بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

18 يونيو 2010

مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الثالث








الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الثالث

ثالثاً : الضّمان في عقود الأمانة :

ضمان الوديعة :



تعتبر الوديعة من عقود الأمانة ، وهي أمانة في يد المودع - أو الوديع - فهو أمين غير ضامن لما يصيب الوديعة ، من تلف جزئيّ أو كلّيّ ، إلاّ أن يحدث التّلف بتعدّيه أو تقصيره أو إهماله .



وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء ويشهد له ما روي عن عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال » ليس على المستعير غير المغلّ ضمان ولا على المستودع غير المغلّ ضمان «



والمغلّ هو : الخائن ، في المغنم وغيره .



وما روي - أيضاً - عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » من أودع وديعةً فلا ضمان عليه « .



ومن أسباب الضّمان في الوديعة التّعدّي أو التّقصير أو الإهمال .



ضمان العاريّة :



مشهور مذهب الشّافعيّ ، ومذهب أحمد ، وأحد قولي مالك - كما نصّ ابن رشد - وقول أشهب من المالكيّة ، أنّ العاريّة مضمونة ، سواء أتلفت بآفة سماويّة ، أم تلفت بفعل المستعير ، بتقصير أو بغير تقصير وهو مرويّ عن ابن عبّاس وأبي هريرة ، وإليه ذهب عطاء وإسحاق ، واستدلّوا : بحديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أميّة أدرعاً ، يوم حنين ، فقال : أغصباً يا محمّد ؟ قال : بل عاريّة مضمونة « وفي رواية : » فقال : يا رسول اللّه ، أعاريّة مؤدّاة ، قال : نعم عاريّة مؤدّاة « .



وحديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « .



ولأنّه أخذ ملك غيره ، لنفع نفسه ، منفرداً بنفعه ، من غير استحقاق ولا إذن ، فكان مضموناً ، كالغاصب ، والمأخوذ على وجه السّوم .



ومذهب الحنفيّة ، وهو قول ضعيف عند الشّافعيّة أنّ العاريّة أمانة عند المستعير ، فلا تضمن إذا هلكت من غير تعدّ ولا تقصير وذلك لحديث : » ليس على المستعير غير المغلّ ضمان « .



ولأنّ عقد العاريّة تمليك أو إباحة للمنفعة ، ولا تعرّض فيه للعين ، وليس في قبضها تعدّ ، لأنّه مأذون فيه ، فانتفى سبب وجوب الضّمان .



وإنّما يتغيّر حال العاريّة من الأمانة إلى الضّمان ، بما يتغيّر به حال الوديعة .



وذهب المالكيّة إلى تضمين المستعير ما يغاب عليه من العاريّة ، وهو : ما يمكن إخفاؤه كالثّياب والحليّ والكتب ، إلاّ أن تقوم البيّنة على هلاكها أو ضياعها بلا سبب منه فلا يضمن حينئذ ، خلافاً لأشهب القائل : إنّ ضمان العواريّ ضمان عداء ، لا ينتفي بإقامة البيّنة كما ذهبوا إلى عدم تضمينه ما لا يغاب عليه ، كالحيوان والعقار ، فلا يضمنه المستعير ، ولو شرط عليه المعير الضّمان ، ولو كان لأمر خافه ، من طريق مخوف أو لصوص على المعتمد كما قرّره الدّسوقيّ .



أمّا لو شرط المستعير نفي الضّمان عن نفسه ، فيما يغاب عليه ، فلهم فيه قولان :



أحدهما : أنّه لا عبرة بالشّروط ، ويضمن ، لأنّ الشّرط يزيده تهمةً ، ولأنّه من إسقاط الحقّ قبل وجوبه ، فلا يعتبر .



الآخر : أنّه يعتبر الشّرط ، ولا يضمن ، لأنّه معروف من وجهين : فالعاريّة معروف ، وإسقاط الضّمان معروف آخر ، ولأنّ المؤمنين عند شروطهم كما جاء في الحديث : » المسلمون عند شروطهم « .



الضّمان في الشّركة :



الشّركة قسمان - كما يقول الحنابلة - شركة أملاك وشركة عقد .



فالأولى يعتبر فيها كلّ من الشّركاء ، كأنّه أجنبيّ في حقّ صاحبه ، فلا يجوز له التّصرّف فيه بغير إذنه ، فإن فعل ضمن .



والثّانية شركة أموال ، والفقهاء متّفقون على أنّ يد أحد الشّركاء في مال الشّركة ، يد أمانة، وذلك لأنّه قبضه بإذن صاحبه ، لا على وجه المبادلة ، كالمقبوض على سوم الشّراء، ولا على وجه الوثيقة كالرّهن .



فإن قصّر في شيء أو تعدّى ، فهو ضامن .



وكذلك كلّ ما كان إتلافاً للمال ، أو كان تمليكاً للمال بغير عوض ، لأنّ الشّركة - كما يقول الحصكفيّ - وضعت للاسترباح وتوابعه ، وما ليس كذلك لا ينتظمه عقدها ، فيكون مضموناً.



وكذا إذا مات مجهلاً نصيب صاحبه ، إذا كان مال الشّركة ديوناً على النّاس ، فإنّه يضمن ، كما يضمن لو مات مجهلاً عين مال الشّركة الّذي في يده ، وكذا بقيّة الأمانات ، إلاّ إذا كان يعلم أنّ وارثه يعلم ذلك ، فلا يضمن .



ولو هلك شيء من أموال الشّركة في يده من غير تعدّ ولا تفريط ، لا يضمنه لأنّه أمين .



أمّا لو هلك مال الشّريكين ، أو مال أحدهما قبل التّصرّف فتبطل الشّركة ، لأنّ المال هو المعقود عليه فيها .



الضّمان في عقد المضاربة :



يعتبر المضارب أميناً في مال المضاربة وأعيانها ، لأنّه متصرّف فيه بإذن مالكه ، على وجه لا يختصّ بنفعه ، فكان أميناً ، كالوكيل ، وفارق المستعير ، لأنّه يختصّ بنفع العاريّة .



وهذا ما لم يخالف ما قيّده به ربّ المال ، فيصبح عندئذ غاصباً .



ومع اختلاف الفقهاء في جواز تقييد المضارب ببعض القيود ، لأنّه مفيد ، كما يقول الكاسانيّ ، وفي عدم الجواز لما فيه من التّحجير الخارج عن سنّة القراض كما يقول الدّردير، كالاتّجار بالدّين ، والإيداع ، لكن هناك قيوداً ، لا تجوز له مخالفتها ، منها :



أ - السّفر إذا لم يأذن به ربّ المال ، وهذا لما فيه من الخطر ، والتّعريض للتّلف ، فلو سافر بالمال بغير إذنه ، ضمنه .



ب - إذا قيّده بأن لا يسافر ببحر ، أو يبتاع سلعةً عيّنها له ، فخالفه ، ضمن .



ج - وإذا دفع مال المضاربة قراضاً - أي ضارب فيه - بغير إذن ، ضمن لأنّ الشّيء لا يتضمّن مثله إلاّ بالتّنصيص عليه ، أو التّفويض إليه .



ضمان المضارب في غير المخالفات العقديّة :



المضارب وإن كان أميناً ، لكنّه يضمن - في غير المخالفات العقديّة - فيما يلي :



أ - إذا باع بأقلّ من ثمن المثل ، أو اشترى بأكثر منه ، ممّا لا يتغابن فيه النّاس ، ضمن .



ب - إذا تصدّق بشيء من مال القراض ، أو أنفق من مال المضاربة في الحضر ، على نفسه أو على من يموّله ، ضمن ، لأنّ النّفقة جزاء الاحتباس ، فإذا كان في مصره لا يكون محتبساً .



أمّا لو أنفق في السّفر ، ففيه خلاف وأوجه وشروط في انتفاء ضمانه .



ج - إذا هلك مال المضاربة في يده ، بسبب تعدّيه أو تقصيره أو تفريطه ، فإنّه يضمنه ، وإلاّ فالخسران والضّياع على ربّ المال ، دون العامل ، لأنّه أمين ، كالوديع .



ولو هلك في يده من غير تفريط ، لا يضمنه ، لأنّه متصرّف فيه بإذن مالكه ، على وجه لا يختصّ بنفعه .



د - إذا أتلف العامل مال القراض - المضاربة - ضمنه ، ووجب عليه بدله ، لكن يرتفع القراض ، لأنّه وإن وجب عليه بدله ، لكن لا يدخل في ملك المالك إلاّ بالقبض ، فيحتاج إلى استئناف القراض .



الضّمان في عقد الوكالة :



الوكيل أمين وذلك لأنّه نائب عن الموكّل ، في اليد والتّصرّف ، فكانت يده كيده ، والهلاك في يده كالهلاك في يد المالك ، كالوديع .



ولأنّ الوكالة عقد إنفاق ومعونة ، والضّمان مناف لذلك .



وعلى هذا لا يضمن الوكيل ما تلف في يده بلا تعدّ ، وإن تعدّى ضمن ، وكلّ ما يتعدّى فيه الوكيل مضمون عند من يرى أنّه تعدّى - كما يذكر ابن رشد - .



الوكيل بالشّراء يتقيّد شراؤه بمثل القيمة وغبن يسير - وهو ما يدخل تحت تقويم المقوّمين - إذا لم يكن سعره معروفاً ، فإن كان سعره معروفاً ، لا ينفذ على الموكّل وإن قلّت الزّيادة ، " فيضمنها الوكيل " وهذا لأنّ التّهمة في الأكثر متحقّقة ، فلعلّه اشتراه لنفسه فإذا لم يوافقه ألحقه بغيره .



والوكيل بالبيع ، إذا كانت الوكالة مطلقةً ، لا يجوز بيعه ، إلاّ بمثل القيمة ، عند الصّاحبين ومالك والشّافعيّ ولا يجوز بيعه بنقصان لا يتغابن النّاس في مثله ، ولا بأقلّ ممّا قدّره له الموكّل ، فلو باع كذلك كان ضامناً ، ويتقيّد مطلق الوكالة بالمتعارف .



وممّا يضمنه الوكيل قبض الدّين ، وهو وكيل بالخصومة .



والوكيل بالخصومة لا يملك القبض ، لأنّ الخصومة غير القبض حقيقةً ، وهي لإظهار الحقّ.



ويعتبر قبض الوكيل بالخصومة للدّين تعدّياً ، فيضمنه إن هلك في يده ، لأنّ كلّ ما يعتدي فيه الوكيل ، يضمنه عند من يرى أنّه تعدّى ، وهذا عند جمهور الفقهاء وهو المفتى به عند الحنفيّة .



وهناك أحكام تتعلّق بالضّمان في عقد الوكالة منها :



1 - إذا اشترى الوكيل شيئاً ، وأخّر تسليم الثّمن لغير عذر ، فهلك في يده ، فهو ضامن له، لأنّه مفرّط في إمساكه .



2 - إذا قبض ثمن المبيع ، فهو أمانة في يده ، فإن طلبه الموكّل ، فأخّر ردّه مع إمكانه فتلف ، ضمنه .



3 - إذا دفع الوكيل ديناً عن الموكّل ، ولم يشهد ، فأنكر الّذي له الدّين القبض ، ضمن الوكيل لتفريطه بعدم الإشهاد .



وقيّده الحنفيّة بأن يكون الموكّل قال له : لا تدفع إلاّ بشهود ، فدفع بغير شهود .



4 - إذا سلّم الوكيل المبيع قبل قبض ثمنه ، ضمن قيمته للموكّل .



وكذا إذا وكّله بشراء شيء ، أو قبض مبيع ، فإنّه لا يسلّم الثّمن حتّى يتسلّم المبيع .



فلو سلّم الثّمن قبل تسلّم المبيع ، وهلك المبيع قبل تسلّمه ضمنه للموكّل ، إلاّ بعذر .



للوكيل بالشّراء نسيئةً أن يحبس المبيع لاستيفاء الثّمن ، عند الحنفيّة ثمّ :



أ - إن هلك قبل الحبس ، يهلك على الموكّل ، ولا يضمن الوكيل .



ب - وإن هلك بعد الحبس ففيه تفصيل :



أ - يهلك بالثّمن ، هلاك المبيع ، ويسقط الثّمن عن الموكّل في قول أبي حنيفة .



ب - ويهلك بأقلّ من قيمته ومن الثّمن ، عند أبي يوسف ، حتّى لو كان الثّمن أكثر من قيمته رجع الوكيل بذلك الفضل على موكّله .



ج - وقال : زفر يهلك على الوكيل هلاك المغصوب ، لأنّ الوكيل عنده لا يملك الحبس من الموكّل ، فيصير غاصباً بالحبس .



واشترط الشّافعيّة على الوكيل إذا باع إلى أجل ، أن يشهد ، وإلاّ ضمن . وتردّدت النّقول ، في أنّ عدم الإشهاد ، شرط صحّة أو شرط للضّمان .



ونقل الجمل أنّه إن سكت الموكّل عن الإشهاد ، أو قال : بع وأشهد ، ففي الصّورتين يصحّ البيع ، ولكن يجب على الوكيل الضّمان .



ضمان الوصيّ في عقد الوصاية - أو الإيصاء - :



الإيصاء : تفويض الشّخص التّصرّف في ماله ، ومصالح أطفاله ، إلى غيره ، بعد موته .



ويعتبر الوصيّ نائباً عن الموصي ، وتصرّفاته نافذة ، ويده على مال المتوفّى يد أمانة ، فلا يضمن ما تلف من المال بدون تعدّ أو تقصير ، ويضمن في الأحوال التّالية :



أ - إذا باع أو اشترى بغبن فاحش ، وهو : الّذي لا يدخل تحت تقويم المتقوّمين ، لأنّ ولايته للنّظر ، ولا نظر في الغبن الفاحش .



ب - كما يضمن الوصيّ إذا دفع المال إلى اليتيم بعد الإدراك ، قبل ظهور رشده ، لأنّه دفعه إلى من ليس له دفعه إليه ، وهذا مذهب الصّاحبين .



وقال الإمام : بعدم الضّمان ، إذا دفعه إليه بعد خمس وعشرين سنةً ، لأنّ له ولاية الدّفع إليه حينئذ .



ج - ليس للوليّ الاتّجار في مال اليتيم لنفسه ، فإن فعل : فعند أبي حنيفة ومحمّد يضمن رأس المال ، ويتصدّق بالرّبح .



وعند أبي يوسف يسلّم له الرّبح ، ولا يتصدّق بشيء .



الضّمان في عقد الهبة :



لمّا كانت الهبة عقد تبرّع ، فقد ذهب الفقهاء إلى أنّ قبض الهبة هو قبض أمانة ، فإذا هلكت أو استهلكت لم تضمن ، لأنّه - كما يقول الكاسانيّ - لا سبيل إلى الرّجوع في الهالك ، ولا سبيل إلى الرّجوع في قيمته لأنّها ليست بموهوبة لانعدام ورود العقد عليها . وتضمن عند الحنفيّة في هاتين الحالين فقط :



أ - حال ما إذا طلب الواهب ردّها - لأمر ما - وحكم القاضي بوجوب الرّدّ ، وامتنع الموهوب له من الرّدّ ، ثمّ هلكت بعد ذلك ، فإنّه يضمنها حينئذ ، لأنّ قبض الهبة قبض أمانة، والأمانة تضمن بالمنع والجحد بالطّلب ، لوجود التّعدّي منه .



ب - حال ما إذا وهبه مشاعاً قابلاً للقسمة كالأرض الكبيرة ، والدّار الكبيرة ، فإنّها هبة صحيحة عند الجمهور ، لأنّها عقد تمليك ، والمحلّ قابل له ، فأشبهت البيع لكنّها فاسدة عند الحنفيّة ، لأنّ القبض شرط في الهبة ، وهو غير ممكن في المشاع ، ولا ينفذ تصرّف الموهوب له فيها ، وتكون مضمونةً عليه ، وينفذ تصرّف الواهب فيها .



رابعاً : العقود المزدوجة الأثر :



ضمان الإجارة :



إذا كانت الإجارة : تمليك المنفعة بعوض ، فإنّ المنفعة ضربان :



أ - فقد تكون المنفعة بمجرّدها هي المعقود عليها ، وتتحدّد بالمدّة ، كإجارة الدّور للسّكنى ، والحوانيت للتّجارة ، والسّيّارات للنّقل ، والأواني للاستعمال .



ب - وقد تكون المنفعة المعقود عليها عملاً معلوماً يؤدّيه العامل ، كبناء الدّار ، وخياطة الثّوب ، وإصلاح الأجهزة الآليّة ، ونحو ذلك .



ج - فإذا كانت المنفعة المعقود عليها ، وهي مجرّد السّكنى أو الرّكوب ، أو نحوهما ، يفرّق في الضّمان ، بين العين المأجورة ، وبين المنفعة المعقود عليها :



أ - فتعتبر الدّار المأجورة ، والسّيّارة المستأجرة - مثلاً - أمانةً في يد المستأجر ، حتّى لو خربت الدّار ، أو عطبت السّيّارة ، وهي في يده ، بغير تفريط ولا تقصير ، لا ضمان عليه ، لأنّ قبض الإجارة - كما يقول الكاسانيّ - قبض مأذون فيه ، فلا يكون مضموناً ، كقبض الوديعة والعاريّة ، سواء أكانت الإجارة صحيحةً أم فاسدةً .



ونصّ الشّافعيّة على أنّ يد المستأجر على العين المأجورة يد أمانة كذلك ، بعد انتهاء عقد الإجارة ، إذا لم يستعملها ، في الأصحّ ، استصحاباً لما كان ، كالمودع ، وفي قول ثان : يد ضمان .



قال السّبكيّ : فإن تلفت عقب انقضاء المدّة ، قبل التّمكّن من الرّدّ على المالك ، أو إعلامه ، فلا ضمان جزماً ، أمّا إذا استعملها فإنّه يضمنها قطعاً .



فلو شرط المؤجّر على المستأجر ضمان العين المأجورة ، فهو شرط فاسد ، لأنّه ينافي مقتضى العقد ، وفي فساد الإجارة فيه وجهان ، بناءً على الشّروط الفاسدة في البيع . وصرّح الحنفيّة بأنّ اشتراط الضّمان على الأمين باطل .



وقال ابن قدامة : ما لا يجب ضمانه ، لا يصيّره الشّرط مضموناً ، وما يجب ضمانه ، لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه .



وروي عن أحمد ما يدلّ على نفي الضّمان بشرطه ، ووجوبه بشرطه ، استدلاّ بحديث : » المسلمون على شروطهم « .



ب - أمّا المنفعة المعقود عليها ، وهي : السّكنى أو الرّكوب ، فهي مضمونة ، بضمان بدلها على المستأجر بمجرّد تمكّنه من استيفائها ، إذا كانت الإجارة صحيحةً ، بلا خلاف ، سواء انتفع بها المستأجر أم لم ينتفع وفيها : تلزم الأجرة في الإجارة الصّحيحة - أيضاً - بالاقتدار على استيفاء المنفعة ، مثلاً : لو استأجر أحد داراً بإجارة صحيحة ، فبعد قبضها يلزمه إعطاء الأجرة ، وإن لم يسكنها .



