 - 575 ن 398 - 399) وبمقالنا المنشور بمجلة المحاماة (المجلد (6) صـ 597 - 629) وبرسالتنا في التسجيل وحماية المتعاقدين والغير (صـ 22 ن 21) أن نظرية التقادم الخمسي قد تأثرت بقانون التسجيل الجديد، وأنه لا بد في العقد لأجل أن يكون سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني الصحيح أن يكون مسجلاً، وأنه في حالة عدم تسجيله لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بمضي خمس سنوات، وأنه لا بد من مضي مدة 15 سنة للتملك، أي لا بد من التقادم الطويل، وقد أوضحنا ذلك على الأخص بكتابنا في الأموال وأتينا بالعلل القانونية من جميع وجوهها، بما أوجزناه بمقالنا بالمحاماة.
ولقد قرأنا أخيرًا للأستاذ حامد بك فهمي المحامي بحثًا قيمًا بمجلة المحاماة (المجلد (7) صـ 97 - 103) أفاض فيه القول بنقض رأينا وذهب فيه غير ما ذهبنا، وقال بصحة السبب الصحيح إذا لم يكن مسجلاً، وأن التقادم الخمسي جائز برغم عدم تسجيل العقد الحاصل بين البائع غير المالك والمشتري، ورجع في تأييد رأيه إلى القانون الروماني وإلى أصول التسجيل الفرنسي الموضوع سنة 1855، وإلى ما قرره قضاؤه وفقهه، وإلى القانون المصري وقضائه وفقهه، وإلى أن قانون التسجيل الجديد لم يمس التقادم الخمسي في شيء ما، ثم ختم بحثه بأن (اشتراط تسجيل السبب الصحيح لإفادة الملك، من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه الفقيه).
وإنا وإن كنا نعلم أن هذا البحث لا يُعرض على القضاء المصري إلا ابتداءً من أول يناير سنة 1928، لأنه لا بد من مضي خمس سنوات على الأقل حتى يكون للبحث محل أمام القضاء، وحتى يمكن للمشتري أن يدعي الملكية بالتقادم الخمسي في ظل قانون التسجيل الجديد، فإنا لا نرى مندوحة مع ذلك من بحث الموضوع قبل حلول أوأن الفصل فيه قضائيًا، لأن من شأن القائمين بالحركة الفقهية، أن يتلمسوا مواطن الأخذ والرد في القانون، حتى يستطيع أصحاب الشؤون في المعاملات أن يأخذوا عدتهم للطوارئ المقبلة من حيث الاختلاف في الآراء، وحتى ينضج الرأي بين أيدي المختلفين بما يدلون به من وجهات النظر المختلفة.
وإنا نرى البدء أولاً بالنظرية الرومانية وكيف عالج القاضي الروماني préteur قوة القيود التشريعية القديمة في عصر الطفولة للرومان، وعمل على التوفيق بينها باعتبارها رمزًا للصيغة الرومانية البحتة، وبين تطور الحالات الاجتماعية عندهم، بل كان يذيعه سنويًا على الكافة بمنشوره السنوي edictum من الأصول القانونية القيمة حتى يعلم جماهير الناس بما سيقضي به القاضي فيما إذا تخاصم إليه المتنازعون، ثم نعرج بعد ذلك على بيان نظرية التسجيل الحاضر، وأن القانون الفرنسي الصادر في 23 مارس سنة 1855 وهو مصدر التسجيل المصري المختلط الموضوع سنة 1875 والأهلي سنة 1883، لم يأخذ مطلقًا بمذهب القاضي الروماني وما أذاعه بمنشوره، وأن الفقه والقضاء الفرنسيين سارا في طريق السبب الصحيح والتقادم القصير بغير الطريقة الرومانية، على العكس مما جاء بمقال الناقد حامد بك ثم نعود بعد ذلك إلى قانون التسجيل الجديد الصادر في 26 يونيو سنة 1923 وبيان ما أحدثه من مبدأ جديد في تقرير التسجيل وفي جعله من الأوضاع الشكلية من حيث نقل الملكية فقط، برغم ما للعقد في ذاته من الأثر القانوني في تقرير التزامات شخصية بين عاقديه، وفي هذا الإيضاح تبرز الفروق البينة بين السبب الصحيح الروماني والسبب الصحيح الفرنسي، والمصري في عهد القانون المدني، والسبب الصحيح في عهد قانون التسجيل الجديد، وسنبين في أي طائفة من طوائف البطلان الثلاثي أو الثنائي يقع عقد البيع غير المسجل وقد أصبح التسجيل من الأوضاع الشكلية، وما هو أثر ذلك مع قيام الالتزامات الشخصية، وما رتبناه على هذه الأخيرة من أصول وأحكام من حيث المطالبة بالتسليم وما إلى ذلك.
القانون الروماني والسبب الصحيح:
رأينا أن نثبت بكتابنا في الأموال (صـ 1002 - 27 1 ن 681 - 693) بابًا خاصًا في إثبات الملكية وكيفية الدفاع عنها وتطور أداة الدفاع عن الملكية في العصور الرومانية والعصور الوسطى وفي عهد القانون الفرنسي الحاضر وقضائه وفقهه، وأخيرًا في عهد القانون المصري وقضائه، وبينّا بكتابنا أطوار الملكية عند الرومان وما قرروه من الملكية الحيازية، أي الملكية الناقصة propriété bonitaire بجانب الملكية الرومانية البحتة propriété quiritaire التي كانت وقفًا على جماعة الرومان أنفسهم، والتي كانت لا تنتقل إلا بأوضاع شكلية خاصة، أهمها البيع العلني أو الإفراغ العلني mancipatio للأشياء النفيسة res mancipi (وكلمة mancipatio أو mancipium مكونة من كلمتين: manus بمعنى اليد وcapio بمعنى مسك: إشارة إلى أن المشتري يضع يده على المبيع ويدعي ملكيته له في حضرة البائع الذي لا ينازع (انظر في ذلك مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء ص 39 - 42)، وإذا حصل التبايع في هذه الأشياء النفيسة بغير طريقة الإفراغ العلني وحصل بالمناولة اليدوية traditio، فلا يكتسب المشتري الملكية الرومانية البحتة المحمية بدعوى إثبات الملكية rei vindicatio، إنما يكتسب فقط الملكية الحيازية، وهذه الملكية النافعة كما يسميها حامد بك (المحاماة (7) صـ 99 العامود الأول في منتصفه) وإن كانت لا ترتفع إلى مستوى الملكية الرومانية البحتة ولا تستفيد من دعوى إثبات الملكية، إلا أن القاضي الروماني بوبليسيوس publicius قرر لها دعوى خاصة صورية لحمايتها سُميت باسمه la publicienne يستعين بها صاحبها في حمايتها ضد الغير، وكان يعمل القاضي المحضر، الذي يحرر صحيفة النزاع formule ويرفعها إلى القاضي الذي يفصل فيها، في أن يفترض في تلك الصحيفة فرضًا صوريًا أن المشتري قد تملك بالتقادم مع أنه في الحقيقة لم تمضِ مدة التقادم.
ولقد أتينا بهذه اللمحة الرومانية السريعة برسالتنا في التسجيل، وكنا نرمي بها إلى بيان وجه الشبه بين الملكية الناقصة عند الرومان، وما يتقرر للمشتري في وقتنا الحاضر، في ظل قانون التسجيل الجديد من الحقوق بشأن العقار المبيع له، وضرورة حماية هذه الحقوق ضد البائع وضد الغير أيضًا (انظر رسالتنا في التسجيل صـ 8 - 10 ن 13 - 14) وقصدنا من ذلك أن نعمل على رفع الغرابة التي يمكن أن تلاحظ على ما قررناه بشأن العقد غير المسجل من ضرورة حماية صاحبه ضد كل من يعتدي على حقوقه بشأن العقار المبيع، إذ قررنا للمشتري الحق في مقاضاة البائع بتسليمه العقار المبيع، والعمل على احترام الالتزامات القانونية الناشئة عن البيع غير المسجل، وما إلى ذلك من الحقوق الأخرى.
قلنا بأن القاضي الروماني préteur وقد قرر بمنشوره السنوي الذي يذيعه كل عام على الأفراد قبل البت شكليًا فيما يُرفع إليه من الأقضية، قرر الملكية النافعة أو الملكية الناقصة أو الملكية بحكم القاضي propriété prétorienne، لمن اشترى شيئًا نفيسًا بغير الأوضاع الشكلية وقرر أيضًا هذه الملكية الحيازية habere in bonis لمن اشترى من غير مالك بسبب صحيح وحسن نية (انظر جاستون مي G May في القانون الروماني، الطبعة الرابعة عشرة سنة 1922 صـ 268)، وأصبح بذلك لدى الرومان نوعان من الملكية: الرومانية البحتة والملكية الناقصة، ثم تطور هذان النوعان مع تطور إجراءات المرافعات عندهم، وعلى الأخص عندما زال العمل بصحيفة الدعوى التي كان يجهزها القاضي المحرر لها، بما يشبه عندنا اليوم قاضي التحضير المصري، واندمجت الملكيتان معًا، أي توحدت الملكية، وارتفعت عنها القيود الشكلية القديمة والأوضاع المعقدة التي أصبحت لا تلتئم مع رقي المدنية عند الرومان وما أصابوه من وفرة في المرافق الحيوية.
وقد عول الرومان في تقريرهم لأداة الحماية لدى صاحب الملكية النافعةpossesseur bonitaire على السبب الصحيح jnsta causa وحسن النية، ويرون، كما نرى نحن في العصور الحاضرة، بالسبب الصحيح العملية القانونية Acte juridique التي تحصل بين البائع والمشتري، أي البيع، ويترتب عليها تقرير التزامات في ذمة كل واحد من الطرفين (جاستون مي صـ 328 ن 88 - انظر أيضًا جيرار Girardفي القانون الروماني الطبعة السابعة سنة 1924 صـ 319 - وانظر مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء صـ 138 وما بعدها) والمراد بالسبب الصحيح وبالعملية القانونية، أن يتراضى العاقدان على نقل الملكية من يد أحدهما إلى يد الآخر، كما يقول جيرار، أو أن يكون السبب الصحيح دالاً بنفسه على رغبة المتعاقدين في الإفراغ والكسب، كما يقول حامد بك نقلاً عن المؤلف (ديد ييه) الذي رجع إليه (المحاماة 7 صـ 99 العامود 2 في وسطه).
وهنا قرر حامد بك (صـ 99 العامود 2 في وسطه) ما يأتي (ولذا لم يشترطوا في السبب الصحيح الوارد على مال منسيبي (يريد الشيء النفيس res mancipi) أن يقع بالأوضاع الشكلية الواجب اتباعها في نقل الملكية الرومانية) ثم عقب حضرته ذلك بما يأتي: (وإلى مثل هذه النتيجة بلغ الفقهاء والشارحون للقانونين الفرنسي والمصري).