أمّا إذا كانت الإجارة فاسدةً فقد اختلف في الضّمان الواجب فيها : فمذهب الجمهور ، وزفر من الحنفيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد - أشار إليها ابن رجب - أنّها كالصّحيحة ، وأنّه يجب في الضّمان أجر المثل ، بالغاً ما بلغ ، لأنّ المنافع متقوّمة ، فتجب القيمة بالغةً ما بلغت ، والإجارة بيع المنافع ، فتعتبر ببيع الأعيان ، وفي بيع الأعيان إذا فسد البيع تعتبر القيمة ، بالغةً ما بلغت ، فكذا بيع المنافع .



والحنفيّة عدا زفر ، وهو الرّاوية الثّانية عن الإمام أحمد ، يرون التّفرقة بين الصّحيحة والفاسدة : ففي الصّحيحة : يضمن الأجرة المتّفق عليها ، مهما بلغت .



أمّا في الفاسدة ، فضمان الأجرة منوط باستيفاء المنفعة ، ولا تجب الأجرة إلاّ بالانتفاع ، ويقول ابن رجب في توجيه هذه الرّواية : ولعلّها راجعة إلى أنّ المنافع لا تضمن في الغصب ونحوه ، إلاّ بالانتفاع ، وهو الأشبه .



أمّا إذا كانت المنفعة المعقود عليها هي إنجاز عمل من الأعمال ، كالبناء والخياطة ونحوهما ، فإنّ الضّمان يختلف بحسب صفة العامل ، وهو الأجير في اصطلاحهم لأنّه إمّا أن يكون أجيراً خاصّاً ، أو مشتركاً أي عامّاً .



والأجير الخاصّ هو الّذي يتقبّل العمل من واحد ، أو يعمل لواحد مدّةً معلومةً ، ويستحقّ الأجر بالوقت دون العمل .



والأجير المشترك ، هو الّذي يتقبّل العمل من غير واحد ، ولا يستحقّ الأجر حتّى يعمل ، والضّابط : أنّ : كلّ من ينتهي عمله بانتهاء مدّة معلومة فهو أجير واحد - أي خاصّ - وكلّ من لا ينتهي عمله بانتهاء مدّة مقدّرة ، فهو أجير مشترك .



ضمان الرّهن :



اختلف الفقهاء في ضمان الرّهن ، إذا هلكت العين المرهونة عند المرتهن ، بعد قبضها وبعد تحقّق شروط الرّهن :



فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الرّهن أمانة في يد المرتهن ، لا يلزمه ضمانه ، إلاّ إذا تعدّى فيه ، أو امتنع من ردّه بعد طلبه منه أو بعد البراءة من الدّين ، ولا يسقط بشيء من الدّين بهلاكه - أي الرّهن - من غير تعدّ ، وذلك : لما روى الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » لا يغلق الرّهن من صاحبه الّذي رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه « .



وذهب الحنفيّة إلى أنّ الرّهن إذا قبضه المرتهن ، كانت ماليّته مضمونةً ، أمّا عينه فأمانة ، وذلك : لما روي عن عطاء أنّه حدّث : » أنّ رجلاً رهن فرساً ، فنفق في يده ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمرتهن : ذهب حقّك « .



ولحديث عطاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » الرّهن بما فيه « ومعناه : أنّه مضمون بالدّين الّذي وضع في مقابله .



وذهب المالكيّة إلى ضمان الرّهن بشروط :



أ - أن يكون الرّهن في يد المرتهن ، لا في يد غيره ، كالعدل .



ب - أن يكون الرّهن ممّا يغاب عليه ، أي يمكن إخفاؤه ، كالحليّ والسّلاح والكتب والثّياب.



ج - أن لا تقوم بيّنة على هلاكه أو تلفه بغير سببه ، كالحريق الغالب ، وغارات الأعداء ، ومصادرة البغاة ، فإذا وجدت هذه الشّروط ، ضمن المرتهن ، ولو شرط في عقد الرّهن البراءة وعدم ضمانه ، لأنّ هذا إسقاط للشّيء قبل وجوبه ، والتّهمة موجودة ، خلافاً لأشهب ، القائل بعدم الضّمان عند الشّرط .



وفي اعتبار قيمة الرّهن المضمون ، بعض الخلاف والتّفصيل :



فنصّ الحنفيّة ، على أنّ قيمة المرهون إذا هلك ، تعتبر يوم القبض ، لأنّه يومئذ دخل في ضمانه ، وفيه يثبت الاستيفاء يداً ، ثمّ يتقرّر بالهلاك .



أمّا إذا استهلكه المرتهن أو أجنبيّ ، فتعتبر قيمته يوم الاستهلاك ، لوروده على العين المودعة ، وتكون القيمة رهناً عنده .



وللمالكيّة - في اعتبار قيمة الرّهن التّالف - ثلاثة أقوال ، كلّها مرويّة عن ابن القاسم : الأوّل : يوم التّلف لأنّ عين الرّهن كانت قائمةً ، فلمّا تلفت قامت قيمتها مقامها .



الثّاني : يوم القبض ، لأنّه كشاهد ، وضع خطّه ومات ، فيعتبر خطّه ، وتعتبر عدالته يوم كتبه .



الثّالث : يوم عقد الرّهن ، قال الباجيّ : وهو أقرب ، لأنّ النّاس إنّما يرهنون ما يساوي الدّين المرهون فيه غالباً .



ضمان الرّهن الموضوع على يد العدل :



يصحّ وضع الرّهن عند عدل ثالث ، غير الرّاهن والمرتهن ، ويتمّ ويلزم بقبض العدل، لأنّ يده كيد المرتهن



ولا يأخذه أحدهما منه ، لأنّه تعلّق حقّ الرّاهن في الحفظ بيده ، وتعلّق حقّ المرتهن به استيفاءً ، فلا يملك أحدهما إبطال حقّ الآخر .



ولو دفع الرّهن إلى أحدهما ضمن ، لتعلّق حقّهما به ، لأنّه مودع الرّاهن في حقّ العين ، ومودع المرتهن في حقّ الماليّة ، وكلاهما أجنبيّ عن صاحبه ، والمودع يضمن بالدّفع إلى الأجنبيّ .



ولو هلك الرّهن في يد العدل :



فعند الحنفيّة يهلك من ضمان المرتهن ، لأنّ يده في حقّ الماليّة يد المرتهن ، وهي المضمونة ، فإذا هلك ، هلك في ضمان المرتهن .



ومذهب مالك : أنّه إذا هلك في يد الأمين ، هلك من ضمان الرّاهن .



ونصّ المالكيّة : على أنّ الأمين إذا دفع الرّهن إلى الرّاهن أو المرتهن بغير إذن وتلف : فإن سلّمه إلى الرّاهن ، ضمن قيمته للمرتهن ، أو ضمن له الدّين المرهون هو فيه ، فيضمن أقلّهما .



وإن سلّمه إلى المرتهن ، ضمن قيمة الرّهن للرّاهن .



الضّمان في الصّلح عن مال بمنفعة :



إذا وقع الصّلح عن مال بمنفعة ، كسكنى دار ، وركوب سيّارة ، مدّةً معلومةً ، اعتبر هذا الصّلح بمثابة عقد إجارة ، وعبارة التّنوير : وكإجارة إن وقع عن مال بمنفعة .



كما لو كان لشخص على آخر ألف دينار ، فصالحه المدين على سكنى داره ، أو على زراعة أرضه ، أو ركوب سيّارته ، مدّةً معلومةً ، جاز هذا الصّلح .



وتثبت لهذا النّوع من الصّلح شروط الإجارة ، منها التّوقيت - إن احتيج إليه - وتثبت فيه أحكامها - كما يقول النّوويّ - ومن أهمّها : اعتبار العين المتصالح على منفعتها ، كالدّار والسّيّارة ، أمانةً في يد المصالح ، أمّا المنفعة ذاتها فإنّها مضمونة على المصالح ، بمجرّد تسلّم العين ، فإذا مضت مدّة الصّلح المتّفق عليها ، اعتبر المصالح مستوفياً لبدل الصّلح حكماً ، سواء استوفى المنفعة فعلاً أو عطّلها ، كما تقرّر في العين المستأجرة في يد المستأجر في الإجارة .










مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الرابع








يد الأمانة ويد الضّمان :



المشهور تقسيم اليد إلى قسمين : يد أمانة ، ويد ضمان .



ويد الأمانة : حيازة الشّيء أو المال ، نيابةً لا تملّكاً ، كيد الوديع ، والمستعير ، والمستأجر، والشّريك ، والمضارب وناظر الوقف ، والوصيّ .



ويد الضّمان : حيازة المال للتّملّك أو لمصلحة الحائز ، كيد المشتري والقابض على سوم الشّراء ، والمرتهن ، والغاصب والمالك ، والمقترض .



وحكم يد الأمانة ، أنّ واضع اليد أمانةً ، لا يضمن ما هو تحت يده ، إلاّ بالتّعدّي أو التّقصير، كالوديع فإنّه إذا أودع الوديعة عند من لا يودع مثلها عند مثله يضمنها .



وحكم يد الضّمان ، أنّ واضع اليد على المال ، على وجه التّملّك أو الانتفاع به لمصلحة نفسه ، يضمنه في كلّ حال ، حتّى لو هلك بآفة سماويّة ، أو عجز عن ردّه إلى صاحبه ، كما يضمنه بالتّلف والإتلاف .



فالمالك ضامن لما يملكه وهو تحت يده ، فإذا انتقلت اليد إلى غيره بعقد البيع ، أو بإذنه ، كالمقبوض على سوم الشّراء ، أو بغير إذنه كالمغصوب ، فالضّمان في ذلك على ذي اليد . ولو انتقلت اليد إلى غيره ، بعقد وديعة أو عاريّة ، فالضّمان - أيضاً - على المالك .



أهمّ الأحكام والفوارق بين هاتين اليدين :



أ - تأثير السّبب السّماويّ :



إذا هلك الشّيء بسبب لا دخل للحائز فيه ولا لغيره ، انتفى الضّمان في يد الأمانة ، لا في يد الضّمان ، فلو هلكت العاريّة في يد المستعير بسبب الحرّ أو البرد ، لا يضمن المستعير ، لأنّ يده يد أمانة .



بخلاف يد البائع قبل تسليم المبيع إلى المشتري ، فإنّه لا ينتفي الضّمان بهلاكه بذلك ، بل يفسخ العقد ، ويسقط الثّمن ، لعدم الفائدة من بقائه ، لعجز البائع عن تسليم المبيع كلّما طالب بالثّمن ، فامتنعت المطالبة ، وارتفع العقد كأن لم يكن .



والمذهب عند مالك ، انتقال الضّمان إلى المشتري بنفس العقد .



ب - تغيّر صفة وضع اليد :



تتغيّر صفة يد الأمين وتصبح يد ضمان بالتّعدّي ، فإذا تلف الشّيء بعد ذلك ضمنه ، مهما كان سبب التّلف ، ولو سماويّاً .



أ - ففي الإجارة ، يعتبر الأجير المشترك أميناً - عند أبي حنيفة - والمتاع في يده أمانة ، لا يضمن إن هلك بغير عمله ، إلاّ إن قصّر في حفظه ، كالوديع إذا قصّر في حفظ الوديعة ، أو تعمّد الإتلاف ، أو تلف المتاع بفعله ، كتمزّق الثّوب من دقّه .



ب - وفي الوديعة ، يضمن إذا ترك الحفظ الملتزم ، كأن رأى إنساناً يسرق الوديعة ، فتركه وهو قادر على المنع ، أو خالف في كيفيّة الحفظ ، أو أودعها من ليس في عياله ، أو عند من لا تودع عند مثله ، أو سافر بها ، أو جحدها كما تقدّم .



ج - وفي العاريّة ، وهي أمانة عند الجمهور ، ما عدا الحنابلة ، لا تضمن إن هلكت بالانتفاع المعتاد ، وتضمن بالتّعدّي ، كأن يدلّ عليها سارقاً أو يتلفها أو يمنعها من المعير بعد الطّلب ، على تفصيل بين ما يغاب وما لا يغاب عند المالكيّة .



ج - الموت عن تجهيل :



معنى التّجهيل : أن لا يبيّن حال الأمانة الّتي عنده ، وهو يعلم أنّ وارثه لا يعلم حالها، كذلك فسّرها ابن نجيم ، فالوديع إذا مات مجهلاً حال الوديعة الّتي عنده ، ووارثه لا يعلم حالها ، يضمنها بذلك .



ومعنى ضمانها - كما يقول ابن نجيم - صيرورتها ديناً في تركته .



وكذلك ناظر الوقف ، إذا مات مجهلاً لحال بدل الوقف ، فإنّه يضمنه .



وكذا كلّ شيء أصله أمانة يصير ديناً في التّركة بالموت عن تجهيل .



ونصّ الشّافعيّة على أنّ ترك الإيصاء في الوديعة يستوجب الضّمان ، وقالوا : إذا مرض المودع مرضاً مخوفاً ، أو حبس ليقتل لزمه أن يوصي ، فإن سكت عن ذلك لزمه الضّمان ، لأنّه عرّضها للفوات ، لأنّ الوارث يعتمد ظاهر العين ، ولا بدّ في الوصيّة من بيان الوديعة ، حتّى لو قال : عندي لفلان ثوب ، ولم يوجد في تركته ، ضمن لعدم بيانه .



د - الشّرط :



لا أثر للشّرط في صفة اليد المؤتمنة عند الأكثرين .



قال البغداديّ : اشتراط الضّمان على المستعير باطل ، وقيل : تصير مضمونةً .



وقال التّمرتاشيّ : واشتراط الضّمان على الأمين باطل ، به يفتى ، فلو شرط المؤجّر على المستأجر ضمان العين المؤجّرة ، فالشّرط فاسد .



ولو شرط المودع على الوديع ضمان الوديعة فالشّرط باطل ، ولا ضمان لو تلفت وكذا الحكم في سائر الأمانات .



وعلّله المالكيّة ، بأنّه لما فيه من إخراجها عن حقيقتها الشّرعيّة .



وقال الحنابلة : لأنّه شرط ينافي مقتضى العقد ، ولو قال الوديع : أنا ضامن لها لم يضمن ما تلف بغير تعدّ ولا تقصير ، لأنّ ضمان الأمانات غير صحيح .



ونصّ القليوبيّ على أنّ شرط الأمانة في العاريّة - وهي مضمونة عند الشّافعيّة إذا هلكت بغير الاستعمال - هو شرط مفسد على المعتمد ، وشرط أن لا ضمان فيها فاسد لا مفسد . وجاء في نصوص الحنابلة : كلّ ما كان أمانةً لا يصير مضموناً بشرطه ، لأنّ مقتضى العقد كونه أمانةً ، فإذا شرط ضمانه ، فقد التزم ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه ، فلم يلزمه ، كما لو اشترط ضمان الوديعة ، أو ضمان مال في يد مالكه .



وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه ، لأنّ مقتضى العقد الضّمان ، فإذا شرط نفي ضمانه لا ينتفي مع وجود سببه ، كما لو اشترط نفي ضمان ما يتعدّى فيه .



وعن أحمد أنّه ذكر له ذلك ، فقال : " المؤمنون على شروطهم " ، وهذا يدلّ على نفي الضّمان بشرطه ، والأوّل ظاهر المذهب ، لما ذكرناه .



القواعد الفقهيّة في الضّمان :



القواعد في الضّمان كثيرة ، نشير إلى أهمّها ، باختصار في التّعريف بها ، والتّمثيل لها ، كلّما دعت الحاجة مرتّبةً بحسب أوائل حروفها :



القاعدة الأولى :



الأجر والضّمان لا يجتمعان :



الأجر هو : بدل المنفعة . والضّمان - هنا - هو : الالتزام بقيمة العين المنتفع بها ، هلكت أو لم تهلك ، وهذه القاعدة من قواعد الحنفيّة ، المتّصلة برأيهم في عدم ضمان منافع المغصوب ، خلافاً للجمهور .



فلو استأجر دابّةً أو سيّارةً ، لحمل شيء معيّن ، فحمّلها شيئاً آخر أو أثقل منه بخلاف جنسه ، كأن حمل مكان القطن حديداً فتلفت ، ضمن قيمتها ، ولا أجر عليه ، لأنّها هلكت بغير المأذون فيه .



وكذا لو استأجرها ، ليركبها إلى مكان معيّن ، فذهب بها إلى مكان آخر فهلكت ، ضمن قيمتها ، ولا أجر عليه ، لأنّ الأجر والضّمان لا يجتمعان ، عند الحنفيّة .



لكن القاعدة مشروطة عندهم ، بعدم استقرار الأجر في ذمّة الضّامن ، كما لو استوفى منفعة الدّابّة - مثلاً - فعلاً ، ثمّ تجاوز فصار غاصباً ، وضمن ، يلزمه أجر ما سمّى عندهم ، إذا سلمت الدّابّة ولم تهلك .



والجمهور يوجبون الأجر كلّما كان للمغصوب أجر ، لأنّ المنافع متقوّمة كالأعيان ، فإذا تلفت أو أتلفها فقد أتلف متقوّماً ، فوجب ضمانه كالأعيان وإذا ذهب بعض أجزاء المغصوب في مدّة الغصب ، وجب مع الأجرة أرش نقصه لانفراد كلّ بإيجاب .



وللمالكيّة أقوال : وافقوا في بعضها الحنفيّة ، وفي بعضها الجمهور وانفردوا بتفصيل في بعضها .



القاعدة الثّانية :



إذا اجتمع المباشر والمتسبّب يضاف الحكم إلى المباشر .



المباشر للفعل : هو الفاعل له بالذّات ، والمتسبّب هو المفضي والموصّل إلى وقوعه، ويتخلّل بين فعله وبين الأثر المترتّب عليه فعل فاعل مختار ، والمباشر يحصل الأثر بفعله من غير تخلّل فعل فاعل مختار .



وإنّما قدّم المباشر لأنّه أقرب لإضافة الحكم إليه من المتسبّب ، قال خليل : وقدّم عليه المردي فلو حفر رجل بئراً في الطّريق العامّ ، بغير إذن من وليّ الأمر ، فألقى شخص حيوان غيره في تلك البئر ، ضمن الّذي ألقى الحيوان ، لأنّه العلّة المؤثّرة ، دون حافر البئر، لأنّ التّلف لم يحصل بفعله .



ولو وقع الحيوان فيه بغير فعل أحد ، ضمن الحافر ، لتسبّبه بتعدّيه بالحفر بغير إذن . وكذلك لو دلّ سارقاً على متاع ، فسرقه المدلول ، ضمن السّارق لا الدّالّ .



ولذا لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ، فوجأ به نفسه ، لا يضمن الدّافع ، لتخلّل فعل فاعل مختار . ولو وقع السّكّين على رجل الصّبيّ فجرحها ضمن الدّافع .



القاعدة الثّالثة :



الاضطرار لا يبطل حقّ الغير .



تطّرد هذه القاعدة سواء أكان الاضطرار فطريّاً كالجوع ، أم غير فطريّ كالإكراه ، فإنّه يسقط الإثم ، وعقوبة التّجاوز ، أمّا حقّ الآخرين فلا يتأثّر بالاضطرار ، ويبقى المال مضموناً بالمثل إن كان مثليّاً ، والقيمة إن كان قيميّاً .



فلو اضطرّ في مخمصة إلى أكل طعام غيره ، جاز له أكله ، وضمن قيمته ، لعدم إذن المالك، وإنّما الّذي وجد هو إذن الشّرع الّذي أسقط العقوبة فقط .



القاعدة الرّابعة :



الأمر بالتّصرّف في ملك الغير باطل .



الأمر : هو طلب الفعل جزماً ، فإذا أمر شخص غيره بأخذ مال شخص آخر أو بإتلافه عليه فلا عبرة بهذا الأمر ، ويضمن الفاعل .



وهذه القاعدة مقيّدة : بأن يكون المأمور عاقلاً بالغاً ، فإذا كان صغيراً ، كان الضّمان على الآمر .



وأن لا يكون الآمر ذا ولاية وسلطان على المأمور .



فلو كان الآمر هو السّلطان أو الوالد ، كان الضّمان عليهما .



القاعدة الخامسة :



جناية العجماء جبار .



هذه القاعدة مقتبسة من حديث شريف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » العجماء جرحها جبار « .



والعجماء : البهيمة ، لأنّها لا تفصح ، ومعنى جبار : أنّه هدر وباطل .



والمراد أنّها إذا كانت مسيّبةً حيث تسيّب الحيوانات ، ولا يد عليها ، أمّا لو كان معها راكب فيضمن ، فلو اصطادت هرّته طائراً لغيره لم يضمن .



القاعدة السّادسة :



الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان .



يعني إذا ترتّب على الفعل الجائز المباح شرعاً ، ضرر للآخرين ، لا يضمن الضّرر . فلو حفر حفرةً في ملكه ، أو في الطّريق ، بإذن الحاكم ، فتردّى فيها حيوان أو إنسان ، لا يضمن الحافر شيئاً .



وهذا مقيّد بشرطين :



1 - أن لا يكون المباح مقيّداً بشرط السّلامة ، فيضمن - مثلاً - راكب السّيّارة وقائد الدّابّة أو راكبها في الطّريق .



2 - أن لا يكون في المباح إتلاف الآخرين وإلاّ كان مضموناً .



فيضمن ما يتلفه من مال غيره للمخمصة ، مع أنّ أكله لأجلها جائز ، بل واجب .



القاعدة السّابعة :



الخراج بالضّمان .



الخراج : هو غلّة الشّيء ومنفعته ، إذا كانت منفصلةً عنه ، غير متولّدة منه . كسكنى الدّار ، وأجرة الدّابّة



والضّمان : هو التّعويض الماليّ عن الضّرر المادّيّ .



والمعنى : أنّ منافع الشّيء يستحقّها من يلزمه ضمانه لو هلك ، فتكون المنفعة في مقابل تحمّل خسارة هلاكه ، فما لم يدخل في ضمانه لا يستحقّ منافعه وقد » نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن « .



القاعدة الثّامنة :



الغرم بالغنم .



هذه القاعدة معناها أنّ التّكلّفات والغرامات الّتي تترتّب على الشّيء ، تجب على من استفاد منه وانتفع به ، مثال ذلك :



1 - نفقة ردّ العاريّة على المستعير ، لأنّه هو الّذي انتفع بها .



2 - ونفقة ردّ الوديعة على المودع ، لأنّه هو الّذي استفاد من حفظها .



3 - وأجرة كتابة عقد الملكيّة على المشتري ، لأنّها توثيق لانتقال الملكيّة إليه ، وهو المستفيد من ذلك .



القاعدة التّاسعة :



لا يجوز لأحد أخذ مال أحد بلا سبب شرعيّ .



هذه القاعدة مأخوذة من حديث : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه « .



فيحرم أخذ أموال الآخرين بالباطل كالغصب والسّرقة ونحوهما .










مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الخامس








أحكام الضّمان :



أحكام الضّمان - بوجه عامّ - تقسّم إلى هذه الأقسام :



1 - ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - .



2 - ضمان العقود .



3 - ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال ، كالإتلافات ، والغصوب .



وحيث تقدّم القول في ضمان العقود في أنواع الضّمان ومحلّه ، فنقصر القول على ضمان الدّماء ، وضمان الأفعال الضّارّة بالأموال .



ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - :



ضمان الدّماء أو الأنفس هو : الجزاء المترتّب على الضّرر الواقع على النّفس فما دونها .



ويشمل القصاص والحدود ، وهي مقدّرة ، كما يشمل التّعزير و حكومة العدل وهي غير مقدّرة من جهة الشّارع .



ويقسّم الضّمان - بحسب الجناية - إلى ثلاثة أقسام :



أ - ضمان الجناية على النّفس .



ب - ضمان الجناية على ما دون النّفس ، من الأطراف والجراح .



ج - ضمان الجناية على الجنين ، وهي : الإجهاض .



وبيان ذلك فيما يلي :



أوّلاً : ضمان الجناية على النّفس :



يتمثّل فيما يلي ، باعتبار أنواعها :



القتل العمد :



القتل العمد ، إذا تحقّقت شروطه ، فضمانه بالقصاص .



وأوجب الشّافعيّة وآخرون الكفّارة فيه أيضاً .



فإن امتنع القصاص ، أو تعذّر أو صالح عنه ، كان الضّمان بالدّية أو بما صولح عنه .



ويوجب المالكيّة حينئذ التّعزير ، كما يوجبون في القتل غيلةً - القتل على وجه المخادعة والحيلة - قتل القاتل تعزيراً ، إن عفا عنه أولياء المقتول .



كما يحرم القاتل من ميراث المقتول ووصيّته .



القتل الشّبيه بالعمد :



هو : القتل بما لا يقتل في الغالب - عند الجمهور - وبالمثقلات كذلك - عند أبي حنيفة ، من غير الحديد والمعدن - وإن كان المالكيّة يرون هذا من العمد .



وهو مضمون بالدّية المغلّظة في الحديث : » ألا وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد ، ما كان بالسّوط والعصا ، مائة من الإبل ، أربعون في بطونها أولادها « .



القتل الخطأ :



وهو مضمون بالدّية على العاقلة اتّفاقاً بالنّصّ الكريم ، وفيه كذلك الكفّارة والحرمان من الإرث والوصيّة وهذا لعموم النّصّ .



والضّمان كذلك في القتل الشّبيه بالخطأ في اصطلاح الحنفيّة ، ويتمثّل بانقلاب النّائم على شخص فيقتله ، أو انقلاب الأمّ على رضيعها فيموت بذلك .



القتل بسبب :



قال به الحنفيّة ، ويتمثّل بما لو حفر حفرةً في الطّريق ، فتردّى فيها إنسان فمات . وهو مضمون بالدّية فقط ، عندهم ، فلا كفّارة فيه ، ولا حرمان ، لانعدام القتل فيه حقيقةً ، وإنّما أوجبوا الدّية صوناً للدّماء عن الهدر .



والجمهور من الفقهاء ، يلحقون هذا النّوع من القتل بالخطأ في أحكامه ، ديةً ، وكفّارةً ، وحرماناً ، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل .



ثانياً : ضمان الجناية على ما دون النّفس :



وتتحقّق في الأطراف ، والجراح في غير الرّأس ، وفي الشّجاج .



أ - أمّا الأطراف : فحدّدت عقوبتها بالقصاص بالنّصّ ، في قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } .



وزاد مالك على ذلك التّعزير بالتّأديب ، ليتناهى النّاس .



فإذا امتنع القصاص ، بسبب العفو أو الصّلح أو لتعذّر المماثلة ، كان الضّمان بالدّية والأرش، وهو : اسم للواجب من المال فيما دون النّفس .



ب - وأمّا الجراح : فخاصّة بما كان في غير الرّأس ، فإذا كانت جائفةً ، أي بالغة الجوف ، فلا قصاص فيها اتّفاقاً ، خشية الموت .



وإذا كانت غير جائفة ، ففيها القصاص عند جمهور الفقهاء في الجملة خلافاً للحنفيّة الّذين منعوا القصاص فيها مطلقاً لتعذّر المماثلة .



فإن امتنع القصاص في الجراح ، وجبت الدّية : ففي الجائفة يجب ثلث الدّية ، لحديث : » في الجائفة ثلث العقل « .



وفي غير الجائفة حكومة عدل ، وفسّرت بأنّها أجرة الطّبيب وثمن الأدوية .



ج - وأمّا الشّجاج : وهي ما يكون من الجراح في الوجه والرّأس فإن تعذّر القصاص فيها : ففيه الأرش مقدّراً ، كما في الموضحة ، لحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، خمس من الإبل « .



وقد يكون غير مقدّر ، فتجب الحكومة .



ومذهب الجمهور : أنّ ما دون الموضحة ، ليس فيه أرش مقدّر ، لما روي : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء « . فتجب فيه الحكومة .



ومذهب أحمد أنّه ورد التّقدير في أرش الموضحة ، وفيما دونها ، كما ورد فيما فوقها فيعمل به .



ثالثاً : ضمان الجناية على الجنين :



وهي الإجهاض ، فإذا سقط الجنين ميّتاً بشروطه ، فضمانه بالغرّة اتّفاقاً ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان ، بغرّة عبد أو أمة « .



وتجب عند الجمهور في مال العاقلة خلافاً للمالكيّة والحنابلة الّذين أوجبوها في مال الجاني . ولا كفّارة فيها عند الحنفيّة ، وإنّما تندب ، وأوجبها الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الجنين آدميّ معصوم ، وإذا لم توجد الرّقبة ، انتقلت العقوبة إلى بدلها مالاً ، وهو : نصف عشر دية الرّجل ، وعشر دية المرأة .



ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :



تتمثّل الأفعال الضّارّة بالأموال في الإتلافات الماليّة ، والغصوب ، ونحوها .



ولضمان هذا النّوع من الأفعال الضّارّة ، أحكام عامّة ، وأحكام خاصّة :



أوّلاً : الأحكام العامّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :



تقوم فكرة هذا النّوع من الضّمان - خلافاً لما تقدّم في ضمان الأفعال الضّارّة بالأنفس - على مبدأ جبر الضّرر المادّيّ الحائق بالآخرين ، أمّا في تلك فهو قائم على مبدأ زجر الجناة وردع غيرهم .



والتّعبير بالضّمان عن جبر الضّرر وإزالته ، هو التّعبير الشّائع في الفقه الإسلاميّ ، وعبّر بعض الفقهاء من المتأخّرين بالتّعويض ، كما فعل ابن عابدين .



وتوسّع الفقهاء في هذا النّوع في أنواع الضّمان وتفصيل أحكامه ، حتّى أفرده البغداديّ بالتّصنيف في كتابه : مجمع الضّمانات .



ومن أهمّ قواعد الضّمان قاعدة : الضّرر يزال .



وإزالة الضّرر الواقع على الأموال يتحقّق بالتّعويض الّذي يجبر فيه الضّرر .



وقد عرّف الفقهاء الضّمان بهذا المعنى ، بأنّه : ردّ مثل الهالك أو قيمته .



وعرّفه الشّوكانيّ بأنّه : عبارة عن غرامة التّالف .



وكلا التّعريفين يستهدف إزالة الضّرر ، وإصلاح الخلل الّذي طرأ على المضرور ، وإعادة حالته الماليّة إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضّرر .



طريقة التّضمين :



القاعدة العامّة في تضمين الماليّات هي : مراعاة المثليّة التّامّة بين الضّرر ، وبين العوض ، كلّما أمكن ، قال السّرخسيّ : " ضمان العدوان مقدّر بالمثل بالنّصّ " يشير إلى قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } .



والمثل وإن كان به يتحقّق العدل ، لكن الأصل أن يردّ الشّيء الماليّ المعتدى فيه نفسه ، كلّما أمكن ، ما دام قائماً موجوداً ، لم يدخله عيب ينقص من منفعته ، وهذا الحديث الحسن، عن سمرة رضي الله تعالى عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « .



بل هذا هو الموجب الأصليّ في الغصب ، الّذي هو أوّل صور الضّرر وأهمّها .



فإذا تعذّر ردّ الشّيء بعينه ، لهلاكه أو استهلاكه أو فقده ، وجب حينئذ ردّ مثله ، إن كان مثليّاً ، أو قيمته إن كان قيميّاً .



والمثليّ هو : ما له مثل في الأسواق ، أو نظير ، بغير تفاوت يعتدّ به ، كالمكيلات ، والموزونات ، والمذروعات ، والعدديّات المتقاربة .



والقيميّ هو : ما ليس له مثل في الأسواق ، أو هو ما تتفاوت أفراده ، كالكتب المخطوطة ، والثّياب المفصّلة المخيطة لأشخاص بأعيانهم .



والمثل أعدل في دفع الضّرر ، لما فيه من اجتماع الجنس والماليّة .



والقيمة تقوم مقام المثل ، في المعنى والاعتبار الماليّ .



وقت تقدير التّضمين :



تناول الفقهاء هذه المسألة ، في المغصوب - على التّخصيص - إذا كان مثليّاً ، وفقد من السّوق ، وقد اختلفت أنظارهم فيها على الوجه التّالي :



ذهب أبو يوسف : إلى اعتبار القيمة يوم الغصب ، لأنّه لمّا انقطع من السّوق التحق بما لا مثل له ، فتعتبر قيمته يوم انعقاد السّبب ، وهو الغصب ، كما أنّ القيميّ تعتبر قيمته كذلك يوم الغصب .



وذهب محمّد : إلى اعتبار القيمة يوم الانقطاع ، لأنّ الواجب هو المثل في الذّمّة وإنّما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع ، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع .



ومذهب أبي حنيفة : اعتبار القيمة يوم القضاء ، لأنّ الواجب هو المثل ، ولا ينتقل إلى القيمة بمجرّد الانقطاع ، لأنّ للمغصوب منه أن ينتظر حتّى يوجد المثل ، بل إنّما ينتقل بالقضاء ، فتعتبر القيمة يوم القضاء .



أمّا القيميّ إذا تلف ، فتجب قيمته يوم الغصب اتّفاقاً .



أمّا في الاستهلاك : فكذلك عند الإمام وعندهما يوم الاستهلاك .



ومذهب المالكيّة : أنّ ضمان القيمة يعتبر يوم الغصب والاستيلاء على المغصوب سواء أكان عقاراً ، أم غيره ، لا يوم حصول المفوّت ، ولا يوم الرّدّ ، وسواء أكان التّلف بسماويّ أم بجناية غيره عليه .



وفي الإتلاف والاستهلاك - في غير المثليّات - كالعروض والحيوان ، تعتبر يوم الاستهلاك والإتلاف .



والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ المثليّ إذا تعذّر وجوده ، في بلده وحواليه تعتبر أقصى قيمة ، من وقت الغصب إلى تعذّر المثل ، وفي قول إلى التّلف ، وفي قول إلى المطالبة .



وإذا كان المثل مفقوداً عند التّلف ، فالأصحّ وجوب أكثر القيم من وقت الغصب إلى التّلف ، لا إلى وقت الفقد .



وأمّا المتقوّم فيضمن في الغصب بأقصى قيمة من الغصب إلى التّلف .



وأمّا الإتلاف بلا غصب ، فتعتبر قيمته يوم التّلف ، لأنّه لم يدخل في ضمانه قبل ذلك ، وتعتبر في موضع الإتلاف ، إلاّ إذا كان المكان لا يصلح لذلك كالمفازة ، فتعتبر القيمة في أقرب البلاد .



ومذهب الحنابلة : أنّه يجب ردّ قيمة المغصوب ، إن لم يكن مثليّاً ، يوم تلفه في بلد غصبه من نقده ، لأنّ ذلك زمن الضّمان وموضع الضّمان ومنصرف اللّفظ عند الإطلاق – كالدّينار- كما يقول البهوتيّ إن لم تختلف قيمة التّالف ، من حين الغصب إلى حين الرّدّ . فإن اختلفت لمعنىً في التّالف من كبر وصغر وسمن وهزال - ونحوها - ممّا يزيد في القيمة وينقص منها ، فالواجب ردّ أكثر ما تكون عليه القيمة من حين الغصب إلى حين الرّدّ، لأنّها مغصوبة في الحال الّتي زادت فيها ، والزّيادة مضمونة لمالكها .



وإن كان المغصوب مثليّاً يجب ردّ مثله ، فإن فقد المثل ، فتجب القيمة يوم انقطاع المثل ، لأنّ القيمة وجبت في الذّمّة حين انقطاع المثل ، فاعتبرت القيمة حينئذ ، كتلف المتقوّم . وقال القاضي : تجب قيمته يوم قبض البدل ، لأنّ الواجب هو المثل ، إلى حين قبض البدل ، بدليل أنّه لو وجد المثل بعد فقده ، لكان الواجب هو المثل دون القيمة ، لأنّه الأصل ، قدر عليه قبل أداء البدل ، فأشبه القدرة على الماء بعد التّيمّم



تقادم الحقّ في التّضمين :



التّقادم - أو مرور الزّمان - هو : مضيّ زمن طويل ، على حقّ أو عين في ذمّة إنسان ، لغيره دون مطالبة بهما ، مع قدرته عليها .



والشّريعة - بوجه عامّ - اعتبرت التّقادم مانعاً من سماع الدّعوى ، في الملك وفي الحقّ ، مع بقائهما على حالهما السّابقة ، ولم تعتبره مكسباً لملكيّة أو قاطعاً لحقّ .



فيقول الحصكفيّ : القضاء مظهر لا مثبت ، ويتخصّص بزمان ومكان وخصومة حتّى لو أمر السّلطان بعدم سماع الدّعوى ، بعد خمس عشرة سنةً ، فسمعها القاضي ، لم ينفذ .



ونقل ابن عابدين عن الأشباه وغيرها ، أنّ الحقّ لا يسقط بتقادم الزّمان .



فبناءً على هذا يقال : إذا لم يرفع الشّخص المضرور دعوى ، يطالب فيها بالضّمان أو التّعويض عن الضّرر ، ممّن ألحقه به ، مدّة خمسة عشر عاماً ، سقط حقّه ، قضاءً فقط لا ديانةً ، في إقامة الدّعوى من جديد ، إلاّ إذا كان المضرور غائباً ، أو كان مجنوناً أو صبيّاً وليس له وليّ ، أو كان المدّعى عليه حاكماً جائراً ، أو كان ثابت الإعسار خلال هذه المدّة ، ثمّ أيسر بعدها ، فإنّه يبقى حقّه في إقامة الدّعوى قائماً ، مهما طال الزّمن بسبب العذر ، الّذي ينفي شبهة التّزوير .



وكذلك إذا أمر السّلطان العادل نفسه بسماع هذه الدّعوى ، بعد مضيّ خمسة عشر عاماً أو سمعها بنفسه - كما يقول ابن عابدين - حفظاً لحقّ المضرور ، إذا لم يظهر منه ما يدلّ على التّزوير .



وكذلك إذا أقرّ الخصم بحقّ المضرور في الضّمان ، والتّعويض عن الضّرر ، بعد مضيّ هذه المدّة ، فإنّه يتلاشى بذلك مضيّ الزّمن ويسقط لظهور الحقّ بإقراره وهذا كما جاء في كتب الحنفيّة .






مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء السادس








الأحكام الخاصّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :



قد ذكرنا أنّ القاعدة في الضّمان ، هي ردّ العين أصلاً ، وإذا تعذّر ردّ العين ، وجب الضّمان بردّ المثل في المثليّات ، ودفع القيمة في القيميّات .