ثم أورد حضرة الناقد بعد ذلك ما قرره فقهاء العصور الحاضرة ابتداءً من بوتييه في تعريف السبب الصحيح، وما قرره بودري ودي هلس، وعلى الأخص هذا الأخير (ج 3 صـ 352 ن 118) في أنه لا يشترط في السبب الصحيح أن يكون قد نقل الملكية فعلاً، بل السبب الصحيح هو العقد الذي يرمي بطبيعته إلى نقل الملكية، لولا أنه قد عابه عيب واحد وهو صدوره من غير مالك.
ومن هذا البيان لحضرة الناقد نرى أنه يريد القول بصحة السبب الصحيح وجعله ذا أثر في التقادم الخمسي، ما دام قد انصرف هذا السبب الصحيح إلى مجرد النية لدى العاقدين في نقل الملكية، وأنه لا عبرة مطلقًا بالقيود الشكلية والأوضاع المرعية القانونية التي تكون مقررة لصحة السبب الصحيح في ذاته، والتي لا تنتقل الملكية إلا بها وبتوافرها، أي أن حضرة الناقد قصر السبب الصحيح على مجرد النية في نقل الملكية، وأن هذه النية هي المعول عليها دون الأوضاع الشكلية، فإذا وقعت ولم تحصل الأوضاع الشكلية، اعتبر بأن هناك سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحجة حضرة الناقد في ذلك، القانون الروماني، وما أجازه الرومان في تقرير الملكية النافعة أي الملكية الحيازية أو الناقصة، لمن تملك شيئًا نفيسًا من غير طريقة الإفراغ العلني بالأوضاع الشكلية المعروفة عندهم، وما قرره بوتييه في أن المراد بالسبب الصحيح أن يكون صالحًا للاطمئنان به عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر.
وهذه القاعدة التي يقررها حضرة الناقد، في أن فقهاء الفرنسيس والمصريين أخذوا بالقاعدة الرومانية، قاعدة لا نقره عليها، وكذلك طريقة التدليل في تقريرها طريقة لا نقره عليها أيضًا.
أما بشأن القاعدة في ذاتها وبأن علماء العصر الحاضر من فرنسيين ومصريين لم يأخذوا بالنظرية الرومانية القضائية البحتة، فالأمر في ذلك يرجع إلى ما قرره حقًا حضرة الناقد في قوله: (ورأيتهم لا يعتبرون العقود غير المنعقدة أو الباطلة بطلانًا مطلقًا أصليًا سببًا صحيحًا، ويعتبرون العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا كبيع القاصر والمكره) فكيف يقال حينئذٍ بأن الحاضرين أخذوا بنظرية الغابرين، في الوقت الذي لم يأخذوا فيه بها؟ ولقد سبق لنا أن بينّا بكتابنا في الالتزامات النظرية العامة (صـ 235 - 247 ن 253 - 264) أقام البطلان الثلاثي، البطلان المعدم للعقد، والبطلان المطلق، والبطلان النسبي، وأقسام البطلان الثنائي وهو البطلان المطلق بوجه عام والبطلان النسبي، ورأينا أن البطلان المطلق يجعل العقد كأنه لم يكن، سواء أكان ينقص العقد ركن من أركان تكوينه كالمبيع في البيع، أم ينقصه شرط شكلي من الأوضاع العلنية المقررة لتكوين العقد بالذات، كشرط الرسمية في عقد الهبة مثلاً، إذ العقد في الحالتين يعتبر غير موجود، لا تلحقه إجازة تصححه وترفع شائبته، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي، فلا هبة، لأن رضاء العاقدين وحده لا يكفي لإنشاء عقد الهبة، بل لا بد من ركن الرسمية، وبدونه لا أثر للهبة من الوجهة القانونية، وهذا الركن في الوضع الشكلي للعقد الرسمي، أي ركن الشكلية للعقد الشكلي acte solennel، لازم لوجود العقد من الناحية القانونية، فإذا وجد العقد شكلي الأصل دون أن يتوافر فيه ركن الشكلية، فلا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي (انظر كتابنا في الأموال صـ 571 ن 398 وما بعدهما).
والإفراغ العلني عند الرومان mancipatio أي البيع بالميزان في حضرة الشهود الخمسة وما إلى ذلك، هو عقد شكلي، بحيث لا تنتقل الملكية عندهم إلا به، وقبل حصول البيع العلني، يحصل الإنفاق البسيط pactum بين المتعاقدين على البيع، فإذا تمت العلانية انقلب الإنفاق المجرد من كل أثر قانوني، إلى عقد ملزم منشئ لحقوق ومقرر لواجبات، وإذا لم تحصل العلانية، فلا ينتج التعاقد البسيط أثرًا قانونيًا ما.
ولكن لما كان القاضي الروماني المحضر للدعوى والمحرر لصحيفة النزاع لا يفصل في النزاع في ذاته ولكنه يحدد بصحيفته موضوع النزاع، وكان يذيع على الكافة منشوره edictum السنوي بما سينويه من العمل بالمبادئ القانونية التي يقررها هو قبل العمل بها - لما كان ذلك القاضي préteur يعمل على التخفيف من شدة الأوضاع الشكلية للقانون الروماني القديم البحت، فإنه كان يجري في ذلك مع سنة الرقي، ويصرف همه في أن يجعل المبادئ القانونية من المرونة بحيث يجب أن تتفق مع ما يقطعه الشعب الروماني كل يوم من أشواط المدنية في مجالات الرقي، لذا أباح الملكية الناقصة، أي الملكية القضائية، وقرر لها أداة لحمايتها كما رأينا، واستند في تقريرها إلى اعتبار المشتري للشيء بغير الأوضاع الرومانية البحتة، مالكًا بالتقادم، وهذا الاعتبار صوري مجازي لا حقيقة له، إذ افترض القاضي بأن المشتري قد ظل واضعًا يده المدة المكسبة بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم يضع يده هذه المدة، وقد فعل ذلك، القاضي الروماني واستعان بالمجاز والصورية ليصيب غرضين:
أولاً: احترام القيود الشكلية الرومانية البحتة.
ثانيًا: جعل هذه القيود الشكلية بحيث لا تعيق سير الأمور الحيوية الخاضعة لنواميس الرقي الطبيعي.
وقد انتهت الملكية بنوعيها، الملكية الرومانية البحتة، والملكية القضائية، إلى نوع واحد، وتوحدت الملكية لما هجر الرومان أوضاعهم الشكلية الأولى التي كانت تلتئم مع طبائعهم عندما كانوا شعبًا صغيرًا، وقبل أن تدخل إليهم المدنية، وقبل أن يتوسعوا في معاملاتهم التجارية مع الغير.
ومن هنا نتبين أن القاضي الروماني préteur في تقريره للملكية الحيازية وحمايته للحائز الذي لم يملك بالطرق والأوضاع الشكلية المعروفة، وتعويله على مجرد حصول العملية القانونية acte jiridique بين الطرفين وانصرافهما إلى نية تمليك الواحد منهما للآخر، أو كما يقول بوتييه كما نقله عنه الأستاذ حامد بك، أن المراد من السبب الصحيح (أن يكون صالحًا للاطمئنان عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر) - هذا القاضي الروماني وقد أراد بالسبب الصحيح العملية القانونية التي تنم وحدها عن نية التمليك، لا عن نقل الملكية بالذات، لم يعمل ذلك ولم يجزه ويقره بمنشوره السنوي، إلا لأنه كان يرمي إلى معالجة شؤون رومانية بحتة، وأنه كان يريد التوفيق بين احترام الأوضاع الشكلية الرومانية القديمة، وبين عدم تعطيل حركة النمو الاجتماعي القسري الذي يسوق الشعب الروماني في تيار الرقي الجارف.
ولما جاءت القوانين الفرنسية وقررت العقود الشكلية ومن بينها الهبة، فإنها قررت تقريرًا صريحًا بأن (العقد الباطل شكلاً لا يصلح سببًا للتملك بمضي المدة من عشر سنوات إلى عشرين سنة) (المادة (2227) من قانون نابليون) وهذا الحكم خاص بما يقابل عندنا التقادم الخمسي، وهو ما جرى عليه الفقه والقضاء الفرنسي، أي أن العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص ركن الشكلية فيه، لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، بل لا بد للتملك من مضي 15 سنة.
وعلى هذا يكون القول من حضرة الناقد بأن فقهاء العصر أخذوا بالقاعدة الرومانية قولاً لم يصب مكانه من الصحة، كما أن طريقة التدليل في تقرير هذه القاعدة، طريقة لم تصادف مكانها من الصحة أيضًا، لأن العلة عند الرومان في تقرير القاعدة لديهم لم تكن هي العلة عندنا في عصورنا الحاضرة.
عقد البيع غير المسجل وقانون التسجيل الجديد:
إذا علمنا ما تقدم فلننظر الآن فيما إذا كان عقد البيع في ظل قانون التسجيل الجديد، وفي حالة عدم تسجيله، عقدًا ناقلاً للملكية، أم هو غير ناقل لها، وبعبارة أخرى هل هذا العقد غير المسجل عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط (بصرف النظر عن كونه في ذاته عقدًا منشئًا لالتزامات ومقررًا لحقوق) أم هو عقد باطل بطلانًا نسبيًا تلحقه الإجازة؟ وفي الحالة الأولى لا يعتبر سببًا صحيحًا، وفي الحالة الثانية يعتبر كذلك.
ونحن نقول بأن عقد البيع غير المسجل في ظل قانون التسجيل الجديد، عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط، وعلى هذا الاعتبار لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحضرة الناقد حامد بك يقول العكس.
وأدلة حضرته نوجزها فيما يأتي:
1 - أن عقد البيع غير المسجل، ما دام أنه منشئ لحقوق والتزامات، فهو إذن (صالح لأن يطمئن به المشتري في تلقي العين ممن هي تحت يده، لتضمنه الالتزام بنقل ملكيتها إليه، وإن لم ينقلها بالفعل).
2 - أن الفقه الفرنسي، ما عدا القليل منه، والقضاء الفرنسي، وكذلك الفقه والقضاء بمصر، كل ذلك يرى أن لا محل لتسجيل السبب الصحيح حتى يحتج به ضد المالك الحقيقي (كلمة (المشتري) الواردة بمقال الناقد صـ 101 العامود الثاني السطر 6 في آخره، حقيقتها (المالك الحقيقي)).
3 - أن المادة (76) مدني الخاصة بالسبب الصحيح لم ترد بالمواد الملغاة بقانون التسجيل الجديد المصري، ولا يمكن على كل حال أن يمسها هذا القانون بشيء ما.