ونذكر - هنا - التّضمين في أحوال خاصّة مستثناة من الأصل ، إذ يحكم فيها بالتّعويض الماليّ أحياناً ، وبالتّخيير بينه وبين ضمان المثل في أحيان أخرى ، وهي : قطع الشّجر ، وهدم المباني ، والبناء على الأرض المغصوبة ، أو الغرس فيها ، وقلع عين الحيوان ، وتفصيل القول فيها كما يلي :



أ - قطع الشّجر :



لو قطع شخص لآخر ، شجر حديقته ، ضمن قيمة الشّجر ، لأنّه ليس بمثليّ . وطريق معرفته : أن تقوّم الحديقة مع الشّجر القائم ، وتقوّم بدونه فالفضل هو قيمته ، فالمالك مخيّر بين أن يضمّنه تلك القيمة ، ويدفع له الأشجار المقطوعة ، وبين أن يمسكها ، ويضمّنه نقصان تلك القيمة .



ولو كانت قيمة الأشجار مقطوعةً وغير مقطوعة سواء ، برئ .



ولو أتلف شجرةً من ضيعة ، ولم يتلف به شيء ، قيل : تجب قيمة الشّجرة المقطوعة ، وقيل تجب قيمتها نابتةً ، ولو أتلف شجرةً ، قوّمت مغروسةً وقوّمت مقطوعةً ، ويغرم ما بينهما .



ولو أتلف ثمارها ، أو نفضها لمّا نوّرت ، حتّى تناثر نورها ، قوّمت الشّجرة مع ذلك ، وقوّمت بدونها فيغرم ما بينهما ، وكذا الزّرع .



ب - هدم المباني :



إذا هدم إنسان بناءً أو جداراً لغيره ، يجب عليه بناء مثله ، وهذا عند أبي حنيفة والشّافعيّ ، فإن تعذّرت المماثلة رجع إلى القيمة ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » كان رجل في بني إسرائيل يقال له : جريج ، يصلّي ، فجاءته أمّه فدعته ، فأبى أن يجيبها ، فقال : أجيبها أو أصلّي ؟ ثمّ أتته فقالت : اللّهمّ لا تمته حتّى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعته فقالت امرأة : لأفتننّ جريجاً ، فتعرّضت له ، فكلّمته ، فأبى . فأتت راعياً فأمكنته من نفسها . فولدت غلاماً ، فقالت : هو من جريج . فأتوه كسروا صومعته وأنزلوه وسبّوه ، فتوضّأ وصلّى ، ثمّ أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : الرّاعي . قالوا : نبني صومعتك من ذهب ، قال : لا، إلاّ من طين «



والأصل : أنّ الحائط والبناء من القيميّات ، فتضمن بالقيمة .



وقد نقل الرّمليّ الحنفيّ أنّه لو هدم جدار غيره ، تقوّم داره مع جدرانها ، وتقوّم بدون هذا الجدار فيضمن فضل ما بينهما .



وفي القنية عن محمّد بن الفضل : إذا هدم حائطاً متّخذاً من خشب أو عتيقاً متّخذاً من رهص - طين - يضمن قيمته ، وإن كان حديثاً يؤمر بإعادته كما كان .



وقال ابن نجيم : من هدم حائط غيره فإنّه يضمن نقصانها - أي قيمتها مبنيّةً - ولا يؤمر بعمارتها ، إلاّ في حائط المسجد ، كما في كراهة الخانيّة .



لكن المذهب ، ما قاله العلامة قاسم في شرحه للنّقاية : وإذا هدم الرّجل حائط جاره فللجار الخيار : إن شاء ضمّنه قيمة الحائط ، والنّقض للضّامن ، وإن شاء أخذ النّقض ، وضمّنه النّقصان ، لأنّ الحائط قائم من وجه ، وهالك من وجه ، فإن شاء مال إلى جهة القيام ، وضمّنه النّقصان ، وإن شاء مال إلى جهة الهلاك وضمّنه قيمة الحائط ، وليس له أن يجبره على البناء ، كما كان ، لأنّ الحائط ليس من ذوات الأمثال .



وطريق تقويم النّقصان : أن تقوّم الدّار مع حيطانها ، وتقوّم بدون هذا الحائط فيضمن فضل ما بينهما .



والضّمان في هذه الحال مقيّد بما إذا لم يكن الهدم للضّرورة ، كمنع سريان الحريق ، بإذن الحاكم ، فإن كان كذلك فلا ضمان ، وإن لم يكن بإذن الحاكم ، ضمن الهادم قيمتها معرّضةً للحريق .



ج - البناء على الأرض المغصوبة أو الغرس فيها :



إذا غرس شخص شجراً ، أو أقام بناءً على أرض غصبها ، فمذهب جمهور الفقهاء، وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة أنّه يؤمر بقلع الشّجر ، وهدم البناء ، وتفريغ الأرض من كلّ ما أنشأ فيها ، وإعادتها كما كانت



قال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافاً وذلك : لحديث عروة بن الزّبير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له ، وليس لعرق ظالم حقّ « ، قال : فلقد أخبرني الّذي حدّثني هذا الحديث : » أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النّخل أن يخرج نخله منها ، قال : فلقد رأيتها ، وإنّها لتضرب أصولها بالفؤوس ، وإنّها لنخل عمّ « أي طويلة .



ولأنّه شغل ملك غيره ، فيؤمر بتفريغه ، دفعاً للظّلم ، وردّاً للحقّ إلى مستحقّه .



قال الشّافعيّة والحنابلة : عليه أرش نقصها إن كان ، وتسويتها ، لأنّه ضرر حصل بفعله ، مع أجرة المثل إلى وقت التّسليم .



وقال القليوبيّ : وللغاصب قلعهما قهراً على المالك ، ولا يلزمه إجابة المالك لو طلب الإبقاء بالأجر ، أو التّملّك بالقيمة ، وللمالك قلعهما جبراً على الغاصب ، بلا أرش لعدم احترامهما عليه .



والمالكيّة خيّروا المالك بين قلع الشّجر وهدم البناء ، وبين تركهما ، على أن يعطى المالك الغاصب ، قيمة أنقاض الشّجر والبناء ، مقلوعاً ، بعد طرح أجرة النّقض والقلع ، لكنّهم قيّدوا قلع الزّرع بما إذا لم يفت ، أي لم يمض وقت ما تراد الأرض له فله عندئذ أخذه بقيمته مقلوعاً مطروحاً منه أجرة القلع . فإن فات الوقت ، بقي الزّرع للزّارع ، ولزمه الكراء إلى انتهائه .



ونصّ على مثل هذا الحنفيّة .



د - قلع عين الحيوان :



الحيوان وإن كان من الأموال ، وينبغي أن تطبّق في إتلافه - كلّيّاً أو جزئيّاً - القواعد العامّة ، إلاّ أنّه ورد في السّمع تضمين ربع قيمته ، بقلع عينه ، ففي الحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عين الدّابّة ربع ثمنها « .



وروي ذلك عن عمر وشريح رضي الله تعالى عنهما ، وكتب عمر إلى شريح ، لمّا كتب إليه يسأله عن عين الدّابّة : إنّا كنّا ننزلها منزلة الآدميّ ، إلاّ أنّه أجمع رأينا أنّ قيمتها ربع الثّمن .



قال ابن قدامة : هذا إجماع يقدّم على القياس .



وهذا ممّا جعل الحنفيّة - وهو رواية عند الحنابلة عن أحمد - يعدلون عن القياس ، بالنّظر إلى ضمان العين فقط .



فعملوا بالحديث ، وتركوا فيه القياس ، لكنّهم خصّوه بالحيوان الّذي يقصد للّحم ، كما يقصد للرّكوب والحمل والزّينة أيضاً ، كما في عين الفرس والبغل والحمار ، وكذا في عين البقرة والجزور .



أمّا غيره ، كشاة القصّاب المعدّة للذّبح ، ممّا يقصد منه اللّحم فقط ، فيعتبر ما نقصت قيمته. وطرد المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة القياس ، فضمّنوا ما يتلف من سائر أجزاء الحيوان ، بما ينقص من قيمته ، بفقد عينه وغيرها ، بالغاً ما بلغ النّقص بلا تفرقة بين أنواع الحيوان.



قال المحلّيّ : ويضمن ما تلف أو أتلف من أجزائه بما نقص من قيمته .



وقال الغزاليّ : ولا يجب في عين البقرة والفرس إلاّ أرش النّقص .



وعلّل ذلك ابن قدامة : بأنّه ضمان مال من غير جناية ، فكان الواجب ما نقص ، كالثّوب ، ولأنّه لو فات الجميع لوجبت قيمته ، فإذا فات منه شيء ، وجب قدره من القيمة ، كغير الحيوان .



ضمان الشّخص الضّرر النّاشئ عن فعل غيره وما يلتحق به :



الأصل أنّ الشّخص مسئول عن ضمان الضّرر الّذي ينشأ عن فعله لا عن فعل غيره لكن الفقهاء استثنوا من هذا الأصل ضمان أفعال القصّر الخاضعين لرقابته ، وضمان أفعال تابعيه : كالخدم والعمّال وكالموظّفين ، وضمان ما يفسده الحيوان ، وضمان الضّرر الحادث بسبب سقوط الأبنية ، وضمان التّلف الحادث بالأشياء الأخرى ، وتفصيله فيما يلي :



أوّلاً : ضمان الإنسان لأفعال الأشخاص الخاضعين لرقابته :



ويتمثّل هذا النّوع من الضّمان ، في الأفعال الضّارّة ، الصّادرة من الصّغار القصّر ، الّذين هم في ولاية الأب والوصيّ ، والتّلاميذ حينما يكونون في المدرسة ، تحت رقابة النّاظر والمعلّم ، أو في رعاية أيّ رقيب عليهم وهم صغار ، ومثلهم المجانين والمعاتيه . ولمّا كان الأصل المقرّر في الشّريعة ، كما تقدّم آنفاً ، هو ضمان الإنسان لأفعاله كلّها ، دون تحمّل غيره عنه لشيء من تبعاتها ، مهما كان من الأمر .



فقد طرد الفقهاء قاعدة تضمين الصّغار ، وأوجبوا عليهم الضّمان في مالهم ، ولم يوجبوا على أوليائهم والأوصياء عليهم ضمان ما أتلفوه ، إلاّ في أحوال مستثناة ، منها :



أ - إذا كان إتلاف الصّغار للمال ، ناشئاً من تقصير الأولياء ونحوهم ، في حفظهم ، كما لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له ، فوقع السّكّين من يده عليه أو على شخص آخر ، أو عثر به ، فإنّ الدّافع يضمن .



ب - إذا كان بسبب إغراء الآباء والأوصياء الصّغار بإتلاف المال ، كما لو أمر الأب ابنه بإتلاف مال أو إيقاد نار ، فأوقدها ، وتعدّت النّار إلى أرض جاره ، فأتلفت شيئاً ، يضمن الأب ، لأنّ الأمر صحّ ، فانتقل الفعل إليه ، كما لو باشره الأب .



فلو أمر أجنبيّ صبيّاً بإتلاف مال آخر ، ضمن الصّبيّ ، ثمّ رجع على آمره .



ج - إذا كان بسبب تسليطهم على المال ، كما لو أودع صبيّاً وديعةً بلا إذن وليّه فأتلفها ، لم يضمن الصّبيّ ، وكذا إذا أتلف ما أعير له ، وما اقترضه وما بيع منه بلا إذن ، للتّسليط من مالكها .



ثانياً : ضمان الشّخص لأفعال التّابعين له :



ويتمثّل هذا في الخادم في المنزل ، والطّاهي في المطعم ، والمستخدم في المحلّ ، والعامل في المصنع ، والموظّف في الحكومة ، وفي سائق السّيّارة لمالكها كلّ في دائرة عمله .



والعلاقة هنا عقديّة ، وفيما تقدّم من الرّقابة على عديمي التّمييز : هي : دينيّة أو أدبيّة . والفقهاء بحثوا هذا في باب الإجارة ، في أحكام الأجير الخاصّ ، وفي تلميذ الأجير المشترك عند الحنفيّة ، وهو الّذي يعمل لواحد عملاً مؤقّتاً بالتّخصيص ، ويستحقّ أجره بتسليم نفسه في المدّة ، وإن لم يعمل .



والمعقود عليه هو منفعته ، ولا يضمن ما هلك في يده بغير صنعه ، لأنّ العين أمانة في يده، لأنّه قبض بإذنه ، ولا يضمن ما هلك من عمله المأذون فيه ، لأنّ المنافع متى صارت مملوكةً للمستأجر ، فإذا أمره بالتّصرّف في ملكه ، صحّ ، ويصير نائباً منابه ، فيصير فعله منقولاً إليه ، كأنّه فعله بنفسه ، فلهذا لا يضمنه وإنّما الضّمان في ذلك على مخدومه .



ثالثاً : ضمان الشّخص فعل الحيوان :



هناك نوعان من الحيوان :



أحدهما الحيوان العاديّ ، والآخر الحيوان الخطر ، وفي تضمين جناية كلّ منهما ، خلاف بين الفقهاء ، ونوضّحه فيما يلي :



أ - ضمان جناية الحيوان العاديّ غير الخطر :



اختلف الفقهاء في ضمان ما يتلفه الحيوان العاديّ ، غير الخطر :



فذهب جمهورهم إلى ضمان ما تفسده الدّابّة من الزّرع والشّجر ، إذا وقع في اللّيل ، وكانت وحدها إذا لم تكن يد لأحد عليها .



وأمّا إذا وقع ذلك في النّهار ، ولم تكن يد لأحد عليها - أي الدّابّة - فلا ضمان فيه . واستدلّوا بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه : » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهوعلى أهلها « قال ابن قدامة : ولأنّ العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي ، وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون اللّيل ، فإذا ذهبت ليلاً كان التّفريط من أهلها ، بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ .



وإن أتلفت نهاراً ، كان التّفريط من أهل الزّرع ، فكان عليهم ، وقد فرّق النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى على كلّ إنسان بالحفظ في وقت عادته .



وقال - أيضاً - : قال بعض أصحابنا : إنّما يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً ، إذا فرّط بإرسالها ليلاً أو نهاراً أو لم يضمّها باللّيل ، أو ضمّها بحيث يمكنها الخروج ، أمّا لو ضمّها فأخرجها غيره بغير إذنه ، أو فتح عليها بابها ، فالضّمان على مخرجها ، أو فاتح بابها ، لأنّه المتلف.



وقيّد المالكيّة عدم ضمان الإتلاف نهاراً بشرطين :



أوّلهما : أن لا يكون معها راع .



والآخر : أن تسرح بعيداً عن المزارع ، وإلاّ فعلى الرّاعي الضّمان .



وإن أتلفت البهيمة غير الزّرع والشّجر من الأنفس والأموال ، لم يضمنه مالكها ، ليلاً كان أو نهاراً ، ما لم تكن يده عليها ، واستدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » العجماء جبار « ويروى » العجماء جرحها جبار « ومعنى جبار : هدر .



وقيّد المالكيّة ، عدم ضمان ذلك ليلاً ، بما إذا لم يقصّر في حفظها ، ولم يكن من فعل من معها ، ففي المدوّنة : من قاد قطاراً فهو ضامن لما وطئ البعير ، في أوّل القطار أو آخره ، وإن نفحت رجلاً بيدها أو رجلها ، لم يضمن القائد إلاّ أن يكون ذلك من شيء فعله بها . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحيوان إذا أتلف مالاً أو نفساً ، فلا ضمان على صاحبه مطلقاً ، سواء أوقع ذلك في ليل أم في نهار .



وذلك لحديث : » العجماء جبار « المتقدّم آنفاً .



لكن قيّدها محمّد بن الحسن ، بالمنفلتة المسيّبة حيث تسيّب الأنعام ، كما هو الشّأن في البراري ، فهذه الّتي جرحها هدر وهذا ما ذكره الطّحاويّ فقد فرّق بين ما إذا كان معها حافظ فيضمن ، وبين ما إذا لم يكن معها حافظ ، فلا يضمن ، وروى في ذلك آثاراً .



ولأنّه لا صنع له في نفارها وانفلاتها ، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها ، فالمتولّد منه لا يكون مضموناً .



وأثار المالكيّة - هنا - مسألة ما لو كان الحيوان ممّا لا يمكن الاحتراز منه ، ولا حراسته كحمام ، ونحل ، ودجاج يطير .



فذهب ابن حبيب - وهو رواية مطرّف عن مالك - إلى أنّه يمنع أربابها من اتّخاذه ، إن آذى النّاس .



وذهب ابن القاسم وابن كنانة وأصبغ إلى أنّهم لا يمنعون من اتّخاذه ، ولا ضمان عليهم فيما أتلفته من الزّرع ، وعلى أرباب الزّرع والشّجر حفظها .



وصوّب ابن عرفة الأوّل ، لإمكان استغناء ربّها عنها ، وضرورة النّاس للزّرع والشّجر . ويؤيّده - كما قال الدّسوقيّ - قاعدة ارتكاب ، أخفّ الضّررين عند التّقابل ، لكن قال : ولكن المعتمد - كما قال شيخنا - قول ابن قاسم .



والاتّجاهان كذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة .



شروط ضمان جناية الحيوان :



بدا ممّا تقدّم اتّفاق الفقهاء على تضمين جناية الحيوان ، كلّما كان معها راكب أو حافظ ، أو ذو يد ، ولا بدّ حينئذ من توفّر شروط الضّمان العامّة المتقدّمة : من الضّرر والتّعدّي والإفضاء .



فالضّرر يستوي فيه الواقع على النّفوس أو الأموال ، وصرّح العينيّ بأنّ حديث : » العجماء جبار « المتقدّم ، محتمل لأن تكون الجناية على الأبدان أو الأموال ، وذكر أنّ الأوّل أقرب إلى الحقيقة ، لما ورد في الصّحيحين بلفظ : » العجماء جرحها جبار « .



والتّعدّي بمجاوزة ذي اليد في استعمال الدّابّة ، فحيث استعملها في حدود حقّه ، في ملكه ، أو المحلّ المعدّ للدّوابّ أو أدخلها ملك غيره بإذنه ، فأتلفت نفساً أو مالاً ، لا ضمان عليه إذ لا ضمان مع الإذن بخلاف ما لو كان ذلك بغير إذن المالك أو أوقفها في محلّ لم يعدّ لوقوف الحيوانات ، أو في طريق المسلمين ، فإنّه يكون ضامناً لما تتلفه حينئذ إذ كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه ضمن ما تولّد منه .



والأصل في هذا حديث النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل ، فهو ضامن « .



وعلّله الرّمليّ ، نقلاً عن القاضي ، بأنّ الرّبط جناية ، فما تولّد منه ضمنه .



وأمّا الإفضاء ، وهو وصول الضّرر مباشرةً أو تسبّباً ، فإنّ فعل الحيوان لا يوصف بمباشرة أو تسبيب ، لأنّه ليس ممّا يصحّ إضافة الحكم إليه ، وإنّما يوصف بذلك صاحبه ، فتطبّق القاعدة العامّة : أنّ المباشر ضامن وإن لم يتعدّ ، والمتسبّب لا يضمن إلاّ بالتّعدّي . ويعتبر ذو اليد على الحيوان ، وصاحبه مباشراً إذا كان راكباً في ملكه أو في ملك غيره ، ولو بإذنه أو في طريق العامّة ، فيضمن ما يحدثه بتلفه ، وإن لم يتعدّ .



فراكب الدّابّة يضمن ما وطئته برجلها ، أو يدها - كما يقول الكاسانيّ - أي ومات لوجود الخطأ في هذا القتل ، وحصوله على سبيل المباشرة لأنّ ثقل الرّاكب على الدّابّة ، والدّابّة آلة له ، فكان القتل الحاصل بثقلها مضافاً إلى الرّاكب ، والرّديف والرّاكب سواء ، وعليهما الكفّارة ، ويحرمان من الميراث والوصيّة ، لأنّ ثقلهما على الدّابّة ، والدّابّة آلة لهما ، فكانا قاتلين على طريق المباشرة .



ولو كدمت أو صدمت ، فهو ضامن ، ولا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل بسبب .



ولو أصابت ومعها سائق وقائد ، فلا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل تسبيباً لا مباشرةً ، بخلاف الرّاكب والرّديف .



وهذا خلاف ما في مجمع الأنهر ، حيث نصّ على أنّ الرّاكب في ملكه لا يضمن شيئاً ، لأنّه غير متعدّ ، بخلاف ما إذا كان في طريق العامّة ، فيضمن للتّعدّي .



ومثال ما لو أتلفت شيئاً بتسبيب صاحبها : ما لو أوقفها في ملك غيره ، فجالت في رباطها، حيث طال الرّسن فأتلفت شيئاً ، ضمن ، لأنّه ممسكها في أيّ موضع ذهبت ، ما دامت في موضع رباطها .



فقد وجد شرط الضّمان بالتّسبيب بالتّعدّي ، وهو الرّبط في ملك غيره .



ومثال اجتماع المباشرة والتّسبيب ، حيث تقدّم المباشرة ، ما لو ربط بعيراً إلى قطار ، والقائد لا يعلم ، فوطئ البعير المربوط إنساناً ، فقتله ، فعلى عاقلة القائد الدّية ، لعدم صيانة القطار عن ربط غيره ، فكان متعدّياً - مقصّراً - لكن يرجع على عاقلة الرّابط ، لأنّه هو الّذي أوقعه في هذه العهدة .



وإنّما لم يجب الضّمان عليه ابتداءً ، وكلّ منهما متسبّب ، لأنّ الرّبط ، من القود ، بمنزلة التّسبيب من المباشرة ، لاتّصال التّلف بالقود دون الرّبط .



ومثال ما إذا لم يكن مباشراً ولا متسبّباً ، حيث لا يضمن ، ما إذا قتل سنّوره حمامةً فإنّه لا يضمن ، لحديث : » العجماء جرحها جبار « المتقدّم آنفاً .



والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الهرّة إن أتلفت طيراً أو طعاماً ليلاً أونهاراً ضمن مالكها إن عهد ذلك منها ، وإلاّ فلا يضمن في الأصحّ .



ومن مشمولات الإفضاء : التّعمّد ، كما لو ألقى هرّةً على حمامة أو دجاجة ، فأكلتها ضمن لو أخذتها برميه وإلقائه ، لا لو بعده .



ويضمن بإشلاء كلبه ، لأنّه بإغرائه يصير آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بسيفه .



ومن مشمولاته التّسبّب بعدم الاحتراز : فالأصل : أنّ المرور بطريق المسلمين مباح ، بشرط السّلامة ، فيما يمكن الاحتراز منه ، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه ، فلو أوقف دابّته في الطّريق ضمن ما نفحته ، لأنّ بإمكانه الاحتراز من الإيقاف ، وإن لم يمكن الاحتراز من النّفحة ، فصار متعدّياً بالإيقاف وشغل الطّريق به .



بخلاف ما لو أصابت بيدها أو رجلها حصاةً ، أو أثارت غباراً ، ففقأت الحصاة عين إنسان ، أو أفسد الغبار ثوب إنسان فإنّه لا يضمن لأنّه لا يمكن الاحتراز منه ، لأنّ سير الدّوابّ لا يخلو عنه .



وللحنابلة والشّافعيّة تفصيل وخلاف في الطّريق الواسع .



والضّامن لجناية الحيوان ، لم يقيّد في النّصوص الفقهيّة ، بكونه مالكاً أو غيره ، بل هو ذو اليد ، القابض على زمامه ، القائم على تصريفه ، ولو لم يكن مالكاً ، ولو لم يحلّ له الانتفاع به ، ويشمل هذا السّائس والخادم .



قال النّوويّ : إنّ الضّمان يجب في مال الّذي هو معها ، سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً ، أو غاصباً أو مودعاً ، أو وكيلاً أو غيره .



ويقول الشّرقاويّ في جناية الدّابّة : لا تتعلّق برقبتها ، بل بذي اليد عليها .



ولو تعدّد واضعو اليد على الحيوان ، فالضّمان - فيما يبدو من النّصوص - على الأقوى يداً ، والأكثر قدرةً على التّصرّف ، وعند الاستواء يكون الضّمان عليهما .



قال الكاسانيّ : وإن كان أحدهما سائقاً ، والآخر قائداً ، فالضّمان عليهما لأنّهما اشتركا في التّسبيب ، فيشتركان في الضّمان ، وكذلك إذا كان أحدهما سائقاً والآخر راكباً أو كان أحدهما قائداً والآخر راكباً ، فالضّمان عليهما ، لوجود سبب الضّمان من كلّ واحد منهما ، إلاّ أنّ الكفّارة تجب على الرّاكب وحده ، فيما لو وطئت دابّته إنساناً فقتلته ، لوجود القتل منه وحده مباشرةً ، وإن كان الحصكفيّ صحّح عدم تضمين السّائق ، لأنّ الإضافة إلى المباشر أولى ، لكن السّبب - هنا - ممّا يعمل بانفراده ، فيشتركان كما حقّقه ونقله ابن عابدين .



وقال ابن قدامة : فإن كان على الدّابّة راكبان ، فالضّمان على الأوّل منهما ، لأنّه المتصرّف فيها ، القادر على كفّها ، إلاّ أن يكون الأوّل منهما صغيراً أو مريضاً أو نحوهما ، ويكون الثّاني المتولّي لتدبيرها ، فيكون الضّمان عليه .



وإن كان مع الدّابّة قائد وسائق ، فالضّمان عليهما ، لأنّ كلّ واحد منهما لو انفرد ضمن ، فإذا اجتمعا ضمنا ، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ، ففيه وجهان :



أحدهما : أنّ الضّمان عليهما جميعاً ، لذلك .



والآخر : أنّه على الرّاكب ، لأنّه أقوى يداً وتصرّفاً .



ويحتمل أن يكون على القائد لأنّه لا حكم للرّاكب على القائد .



ب - ضمان جناية الحيوان الخطر :



ويتمثّل في الكبش النّطوح ، والجمل العضوض ، والفرس الكدوم ، والكلب العقور ، كما يتمثّل في الحشرات المؤذية ، والحيّة والعقرب ، والحيوانات الوحشيّة المفترسة ، وسباع البهائم ، كالأسد والذّئب ، وسباع الطّير كالحدأة والغراب ، وفيها مذاهب للفقهاء : مذهب الحنفيّة هو ضمان ما يتلفه الحيوان الخطر ، من مال أو نفس إذا وجد من مالكه إشلاء أو إغراء أو إرسال ، وهو قول أبي يوسف ، الّذي أوجب الضّمان في هذا كلّه ، احتياطاً لأموال النّاس خلافاً لأبي حنيفة ، والّذي أفتوا به هو : الضّمان بعد الإشلاء كالحائط المائل ، في النّفس والمال كما في الإغراء .



وعلّل الضّمان بالإشلاء ، بأنّه بالإغراء . يصير الكلب آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بحدّ سيفه . وفي مذهب مالك تفصيل ذكره الدّسوقيّ ، وهو : إذا اتّخذ الكلب العقور ، بقصد قتل إنسان معيّن وقتله فالقود ، أنذر عن اتّخاذه أو لا .



وإن قتل غير المعيّن فالدّية ، وكذلك إن اتّخذه لقتل غير المعيّن ، وقتل شخصاً فالدّية ، أنذر أم لا .



وإن اتّخذه لوجه جائز فالدّية إن تقدّم له إنذار قبل القتل ، وإلاّ فلا شيء عليه .



وإن اتّخذه لا لوجه جائز ضمن ما أتلف ، تقدّم له فيه إنذار أم لا ، حيث عرف أنّه عقور ، وإلاّ لم يضمن ، لأنّ فعله حينئذ كفعل العجماء .



وذهب الحنابلة إلى أنّ الحيوان الخطر ينبغي أن يربط ويكفّ شرّه ، كالكلب العقور ، وكالسّنّور إذا عهد منه إتلاف الطّير أو الطّعام ، فإذا أطلق الكلب العقور أو السّنّور ، فعقر إنساناً ، أو أتلف طعاماً أو ثوباً ، ليلاً أو نهاراً ، ضمن ما أتلفه ، لأنّه مفرّط باقتنائه وإطلاقه إلاّ إذا دخل داره إنسان بغير إذنه ، فعقره ، فلا ضمان عليه ، لأنّه متعدّ بالدّخول ، متسبّب بعدم الاستئذان لعقر الكلب له ، فإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه ، لأنّه تسبّب إلى إتلافه .



وكذلك إذا اقتنى سنّوراً ، يأكل أفراخ النّاس ، ضمن ما أتلفه كالكلب العقور ، وهذا - هو الأصحّ - عند الشّافعيّة ، كلّما عهد ذلك منه ليلاً أو نهاراً ، قال المحلّيّ : لأنّ هذه الهرّة ينبغي أن تربط ويكفّ شرّها .



أمّا ما يتلفه الكلب العقور لغير العقر ، كما لو ولغ في إناء ، أو بال ، فلا يضمن ، لأنّ هذا لا يختصّ به الكلب العقور .










مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء السابع








رابعاً : ضمان سقوط المباني :



بحث الفقهاء موضوع سقوط المباني وضمانها بعنوان : الحائط المائل .



ويتناول القول في ضمان الحائط ، ما يلحق به ، من الشّرفات والمصاعد والميازيب والأجنحة ، إذا شيّدت مطلّةً على ملك الآخرين أو الطّريق العامّ وما يتّصل بها من أحكام . وقد ميّز الفقهاء ، بين ما إذا كان البناء أو الحائط أو نحوه ، مبنيّاً من الأصل متداعياً ذا خلل ، أو مائلاً ، وبين ما إذا كان الخلل طارئاً ، فهما حالتان :



الحالة الأولى : الخلل الأصليّ في البناء :



هو الخلل الموجود في البناء ، منذ الإنشاء ، كأن أنشئ مائلاً إلى الطّريق العامّ أو أشرع الجناح أو الميزاب أو الشّرفة ، بغير إذن ، أو أشرعه في غير ملكه .



قال الحنفيّة والمالكيّة إن سقط البناء في هذه الحال ، فأتلف إنساناً أو حيواناً أو مالاً ، كان ذلك مضموناً على صاحبه ، مطلقاً من غير تفصيل ، ومن غير إشهاد ولا طلب ، لأنّ في البناء تعدّياً ظاهراً ثابتاً منذ الابتداء وذلك بشغل هواء الطّريق بالبناء ، وهواء الطّريق كأصل الطّريق حقّ المارّة ، فمن أحدث فيه شيئاً ، كان متعدّياً ضامناً .



والشّافعيّة لا يفرّقون في الضّمان ، بين أن يأذن الإمام في الإشراع أو لا ، لأنّ الانتفاع بالشّارع مشروط بسلامة العاقبة ، بأن لا يضرّ بالمارّة ، وما تولّد منه مضمون ، وإن كان إشراعاً جائزاً .



لكن ما تولّد من الجناح ، في درب منسدّ ، بغير إذن أهله ، مضمون ، وبإذنهم لا ضمان فيه.



وقال الحنابلة : وإذا بنى في ملكه حائطاً مائلاً إلى الطّريق ، أو إلى ملك غيره ، فتلف به شيء أو سقط على شيء فأتلفه ضمنه ، لأنّه متعدّ بذلك ، فإنّه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره ، أو هواء مشترك ، ولأنّه يعرّضه للوقوع على غيره في غير ملكه ، فأشبه ما لو نصب فيه منجلاً يصيد به .



الحالة الثّانية : الخلل الطّارئ :



إذا أنشئ البناء مستقيماً ثمّ مال ، أو سليماً ثمّ تشقّق ووقع ، وحدث بسبب وقوعه تلف ، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة - استحساناً - والمالكيّة ، وهو المختار عند الحنابلة ، والمرويّ عن عليّ رضي الله عنه وشريح والنّخعيّ والشّعبيّ وغيرهم من التّابعين إلى أنّه يضمن ما تلف به ، من نفس أو حيوان أو مال إذا طولب صاحبه بالنّقض ، وأشهد عليه ، ومضت مدّة يقدر على النّقض خلالها ، ولم يفعل .



وهذا قول عند الشّافعيّة ، فقد قالوا : إن أمكنه هدمه أو إصلاحه ، ضمن ، لتقصيره بترك النّقض والإصلاح



والقياس عند الحنفيّة عدم الضّمان ، لأنّه لم يوجد من المالك صُنْعٌ هو تعدّ ، لأنّ البناء كان في ملكه مستقيماً ، والميلان وشغل الهواء ليس من فعله ، فلا يضمن ، كما إذا لم يشهد عليه ، ولما قالوه في هذه المسألة : ومن قتله الحجر ، بغير فعل البشر ، فهو بالإجماع هدر .



ووجه الاستحسان : ما روي عن الأئمّة من الصّحابة والتّابعين المذكورين ، وأنّ الحائط لمّا مال فقد شغل هواء الطّريق بملكه ، ورفعه بقدرة صاحبه ، فإذا تقدّم إليه وطولب بتفريغه لزمه ذلك ، فإذا امتنع مع تمكّنه صار متعدّياً .



ولأنّه لو لم يضمن يمتنع من الهدم ، فينقطع المارّة خوفاً على أنفسهم ، فيتضرّرون به ، ودفع الضّرر العامّ من الواجب ، وكم من ضرر خاصّ يتحمّل لدفع العامّ .



ومع ذلك فقد نصّ الحنفيّة على أنّ الشّرط هو التّقدّم ، دون الإشهاد ، لأنّ المطالبة تتحقّق ، وينعدم به معنى العذر في حقّه ، وهو الجهل بميل الحائط .



أمّا الإشهاد فللتّمكّن من إثباته عند الإنكار ، فكان من باب الاحتياط .



والمالكيّة يشترطون الإشهاد مع الإنذار ، فإذا انتفى الإنذار والإشهاد فلا ضمان ، إلاّ أن يعترف بذلك مع تفريطه فيضمن ، كما أنّ الإشهاد المعتبر عندهم يكون عند الحاكم ، أو جماعة المسلمين ولو مع إمكان الإشهاد عند الحاكم .



وشروط التّقدّم أو الإنذار هي : ومعنى التّقدّم : طلب النّقض ممّن يملكه ، وذلك بأن يقول المتقدّم : إنّ حائطك هذا مخوف ، أو يقول : مائل فانقضه أو اهدمه ، حتّى لا يسقط ولا يتلف شيئاً ، ولو قال : ينبغي أن تهدمه ، فذلك مشورة .



أ - أن يكون التّقدّم ممّن له حقّ مصلحة في الطّلب .



وفرّقوا في هذا : بين ما إذا كان الحائط مائلاً إلى الطّريق العامّ ، وبين ما إذا كان مائلاً إلى ملك إنسان .



ففي الصّورة الأولى : يصحّ التّقدّم من كلّ مكلّف ، مسلم أو غيره ، وليس للمتقدّم ولا للقاضي حقّ إبراء صاحب الحائط ، ولا تأخيره بعد المطالبة ، لأنّه حقّ العامّة ، وتصرّفه في حقّ العامّة نافذ - كما يقول الحصكفيّ نقلاً عن الذّخيرة - فيما ينفعهم ، لا فيما يضرّهم . وفي الصّورة الثّانية : لا يصحّ التّقدّم إلاّ من المالك الّذي شغل الحائط هواء ملكه ، كما أنّ له حقّ الإبراء والتّأخير .



وذهب الشّافعيّة إلى عدم الضّمان مطلقاً بسقوط البناء ، إذا مال بعد بنائه مستقيماً ولو تقدّم إليه ، وأشهد عليه .



قال النّوويّ : إن لم يتمكّن من هدمه وإصلاحه ، فلا ضمان قطعاً ، وكذا إن تمكّن على الأصحّ . ولا فرق بين أن يطالبه الوالي أو غيره بالنّقض ، وبين أن لا يطالب ، وهذا هو القياس ، كما تقدّم ، ووجهه : أنّه بنى في ملكه ، والهلاك حصل بغير فعله ، وأنّ الميل نفسه لم يحصل بفعله ، وأنّ ما كان أوّله غير مضمون ، لا ينقلب مضموناً بتغيير الحال . وذهب بعض الحنابلة ، وهو قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وإسحاق ، إلى أنّه يضمن ما تلف به وإن لم يطالب بالنّقض ، وذلك لأنّه متعدّ بتركه مائلاً ، فضمن ما تلف به ، كما لو بناه مائلاً إلى ذلك ابتداءً ، ولأنّه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف ، ولو لم يكن ذلك موجباً للضّمان لم يضمن بالمطالبة ، كما لو لم يكن مائلاً ، أو كان مائلاً إلى ملكه .



لكن نصّ أحمد ، هو عدم الضّمان - كما يقول ابن قدامة - أمّا لو طولب بالنّقض ، فقد توقّف فيه أحمد ، وذهب بعض الأصحاب إلى الضّمان فيه .



أمّا الضّمان الواجب بسقوط الأبنية ، عند القائلين به ، فهو :



أ - أنّ ما تلف به من النّفوس ، ففيه الدّية على عاقلة مالك البناء .



ب - وما تلف به من الأموال فعلى مالك البناء ، لأنّ العاقلة لا تعقل المال .



ج - ولا تجب على المالك الكفّارة - عند الحنفيّة - ولا يحرم من الميراث والوصيّة ، لأنّه قتل بسبب ، وذلك لعدم القتل مباشرةً ، وإنّما ألحق بالمباشر في الضّمان ، صيانةً للدّم عن الهدر ، على خلاف الأصل ، فبقي في الكفّارة وحرمان الميراث على الأصل .



وعند الشّافعيّة والجمهور : هو ملحق بالخطأ في أحكامه ، إذ لا قتل بسبب عندهم ، ففيه الكفّارة ، وفيه الحرمان من الميراث والوصيّة ، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل .



خامساً : ضمان التّلف بالأشياء :



أكثر ما يعرض التّلف بالأشياء ، بسبب إلقائها في الطّرقات والشّوارع ، أو بسبب وضعها في غير مواضعها المخصّصة لها .



ويمكن تقسيم الأشياء إلى خطرة ، وغير خطرة ، أي عاديّة .



القسم الأوّل : ضمان التّلف الحاصل بالأشياء العاديّة غير الخطرة :



يردّ الفقهاء مسائل التّلف الحاصل بالأشياء العاديّة ، غير الخطرة ، إلى هذه القواعد والأصول :



الأوّل : كلّ موضع يجوز للواضع أن يضع فيه أشياءه لا يضمن ما يترتّب على وضعها فيه من ضرر ، لأنّ الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان .



الثّاني : كلّ موضع لا يجوز له أن يضع فيه أشياءه يضمن ما ينشأ عن وضعها فيه من أضرار ، ما دامت في ذلك الموضع ، فإن زالت عنه لم يضمن .