4 - أن المادة (264) مدني المقررة لبطلان عقد البيع الصادر من غير المالك الحقيقي، لا يلحقها أيضًا قانون التسجيل الجديد الذي انصرف إلى تقرير ضرورة تسجيل العقد الصادر من المالك الحقيقي لا إلى تقرير تسجيل العقد الصادر من غير المالك الحقيقي.
5 - أن المالك الحقيقي لا يمكن اعتباره داخلاً ضمن طائفة الغير الذين تلقوا الملكية عن مالك واحد وحفظوها بالتسجيل، وليس من الغير أيضًا الدائن العادي ولا من تلقى الملكية عن غير المالك الحقيقي.
6 - أن العقد الذي يصدر من غير المالك الحقيقي، لا ينقل الملكية حتى ولو تسجل فإن هذا العقد ولا تسجيله ينقلان الملكية، إنما الذي يُكسب الملكية للمشتري من غير مالك هو في الواقع وضع اليد مدة خمس سنوات.
هذه هي أدلة حضرة الناقد، ونرى الآن أن ندلي بأدلتنا نحن في تقرير رأينا الذي قلنا به، وننقد أدلته في طريق إقامتنا الحجة على صحة رأينا.
قلنا في مواطن عدة مما نشرناه مقالات وتأليفًا، وأقرنا عليه القضاء الأهلي والمختلط أخيرًا وأقرنا عليه الأستاذ حامد بك بمقاله الأخير والسابق عليه، إن عقد البيع لم يصبح في ظل قانون التسجيل الجديد عقدًا شكليًا Acte solennel، بل ظل كما كان من قبل عقدًا رضائيًا acte consensuel ينعقد بتمام حصول الرضاء والقبول من الطرفين، ويترتب على انعقاد العقد صحته وتقرير حقوق وواجبات ترجع لطبيعة العقد، وهو ما يسمى بالالتزامات الشخصية الواردة بالمادة الأولى من قانون التسجيل، ورجعنا في تقرير هذه القاعدة وفي التدليل عليها إلى المادة (873) من القانون الألماني الصادر سنة 1872 وإلى الأعمال التحضيرية لمشروعي توحيد أقلام التسجيل بمصر والسجلات العقارية الموضوعين بمعرفة اللجنة الدولية المختلطة سنة 1904 وإلى مناقشات اللجنة التي وضعت قانون التسجيل الجديد وإلى مذكرته الإيضاحية (ورجع القضاء المختلط إلى تقرير اللجنة البلجيكية: انظر حكم محكمة مصر المختلطة الصادر في 21 يناير سنة 1926 وتعليقنا عليه بمجلة المحاماة 6 صـ 827) ومن شأن هذه الحقوق والواجبات أن تبيح لكل عاقد الحق في المطالبة بها والخضوع لها قبل تسجيل العقد، فللبائع حق مطالبة المشتري بالوفاء بالثمن، وللمشتري حق مطالبة البائع بالتسليم، وإذا امتنع البائع عن العمل على المصادقة على توقيعه طبقًا للمادة (6) من قانون التسجيل، جاز للمشتري رفع الدعوى إما بطلب الحكم بصحة التوقيع، أو بطلب الحكم بصحة التعاقد ثم تسجيل الحكم في الحالتين مع العقد، فتنتقل الملكية، ولا تنتقل الملكية إلا بالتسجيل، والتسجيل هنا مظهر من الأوضاع الشكلية solennel لازم لنقل الملكية، وبدونه لا يمكن ويستحيل نقل الملكية، والقاضي نفسه لا يملك أن يصدر حكمه ليحل محل الوضع الشكلي وهو التسجيل، وكل ما له الحكم بصحة التعاقد، فإذا تسجل الحكم مع العقد انتقلت الملكية، وإلا فلا تنتقل مطلقًا بدونه، وهذا الوضع الشكلي للتسجيل في نقل الملكية هو ككل وضع من الأوضاع الشكلية للعقود الشكلية actes solennels لا يتقرر الحق بدونه، وهو يحكي تمامًا الوضع الشكلي لعقد الرهن العقاري غير الحيازي، أي العقد التأميني hypothéque، فإذا تعاقد دائن ومدين على أن يرهن هذا الأخير للأول عقارًا له رهنًا رسميًا ولم يفِ بوعده فلا يملك الدائن ولا القاضي حق إكراه المدين على الرهن، وكل ما للقاضي الحكم بتعويض للدائن، كل ذلك لأن الرهن عقد شكلي لا ينعقد إلا بتمام الوضع الشكلي والإجراءات الشكلية، ولا يستطيع القاضي أن يحل فيها بحكم محل القيود المقررة بالقانون (انظر كتاب التأمينات لنا صـ 133 ن 125).
إذا تقرر ذلك، ولا شبهة فيه، أصبح عقد البيع في ذاته عقدًا صحيحًا ونافذًا من حيث تقرير التزامات وحقوق ناشئة عن طبيعة البيع، ولا يمكن أن يكون نافذًا للملكية إلا بتسجيله، ومن غير التسجيل يستحيل استحالة مطلقة نقل الملكية إلى المشتري، وعقد البيع على هذا الاعتبار عقد رضائي وشكلي في آنٍ واحد، فهو رضائي لأنه ملزم لطرفيه بالتراضي والاتفاق عليه، وشكلي لأن الملكية لا تنتقل فيه إلا بأوضاع شكلية حتمها القانون، ولا محل لاحتمال القول بالغرابة في أن يكون العقد الواحد في ذاته رضائيًا وشكليًا، ذلك لأن الجمع بين رضائية وشكلية العقد الواحد هو من وضع الشارع المصري الذي أراد أن يكون العقد غير المسجل ملزمًا وغير ناقل للملكية في آن واحد، وفعل الشارع المصري الأخير ذلك على خلاف ما قرره مشروع السجلات العقارية سنة 1904 في أن يكون عقد البيع رسميًا ومسجلاً، بحيث إذا انعقد عرفيًا فيصبح باطلاً بطلانًا مطلقًا لا يترتب عليه أي أثر ما، أي لا ينتج الالتزامات الشخصية المقررة بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد (انظر كتابنا في الأموال صـ 869 ن 593 وما بعدهما) والتعاقد على البيع لعقد غير المسجل يشبه التعاقد على الرهن الرسمي دون حصول الرهن، إذ التعاقد فيهما صحيح من حيث تقرير حقوق، وليس التعاقد هذا وفي ذاته باطل، إنما القيود الشكلية فيها تجعل التعاقد عليها تعاقدًا لا بد في نفاذه من عقد شكلي خاضع لإجراءات شكلية قررها الشارع بالذات للنظام العام، والأوضاع الشكلية في الرهن الرسمي هي حضور المدين الراهن أمام الموثق مع شهوده وما إلى ذلك، ولا يملك القاضي إلزام المدين بتنفيذ هذا الالتزام، والأوضاع الشكلية في التسجيل هي وضع العقد في ملف على حدة طبقًا لقانون التسجيل الجديد، وبنظام خاص لتسهيل العلانية لدى الكافة، لا حاجة فيها إلى حضور البائع شخصيًا، ولذا إذا أمر القاضي بتسجيل العقد، صح تنفيذ أمره لبعده عما له مساس بالحرية الشخصية للبائع.
إذا علم ما تقدم، ففي أي طائفة من العقود الباطلة يمكن وضع عقد البيع غير المسجل فيها؟ فهل يوضع في طائفة العقود الباطلة بطلانًا مطلقًا، أو في طائفة العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا؟ فإن قيل بالبطلان النسبي، وجب اعتبار عقد البيع غير المسجل سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وإن قلنا بالبطلان المطلق وجب عدم اعتباره سببًا صحيحًا، ولزم على ذلك، التقادم الطويل بمدة 15 سنة.
والعقد الباطل بطلانًا نسبيًا عقد صحيح في ذاته شابته شائبة ترجع لشخص أحد العاقدين وهو المجني عليه، فإذا لزمته الشائبة بطل مفعول العقد، وإذا زالت برغبة المجني عليه ولفعله هو نفذ العقد.
فإذا وقع العقد تحت سلطان الإكراه فسد العقد وزال مفعوله، ولكن يجوز للعاقد الذي وقع الإكراه عليه أن يتنازل عن حقه في تمسكه بسبب الإكراه، وبذا يصح العقد، وكذلك القول فيما إذا عاب العقد عيب الغلط أو الغش، وإذا عاب العقد فقد الأهلية لدى أحد العاقدين بأن كان قاصرًا جاز للقاصر وحده الطعن في العقد بالبطلان، ويجوز له السكوت عن الطعن بعد بلوغه، وبذا يصح العقد وينفذ.
ومن هنا نرى أن البطلان النسبي يرجع لعمل الفرد وحقه الشخصي، فإن شاء التمسك به، فيبطل العقد، وإن شاء التنازل عنه فيصح العقد، دون أن يكون هناك دخل في الحالتين للنظام العام، والبطلان النسبي على هذا الاعتبار بطلان شخصي خاص لا عام (راجع كتابنا في الالتزامات النظرية العامة صـ 243 ن 262).
والعقد الباطل بطلانًا مطلقًا عقد شابه عيب يتصل بالنظام العام اتصالاً محكمًا ولا يتعلق برغبة العاقدين وحرية رضائهما فيه، بل لا بد من الخضوع للأوضاع الشكلية التي قررها القانون، كالرسمية في الرهن التأميني أو في الهبة، ويجوز لكل من العاقدين وللغير أيضًا التمسك بالبطلان، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي جاز للواهب نفسه طلب بطلان العقد، كما يجوز للقاضي أن يقضي به من تلقاء نفسه، لأن البطلان متعلق بالنظام العام، لا بالمصلحة الشخصية البحتة للأشخاص، وهذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يقبل التصحيح، أي لا يملك العاقدان تصحيحه بإرادتهما دون الخضوع للأوضاع الشكلية (الالتزامات لنا في النظرية العامة صـ 239 - 241 ن 256 - 258).
هذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأنه وإن كان قد شملته رغبة الطرفين في التمليك، في حالة الهبة مثلاً، واطمأن فيه الموهوب إليه، إلا أن الرغبة المحضة للطرفين لا تكفي لنقل الملكية، بل لا بد لركن الشكلية، وهذا الحق في المطالبة بالبطلان لا يسقط عن الواهب بالتقادم الطويل فيما إذا كان مدعيًا، كما لا يسقط حق الدفع بالبطلان إذا كان الواهب مدعى عليه (المادة (2262) مدني فرنسي والمادة 208/ 272 مدني مصري - الالتزامات لنا النظرية العامة صـ 241 - 242 ن 259 - 260. إنما يرى القضاء الفرنسي، في أنه إذا صح عدم جواز زوال حق طلب البطلان بالتقادم، أي عدم جواز اكتساب العقد الباطل بطلانًا مطلقًا قوة قانونية بفعل الزمن وهو التقادم، فإنه يرى من طريق آخر أن التقادم يحدث أثره وينصب على الشيء محل عقد الهبة فيكتسب الموهوب له ملكيته له بالتقادم: انظر الهامش (1) من صفحة 241 من كتابنا في الالتزامات. وانظر كتابنا في الأموال صـ 572 ن 399 والهامش (3)، وفي عدم جواز سقوط الدفع بالبطلان المطلق مهما طال الزمن فذلك يرجع للقاعدة المعروفة القائلة بأن الدعاوى معقودة بزمن وأما الدفوع exceptions فهي دائمة خالدة: انظر في ذلك كتابنا في القانون التجاري صـ 329 ن 252).
وإذا علم الآن البطلان النسبي والبطلان المطلق ففي أيهما يدخل عقد البيع غير المسجل؟ قلنا إنه يدخل في طائفة البطلان المطلق، لأن التسجيل هنا شرط لازم لصحة العقد في نقله للملكية، ولا يقبل تصحيحًا ولا تأييدًا بغير التسجيل، وهذا العقد لا يعتبر سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني العصري، لا بالمعنى الروماني القضائي، لأن العقد الذي يعتبر في عصورنا الحاضرة سببًا صحيحًا هو العقد الذي يملك بطبيعته وكيانه القانوني فيما إذا صدر من المالك الحقيقي verus dominus فإذا فرض وصدر العقد من هذا المالك الحقيقي دون مراعاة الأوضاع الشكلية فيه فإنه لا يملك، وإذا صدر من غير المالك فلا يملك أيضًا بالتقادم الخمسي، لأنه لا يعتبر سببًا صحيحًا قد توافرت فيه أركان الصحة القانونية اللازمة للعقود الشكلية.
ولا يعتبر العقد سببًا صحيحًا ليس فقط إلا عند توافر شروط الأوضاع الشكلية فيه إذا كان من العقود الشكلية actes solennels، بل لا يعتبر سببًا صحيحًا أيضًا إلا إذا حاز الشروط القانونية التي يقررها القانون بالذات في سبيل حماية البائع حماية شخصية، ويقع ذلك فيما إذا بيع عقار القاصر لمشترٍ دون مراعاة أخذ مصادقة المجلس الحسبي، إذ في هذه الحالة لا يجوز للمشتري اعتبار عقده سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي بل لا بد له من التقادم الطويل مدة 15 سنة (استئناف أهلي في 20 مارس سنة 1906م ر 1، 8 صـ 57 عدد 029 - ح 21 صـ 0257 - مرجع القضاء ص 382 ن 01377 - ح 22 ص 083 - مرجع القضاء صـ 381 ن 01375 - د، 907، 1، 0406 - كتابنا في الأموال صـ 572 والهامش (5) وصـ 574 والهامش 02 - ومرسى المزاد الذي يحصل على جهة الإدارة عقب إجراءات نزع الملكية إن جاءت مخالفة للقوانين والأوامر لا يعتبر سببًا صحيحًا لتمليكها العين بوضع اليد خمس سنوات: انظر في ذلك زقازيق حكم استئنافي 14 فبراير سنة 1906 ح 22 صـ 0169 - مرجع القضاء صـ 382 ن 1383) وألا يرى في ذلك بأن الحكم بعدم اعتبار عقد البيع الصادر من الوصي دون مراعاة قيد مصادقة المجلس الحسبي سببًا صحيحًا هو حكم أبلغ في عدم اعتبار العقد الذي ينقصه ركن شكلي من الأوضاع الشكلية سببًا صحيحًا؟ إن العقد الذي ينقصه وضع شكلي لازم لإنشائه، والعقد الذي ينقصه شرط لازم لصحته كمصادقة المجلس الحسبي، هو عقد لا يمكن اعتباره سببًا صحيحًا، والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن القيد القانوني بالوضع الشكلي إن كان العقد رسميًا، أو القيد القانوني بالمصادقة، هذا القيد من الشروط التي قررها القانون بالذات لصحة العقد، ويستحيل قانونًا وبداهةً أن يكون العقد الخالي عن هذا القيد الشكلي أو التصادقي سببًا صحيحًا، لأن السبب الصحيح هو العمل القانونيacte juridique المملك في ذاته فيما لو صدر من المالك الحقيقي، وكل ما ينقص العقد هو صدوره من غير المالك فقط، أي أن العذر الذي جعل الشارع يغتفر فيه للمشتري خطأه إنما هو العذر الخاص بجهل المشتري بعدم ملكية البائع له، واعتقاد هذا المشتري في أنه اشترى من المالك الحقيقي، والخطأ هنا واقع، وواقع فقط، على خطأ موضوعي لا قانوني، وأما إذا وقع الخطأ على أمر قانوني واشترى المشتري دون مراعاة القيد الشكلي أو التصادقي، فإن الشارع لا يغتفر للمشتري خطأه، لأنه من المفروض على كل فرد كائنًا من كان أن يعرف القانون وقيوده (المادة (29) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية).
وإذا كان العقد الذي تنقصه مصادقة المجلس الحسبي لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم، وهو ليس بالعقد الشكلي الخاضع لأوضاع شكلية، ألا يكون من باب أولى عقد البيع غير المسجل الذي يعتبر عقدًا شكليًا فيما يتعلق، ويتعلق فقط، بنقل الملكية؟ إن التسجيل كشرط لازم لنقل الملكية، قيد وضعي قانوني لا يستطيع معه المشتري أن يقول باعتبار عقد البيع سببًا صحيحًا، لأنه وإن كان البيع عملية قانونية يطمئن إليها المشتري عند التعاقد في نقل الملكية إليه، فإنه يجب أن يلاحظ أن هذا الاطمئنان ليس بصحيح قانونًا إلا إذا قام المشتري من جانبه بما يقضي عليه به القانون من شروط لازمة لصحة العقد، بحيث إذا أهمل المشتري في مراعاة الشروط القانونية التي يجب على المشتري أن يعلمها ويعرفها تمام المعرفة، فلا يصح مطلقًا اعتبار العقد في هذه الحالة سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأن التقادم الخمسي لا يصح الأخذ به واعتباره وسيلة في التملك إلا إذا كان المشتري حسن النية، ومعنى حسن النية ليس فيما يتعلق بالشروط القانونية لصحة العقد، بل ينصرف حسن النية فقط إلى جهل المشتري بملكية المبيع لشخص آخر غير البائع له، ولا يمكن أن ينصرف حسن النية إلى جهل المشتري للشروط القانونية، ولا ينفذ التقادم الخمسي إلا إذا اصطحب حسن النية بالسبب الصحيح، والسبب الصحيح هو العملية القانونية التي اطمأن إليها المشتري واعتبرها أداة لنقل الملك إليه، ولا يصح اطمئنان المشتري ويؤخذ باطمئنانه قانونًا إلا إذا عمل من جانبه ما يحتمه عليه القانون، ولا يمكن أن يعتبر في جهله حسن النية، وفي هذه الحالة لا يستفيد مطلقًا من التقادم الخمسي، وحسن النية الذي يبيح التملك بالتقادم الخمسي هو اعتقاد المشتري أن البائع له مالك، أي الخطأ الموضوعي erreur de fait، وأما الخطأ القانوني erreur de droit فلا يمكن اعتباره حسن نية مملك بالتقادم (إلا في حالة وضع اليد وتملك الثمار فإن الخطأ القانوني يعتبر بمثابة حسن نية يجيز تملك الثمار لواضع اليد: بلانيول ج (1) الطبعة الثامنة سنة 1920 صـ 703 ن 2293).
هذا ولا يقف السبب الصحيح في أن يطمئن فيه مكتسب الملكية إلى تملك العقار، بل يجب في ذاته أن يكون صالحًا لنقل الملكية، أي منشئًا لها، وعلى ذلك فلا يعتبر سببًا صحيحًا الوفاء بوجه عام والإرث والقسمة والأحكام والصلح والعقد المعلق على شرط (راجع في تفصيل ذلك كتابنا في الأموال صـ 566 - 570 ن 396 - 397).
ومما مر يتبين أن السبب الصحيح ليس هو بوجه عام كل عملية قانونية acte juridique يطمئن إليها المشتري بوجه عام في نقل الملكية إليه، وأنه لا عبرة في التقادم الخمسي بالعملية القانونية التي تنصرف إلى مجرد إظهار النية في نقل الملكية، وأن العبرة فيه إنما هو وضع اليد - إنما السبب الصحيح من الوجهة القانونية الصحيحة في عصورنا القانونية الحاضرة وطبقًا للأصول القانونية الواقعة droit positif، هو العملية القانونية المنشئة للملكية بحيث تقع صحيحة في ذاتها وطبقًا للقيود القانونية سواء كانت هذه القيود قد وردت لحماية النظام العام بوجه عام، أو وردت لحماية بعض المصالح الفردية الجديرة بحماية القانون، كضرورة مصادقة بعض الهيئات العامة على تصرفات أولي الأمر، فإذا جاءت العملية القانونية وشابها نقص في القيود القانونية العامة أو الخاصة فلا يجوز اعتبارها سببًا صحيحًا، بل يجب اعتبارها سببًا غير صحيح، ولا عبرة مطلقًا بمجرد رغبة العاقدين في نقل الملكية، ما دام أن هذه الرغبة قد تقيدت بقيود قانونية عامة (في حالة العقود الشكلية) أو خاصة (في حالة العقود الخاضعة لمصادقة بعض الهيئات).
وأما القول من جانب حضرة الناقد حامد بك فهمي في أن الشرائع الحاضرة والفقهاء الحاضرين قد أخذوا بالنظرية الرومانية القضائية القديمة فهو قول لا نقره عليه كما قلنا لأن عمل القاضي الروماني في تقرير أداة حماية للمشتري بغير الأوضاع الشكلية العتيقة إنما كان يرمي به إلى الإفلات من قوة القيود الرومانية القديمة، وإلى جعل الحقوق طليقة في طريق التطور الاجتماعي، مع المحافظة بقدر الإمكان على احترام القيود القانونية القديمة، ولذا استعان القاضي الروماني كما قلنا بالمجاز والصورية في تقريره أداة الحماية للمشتري، بأن افترض فيه مجازًا بأنه تملك بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم تمضِ عليه مدة التقادم المملكة.