الثّالث : كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه ، ضمن ما تولّد عنه من ضرر .



الرّابع : أنّ المرور في طريق المسلمين مباح ، بشرط السّلامة فيما يمكن الاحتراز عنه . الخامس : أنّ المتسبّب ضامن إذا كان متعدّياً ، وإلاّ لا يضمن ، والمباشر ضامن مطلقاً . ومن الفروع الّتي انبثقت منها هذه الأصول :



أ - من وضع جرّةً أو شيئاً في طريق لا يملكه فتلف به شيء ضمن ، ولو زال ذلك الشّيء الموضوع أوّلاً إلى موضع آخر - غير الطّريق - فتلف به شيء ، برئ واضعه ولم يضمن.



ب - لو قعد في الطّريق ليبيع ، فتلف بقعدته شيء : فإن كان قعد بإذن الإمام لا يضمنه ، وإن كان بغير إذنه يضمنه وللحنابلة قولان في الضّمان .



ج - ولو وضع جرّةً على حائط ، فأهوت بها الرّيح ، وتلف بوقوعها شيء ، لم يضمن ، إذ انقطع أثر فعله بوضعه ، وهو غير متعدّ في هذا الوضع بأن وضعت الجرّة وضعاً مأموناً ، فلا يضاف إليه التّلف .



د - لو حمل في الطّريق شيئاً على دابّته أو سيّارته ، فسقط المحمول على شيء فأتلفه أو اصطدم بشيء فكسره ، ضمن الحامل ، لأنّ الحمل في الطّريق مباح بشرط السّلامة ، ولأنّه أثر فعله .



ولو عثر أحد بالحمل ضمن ، لأنّه هو الواضع ، فلم ينقطع أثر فعله .



هـ – لو ألقى في الطّريق قشراً ، فزلقت به دابّة ، ضمن ، لأنّه غير مأذون فيه ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، ومقابل الصّحيح عندهم : أنّه غير مضمون ، لجريان العادة بالمسامحة في طرح ما ذكر .



وكذا لو رشّ في الطّريق ماءً ، فتلفت به دابّة ، ضمن ، وقال القليوبيّ : إنّه غير مضمون إذا كان لمصلحة عامّة ، ولم يجاوز العادة ، وإلاّ فهو مضمون على الرّاشّ ، لأنّه المباشر .



القسم الثّاني : ضمان التّلف بالأشياء الخطرة :



روى أبو موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم » إذا مرّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ، ومعه نبل ، فليمسك على نصالها - أو قال : فليقبض بكفّه - أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء « .



وفي الفروع : لو انفلتت فأس من يد قصّاب ، كان يكسر العظم ، فأتلف عضو إنسان ، يضمن ، وهو خطأ



ولا تعليل للضّمان في هذه المسألة إلاّ التّقصير في رعاية هذه الآلة الحادّة ، وعدم الاحتراز أثناء الاستعمال ، فاستدلّ بوقوع الضّرر على التّعدّي ، وأقيم مقامه .



وقال الحنفيّة : إنّ ذا اليد على الأشياء الخطرة يضمن من الأضرار المترتّبة عليها ما كان بفعله ، ولا يضمن ما كان بغير فعله . ومن نصوصهم :



أ - لو خرج البارود من البندقيّة بفعله ، فأصاب آدميّاً أو مالاً ضمن ، قياساً على ما لو طارت شرارة من ضرب الحدّاد ، فأصابت ثوب مارّ في الطّريق ، ضمن الحدّاد .



ب - ولو هبّت الرّيح فحملت ناراً ، وألقتها على البندقيّة ، فخرج البارود ، لا ضمان .



ج - ولو وقع الزّند المتّصل بالبندقيّة المجرّبة ، الّتي تستعمل في زماننا ، على البارود بنفسه ، فخرجت رصاصتها ، أو ما بجوفها ، فأتلف مالاً أو آدميّاً ، فإنّه لا ضمان .



ضمان الاصطدام :



تناول الفقهاء حوادث الاصطدام ، وميّزوا بين اصطدام الإنسان والحيوان ، وبين اصطدام الأشياء كالسّفن ونحوها .



أوّلاً : اصطدام الإنسان :



ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان خطأً وماتا منه ضمنت عاقلة كلّ فارس دية الآخر إذا وقعا على القفا ، وإذا وقعا على وجوههما يهدر دمهما .



ولو كانا عامدين فعلى عاقلة كلّ نصف الدّية ، ولو وقع أحدهما على وجهه هدر دمه فقط . وإذا تجاذب رجلان حبلاً فانقطع الحبل ، فسقطا على القفا وماتا هدر دمهما ، لموت كلّ بقوّة نفسه ، فإن وقعا على الوجه وجب دية كلّ واحد منهما على الآخر ، لموته بقوّة صاحبه . وعند المالكيّة : إن تصادم مكلّفان عمداً ، أو تجاذبا حبلاً فماتا معاً ، فلا قصاص ولا دية وإن مات أحدهما فقط فالقود .



وإن تصادما خطأً فماتا ، فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر ، وإن مات أحدهما فديته على من بقي منها .



وإن كان التّجاذب لمصلحة فلا قصاص ولا دية ، كما يقع بين صنّاع الحبال فإذا تجاذب صانعان حبلاً لإصلاحه فماتا أو أحدهما فهو هدر .



ولو تصادم الصّبيّان فماتا ، فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر ، سواء حصل التّصادم أو التّجاذب بقصد أو بغير قصد ، لأنّ فعل الصّبيان عمداً حكمه كالخطأ .



وذهب الشّافعيّة : إلى أنّه إذا اصطدم شخصان - راكبان أو ماشيان ، أو راكب وماش طويل- بلا قصد ، فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية مخفّفة ، لأنّ كلّ واحد منهما هلك بفعله، وفعل صاحبه ، فيهدر النّصف ، ولأنّه خطأ محض ، ولا فرق بين أن يقعا منكبّين أو مستلقيين ، أو أحدهما منكبّاً والآخر مستلقياً .



وإن قصدا الاصطدام فنصف الدّية مغلّظةً على عاقلة كلّ منهما لورثة الآخر ، لأنّ كلّ واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه ، فيهدر النّصف ، ولأنّ القتل حينئذ شبه عمد فتكون الدّية مغلّظةً ، ولا قصاص إذا مات أحدهما دون الآخر ، لأنّ الغالب أنّ الاصطدام لا يفضي إلى الموت .



والصّحيح أنّ على كلّ منهما في تركته كفّارتين : إحداهما لقتل نفسه ، والأخرى لقتل صاحبه ، لاشتراكهما في إهلاك نفسين ، بناءً على أنّ الكفّارة لا تتجزّأ .



وفي تركة كلّ منهما نصف قيمة دية الآخر ، لاشتراكهما في الإتلاف ، مع هدر فعل كلّ منهما في حقّ نفسه



ولو تجاذبا حبلاً فانقطع وسقطا وماتا ، فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية الآخر ، سواء أسقطا منكبّين أم مستلقيين ، أم أحدهما منكبّاً والآخر مستلقياً ، وإن قطعه غيرهما فديتهما على عاقلته .



وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان ، فعلى كلّ واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابّة أو مال ، سواء كانا مقبلين أم مدبرين ، لأنّ كلّ واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنّما هو قربها إلى محلّ الجناية ، فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفةً إذا ثبت هذا ، فإنّ قيمة الدّابّتين إن تساوتا تقاصّا وسقطتا ، وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزّيادة ، وإن ماتت إحدى الدّابّتين فعلى الآخر قيمتها ، وإن نقصت فعليه نقصها .



فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر ، فأدركه الثّاني فصدمه فماتت الدّابّتان ، أو إحداهما فالضّمان على اللاحق ، لأنّه الصّادم والآخر مصدوم ، فهو بمنزلة الواقف .



وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفاً ، فعلى السّائر قيمة دابّة الواقف ، نصّ أحمد على هذا لأنّ السّائر هو الصّادم المتلف ، فكان الضّمان عليه وإن مات هو أو دابّته فهو هدر ، لأنّه أتلف نفسه ودابّته ، وإن انحرف الواقف فصادفت الصّدمة انحرافه فهما كالسّائرين ، لأنّ التّلف حصل من فعلهما ، وإن كان الواقف متعدّياً بوقوفه ، مثل أن يقف في طريق ضيّق فالضّمان عليه دون السّائر ، لأنّ التّلف حصل بتعدّيه فكان الضّمان عليه ، كما لو وضع حجراً في الطّريق ، أو جلس في طريق ضيّق فعثر به إنسان .



وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا ، فعلى عاقلة كلّ واحد منهما دية الآخر ، روي هذا عن عليّ رضي الله عنه والخلاف - هاهنا - في الضّمان كالخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان ، إلاّ أنّه لا تقاصّ - هاهنا - في الضّمان ، لأنّه على غير من له الحقّ ، لكون الضّمان على عاقلة كلّ واحد منهما ، وإن اتّفق أن يكون الضّمان على من له الحقّ مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة ، أو يكون الضّمان على المتصادمين تقاصّا ، ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمداً أو خطأً ، لأنّ الصّدمة لا تقتل غالباً ، فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ .



ثانياً : اصطدام الأشياء :



السّفن والسّيّارات :



قال الفقهاء : إذا كان الاصطدام بسبب قاهر أو مفاجئ ، كهبوب الرّيح أو العواصف، فلا ضمان على أحد .



وإذا كان الاصطدام بسبب تفريط أحد ربّاني السّفينتين - أو قائدي السّيّارتين - كان الضّمان عليه وحده .



ومعيار التّفريط - كما يقول ابن قدامة - أن يكون الرّبّان - وكذلك القائد - قادراً على ضبط سفينته - أو سيّارته - أو ردّها عن الأخرى ، فلم يفعل ، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل ، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرّجال وغيرها .



وإذا كانت إحدى السّفينتين واقفةً ، والأخرى سائرةً ، فلا شيء على الواقفة ، وعلى السّائرة ضمان الواقفة ، إن كان القيّم مفرّطاً .



وإذا كانتا ماشيتين متساويتين ، بأن كانتا في بحر أو ماء راكد ، ضمن المفرّط سفينة الآخر، بما فيها من مال أو نفس .



أمّا إذا كانتا غير متساويتين ، بأن كانت إحداهما منحدرةً ، والأخرى صاعدةً فعلى المنحدر ضمان الصّاعدة ، لأنّها تنحدر عليها من علوّ ، فيكون ذلك سبباً في غرقها ، فتنزل المنحدرة منزلة السّائرة ، والصّاعدة منزلة الواقفة ، إلاّ أن يكون التّفريط من المصعد فيكون، الضّمان عليه ، لأنّه المفرّط .



وقال الشّافعيّة في اصطدام السّفن : السّفينتان كالدّابّتين ، والملاحان كالرّاكبين إن كانتا لهما.



وأطلق ابن جزيّ قوله : إذا اصطدم مركبان في جريهما ، فانكسر أحدهما أو كلاهما ، فلا ضمان في ذلك .










 مكتب / محمد جابر عيسى المحامى


الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الثامن








انتفاء الضّمان :



ينتفي الضّمان - بوجه عامّ - بأسباب كثيرة ، من أهمّها :



أ - دفع الصّائل :



يشترط في دفع الصّائل ، لانتفاء الإثم وانتفاء الضّمان - بوجه عامّ - ما يلي :



1 - أن يكون الصّول حالاً ، والصّائل شاهراً سلاحه أو سيفه ، ويخاف منه الهلاك ، بحيث لا يمكن المصول عليه ، أن يلجأ إلى السّلطة ليدفعه عنه .



2 - أن يسبقه إنذار وإعلام للصّائل ، إذا كان ممّن يفهم الخطاب كالآدميّ ، وذلك بأن يناشده اللّه ، فيقول : ناشدتك اللّه إلاّ ما خلّيت سبيلي ، ثلاث مرّات ، أو يعظه ، أو يزجره لعلّه ينكفّ ، فأمّا غيره ، كالصّبيّ والمجنون - وفي حكمهما البهيمة - فإنّ إنذارهم غير مفيد ، وهذا ما لم يعاجل بالقتال ، وإلاّ فلا إنذار ، قال الخرشيّ : والظّاهر أنّ الإنذار مستحبّ ، وهو الّذي قاله الدّردير : بعد الإنذار ندباً .



وقال الغزاليّ : ويجب تقديم الإنذار ، في كلّ دفع ، إلاّ في مسألة النّظر إلى حرم الإنسان من كوّة .



3 - كما يشترط أن يكون الدّفع على سبيل التّدرّج : فما أمكن دفعه بالقول لا يدفع بالضّرب، وما أمكن دفعه بالضّرب لا يدفع بالقتل ، وذلك تطبيقاً للقواعد الفقهيّة المقرّرة في نحو هذا ، كقاعدة الضّرر الأشدّ يزال بالضّرر الأخفّ .



4 - وشرط المالكيّة أن لا يقدر المصول عليه على الهروب ، من غير مضرّة تحصل له ، فإن كان يقدر على ذلك بلا مضرّة ولا مشقّة تلحقه ، لم يجز له قتل الصّائل ، بل ولا جرحه، ويجب هربه منه ارتكاباً لأخفّ الضّررين .



الضّمان في دفع الصّائل :



ذهب الجمهور إلى أنّه إن أدّى دفع الصّائل إلى قتله ، فلا شيء على الدّافع .



ب - حال الضّرورة :



الضّرورة : نازلة لا مدفع لها ، أو كما يقول أهل الأصول : نازلة لا مدفع لها إلاّ بارتكاب محظور يباح فعله لأجلها .



ومن النّصوص الواردة في أحوال الضّرورة :



1 - حريق وقع في محلّة ، فهدم رجل دار غيره ، بغير أمر صاحبه ، وبغير إذن من السّلطان ، حتّى ينقطع عن داره ، ضمن ولم يأثم .



قال الرّمليّ : وفيه دليل على أنّه لو كان بأمر السّلطان لا يضمن ، ووجهه : أنّ له ولايةً عامّةً ، يصحّ أمره لدفع الضّرر العامّ . وبه صرّح في الخانيّة .



2 - يجوز أكل الميتة كما يجوز أكل مال الغير مع ضمان البدل إذا اضطرّ .



3 - لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ، ينظر إلى أكثرهما قيمةً ، فيضمن صاحب الأكثر قيمة الأقلّ .



4 - إذا مضت مدّة الإجارة ، والزّرع بقل ، لم يحصد بعد ، فإنّه يترك بالقضاء أو الرّضى ، بأجر المثل إلى إدراكه رعايةً للجانبين ، لأنّ له نهايةً .



ج - حال تنفيذ الأمر :



يشترط لانتفاء الضّمان عن المأمور وثبوته على الآمر ، ما يلي :



1 - أن يكون المأمور به جائز الفعل ، فلو لم يكن جائزاً فعله ضمن الفاعل لا الآمر ، فلو أمر غيره بتخريق ثوب ثالث ضمن المخرّق لا الآمر .



2 - أن تكون للآمر ولاية على المأمور ، فإن لم تكن له ولاية عليه ، وأمره بأخذ مال غيره فأخذه ، ضمن الآخذ لا الآمر ، لعدم الولاية عليه أصلاً ، فلم يصحّ الأمر ، وفي كلّ موضع لم يصحّ الأمر كان الضّمان على المأمور ، ولم يضمن الآمر .



وإذا صحّ الأمر بالشّرطين السّابقين ، وقع الضّمان على الآمر ، وانتفى عن المأمور ولو كان مباشراً ، لأنّه معذور لوجوب طاعته لمن هو في ولايته ، كالولد إذا أمره أبوه ، والموظّف إذا أمره رئيسه .



قال الحصكفيّ : الآمر لا ضمان عليه بالأمر ، إلاّ إذا كان الآمر سلطاناً أو أباً أو سيّداً ، أو كان المأمور صبيّاً أو عبداً .



وكذا إذا كان مجنوناً ، أو كان أجيراً للآمر .



د - حال تنفيذ إذن المالك وغيره :



الأصل أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرّف في ملك الغير بلا إذنه ، فإن أذن وترتّب على الفعل المأذون به ضرر انتفى الضّمان ، لكن ذلك مشروط : بأن يكون الشّيء المأذون بإتلافه مملوكاً للآذن ، أو له ولاية عليه .



وأن يكون الآذن بحيث يملك هو التّصرّف فيه ، وإتلافه ، لكونه مباحاً له .



وعبّر المالكيّة عن ذلك بأن يكون الإذن معتبراً شرعاً .



وقال الشّافعيّة : ممّن يعتبر إذنه ، فلو انتفى الإذن أصلاً ، كما لو استخدم سيّارة غيره بغير إذنه ، أو قاد دابّته ، أو ساقها ، أو حمل عليها شيئاً ، أو ركبها فعطبت ، فهو ضامن .



أو انتفى الملك - كما لو أذن شخص لآخر بفعل ترتّب عليه إتلاف ملك غيره - ضمن المأذون له ، لأنّه لا يجوز التّصرّف في مال غيره بلا إذنه ولا ولايته .



ولو أذن الآخر بإتلاف ماله ، فأتلفه فلا ضمان ، كما لو قال له : أحرق ثوبي ففعل ، فلا يغرم ، إلاّ الوديعة إذا أذن له بإتلافها يضمنها ، لالتزامه حفظها ، ولو داوى الطّبيب صبيّاً بإذن من الصّبيّ نفسه ، فمات أو عطب ، ضمن الطّبيب ، ولو كان الطّبيب عالماً ، ولو لم يقصّر ، ولو أصاب وجه العلم والصّنعة لأنّ إذن الصّبيّ غير معتبر شرعاً .



وكذا لو أذن الرّشيد لطبيب في قتله ففعل ، لأنّ هذا الإذن غير معتبر شرعاً ، وهذا عند المالكيّة .



وقال الحنفيّة : لو قال له اقتلني فقتله ، ضمن ديته ، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفس ، لأنّ الإنسان لا يملك إتلاف نفسه ، لأنّه محرّم شرعاً ، لكن يسقط القصاص ، لشبهة الإذن ، كما يقول الحصكفيّ ، وهو قول للشّافعيّة .



وفي قول للحنفيّة : لا تجب الدّية أيضاً ، وهو قول سحنون من المالكيّة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، فهو هدر للإذن ، وفي قول ابن قاسم : يقتل ، وهو قول الحنفيّة .



هـ – حال تنفيذ أمر الحاكم أو إذنه :



إذا ترتّب على تنفيذ أمر الحاكم ، أو إذنه بالفعل ضرر ، ففيه خلاف وتفصيل .



فلو حفر حفرةً في طريق المسلمين العامّ ، أو في مكان عامّ لهم ، كالسّوق والمنتدى والمحتطب والمقبرة ، أو أنشأ بناءً ، أو شقّ ترعةً ، أو نصب خيمةً ، فعطب بها رجل ، أو تلف بها إنسان ، فديته على عاقلة الحافر ، وإن تلف بها حيوان ، فضمانه في ماله ، لأنّ ذلك تعدّ وتجاوز ، وهو محظور في الشّرع صيانةً لحقّ العامّة لا خلاف في ذلك .



فإن كان ذلك بإذن الحاكم أو أمره أو أمر نائبه : فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يضمن ، لأنّه غير متعدّ حينئذ ، فإنّ للإمام ولايةً عامّةً على الطّريق ، إذ ناب عن العامّة ، فكان كمن فعله في ملكه .



وقال المالكيّة : لو حفر بئراً في طريق المسلمين فتلف فيها آدميّ أو غيره ضمن الحافر لتسبّبه في تلفه ، أذن السّلطان أو لم يأذن ويمنع من ذلك البناء .



وقال الشّافعيّة : لو حفر بطريق ضيّق يضرّ المارّة فهو مضمون وإن أذن فيه الإمام ، إذ ليس له الإذن فيما يضرّ ، ولو حفر في طريق لا يضرّ المارّة وأذن فيه الإمام فلا ضمان ، سواء حفر لمصلحة نفسه أو لمصلحة المسلمين ، وإن لم يأذن فإن حفر لمصلحته فقط فالضّمان فيه ، أو لمصلحة عامّة فلا ضمان في الأظهر لجوازه ، ومقابل الأظهر : فيه الضّمان ، لأنّ الجواز مشروط بسلامة العاقبة .



وفصّل الحنابلة ناظرين إلى الطّريق : فإن كان الطّريق ضيّقاً ، فعليه ضمان من هلك به ، لأنّه متعدّ ، سواء أذن الإمام أو لم يأذن ، فإنّه ليس للإمام الإذن فيما يضرّ بالمسلمين ، ولو فعل ذلك الإمام ، يضمن ما تلف به ، التّعدية .



وإن كان الطّريق واسعاً ، فحفر في مكان يضرّ بالمسلمين ، فعليه الضّمان كذلك .



وإن حفر في مكان لا ضرر فيه ، نظرنا : فإن حفر لنفسه ، ضمن ما تلف بها ، سواء حفرها بإذن الإمام ، أو بغير إذنه وإن حفرها لنفع المسلمين - كما لو حفرها لينزل فيها ماء المطر ، أو لتشرب منه المارّة - فلا يضمن ، إذا كان بإذن الإمام ، وإن كان بغير إذنه، ففيه روايتان :



إحداهما : أنّه لا يضمن .



والأخرى : أنّه يضمن ، لأنّه افتات على الإمام .



الضّمان في الزّكاة :



في ضمان زكاة المال ، إذا هلك النّصاب حالتان :



الحالة الأولى :



لو هلك المال بعد تمام الحول ، والتّمكّن من الأداء :



فذهب الجمهور ، إلى أنّ الزّكاة تضمن بالتّأخير ، وعليه الفتوى عند الحنفيّة .



وذهب بعض الحنفيّة كأبي بكر الرّازيّ ، إلى عدم الضّمان في هذه الحال ، لأنّ وجوب الزّكاة على التّراخي ، وذلك لإطلاق الأمر بالزّكاة ، ومطلق الأمر لا يقتضي الفور ، فيجوز للمكلّف تأخيره ، كما يقول الكمال .



الحالة الثّانية :



لو أتلف المالك المال بعد الحول ، قبل التّمكّن من إخراج الزّكاة ، فإنّها مضمونة عند الجمهور أيضاً ، وهو الّذي أطلقه النّوويّ ، وأحد قولين عند الحنفيّة ، لأنّها كما قال البهوتيّ استقرّت بمضيّ الحول ، وعلّله الحنفيّة بوجود التّعدّي منه .



والقول الآخر عند الحنفيّة : أنّه لا يضمن .



لو دفع المزكّي زكاته بتحرّ ، إلى من ظنّ أنّه مصرفها ، فبان غير ذلك ففي الإجزاء أو عدمه أي الضّمان خلاف .



الضّمان في الحجّ عن الغير :



ذهب جمهور الفقهاء ، إلى جواز الاستئجار على الحجّ ، وفي تضمين من يحجّ عن غيره التّفصيل التّالي :



أ - إذا أفسد الحاجّ عن غيره حجّه متعمّداً ، بأن بدا له فرجع من بعض الطّريق أو جامع قبل الوقوف ، فإنّه يغرم ما أنفق على نفسه من المال ، لإفساده الحجّ ، ويعيده من مال نفسه عند الحنفيّة .



وقال النّوويّ : إذا جامع الأجير فسد حجّه ، وانقلب له ، فتلزمه الكفّارة ، والمضيّ في فاسده ، هذا هو المشهور .



وصرّح الجمل بأنّه لا شيء له على المستأجر ، لأنّه لم ينتفع بما فعله ، وأنّه مقصّر .



وقال المقدسيّ : ويردّ ما أخذ من المال ، لأنّ الحجّة لم تجزئ عن المستنيب ، لتفريطه وجنابته .



ب - إذا أحصر الحاجّ عن غيره ، فله التّحلّل وفي دم الإحصار خلاف :



فعند أبي حنيفة ومحمّد ، وهو أحد وجهين عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة : أنّه على الآمر ، لأنّه للتّخلّص من مشقّة السّفر ، فهو كنفقة الرّجوع ولوقوع النّسك له ، مع عدم إساءة الأجير .



وعند أبي يوسف ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة أنّه في ضمان الأجير ، كما لو أفسده .



ج - إذا فاته الحجّ ، بغير تقصير منه بنوم ، أو تأخّر عن القافلة ، أو غيرهما ، من غير إحصار ، بل بآفة سماويّة ، لا يضمن عند الحنفيّة النّفقة ، لأنّه فاته بغير صنعه ، وعليه الحجّ من قابل ، لأنّ الحجّة وجبت عليه بالشّروع ، فلزمه قضاؤها .



قال النّوويّ : ولا شيء للأجير في المذهب .



دم القران والتّمتّع :



اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه دم القران والتّمتّع في الحجّ عن الغير :



قال الحنفيّة : دم القران والتّمتّع على الحاجّ - أي المأمور بالحجّ عن غيره - إن أذن له الآمر بالقران والتّمتّع ، وإلاّ فيصير مخالفاً ، فيضمن النّفقة .



وللشّافعيّة تفصيل وتفرقة بين ما إذا كانت الإجارة على الذّمّة أو العين ، وكان قد أمره بالحجّ ، فقرن أو تمتّع .



وقال الحنابلة : دم التّمتّع والقران على المستنيب ، إن أذن له فيهما ، وإن لم يؤذن فعليه .



أمّا ما يلزم من الدّماء بفعل المحظورات فعلى الحاجّ وهو المأمور لأنّه لم يؤذن له في الجناية ، فكان موجبها عليه ، كما لو لم يكن نائباً .



وكلّ ما لزمه بمخالفته ، فضمانه منه كما يقول البهوتيّ .



الضّمان في الأضحيّة :



لو مضت أيّام الأضحيّة ، ولم يذبح أو ذبح شخص أضحيّة غيره بغير إذنه



ضمان صيد الحرم :



نهى الشّارع عن صيد المحرم ، بحجّ أو عمرة ، حيواناً برّيّاً ، إذا كان مأكول اللّحم - عند الجمهور - من طير أو دابّة ، سواء أصيد من حرم أم من غيره ، وذلك بقوله تعالى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } .



وأطلق المالكيّة عدم جواز قتل شيء من صيد البرّ ، ما أكل لحمه وما لم يؤكل ، لكنّهم أجازوا - كالجمهور - قتل الحيوانات المضرّة : كالأسد ، والذّئب ، والحيّة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور ، بل استحبّ الحنابلة قتلها ، ولا يقتل ضبّ ولا خنزير ولا قرد ، إلاّ أن يخاف من عاديته .



وأوجب الشّارع في الصّيد المنهيّ عنه بالحرم وبالنّسبة للمحرم ضمان مثل الحيوان المصيد من الأنعام ، فيذبحه في الحرم ويتصدّق به ، أو ضمان قيمته من الطّعام - إن لم يكن له مثل - فيتصدّق بالقيمة ، أو صيام يوم عن طعام كلّ مسكين ، وهو المدّ عند الشّافعيّة ، ونصف الصّاع من البرّ ، أو الصّاع من الشّعير عند الحنفيّة .



وهذا التّخيير في الجزاء ، لقوله تعالى : { فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } ... الآية .



ضمان الطّبيب ونحوه :



مثل الطّبيب : الحجّام ، والختّان ، والبيطار ، وفي ضمانهم خلاف :



يقول الحنفيّة : في الطّبيب إذا أجرى جراحةً لشخص فمات ، إذا كان الشّقّ بإذن ، وكان معتاداً ، ولم يكن فاحشاً خارج الرّسم ، لا يضمن .



وقالوا : لو قال الطّبيب : أنا ضامن إن مات لا يضمن ديته لأنّ اشتراط الضّمان على الأمين باطل ، أو لأنّ هذا الشّرط غير مقدور عليه ، كما هو شرط المكفول به .



وقال ابن نجيم : قطع الحجّام لحماً من عينه ، وكان غير حاذق ، فعميت ، فعليه نصفا الدّية.



وقال المالكيّة : في الطّبيب والبيطار والحجّام ، يختن الصّبيّ ، ويقلع الضّرس ، فيموت صاحبه لا ضمان على هؤلاء ، لأنّه ممّا فيه التّعزير ، وهذا إذا لم يخطئ في فعله ، فإن أخطأ فالدّية على عاقلته .



وينظر : فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه ، وإن كان غير عارف ، وغرّ من نفسه ، فيؤدّب بالضّرب والسّجن ، وقالوا : الطّبيب إذا جهل أو قصّر ضمن ، والضّمان على العاقلة، وكذا إذا داوى بلا إذن ، أو بلا إذن معتبر ، كالصّبيّ .



وقال الشّافعيّ : في الحجّام والختّان ونحوهما : إن كان فعل ما يفعله مثله ، ممّا فيه الصّلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصّناعة ، فلا ضمان عليه ، وله أجره .



وإن كان فعل ما لا يفعله مثله ، كان ضامناً ، ولا أجر له في الأصحّ .



وللشّافعيّة في الختان تفصيل بين الوليّ وغيره : فمن ختنه في سنّ لا يحتمله ، لزمه القصاص ، إلاّ الوالد وإن احتمله ، وختنه وليّ ختان ، فلا ضمان عليه في الأصحّ .



ضمان المعزّر :



قال الحنفيّة : من عزّره الإمام فهلك ، فدمه هدر ، وذلك لأنّ الإمام مأمور بالتّعزير، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة في التّعزير الواجب ، وقيّده جمهور المالكيّة بأن يظنّ الإمام سلامته ، وإلاّ ضمن ، وكذلك الشّافعيّة يرون التّعزير مقيّداً بسلامة العاقبة .



ومعنى هذا : أنّ التّعزير إذا أفضى إلى التّلف لا يضمن عند الجمهور بشرط ظنّ سلامة العاقبة ، لأنّه مأذون فيه ، فلا يضمن ، كالحدود ، وهذا ما لم يسرف ، كما نصّ عليه الحنابلة بأن يجاوز المعتاد ، أو ما يحصل به المقصود ، أو يضرب من لا عقل له من صبيّ أو مجنون أو معتوه ، فإنّه يضمن حينئذ ، لأنّه غير مأذون بذلك شرعاً .



ضمان المؤدّب والمعلّم :



ذهب الفقهاء إلى منع التّأديب والتّعليم بقصد الإتلاف وترتّب المسئوليّة على ذلك ، واختلفوا في حكم الهلاك من التّأديب المعتاد .



ضمان قطّاع الطّريق :



اختلف الفقهاء في تضمين قطّاع الطّريق ما أخذوه من الأموال أثناء الحرابة ، وذلك بعد إقامة الحدّ عليهم فذهب جمهور الفقهاء إلى تضمينهم .



ضمان البغاة :



لا خلاف في أنّ العادل إذا أصاب من أهل البغي ، من دم أو جراحة ، أو مال استهلكه أنّه لا ضمان عليه ، وذلك في حال الحرب وحال الخروج ، لأنّه ضرورة ، ولأنّا مأمورون بقتالهم ، فلا نضمن ما تولّد منه .



أمّا إذا أصاب الباغي من أهل العدل شيئاً من نفس أو مال فمذهب الجمهور - وهو الرّاجح عند الشّافعيّة - أنّه موضوع ، ولا ضمان فيه .



وفي قول للشّافعيّة : أنّه مضمون ، يقول الرّمليّ من الشّافعيّة : لو أتلفوا علينا نفساً أو مالاً ضمنوه ، وعلّق عليه الشّبراملّسي بقوله : أي بغير القصاص ، وعلّله الشّربينيّ بأنّهما فرقتان من المسلمين ، محقّة ومبطلة ، فلا يستويان في سقوط الغرم ، كقطّاع الطّريق ، لشبهة تأويلها .



واستدلّ الجمهور بما روي عن الزّهريّ ، أنّه قال : وقعت الفتنة ، وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فاتّفقوا على أنّ كلّ دم استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع، وكلّ مال استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع .



قال الكاسانيّ : ومثله لا يكذب ، فوقع الإجماع من الصّحابة - رضي الله عنهم - على ذلك، وهو حجّة قاطعة .



ولأنّ الولاية من الجانبين منقطعة ، لوجود المنعة ، فلم يكن وجوب الضّمان مفيداً لتعذّر الاستيفاء ، فلم يجب .



ولأنّ تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم من الرّجوع إلى الطّاعة فسقط ، كأهل الحرب ، أو كأهل العدل .



هذا الحكم في حال الحرب ، أمّا في غير حال الحرب ، فمضمون .



ضمان السّارق للمسروق :



لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المسروق إن كان قائماً فإنّه يجب ردّه إلى من سرق منه .



ضمان إتلاف آلات اللّهو :



آلة اللّهو : كالمزمار ، والدّفّ ، والبربط ، والطّبل ، والطّنبور ، وفي ضمانها بعض الخلاف :



فمذهب الجمهور ، والصّاحبين من الحنفيّة ، أنّها لا تضمن بالإتلاف وذلك : لأنّها ليست محترمةً ، لا يجوز بيعها ولا تملّكها ، ولأنّها محرّمة الاستعمال ، ولا حرمة لصنعتها . ومذهب أبي حنيفة أنّه يضمن بكسرها قيمتها خشباً منحوتاً صالحاً لغير اللّهو لا مثلها ، ففي الدّفّ يضمن قيمته دفّاً يوضع فيه القطن ، وفي البربط يضمن قيمته قصعة ثريد .



ويصحّ بيعها ، لأنّها أموال متقوّمة لصلاحيّتها بالانتفاع بها في غير اللّهو ، فلم تناف الضّمان ، كالأمة المغنّية ، بخلاف الخمر فإنّها حرام لعينها ، والفتوى على مذهب الصّاحبين، أنّه لا يضمنها ، ولا يصحّ بيعها .



قالوا : وأمّا طبل الغزاة والصّيّادين والدّفّ الّذي يباح ضربه في العرس ، فمضمون اتّفاقاً ، كالأمة المغنّية ، والكبش النّطوح ، والحمامة الطّيّارة ، والدّيك المقاتل .



حيث تجب قيمتها غير صالحة لهذا الأمر .



وذكر ابن عابدين ، أنّ هذا الاختلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه إنّما هو : في الضّمان ، دون إباحة إتلاف المعازف ، وفيما يصلح لعمل آخر ، وإلاّ لم يضمن شيئاً اتّفاقاً ، وفيما إذا فعل بغير إذن الإمام ، وإلاّ لم يضمن اتّفاقاً .



وفي غير عود المغنّي وخابية الخمّار ، لأنّه لو لم يكسرها لعاد لفعله القبيح ، وفيما إذا كان لمسلم ، فلو لذمّيّ ضمن اتّفاقاً قيمته بالغاً ما بلغ ، وكذا لو كسر صليبه ، لأنّه مال متقوّم في حقّه .



ضمان ما يترتّب على ترك الفعل :



لمال المسلم حرمة كما لنفسه ، وقد اختلف الفقهاء في تضمين من يترك فعلاً من شأنه إنقاذ مال المسلم من الضّياع ، أو نفسه من الهلاك .



ترك الشّهادة والرّجوع عنها :



ذهب الفقهاء إلى أنّ من يترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ الّذي طلبت من أجله آثم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .



ونصّ المالكيّة على أنّ من ترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ يضمن .



قطع الوثائق :



نصّ المالكيّة على أنّه إذا قطع وثيقةً ، فضاع ما فيها من الحقوق ، فهو ضامن ، لتسبّبه في الإتلاف وضياع الحقّ ، سواء أفعل ذلك عمداً أم خطأً ، لأنّ العمد أو الخطأ في أموال النّاس سواء - كما يقول الدّسوقيّ - وكذا إذا أمسك الوثيقة بمال ، أو عفو عن دم . ولو قتل شاهدي الحقّ ، أو قتل أحدهما وهو لا يثبت إلاّ بشهادتهما ، فالأظهر أنّه يغرم جميع الحقّ ، وجميع المال وفي قتله تردّد .



تضمين السّعاة :



إذا سعى لدى السّلطان لدفع أذاه عنه ، ولا يرتفع أذاه إلاّ بذلك ، أو سعى بمن يباشر الفسق ولا يمتنع بنهيه فلا ضمان في ذلك ، عند الحنفيّة .



وإذا سعى لدى السّلطان ، وقال : إنّ فلاناً وجد كنزاً ، فغرّمه السّلطان ، فظهر كذبه ، ضمن، إلاّ إن كان السّلطان عدلاً ، أو قد يغرم أو لا يغرم ، لكن الفتوى اليوم - كما نقل ابن عابدين عن المنح - بوجوب الضّمان على السّاعي مطلقاً .



والسّعاية الموجبة للضّمان : أن يتكلّم بكذب يكون سبباً لأخذ المال من شخص ، أو كان صادقاً لكن لا يكون قصده إقامة الحسبة كما لو قال : وجد مالاً وقد وجد المال ، فهذا يوجب الضّمان ، إذ الظّاهر أنّ السّلطان يأخذ منه المال بهذا السّبب .



ولو كان السّلطان يغرم ألبتّة بمثل هذه السّعاية ، ضمن .



وكذا يضمن لو سعى بغير حقّ - عند محمّد - زجراً للسّاعي ، وبه يفتى ويعزّر ولو مات السّاعي فللمسعى به أن يأخذ قدر الخسران من تركته ، وهو الصّحيح ، وذلك دفعاً للفساد وزجراً للسّاعي ، وإن كان غير مباشر ، فإنّ السّعي سبب محض لإهلاك المال ، والسّلطان يغرّمه اختياراً لا طبعاً .



ونقل الرّمليّ عن القنية : شكا عند الوالي بغير حقّ ، فضرب المشكوّ عليه ، فكسر سنّه أو يده ، يضمن الشّاكي أرشه ، كالمال .



وتعرّض المالكيّة لمسألة الشّاكي للحاكم ممّن ظلمه ، كالغاصب وقالوا : إذا شكاه إلى حاكم ظالم ، مع وجود حاكم منصف ، فغرّمه الحاكم زائداً عمّا يلزمه شرعاً ، بأن تجاوز الحدّ الشّرعيّ ، قالوا : يغرم .



وفي فتوى : أنّه يضمن الشّاكي جميع ما غرّمه السّلطان الظّالم للمشكوّ .



وفي قول ثالث : أنّه لا يضمن الشّاكي شيئاً مطلقاً ، وإن ظلم في شكواه ، وإن أثم وأدّب . ونصّ الحنابلة على أنّه لو غرم إنسان ، بسبب كذب عليه عند وليّ الأمر ، فللغارم تغريم الكاذب عليه لتسبّبه في ظلمه ، وله الرّجوع على الآخذ منه ، لأنّه المباشر .