ولا يمكن بحال تشبيه التشريع العصري وعمل القضاء العصري بما كان عليه الرومان وعلى الأخص في عهدهم الأول عهد الطفولة والقيود الجافة الشاذة بما كان يلتئم مع حالتهم شبه البدوية، وأكبر دليل على ذلك أن العقد الحاضر، وهو الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص الوضع الشكلي فيه، لا يصلح سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي كما رأينا
مدى اختصاص النيابة العامة بالفصل في مواد الحيازة
مجلة المحاماة – العدد الرابع
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث
مدى اختصاص النيابة العامة بالفصل في مواد الحيازة لحضرة الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة ميت غمر
1 - تمهيد:
قد يتنازع شخصان على عقار أرضًا كان أم مبنى يدعى كلاهما أحقيته في حيازته فيتعرض كل منهما للآخر، وقد يغتصب شخص عقار آخر عنوة عنه وذلك باستعمال القوة أو بغير علمه وذلك بأن يضع يده عليه ليلاً ويزرعه إن كان أرضًا ويقيم فيه إن كان منزلاً، وقد يقيم شخص أعمالاً جديدة على أرضه أو على أرض غيره فينازعه آخر في إتمام هذه الأعمال، فما هي الجهة المختصة بالفصل في المنازعات التي تدور حول الحيازة، والتي تقرر بتمكين هذا أو ذاك من حيازة العقار؟
2 - صعوبة البحث:
ولعل ما دفعنا إلى هذا البحث ما لمسناه من الوجهة العملية – من أن النيابة العامة ممثلة في رجالها تضع نفسها حكمًا في مثل هذه المنازعات فتتصدى لمدى أحقية طرفي النزاع في حيازة العقار وذلك عندما تلجأ إليها جهة الإدارة للإفادة عما يتبع من تمكين زيد أو عمرو من حيازة العقار، وأن هذا الاتجاه جعلنا نتساءل عن السند القانوني لاختصاص النيابة العامة وهل هناك نص تشريعي يؤيد هذا الاختصاص وينظمه، وهل يمتد الاختصاص لأمور أخرى غير اختصاصها الأصلي الخاص بتحريك الدعوى العمومية ومباشرتها، هذا ما سنعالجه في هذا الصدد.
3 - أهمية البحث:
ولا يفوتنا أن نذكر بهذه المناسبة أن هذا البحث ليس بحثًا فقهيًا أي دراسة من الوجهة النظرية البحتة فحسب بل إن له نتائج عملية في غاية من الأهمية والخطورة فعلى ضوء هذا البحث يمكننا أن نعرف مدى حجية قرار النيابة في هذه المسائل وهل هو ملزم لطرفي الخصومة وما هو الجزاء المترتب على إصرار أحد طرفي النزاع على عدم تنفيذه وما هو مدى مسؤولية جهة الإدارة في عدم تنفيذه وهل لها أن تخالفه إذا رأت ضرورة لذلك حماية للأمن والنظام الاجتماعي.
4 - موقف القانون المدني وقانون المرافعات:
ولا شك أن الاختصاص بالفصل في مواد الحيازة موكول – بصفة أصلية - إلى القضاء المدني سواء أكان قضاء مستعجلاً أم عاديًا، ففي وسع أحد طرفي الخصومة أن يلجأ إلى المحاكم المدنية لتفصل في موضوع النزاع فتصدر حكمًا واجب التنفيذ لما يحمل من صيغة تنفيذية تلزم النيابة العامة ورجال الضبط بتنفيذ الأحكام الصادرة من الجهات القضائية.
ولما نشر القانون رقم (131) سنة 1948 المؤرخ في 16 يوليو سنة 1948 والخاص بإصدار القانون المدني تناول في القسم الثاني منه الحقوق العينية وأهمها حق الملكية وعالج في الفرع السابع من الفصل الثاني موضوع الحيازة كسبب من أسباب كسب الملكية وذلك في المواد (949) وما بعدها فتكلم عن الحيازة بصفة عامة ثم في دعاوى حماية الحيازة actions possessoires وهي:
1 - دعوى منع التعرض La complainte
2 - دعوى استرداد الحيازة La réimetegrande
3 - دعوى وقف الأعمال الجديدة La dénonciation de nouvelle oeuver
أما الأولى: ويقصد بها منع الاعتداء على الحيازة سواء أكان الاعتداء ماديًا باغتصابها أم قانونيًا بالادعاء أمام القضاء بأن الحيازة لغير الحائز فلقد جاء النص عليها في المادة (961) من القانون المدني التي تقرر:
(من حاز عقارًا واستمر حائزًا له سنة كاملة ثم وقع له تعرض في حيازته جاز له أن يرفع خلال السنة التالية دعوى بمنع هذا التعرض).
أما الثانية: ويقصد بها رد الحيازة إلى من اغتصبت منه بالقوة أو بغير علمه فلقد ورد ذكرها في المواد (958)، (959)، (960) من القانون المدني:
المادة (958): (1 - لحائز العقار إذا فقد الحيازة أن يطلب خلال السنة التالية لفقدها ردها إليه فإذا كان فقد الحيازة خفية بدأ سريان السنة من وقت أن ينكشف ذلك.
2 - ويجوز أيضًا أن يسترد الحيازة من كان حائزًا بالنيابة عن غيره).
المادة (959): (1 - إذا لم يكن من فقد الحيازة قد انقضت على حيازته سنة كاملة وقت فقدها فلا يجوز أن يسترد الحيازة إلا من شخص لا يستند إلى حيازة أحق بالتفضيل والحيازة الأحق بالتفضيل هي الحيازة التي تقوم على سند قانوني فإذا لم يكن لدى أي من الحائزين سند أو تعادلت سنداتهم كانت الحيازة الأحق هي الأسبق في التاريخ.
2 - أما إذا كان فقد الحيازة بالقوة فللحائز في جميع الأحوال أن يسترد خلال السنة التالية حيازته من المعتدى).
المادة (960): ( للحائز أن يرفع في الميعاد القانوني دعوى استرداد الحيازة على من انتقلت إليه حيازة الشيء المغتصب منه ولو كان هذا الأخير حسن النية).
أما الثالثة: ويقصد بها منع السير في أعمال لو تمت لكونت اعتداءً ماديًا على حيازة العقار أو على حق مقرر عليه ولقد ورد ذكرها في المادة (962) من القانون المدني التي تنص:
(1 - من حاز عقارًا واستمر حائزًا له سنة كاملة وخشي لأسباب معقولة التعرض له من جراء أعمال جديدة تهدد حيازته كان له أن يرفع الأمر إلى القاضي طالبًا وقف هذه الأعمال بشرط ألا تكون قد تمت ولم ينقض عام على البدء في العمل الذي يكون من شأنه أن يحدث الضرر.
2 - وللقاضي أن يمنع استمرار الأعمال أو أن يأذن في استمرارها وفي كلتا الحالتين يجوز للقاضي أن يأمر بتقديم كفالة مناسبة تكون في حالة الحكم بوقف الأعمال ضمانًا لإصلاح الضرر الناشئ من هذا الوقف متى تبين بحكم نهائي أن الاعتراض على استمرارها كان على غير أساس وتكون في حالة الحكم باستمرار الأعمال ضمانًا لإزالة هذه الأعمال كلها أو بعضها إصلاحًا للضرر الذي يصيب الحائز إذا حصل على حكم نهائي في مصلحته).
وحقيقة الأمر أن تفسير هذه المواد وشرحها شرحًا مفصلاً محله القانون المدني وقانون المرافعات ويكفينا أن نقرر في هذا المقام أن الحيازة التي يحميها القانون بمقتضى هذه الدعاوى الثلاث هي الحيازة الهادئة raisible الظاهرة publique غير الغامضة non équivoque المستمرة مدة سنة على الأقل والمحكمة المختصة بالفصل في هذه الأمور هي محكمة المواد الجزئية وذلك طبقًا لما ورد في المادة (47) من القانون رقم (77) سنة 1949 الخاص بإصدار قانون المرافعات المدنية والتجارية والتي تنص:
(تختص محكمة المواد الجزئية بالحكم ابتدائيًا:
( أ ) (دعاوى الحيازة…)
ولا شك أن المحكمة الجزئية المختصة هي المحكمة التي يقع في دائرتها العقار محل النزاع إذ أن هذه الدعاوى دعاوى عينية عقارية وذلك تطبيقًا لنص المادة (56) من قانون المرافعات.
(في الدعاوى العينية العقارية ودعاوى الحيازة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها العقار أو أحد أجزائه إذا كان واقعًا في دوائر محاكم متعددة).
ويجب ملاحظة هذه الدعاوى الثلاث قد ترفع بصفة عاجلة أمام محكمة الأمور المستعجلة وذلك إذا تبين أن الدعوى متعلقة بمسائل مستعجلة يخشى عليها من فوات الوقت كما يجب ملاحظة أن الأحكام الصادرة في هذه الدعاوى قابلة للطعن فيها بطريق الاستئناف.
5 - عدم اختصاص النيابة العامة:
وفي كثير من الأحوال لا يلجأ أحد طرفي النزاع إلى القضاء المدني ليفصل فيه ويقول كلمته في من له الحق في حيازة العقار محل النزاع وإنما يظل يتعرض لخصمه تعرضًا ماديًا فيقابل خصمه التعرض بالتعرض مما يؤدي إلى تكدير صفو السلام أو مما قد يتطور الأمر فيعتدي كل طرف على الآخر وترتكب جرائم ضد النفس تتفاوت في خطورتها حسب الظروف منها جرائم الضرب المفضي إلى الموت المعاقب عليها في المادة (236) من قانون العقوبات أو جرائم الضرب الذي ينشأ عنه عاهة مستديمة المعاقب عليها في المادة (240) من القانون المذكور.
فهل يجوز للنيابة العامة أن تتدخل في هذا النزاع وتصدر قرارًا واجب التنفيذ على طرفي النزاع وتراقب تنفيذه جهة الإدارة خاصة وأن في وسع من صدر القرار في غير صالحه أن يلجأ إلى القضاء المدني على النحو السابق شرحه كي يحصل على حكم في الخصومة يحمل الصيغة التنفيذية يتعين تنفيذه بمعرفة النيابة العامة والإدارة ويجعل قرار النيابة السابق لا حجية له بصدد هذا الحكم القضائي.
هذا هو الجاري عليه العمل الآن بين بعض رجال النيابة العامة.
إلا أن الباحث في النصوص القانونية لا يجد نصًا يخول للنيابة العامة هذا الاختصاص فضلاً عن أن روح فقه قانون تحقيق الجنايات لا يؤيد هذا الاتجاه.
فلقد نص قانون تحقيق الجنايات على أن اختصاص النيابة بصفة أصلية هو تحريك الدعوى العمومية mise en mouvement ومباشرتها exercise فالنيابة العامة وهي التي تنوب عن الهيئة الاجتماعية تختص دون غيرها برفع الدعوى الجنائية طالبة الحكم على الجاني توطئة لتنفيذ العقوبة عليه.
كما صدر بعض قوانين مستقلة خولت للنيابة العامة اختصاصات أخرى غير هذا الاختصاص الأصلي وهي:
1/ التدخل في الدعاوى المدنية والتجارية أمام القضاء المدني والتجاري وذلك إما بصفة أصلية: كما جاء في المادة (196) من قانون التجارة التي تجيز للنيابة العامة أن تطلب بدعوى مبتدئة الحكم بإشهار إفلاس التاجر المتوقف عن الدفع – وكما جاء في القانون المدني الجديد في المادة (96) منه أنه يجوز للنيابة العامة أن تطلب من المحكمة الابتدائية الحكم بحل جمعية من الجمعيات. ففي هاتين الحالتين ترفع النيابة هذه الدعاوى بصفة أصلية، وأما أنها تتدخل بصفتها طرفًا منضمًا وهي ما أوجبه القانون في المسائل الحسبية والأحوال الشخصية المتعلقة بالأجانب وإلا كان الحكم باطلاً ومظهر هذا التدخل هو الاطلاع على أوراق القضية وتقديم مذكرات فيها.
2/ المحافظة على حقوق القصر وعديمي وناقصي الأهلية وذلك تنفيذًا لقانون المحاكم الحسبية رقم (99) سنة 1947 المعدل بالقانون رقم (126) سنة 1951.
3/ إقامة الدعاوى التأديبية على رجال القضاء وموظفي المحاكم.
4/ الحضور في الجمعية العمومية التي تعقد بالمحاكم لترتيب الأعمال القضائية.
5/ إدارة الأعمال المتعلقة بنقود المحاكم وتفتيش صندوق الأمانات والودائع.
6/ ملاحظة وتفتيش السجون وذلك ضمانًا لتنفيذ القوانين واللوائح الخاصة بها.
هذا هو الاختصاص الأصلي للنيابة العامة وكذا الاختصاصات الأخرى المعطاة لها بناءً على نصوص قانونية صادرة بقوانين خاصة - أما اختصاصها بالفصل في مواد الحيازة فلم يرد ذكره في نص قانوني ما، هذا من جهة نصوص القانون.
أما من جهة روح القانون فالنيابة العامة أنشئت لتحريك الدعوى العمومية ومباشرتها أي لاتخاذ الإجراءات القانونية لضبط الجرائم وتقديم المجرمين للمحاكمة فليس لها أي اختصاص إداري آخر، فالنيابة العامة وإن كانت تابعة للسلطة التنفيذية ممثلة في شخص وزير العدل فإن اختصاصها محدود بنصوص القانون ينصب أساسًا وبصفة أصلية على الدعوى العمومية أي مباشرة حق التحقيق والاتهام ومن ثم ليس لها أي شأن بالأمن العام وضمان سلامته والمحافظة على حسن سيره إذ أن هذا من صميم اختصاص جهة الإدارة التي تتبع في النهاية إلى وزير الداخلية وبالتالي ليس للنيابة العامة أن تتدخل في المنازعات القائمة بين الأفراد والتي لا تكون جريمة ما، بل والتي ربما تؤدي إلى ارتكاب جريمة طالما أن جريمة ما لم تقع، فإذا تنازع زيد مع عمرو على عقار كلاهما يدعى حيازته وأحقيته في ملكيته وتعرض كل منهما للآخر ولم يلجأ كلا الطرفين للقضاء المدني فلا يسوغ للنيابة العامة أن تقحم نفسها في هذا النزاع المدني فتفصل فيه لأنها ليست جهة قضاء مدني كما أن ليس لها أن تنهي النزاع بين الطرفين ولو مؤقتًا فتصدر قرارًا في موضوع الحيازة محافظة على السلم العام وذلك لأنها ليست الجهة المختصة بالمحافظة على الأمن العام واتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تكدير صفوه.
وما يجب الإشارة إليه في هذا الشأن أن ما تقدم ينصب على النزاع حول الحيازة الذي لا يكون جريمة.
أما إذا كون النزاع بين الطرفين جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات تعين على النيابة العامة أن تتدخل فتباشر حقها في الاتهام مثال ذلك ما نص عليه قانون العقوبات في المادتين (369) و (370) عقوبات.
م 369 – (كل من دخل عقارًا في حيازة آخر بقصد منع حيازته بالقوة أو بقصد ارتكاب جريمة فيه أو كان قد دخله بوجه قانوني وبقى فيه بقصد ارتكاب شيء مما ذكر يعاقب…).
م 370 – ( كل من دخل بيتًا مسكونًا أو معدًا للسكنى أو في أحد ملحقاته أو في سفينة مسكونة أو في محل معد لحفظ المال وكانت هذه الأشياء في حيازة آخر قاصدًا من ذلك منع حيازته بالقوة أو ارتكاب جريمة فيها أو كان قد دخلها بوجه قانوني وبقى فيها بقصد ارتكاب شيء مما ذكر يعاقب… ).
وأركان هاتين المادتين هي دخول عقار بصفة غير مشروعة أي بدون إذن حائزة أو رغم إرادته وكان هذا العقار في حيازة آخر ويقصد بالحيازة هنا الحيازة هنا الحيازة الفعلية كاملة كانت أم ناقصة، وذلك بقصد منع حيازة الحائز بالقوة، فيجب أن يعلم الجاني أن العقار الذي دخله في حيازة شخص آخر فإذا اعتقد بحسن نية أن العقار في حيازته هو وأن الحائز مغتصب له إن كان يعلم أن العقار في حيازة آخر ودخله دون أن يقصد منع حيازته بالقوة أو ارتكاب جريمة فيه أو أن يضع يده على عقار في غياب صاحبه أو يدخل عقارًا بقصد امتناع حائزة بأحقيته في الحيازة دون أن يستعمل القوة أو استأجر عقارًا ثم انتهت إجازته وبقي في العين محل الإيجار فلا جريمة في كل هذه الأحوال.
فإذا استوفيت أركان هاتين المادتين وجب على النيابة العامة أن ترفع الدعوى العمومية، أما إذا لم تستوفِ هذه الأركان فلا جريمة في الأمر ومن ثم فلا اختصاص للنيابة العامة في هذا النزاع.
6 - ما هي الجهة المختصة:
ولكن إذا سلمنا أن النيابة العامة غير مختصة بالفصل في مواد الحيازة فأين الجهة المختصة التي يمكن الالتجاء إليها للفصل فيها ما دام أحد الطرفين لم يطرح النزاع على القضاء المدني وذلك رغبة في حماية الأمن والنظام ؟!
لعل الرجوع إلى فكرة التفرقة بين الضبطية الإدارية أو الضبط الإداري والضبطية القضائية أو الضبط القضائي هو الذي يسعفنا للإجابة على هذا السؤال:
فالضبطية الإدارية هي التي من وظيفتها حفظ الأمن العام باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع وقوع الجرائم، وتحقيق ذلك متروك لسلطان السلطة الإدارية فلها أن تعمل على تنفيذ القوانين فتراقب تنفيذها وتمنع المحكومين من مخالفتها ولها أن تصدر أوامر إدارية actes administratifs للمحافظة على الأمن والسلام في الداخل، والضبطية الإدارية يباشرها رجال الإدارة بالمديريات والمحافظات والمدن والقرى.
أما الضبطية القضائية فمن وظيفتها البحث عن الجرائم وإثبات حالتها ومرتكبيها وجمع الأدلة على ارتكابها ورفع الدعوى العمومية على الجانين أي جمع عناصر التحقيق والاتهام ورجال الضبطية القضائية نصت عليهم المادة الرابعة من قانون تحقيق الجنايات وهي المقابلة للمادة (23) من قانون الإجراءات الجنائية وأعضاء النيابة العامة هم رؤساء رجال الضبطية القضائية.
فإذا تنازع شخصان على قطعة أرض أو مبنى يدعى كلاهما حيازته وأحقيته في وضع يده عليه دون الآخر وكلاهما يتعرض للآخر وقد يستفحل بينهما النزاع فيخشى من وقوع جرائم ضد النفس فيختل الأمن ويفسد النظام فمن المختص بالفصل في هذا النزاع بصفة مؤقتة ؟ ومن المختص بإصدار قرار فيه يكفل حفظ الأمن والنظام ؟؟
لا شك أن الضبطية الإدارية أي جهة الإدارة هي التي يقع على كاهلها المحافظة على الأمن ومنع وقوع الجرائم ولها بسبيل ذلك أن تتخذ الاحتياطات التي ترى لزومها لضمان ذلك كما لها أن تصدر أوامر وقرارات تعتقد وجوبها حسمًا للنزاع ومنعًا لاحتكاك طرفيه خشية وقوع جرائم فلها أن تصدر أمرًا بتمكين زيد أو تمكين عمرو من حيازة العقار موضوع النزاع أو رفع يد كليهما مع تكليف كل منهما في كل الأحوال بالالتجاء إلى القضاء المدني للحصول على حكم في الخصومة والحقيقة أنها عند ما تباشر ذلك إنما تباشر عملاً من صميم اختصاصها وذلك بصفتها الهيئة المهيمنة على الأمن والتي من وظيفتها منع وقوع الجرائم وحسبها أن تصدر قرارها مستهدية بما يستوجبه حماية الأمن والنظام الاجتماعي كما أن في وسع من صدر قرار جهة الإدارة في غير صالحه أن يسرع فيلجأ إلى القضاء المدني ليحصل على حكم في الحيازة واجب التنفيذ لما يحمل من صيغة تنفيذية كما أن في وسعه أن يتظلم من القرار الإداري الصادر من جهة الإدارة إلى مجلس الدولة وهي جهة القضاء الإداري فله أن يطلب إما إلغاء هذا القرار أو طلب التعويض اللازم عن الضرر الذي حدث لديه من جراء هذا القرار إذا استوجب مسؤولية جهة الإدارة.
7 - خاتمة:
وخلاصة البحث: أن الرأي الصحيح - في اعتقادنا - أن الاختصاص في مواد الحيازة أساسًا وبصفة أصلية وعادية معقود لجهة القضاء المدني يفصل فيه على هدى من القواعد المقررة في فقه القانون المدني وفقه قانون المرافعات، أما إذا تراخى كلا الطرفين ولم يلجأ للقضاء المدني وفضل التشاحن والتعرض لخصمه في العقار موضوع النزاع فلا تختص النيابة العامة بالفصل في هذا النزاع، اللهم إلا إذا لبس النزاع حول الحيازة ثوب الجريمة المنصوص عليها في المادتين (369)، (370) من قانون العقوبات، وحسب جهة الإدارة أن تفصل فيه إما بتمكين أحدهما من حيازة العقار موضوع النزاع أو رفع يدهما عنه وتكليفهما في كلتا الحالتين بالالتجاء للقضاء المدني وذلك مع مراعاتها للحق والعدالة والقانون من جهة وحمايتها للأمن والنظام الاجتماعي من جهة أخرى.