إلقاء المتاع من السّفينة :



قال الحنفيّة : إذا أشرفت سفينة على الغرق ، فألقى بعضهم حنطة غيره في البحر، حتّى خفّت السّفينة ، يضمن قيمتها في تلك الحال ، أي مشرفةً على الغرق ، ولا شيء على الغائب الّذي له مال فيها ، ولم يأذن بالإلقاء ، فلو أذن بالإلقاء ، بأن قال : إذا تحقّقت هذه الحال فألقوا ، اعتبر إذنه .



وقالوا : إذا خشى على الأنفس ، فاتّفقوا على إلقاء الأمتعة فالغرم بعدد الرّءوس إذا قصد حفظ الأنفس خاصّةً - كما يقول ابن عابدين - لأنّها لحفظ الأنفس ، وهذا اختيار الحصكفيّ وهو أحد أقوال ثلاثة ، ثانيها : أنّه على الأملاك مطلقاً ، ثالثها عكسه .



ولو خشى على الأمتعة فقط - بأن كانت في موضع لا تغرق فيه الأنفس - فهي على قدر الأموال ، وإذا خشى عليهما ، فهي على قدرهما ، فمن كان غائباً ، وأذن بالإلقاء ، اعتبر ماله ، لا نفسه .



ومن كان حاضرًا بماله اعتبر ماله ونفسه فقط .



ومن كان بنفسه فقط اعتبر نفسه .



وقال المالكيّة : إذا خيف على السّفينة الغرق ، جاز طرح ما فيها من المتاع ، أذن أربابه أو لم يأذنوا ، إذا رجا بذلك نجاته ، وكان المطروح بينهم على قدر أموالهم ، ولا غرم على من طرحه .



وقال الشّافعيّة : إذا أشرفت سفينة فيها متاع وركاب على غرق ، وخيف هلاك الرّكاب ، جاز إلقاء بعض المتاع في البحر ، لسلامة البعض الآخر : أي لرجائها ، وقال البلقينيّ : بشرط إذن المالك .



وقال النّوويّ : ويجب لرجاء نجاة الرّاكب .



وقالوا - أيضاً - ويجب إلقاؤه - وإن لم يأذن مالكه - إذا خيف الهلاك لسلامة حيوان محترم ، بخلاف غير المحترم ، كحربيّ ومرتدّ .



ويجب إلقاء حيوان ، ولو محترماً ، لسلامة آدميّ محترم ، إن لم يمكن دفع الغرق بغير إلقائه .



وقال الأذرعيّ : ينبغي أن يراعي في الإلقاء تقديم الأخسّ فالأخسّ قيمةً من المتاع إن أمكن، حفظاً للمال ما أمكن ، قالوا : وهذا إذا كان الملقي غير المالك .



وقالوا : يجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي روح ، وإلقاء الدّوابّ لإبقاء الآدميّين .



وإذا اندفع الغرق بطرح بعض المتاع اقتصر عليه .



قال النّوويّ في منهاجه : فإن طرح مال غيره بلا إذن ضمنه ، وإلاّ فلا ، كأكل المضطرّ طعام غيره بغير إذنه .



قالوا : ولو قال : ألق متاعك عليّ ضمانه ، أو على أنّي ضامن ضمن ، ولو اقتصر على : ألق ، فلا ، على المذهب - لعدم الالتزام - .



والحنابلة قالوا بهذه الفروع :



أ - إذا ألقى بعض الرّكبان متاعه ، لتخفّ السّفينة وتسلم من الغرق ، لم يضمّنه أحد ، لأنّه أتلف متاع نفسه باختياره ، لصلاحه وصلاح غيره .



ب - وإن ألقى متاع غيره بغير أمره ، ضمنه وحده .



ج - وإن قال لغيره : ألق متاعك فقبل منه ، لم يضمنه له ، لأنّه لم يلتزم ضمانه .



د - وإن قال : ألق وأنا ضامن له ، أو : وعليّ قيمته ، لزمه ضمانه ، لأنّه أتلف ماله بعوض لمصلحته ، فوجب له العوض على ما التزمه .



هـ – وإن قال : ألقه وعليّ وعلى ركبان السّفينة ضمانه ، فألقاه ، ففيه وجهان :



أحدهما : يلزمه ضمانه وحده ، لأنّه التزم ضمانه جميعه ، فلزمه ما التزمه ، وقال القاضي: إن كان ضمان اشتراك ، مثل أن يقول : نحن نضمن لك أو على كلّ واحد منّا ضمان قسطه لم يلزمه إلاّ ما يخصّه من الضّمان لأنّه لم يضمن إلاّ حصّته ، وإنّما أخبر عن الباقين بالضّمان ، فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان .



وإن التزم ضمان الجميع ، وأخبر عن كلّ واحد منهم بمثل ذلك ، لزمه ضمان الكلّ .



منع المالك عن ملكه حتّى يهلك :



مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، في مسألة منع المالك عن ملكه حتّى يهلك ، وإزالة يده عنه ، هو عدم الضّمان .



قال الحنفيّة : لو منع المالك عن أمواله حتّى هلكت ، يأثم ، ولا يضمن .



نقل هذا ابن عابدين عن ابن نجيم في البحر ، وعلّله بأنّ الهلاك لم يحصل بنفس فعله ، كما لو فتح القفص فطار العصفور ، فإنّه لا يضمن ، لأنّ الطّيران بفعل العصفور ، لا بنفس فتح الباب .



والمنصوص في مسألة فتح القفص ، أنّه قول أبي حنيفة ، وفي قول محمّد يضمن ، وبه كان يفتي أبو القاسم الصّفّار .



واستدلّ بهذه المسألة صاحب البحر ، على أنّه لا يلزم من الإثم الضّمان .



وقال الشّافعيّة : إن حبس المالك عن الماشية لا ضمان فيه ، وكذا لو منع مالك زرع أو دابّة من السّقي ، فهلك لا ضمان في ذلك .



ويبدو أنّ مذهب المالكيّة في مسألة منع المالك ، هو الضّمان ، للتّسبّب في الإتلاف .



وهو أيضاً مذهب الحنابلة ، إذ علّلوا الضّمان بأنّه لتسبّبه بتعدّيه .



ومن فروعهم في ذلك : أنّه لو أزال يد إنسان عن حيوان فهرب يضمنه ، لتسبّبه في فواته، أو أزال يده الحافظة لمتاعه حتّى نهبه النّاس ، أو أفسدته النّار ، أو الماء ، يضمنه .



وقالوا : لربّ المال تضمين فاتح الباب لتسبّبه في الإضاعة ، والقرار على الآخذ لمباشرته . فإن ضمّن ربّ المال الآخذ لم يرجع على أحد ، وإن ضمّن الفاتح رجع على الآخذ .



تضمين المجتهد والمفتي :



قال المالكيّة : لا شيء على مجتهد أتلف شيئاً بفتواه .



أمّا غير المجتهد ، فيضمن إن نصّبه السّلطان أو نائبه للفتوى ، لأنّها كوظيفة عمل قصّر فيها .



وإن لم يكن منتصباً للفتوى ، وهو مقلّد ، ففي ضمانه قولان ، مبنيّان على الخلاف في الغرور القوليّ : هل يوجب الضّمان ، أو لا ؟ والمشهور عدم الضّمان .



والظّاهر – كما نقل الدّسوقيّ – أنّه إن قصّر في مراجعة النّقول ، ضمن ، وإلاّ فلا ، ولو صادف خطؤه ، لأنّه فعل مقدوره ، ولأنّ المشهور عدم الضّمان بالغرور القوليّ .



ونصّ السّيوطيّ على أنّه : لو أفتى المفتي إنساناً بإتلاف ، ثمّ تبيّن خطؤه كان الضّمان على المفتي .



تفويت منافع الإنسان وتعطيلها :



تعطيل المنفعة : إمساكها بدون استعمال ، أمّا استيفاؤها فيكون باستعمالها ، والتّفويت تعطيل ، ويفرّق جمهور الفقهاء بين استيفاء منافع الإنسان ، وبين تفويتها ، بوجه عامّ في تفصيل :



فنصّ المالكيّة على أنّ تعطيل منافع الإنسان وتفويتها ، لا ضمان فيه ، كما لو حبس امرأةً حتّى منعها من التّزوّج ، أو الحمل من زوجها ، أو حبس الحرّ حتّى فاته عمل من تجارة ونحوها ، لا شيء عليه .



أمّا لو استوفى المنفعة ، كما لو وطئ البضع أو استخدم الحرّ فإنّه يضمن ذلك ، فعليه في وطء الحرّة صداق مثلها ، ولو كانت ثيّباً ، وعليه في وطء الأمة ما نقصها ، ونصّ الشّافعيّة على أنّ منفعة البضع لا تضمن إلاّ بالتّفويت بالوطء ، وتضمن بمهر المثل ، ولا تضمن بفوات ، لأنّ اليد لا تثبت عليها ، إذ اليد في بضع المرأة لها ، وكذا منفعة بدن الحرّ لا تضمن إلاّ بتفويت في الأصحّ ، كأن قهره على عمل .



وفي قول ثان لهم : تضمن بالفوات أيضاً ، لأنّها لتقوّيها في عقد الإجارة الفاسدة تشبه منفعة المال .



ودليل القول الأوّل : أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، فمنفعته تفوت تحت يده .



ونصّ الحنابلة على أنّ الحرّ لا يضمن بالغصب ، ويضمن بالإتلاف ، فلو أخذ حرّاً فحبسه ، فمات عنده لم يضمنه ، لأنّه ليس بمال .



وإن استعمله مكرهاً ، لزمه أجر مثله ، لأنّه استوفى منافعه ، وهي متقوّمة ، فلزمه ضمانها، ولو حبسه مدّةً لمثلها أجر ، ففيه وجهان :



أحدهما : أنّه يلزمه أجر تلك المدّة ، لأنّه فوّت منفعته ، وهي مال فيجوز أخذ العوض عنها. والثّاني : لا يلزمه لأنّها تابعة لما لا يصحّ غصبه .



ولو منعه العمل من غير حبس ، لم يضمن منافعه وجهاً واحداً .



أمّا الحنفيّة فلا يقولون بالضّمان بتفويت منافع الإنسان ، لأنّه لا يدخل تحت اليد ، فليس بمال ، فلا تضمن منافع بدنه .



ضَمَان الدَّرَك

الدّرك : بفتحتين ، وسكون الرّاء لغةً ، اسم من أدركت الرّجل أي لحقته ، وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أنّه كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشّقاء « أي من لحاق الشّقاء .



قال الجوهريّ : الدّرك التّبعة ، قال أبو سعيد المتولّي : سمّي ضمان الدّرك لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحقّ عين ماله ويستعمل الفقهاء كذلك هذا اللّفظ بمعنى التّبعة أي المطالبة والمؤاخذة .



فقد عرّف الحنفيّة ضمان الدّرك : بأنّه التزام تسليم الثّمن عند استحقاق المبيع .



وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : هو أن يضمن شخص لأحد العاقدين ما بذله للآخر إن خرج مقابله مستحقّاً أو معيباً أو ناقصاً لنقص الصّنجة ، سواء أكان الثّمن معيّناً أم في الذّمّة .



ولا يخرج تعريف الفقهاء الآخرين لضمان الدّرك عمّا قاله الحنفيّة والشّافعيّة في تعريفه . ويعبّر عنه الحنابلة بضمان العهدة ، كما يعبّر عنه الحنفيّة في الغالب بالكفالة بالدّرك .



الحكم الإجماليّ :



ضمان الدّرك جائز عند جمهور الفقهاء ، ومنع بعض الشّافعيّة ضمان الدّرك لكونه ضمان ما لم يجب .



ألفاظ ضمان الدّرك :



من ألفاظ هذا الضّمان عند جمهور الفقهاء أن يقول الضّامن : ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه ، أو يقول للمشتري : ضمنت خلاصك منه .



قال ابن قدامة : إنّ العهدة صارت في العرف عبارةً عن الدّرك وضمان الثّمن ، والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفيّة دون اللّغويّة .



ويرى الحنفيّة أنّ ضمان العهدة باطل لاشتباه المراد بها ، لإطلاقها على الصّكّ وعلى العقد ، وعلى حقوقه وعلى الدّرك ، فبطل للجهالة ، بخلاف ضمان الدّرك ، قال ابن نجيم : ولا يقال ينبغي أن يصرف إلى ما يجوز الضّمان به وهو الدّرك تصحيحاً لتصرّف الضّامن لأنّا نقول : فراغ الذّمّة أصل فلا يثبت الشّغل بالشّكّ والاحتمال .



كما أنّ ضمان الخلاص باطل عند أبي حنيفة ، لأنّه يفسّره بتخليص المبيع لا محالة ولا قدرة للضّامن عليه ، لأنّ المستحقّ لا يمكّنه منه ، ولو ضمن تخليص المبيع أو ردّ الثّمن جاز ، لإمكان الوفاء به وهو تسليمه إن أجاز المستحقّ ، أو ردّه إن لم يجز ، فالخلاف راجع إلى التّفسير .



ويرى الجمهور ومنهم أبو يوسف ومحمّد أنّ ضمان الخلاص بمنزلة ضمان الدّرك ، وفسّروا ضمان الخلاص بتخليص المبيع إن قدر عليه وردّ الثّمن إن لم يقدر عليه وهو ضمان الدّرك في المعنى ، فالخلاف لفظيّ فقط .



أمّا ضمان خلاص المبيع بمعنى أن يشترط المشتري أنّ المبيع إن استحقّ من يده يخلّصه ويسلّمه بأيّ طريق يقدر عليه فهذا باطل ، لأنّه شرط لا يقدر على الوفاء به إذ المستحقّ ربّما لا يساعده عليه .



متعلّق ضمان الدّرك :



يقول الشّافعيّة : إنّ متعلّق ضمان الدّرك هو عين الثّمن أو المبيع إن بقي وسهل ردّه ، وبدله أي قيمته إن عسر ردّه ، ومثل المثليّ وقيمة المتقوّم إن تلف ، وتعلّقه بالبدل أظهر . ويرى الحنابلة أنّ متعلّق ضمان الدّرك - ضمان العهدة - هو الثّمن أو جزء منه ، سواء كان الضّمان عن البائع للمشتري أو عن المشتري للبائع ، حيث يقولون : ويصحّ ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع ، فضمانه عن المشتري : هو أن يضمن الثّمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ، وإن ظهر فيه عيب أو استحقّ رجع بذلك على الضّامن ، وضمانه عن البائع للمشتري : هو أن يضمن عن البائع الثّمن متى خرج المبيع مستحقّاً أو ردّ بعيب أو أرش العيب ، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثّمن أو جزء منه .



ويؤخذ من عبارات فقهاء الحنفيّة والمالكيّة أنّ متعلّق ضمان الدّرك عندهم هو الثّمن أيضاً ، إلاّ أنّه يختلف مذهب الحنابلة عن مذهب الحنفيّة والمالكيّة في أنّ الحنابلة يعتبرون ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن المشتري للبائع من قبيل ضمان الدّرك - ضمان العهدة - في حين يختصّ ضمان الدّرك عند الحنفيّة والمالكيّة بالكفالة بأداء ثمن المبيع إلى المشتري وتسليمه إليه إن استحقّ المبيع وضبط من يده ، أمّا ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن المشتري للبائع فهو يتحقّق ضمن الكفالة بالمال بشروطها .



شروط صحّة ضمان الدّرك :



من شروط صحّة ضمان الدّرك أن يكون المضمون ديناً صحيحاً ، والدّين الصّحيح : هو ما لا يسقط إلاّ بالأداء أو الإبراء ، فلا يصحّ بغيره كبدل الكتابة فإنّه يسقط بالتّعجيز . ويشترط الشّافعيّة لصحّة ضمان الدّرك قبض الثّمن ، فلا يصحّ ضمان الدّرك عندهم قبل قبض الثّمن ، لأنّ الضّامن إنّما يضمن ما دخل في يد البائع ، ولا يدخل الثّمن في ضمانه إلاّ بقبضه .



حكم ضمان الدّرك في حالتي الإطلاق والتّقييد :



إذا أطلق ضمان الدّرك أو العهدة اختصّ بما إذا خرج الثّمن المعيّن مستحقّاً إذ هو المتبادر ، لا ما خرج فاسداً بغير الاستحقاق ، فلو انفسخ البيع بما سوى الاستحقاق مثل الرّدّ بالعيب أو بخيار الشّرط أو بخيار الرّؤية لا يؤاخذ به الضّامن ، لأنّ ذلك ليس من الدّرك.



أمّا إذا قيّده بغير استحقاق المبيع كخوف المشتري فساد البيع بدعوى البائع صغراً أو إكراهاً، أو خاف أحدهما كون العوض معيباً ، أو شكّ المشتري في كمال الصّنجة الّتي تسلّم بها المبيع ، أو شكّ البائع في جودة جنس الثّمن فضمن الضّامن ذلك صريحاً صحّ ضمانه كضمان العهدة .



وتجدر الإشارة إلى أنّ الكفيل بالدّرك يضمن المكفول به فقط ، ولا يضمن مع المكفول به ضرر التّغرير لأنّه ليس للكفيل كفالة بذلك .



ما يترتّب على ضمان الدّرك :



أ - حقّ المشتري في الرّجوع بالثّمن :



يترتّب على ضمان الدّرك حقّ المشتري في الرّجوع بالثّمن عند استحقاق المبيع ، ويحقّ له مطالبة الضّامن والأصيل به .



إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا في وقت مطالبة الضّامن بالثّمن :



ذهب الجمهور ومنهم أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ مجرّد القضاء بالاستحقاق يكفي لمؤاخذة ضامن الدّرك والرّجوع بالثّمن عليه .



وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يؤاخذ ضامن الدّرك إن استحقّ المبيع ما لم يقض بالثّمن على البائع ، لأنّ البيع لا ينتقض بمجرّد الاستحقاق ، ولهذا لو أجاز المستحقّ البيع قبل الفسخ جاز ولو بعد قبضه وهو الصّحيح ، فما لم يقض بالثّمن على البائع لا يجب ردّ الثّمن على الأصيل فلا يجب على الكفيل .



وذهب المالكيّة إلى أنّ الضّامن يغرم الثّمن حين الدّرك في غيبة البائع وعدمه .



ب - منع دعوى التّملّك والشّفعة :



ضمان الدّرك للمشتري عند البيع تسليم من الضّامن بأنّ المبيع ملك البائع فيكون مانعاً لدعوى التّملّك والشّفعة بعد ذلك ، لأنّ هذا الضّمان لو كان مشروطاً في البيع فتمامه بقبول الضّامن فكأنّه هو الموجب له ثمّ بالدّعوى يسعى في نقض ما تمّ من جهته ، وإن لم يكن مشروطاً فالمراد به إحكام البيع وترغيب المشتري في الابتياع ، إذ لا يرغب فيه دون الضّمان فنزل التّرغيب منزلة الإقرار بملك البائع ، فلا تصحّ دعوى الضّامن الملكيّة لنفسه بعد ذلك للتّناقض .



وذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّه إن ضمن الشّفيع العهدة للمشتري لم تسقط شفعته ، لأنّ هذا سبب سبق وجوب الشّفعة فلم تسقط به الشّفعة كالإذن في البيع والعفو عن الشّفعة قبل تمام البيع .