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث
مدى اختصاص النيابة العامة بالفصل في مواد الحيازة لحضرة الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة ميت غمر
1 - تمهيد:
قد يتنازع شخصان على عقار أرضًا كان أم مبنى يدعى كلاهما أحقيته في حيازته فيتعرض كل منهما للآخر، وقد يغتصب شخص عقار آخر عنوة عنه وذلك باستعمال القوة أو بغير علمه وذلك بأن يضع يده عليه ليلاً ويزرعه إن كان أرضًا ويقيم فيه إن كان منزلاً، وقد يقيم شخص أعمالاً جديدة على أرضه أو على أرض غيره فينازعه آخر في إتمام هذه الأعمال، فما هي الجهة المختصة بالفصل في المنازعات التي تدور حول الحيازة، والتي تقرر بتمكين هذا أو ذاك من حيازة العقار؟
2 - صعوبة البحث:
ولعل ما دفعنا إلى هذا البحث ما لمسناه من الوجهة العملية – من أن النيابة العامة ممثلة في رجالها تضع نفسها حكمًا في مثل هذه المنازعات فتتصدى لمدى أحقية طرفي النزاع في حيازة العقار وذلك عندما تلجأ إليها جهة الإدارة للإفادة عما يتبع من تمكين زيد أو عمرو من حيازة العقار، وأن هذا الاتجاه جعلنا نتساءل عن السند القانوني لاختصاص النيابة العامة وهل هناك نص تشريعي يؤيد هذا الاختصاص وينظمه، وهل يمتد الاختصاص لأمور أخرى غير اختصاصها الأصلي الخاص بتحريك الدعوى العمومية ومباشرتها، هذا ما سنعالجه في هذا الصدد.
3 - أهمية البحث:
ولا يفوتنا أن نذكر بهذه المناسبة أن هذا البحث ليس بحثًا فقهيًا أي دراسة من الوجهة النظرية البحتة فحسب بل إن له نتائج عملية في غاية من الأهمية والخطورة فعلى ضوء هذا البحث يمكننا أن نعرف مدى حجية قرار النيابة في هذه المسائل وهل هو ملزم لطرفي الخصومة وما هو الجزاء المترتب على إصرار أحد طرفي النزاع على عدم تنفيذه وما هو مدى مسؤولية جهة الإدارة في عدم تنفيذه وهل لها أن تخالفه إذا رأت ضرورة لذلك حماية للأمن والنظام الاجتماعي.
4 - موقف القانون المدني وقانون المرافعات:
ولا شك أن الاختصاص بالفصل في مواد الحيازة موكول – بصفة أصلية - إلى القضاء المدني سواء أكان قضاء مستعجلاً أم عاديًا، ففي وسع أحد طرفي الخصومة أن يلجأ إلى المحاكم المدنية لتفصل في موضوع النزاع فتصدر حكمًا واجب التنفيذ لما يحمل من صيغة تنفيذية تلزم النيابة العامة ورجال الضبط بتنفيذ الأحكام الصادرة من الجهات القضائية.
ولما نشر القانون رقم (131) سنة 1948 المؤرخ في 16 يوليو سنة 1948 والخاص بإصدار القانون المدني تناول في القسم الثاني منه الحقوق العينية وأهمها حق الملكية وعالج في الفرع السابع من الفصل الثاني موضوع الحيازة كسبب من أسباب كسب الملكية وذلك في المواد (949) وما بعدها فتكلم عن الحيازة بصفة عامة ثم في دعاوى حماية الحيازة actions possessoires وهي:
1 - دعوى منع التعرض La complainte
2 - دعوى استرداد الحيازة La réimetegrande
3 - دعوى وقف الأعمال الجديدة La dénonciation de nouvelle oeuver
أما الأولى: ويقصد بها منع الاعتداء على الحيازة سواء أكان الاعتداء ماديًا باغتصابها أم قانونيًا بالادعاء أمام القضاء بأن الحيازة لغير الحائز فلقد جاء النص عليها في المادة (961) من القانون المدني التي تقرر:
(من حاز عقارًا واستمر حائزًا له سنة كاملة ثم وقع له تعرض في حيازته جاز له أن يرفع خلال السنة التالية دعوى بمنع هذا التعرض).
أما الثانية: ويقصد بها رد الحيازة إلى من اغتصبت منه بالقوة أو بغير علمه فلقد ورد ذكرها في المواد (958)، (959)، (960) من القانون المدني:
المادة (958): (1 - لحائز العقار إذا فقد الحيازة أن يطلب خلال السنة التالية لفقدها ردها إليه فإذا كان فقد الحيازة خفية بدأ سريان السنة من وقت أن ينكشف ذلك.
2 - ويجوز أيضًا أن يسترد الحيازة من كان حائزًا بالنيابة عن غيره).
المادة (959): (1 - إذا لم يكن من فقد الحيازة قد انقضت على حيازته سنة كاملة وقت فقدها فلا يجوز أن يسترد الحيازة إلا من شخص لا يستند إلى حيازة أحق بالتفضيل والحيازة الأحق بالتفضيل هي الحيازة التي تقوم على سند قانوني فإذا لم يكن لدى أي من الحائزين سند أو تعادلت سنداتهم كانت الحيازة الأحق هي الأسبق في التاريخ.
2 - أما إذا كان فقد الحيازة بالقوة فللحائز في جميع الأحوال أن يسترد خلال السنة التالية حيازته من المعتدى).
المادة (960): ( للحائز أن يرفع في الميعاد القانوني دعوى استرداد الحيازة على من انتقلت إليه حيازة الشيء المغتصب منه ولو كان هذا الأخير حسن النية).
أما الثالثة: ويقصد بها منع السير في أعمال لو تمت لكونت اعتداءً ماديًا على حيازة العقار أو على حق مقرر عليه ولقد ورد ذكرها في المادة (962) من القانون المدني التي تنص:
(1 - من حاز عقارًا واستمر حائزًا له سنة كاملة وخشي لأسباب معقولة التعرض له من جراء أعمال جديدة تهدد حيازته كان له أن يرفع الأمر إلى القاضي طالبًا وقف هذه الأعمال بشرط ألا تكون قد تمت ولم ينقض عام على البدء في العمل الذي يكون من شأنه أن يحدث الضرر.
2 - وللقاضي أن يمنع استمرار الأعمال أو أن يأذن في استمرارها وفي كلتا الحالتين يجوز للقاضي أن يأمر بتقديم كفالة مناسبة تكون في حالة الحكم بوقف الأعمال ضمانًا لإصلاح الضرر الناشئ من هذا الوقف متى تبين بحكم نهائي أن الاعتراض على استمرارها كان على غير أساس وتكون في حالة الحكم باستمرار الأعمال ضمانًا لإزالة هذه الأعمال كلها أو بعضها إصلاحًا للضرر الذي يصيب الحائز إذا حصل على حكم نهائي في مصلحته).
وحقيقة الأمر أن تفسير هذه المواد وشرحها شرحًا مفصلاً محله القانون المدني وقانون المرافعات ويكفينا أن نقرر في هذا المقام أن الحيازة التي يحميها القانون بمقتضى هذه الدعاوى الثلاث هي الحيازة الهادئة raisible الظاهرة publique غير الغامضة non équivoque المستمرة مدة سنة على الأقل والمحكمة المختصة بالفصل في هذه الأمور هي محكمة المواد الجزئية وذلك طبقًا لما ورد في المادة (47) من القانون رقم (77) سنة 1949 الخاص بإصدار قانون المرافعات المدنية والتجارية والتي تنص:
(تختص محكمة المواد الجزئية بالحكم ابتدائيًا:
( أ ) (دعاوى الحيازة…)
ولا شك أن المحكمة الجزئية المختصة هي المحكمة التي يقع في دائرتها العقار محل النزاع إذ أن هذه الدعاوى دعاوى عينية عقارية وذلك تطبيقًا لنص المادة (56) من قانون المرافعات.
(في الدعاوى العينية العقارية ودعاوى الحيازة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها العقار أو أحد أجزائه إذا كان واقعًا في دوائر محاكم متعددة).
ويجب ملاحظة هذه الدعاوى الثلاث قد ترفع بصفة عاجلة أمام محكمة الأمور المستعجلة وذلك إذا تبين أن الدعوى متعلقة بمسائل مستعجلة يخشى عليها من فوات الوقت كما يجب ملاحظة أن الأحكام الصادرة في هذه الدعاوى قابلة للطعن فيها بطريق الاستئناف.
5 - عدم اختصاص النيابة العامة:
وفي كثير من الأحوال لا يلجأ أحد طرفي النزاع إلى القضاء المدني ليفصل فيه ويقول كلمته في من له الحق في حيازة العقار محل النزاع وإنما يظل يتعرض لخصمه تعرضًا ماديًا فيقابل خصمه التعرض بالتعرض مما يؤدي إلى تكدير صفو السلام أو مما قد يتطور الأمر فيعتدي كل طرف على الآخر وترتكب جرائم ضد النفس تتفاوت في خطورتها حسب الظروف منها جرائم الضرب المفضي إلى الموت المعاقب عليها في المادة (236) من قانون العقوبات أو جرائم الضرب الذي ينشأ عنه عاهة مستديمة المعاقب عليها في المادة (240) من القانون المذكور.
فهل يجوز للنيابة العامة أن تتدخل في هذا النزاع وتصدر قرارًا واجب التنفيذ على طرفي النزاع وتراقب تنفيذه جهة الإدارة خاصة وأن في وسع من صدر القرار في غير صالحه أن يلجأ إلى القضاء المدني على النحو السابق شرحه كي يحصل على حكم في الخصومة يحمل الصيغة التنفيذية يتعين تنفيذه بمعرفة النيابة العامة والإدارة ويجعل قرار النيابة السابق لا حجية له بصدد هذا الحكم القضائي.
هذا هو الجاري عليه العمل الآن بين بعض رجال النيابة العامة.
إلا أن الباحث في النصوص القانونية لا يجد نصًا يخول للنيابة العامة هذا الاختصاص فضلاً عن أن روح فقه قانون تحقيق الجنايات لا يؤيد هذا الاتجاه.
فلقد نص قانون تحقيق الجنايات على أن اختصاص النيابة بصفة أصلية هو تحريك الدعوى العمومية mise en mouvement ومباشرتها exercise فالنيابة العامة وهي التي تنوب عن الهيئة الاجتماعية تختص دون غيرها برفع الدعوى الجنائية طالبة الحكم على الجاني توطئة لتنفيذ العقوبة عليه.
كما صدر بعض قوانين مستقلة خولت للنيابة العامة اختصاصات أخرى غير هذا الاختصاص الأصلي وهي:
1/ التدخل في الدعاوى المدنية والتجارية أمام القضاء المدني والتجاري وذلك إما بصفة أصلية: كما جاء في المادة (196) من قانون التجارة التي تجيز للنيابة العامة أن تطلب بدعوى مبتدئة الحكم بإشهار إفلاس التاجر المتوقف عن الدفع – وكما جاء في القانون المدني الجديد في المادة (96) منه أنه يجوز للنيابة العامة أن تطلب من المحكمة الابتدائية الحكم بحل جمعية من الجمعيات. ففي هاتين الحالتين ترفع النيابة هذه الدعاوى بصفة أصلية، وأما أنها تتدخل بصفتها طرفًا منضمًا وهي ما أوجبه القانون في المسائل الحسبية والأحوال الشخصية المتعلقة بالأجانب وإلا كان الحكم باطلاً ومظهر هذا التدخل هو الاطلاع على أوراق القضية وتقديم مذكرات فيها.
2/ المحافظة على حقوق القصر وعديمي وناقصي الأهلية وذلك تنفيذًا لقانون المحاكم الحسبية رقم (99) سنة 1947 المعدل بالقانون رقم (126) سنة 1951.
3/ إقامة الدعاوى التأديبية على رجال القضاء وموظفي المحاكم.
4/ الحضور في الجمعية العمومية التي تعقد بالمحاكم لترتيب الأعمال القضائية.
5/ إدارة الأعمال المتعلقة بنقود المحاكم وتفتيش صندوق الأمانات والودائع.
6/ ملاحظة وتفتيش السجون وذلك ضمانًا لتنفيذ القوانين واللوائح الخاصة بها.
هذا هو الاختصاص الأصلي للنيابة العامة وكذا الاختصاصات الأخرى المعطاة لها بناءً على نصوص قانونية صادرة بقوانين خاصة - أما اختصاصها بالفصل في مواد الحيازة فلم يرد ذكره في نص قانوني ما، هذا من جهة نصوص القانون.
أما من جهة روح القانون فالنيابة العامة أنشئت لتحريك الدعوى العمومية ومباشرتها أي لاتخاذ الإجراءات القانونية لضبط الجرائم وتقديم المجرمين للمحاكمة فليس لها أي اختصاص إداري آخر، فالنيابة العامة وإن كانت تابعة للسلطة التنفيذية ممثلة في شخص وزير العدل فإن اختصاصها محدود بنصوص القانون ينصب أساسًا وبصفة أصلية على الدعوى العمومية أي مباشرة حق التحقيق والاتهام ومن ثم ليس لها أي شأن بالأمن العام وضمان سلامته والمحافظة على حسن سيره إذ أن هذا من صميم اختصاص جهة الإدارة التي تتبع في النهاية إلى وزير الداخلية وبالتالي ليس للنيابة العامة أن تتدخل في المنازعات القائمة بين الأفراد والتي لا تكون جريمة ما، بل والتي ربما تؤدي إلى ارتكاب جريمة طالما أن جريمة ما لم تقع، فإذا تنازع زيد مع عمرو على عقار كلاهما يدعى حيازته وأحقيته في ملكيته وتعرض كل منهما للآخر ولم يلجأ كلا الطرفين للقضاء المدني فلا يسوغ للنيابة العامة أن تقحم نفسها في هذا النزاع المدني فتفصل فيه لأنها ليست جهة قضاء مدني كما أن ليس لها أن تنهي النزاع بين الطرفين ولو مؤقتًا فتصدر قرارًا في موضوع الحيازة محافظة على السلم العام وذلك لأنها ليست الجهة المختصة بالمحافظة على الأمن العام واتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تكدير صفوه.
وما يجب الإشارة إليه في هذا الشأن أن ما تقدم ينصب على النزاع حول الحيازة الذي لا يكون جريمة.
أما إذا كون النزاع بين الطرفين جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات تعين على النيابة العامة أن تتدخل فتباشر حقها في الاتهام مثال ذلك ما نص عليه قانون العقوبات في المادتين (369) و (370) عقوبات.
م 369 – (كل من دخل عقارًا في حيازة آخر بقصد منع حيازته بالقوة أو بقصد ارتكاب جريمة فيه أو كان قد دخله بوجه قانوني وبقى فيه بقصد ارتكاب شيء مما ذكر يعاقب…).
م 370 – ( كل من دخل بيتًا مسكونًا أو معدًا للسكنى أو في أحد ملحقاته أو في سفينة مسكونة أو في محل معد لحفظ المال وكانت هذه الأشياء في حيازة آخر قاصدًا من ذلك منع حيازته بالقوة أو ارتكاب جريمة فيها أو كان قد دخلها بوجه قانوني وبقى فيها بقصد ارتكاب شيء مما ذكر يعاقب… ).
وأركان هاتين المادتين هي دخول عقار بصفة غير مشروعة أي بدون إذن حائزة أو رغم إرادته وكان هذا العقار في حيازة آخر ويقصد بالحيازة هنا الحيازة هنا الحيازة الفعلية كاملة كانت أم ناقصة، وذلك بقصد منع حيازة الحائز بالقوة، فيجب أن يعلم الجاني أن العقار الذي دخله في حيازة شخص آخر فإذا اعتقد بحسن نية أن العقار في حيازته هو وأن الحائز مغتصب له إن كان يعلم أن العقار في حيازة آخر ودخله دون أن يقصد منع حيازته بالقوة أو ارتكاب جريمة فيه أو أن يضع يده على عقار في غياب صاحبه أو يدخل عقارًا بقصد امتناع حائزة بأحقيته في الحيازة دون أن يستعمل القوة أو استأجر عقارًا ثم انتهت إجازته وبقي في العين محل الإيجار فلا جريمة في كل هذه الأحوال.
فإذا استوفيت أركان هاتين المادتين وجب على النيابة العامة أن ترفع الدعوى العمومية، أما إذا لم تستوفِ هذه الأركان فلا جريمة في الأمر ومن ثم فلا اختصاص للنيابة العامة في هذا النزاع.
6 - ما هي الجهة المختصة:
ولكن إذا سلمنا أن النيابة العامة غير مختصة بالفصل في مواد الحيازة فأين الجهة المختصة التي يمكن الالتجاء إليها للفصل فيها ما دام أحد الطرفين لم يطرح النزاع على القضاء المدني وذلك رغبة في حماية الأمن والنظام ؟!
لعل الرجوع إلى فكرة التفرقة بين الضبطية الإدارية أو الضبط الإداري والضبطية القضائية أو الضبط القضائي هو الذي يسعفنا للإجابة على هذا السؤال:
فالضبطية الإدارية هي التي من وظيفتها حفظ الأمن العام باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع وقوع الجرائم، وتحقيق ذلك متروك لسلطان السلطة الإدارية فلها أن تعمل على تنفيذ القوانين فتراقب تنفيذها وتمنع المحكومين من مخالفتها ولها أن تصدر أوامر إدارية actes administratifs للمحافظة على الأمن والسلام في الداخل، والضبطية الإدارية يباشرها رجال الإدارة بالمديريات والمحافظات والمدن والقرى.
أما الضبطية القضائية فمن وظيفتها البحث عن الجرائم وإثبات حالتها ومرتكبيها وجمع الأدلة على ارتكابها ورفع الدعوى العمومية على الجانين أي جمع عناصر التحقيق والاتهام ورجال الضبطية القضائية نصت عليهم المادة الرابعة من قانون تحقيق الجنايات وهي المقابلة للمادة (23) من قانون الإجراءات الجنائية وأعضاء النيابة العامة هم رؤساء رجال الضبطية القضائية.
فإذا تنازع شخصان على قطعة أرض أو مبنى يدعى كلاهما حيازته وأحقيته في وضع يده عليه دون الآخر وكلاهما يتعرض للآخر وقد يستفحل بينهما النزاع فيخشى من وقوع جرائم ضد النفس فيختل الأمن ويفسد النظام فمن المختص بالفصل في هذا النزاع بصفة مؤقتة ؟ ومن المختص بإصدار قرار فيه يكفل حفظ الأمن والنظام ؟؟
لا شك أن الضبطية الإدارية أي جهة الإدارة هي التي يقع على كاهلها المحافظة على الأمن ومنع وقوع الجرائم ولها بسبيل ذلك أن تتخذ الاحتياطات التي ترى لزومها لضمان ذلك كما لها أن تصدر أوامر وقرارات تعتقد وجوبها حسمًا للنزاع ومنعًا لاحتكاك طرفيه خشية وقوع جرائم فلها أن تصدر أمرًا بتمكين زيد أو تمكين عمرو من حيازة العقار موضوع النزاع أو رفع يد كليهما مع تكليف كل منهما في كل الأحوال بالالتجاء إلى القضاء المدني للحصول على حكم في الخصومة والحقيقة أنها عند ما تباشر ذلك إنما تباشر عملاً من صميم اختصاصها وذلك بصفتها الهيئة المهيمنة على الأمن والتي من وظيفتها منع وقوع الجرائم وحسبها أن تصدر قرارها مستهدية بما يستوجبه حماية الأمن والنظام الاجتماعي كما أن في وسع من صدر قرار جهة الإدارة في غير صالحه أن يسرع فيلجأ إلى القضاء المدني ليحصل على حكم في الحيازة واجب التنفيذ لما يحمل من صيغة تنفيذية كما أن في وسعه أن يتظلم من القرار الإداري الصادر من جهة الإدارة إلى مجلس الدولة وهي جهة القضاء الإداري فله أن يطلب إما إلغاء هذا القرار أو طلب التعويض اللازم عن الضرر الذي حدث لديه من جراء هذا القرار إذا استوجب مسؤولية جهة الإدارة.
7 - خاتمة:
وخلاصة البحث: أن الرأي الصحيح - في اعتقادنا - أن الاختصاص في مواد الحيازة أساسًا وبصفة أصلية وعادية معقود لجهة القضاء المدني يفصل فيه على هدى من القواعد المقررة في فقه القانون المدني وفقه قانون المرافعات، أما إذا تراخى كلا الطرفين ولم يلجأ للقضاء المدني وفضل التشاحن والتعرض لخصمه في العقار موضوع النزاع فلا تختص النيابة العامة بالفصل في هذا النزاع، اللهم إلا إذا لبس النزاع حول الحيازة ثوب الجريمة المنصوص عليها في المادتين (369)، (370) من قانون العقوبات، وحسب جهة الإدارة أن تفصل فيه إما بتمكين أحدهما من حيازة العقار موضوع النزاع أو رفع يدهما عنه وتكليفهما في كلتا الحالتين بالالتجاء للقضاء المدني وذلك مع مراعاتها للحق والعدالة والقانون من جهة وحمايتها للأمن والنظام الاجتماعي من جهة أخرى.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)